ويرتبط الوجه الثاني للحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة علاقة الشر بالفاعلية الإلهية، بالوجه الأساسي الأول ارتباطا وثيقا، فإذا كان الشر لا يعبر عن ماهية إيجابية، وإنما هو عدم محض، مستمد من مقارنتنا للحوادث بعضها ببعض تبعا لغاياتنا الخاصة؛ فلا بد أن الشر - والخير أيضا، بطبيعة الحال - مستمد من قيم البشر الاجتماعية الناجمة عن اتصال الناس بعضهم ببعض، بحيث إننا لو تصورنا حالة طبيعية للناس، لا يظهر فيها تأثير القيم الاجتماعية بعد، فمن المحال أن يكون للشر فيها وجود، «ففي الحالة الطبيعية، إذن، يستحيل تصور الخطيئة، وهي لا توجد إلا في حالة يتفق فيها الناس على معنى الخير والشر، ويتعين على كل شخص أن يطيع سلطة الدولة ... ففي الحالة الطبيعية لا نستطيع أن نتصور رغبة في إعطاء كل ذي حق حقه. وبعبارة أخرى لا يوجد في الحالة الطبيعية شيء يطابق العدالة والظلم، ومثل هذه الأفكار لا تكون ممكنة إلا في دولة اجتماعية ... ومن هذا كله يتضح أن العدل والظلم، والخطيئة والفضيلة، هي أفكار خارجية، وليست صفات تكشف عن طبيعة العقل.»
7
ويكشف لنا حله هذا عن وجه آخر للغة اسپينوزا اللاهوتية التي استخدمت للتعبير عن معان لا صلة لها بمجال اللاهوت على الإطلاق؛ فوجهة النظر الإلهية التي لا يكون للشر معنى فيها، ليست إلا «النظام الضروري للأشياء»، والقول إن الله لا يمكن أن يكون علة للشر لأن الله علة للماهيات الإيجابية فحسب، ليس إلا تعبيرا مدرسيا عن القول إن الطبيعة إذا ما نظر إليها في ضرورتها الشاملة لا تعرف القيم بمعناها البشري، بل إن البشر هم الذين يقتطعون من المجرى الضروري للطبيعة حوادث معينة ينظرون إليها من خلال مصالحهم الخاصة فيرون فيها خيرا أو شرا.
فمن حيث ظاهر اللغة المستخدمة، يوجد تشابه واضح بين اسپينوزا وبين الفلاسفة المدرسيين؛ إذ إنه بدوره يرمي إلى تقديم تفسير لظاهرة الشر في عالم تسيطر عليه ألوهية، ولكن هذا التشابه سطحي وخداع، والنتيجة الحقيقية للتفكير مختلفة في كل حالة عنها في الأخرى كل الاختلاف؛ ذلك لأن المدرسيين واللاهوتيين كانوا يحاولون استبعاد فكرة الشر عن الفاعلية الإلهية لكي يستبقوا لهذه الفاعلية طابعها الخير؛ أي إنه إذا كان الشر في نظرهم وهما غير حقيقي، فإن الخير حقيقة لا شك فيها، وله دلالة ميتافيزيقية أو أنتولوجية أساسية، وهو الغاية القصوى التي يستهدفها كل فعل إلهي. أما اسپينوزا، فإن طريقته الخاصة في استبعاد فكرة الشر عن الفاعلية الإلهية - أي من المجرى الضروري للأشياء - تتضمن في الوقت ذاته استبعادا للخير، ومعه كل القيم المماثلة، من هذا المجال نفسه؛ فهو يختلف عن المدرسيين اختلافا أساسيا في أنه لا ينفي الشر لكي يترك الخير وحيدا في الميدان، بل يخلي الميدان من جميع القيم الملائمة وغير الملائمة في آن واحد. وهذا بطبيعة الحال هدف مختلف تماما عما كان يرمي إليه المدرسيون، بل إنه في واقع الأمر يهدم كل أسس التفكير المدرسي، من حيث إنه يستبعد الخير بوصفه غاية لمسار الحوادث في الكون. ويؤدي نفي وجود مثل هذه الغائية - مع نفي الشر - إلى إنكار تحكم العناية الإلهية في العالم، بحيث يغدو مجرى الحوادث غير مكترث ولا عابئ بالإنسان. وفي هذه الحالة، فحتى لو ظل المرء يقول بمبدأ إلهي أول، فإن وجود هذا المبدأ وعدمه يتساوى من وجهة نظر الإنسان، طالما أنه لا يستجيب للإنسان على أي نحو. وهكذا يتضح مدى الاختلاف الضخم بين نتائج اسپينوزا ونتائج المدرسيين، رغم أنه توصل إلى نتائجه عن طريق مقدمات تبدو، من حيث لغتها، قريبة الشبه من لغتهم إلى حد بعيد. (2-1) نقد فكرة حرية الإرادة
يظهر اتساق الاتجاه الحتمي في نظرية اسپينوزا الأخلاقية بوضوح في نقده لفكرة حرية الإرادة؛ فعلى خلاف معظم المذاهب الفلسفية التي لم تتصور إمكان قيام الأخلاق دون إرادة حرة، يؤكد اسپينوزا أن الاعتقاد بحرية الإرادة وهم باطل، وأثر من آثار الجهل بالأسباب الحقيقية، وأننا لن نستطيع فهم الإنسان على حقيقته، وبالتالي فهم طبيعة سلوكه، طالما أننا نفترض مقدما مثل هذه الفكرة الباطلة.
ويوضح اسپينوزا، في رسالته رقم 58، طريقته الخاصة في فهم الحرية فيقول: «يكون الشيء في رأيي حرا عندما يوجد ويفعل حسب ضرورة طبيعته وحدها، ويكون مرغما عندما يتحكم شيء آخر في وجوده وفعله تبعا لقاعدة محددة.» ويشرح اسپينوزا اعتقاد الإنسان بحرية إرادته عن طريق التشبيه الآتي: إن الحجر لا يتحرك إلا إذا دفعته علة خارجية. فلنتصور أن هذا الحجر يعتقد، أثناء حركته، أن جهده هو الذي يجعله يتحرك؛ إذ ليس لديه وعي إلا بجهده هو، على حين أنه يجهل الأسباب الخارجية التي تحكمت في حركته، وهكذا يتصور نفسه حرا. وتلك هي حال الحرية البشرية.
ويلاحظ في تعريف اسپينوزا للحرية، أنها لا تتعارض مع الضرورة، وإنما مع التحكم أو الإرغام الخارجي؛ فالحرية هي الضرورة الباطنة؛ أي إن الكائن يكون حرا إذا لم يكن يرغمه شيء خارج عنه، وإنما يكون سلوكه متفقا مع الضرورة الباطنة لطبيعته فحسب. ومن الواضح أن الحرية بمعناها الحقيقي لا تتوافر في هذه الحالة إلا للكون بمعناه الشامل، الذي لا يتحكم فيه شيء ولا يوجد شيء خارجه حتى يقال إنه يرغمه. وهذا هو معنى العبارة المصوغة بلغة لاهوتية، والقائلة إن الله وحده هو الحر.
والنتيجة الثانية لهذا الفهم الخاص للحرية، وربطها بالضرورة الباطنة، هي الربط بين الاعتقاد الباطل بحرية الإرادة البشرية، وبين الجهل بالأسباب. «فالناس يخطئون حين يظنون أنفسهم أحرارا، ومرد اعتقادهم هذا إلى شعورهم بأفعالهم الخاصة، وجهلهم بالأسباب المتحكمة فيها. وإذن ففكرتهم عن الحرية ليست إلا جهلهم بأي سبب لأفعالهم. أما قولهم أن الأفعال البشرية تتوقف على الإرادة، فما هو إلا عبارة لا تطابقها أية فكرة، فلا أحد منهم يعلم ما هي الإرادة، وكيف تحرك الجسم. أما أولئك الذين يباهون بمثل هذه المعرفة، ويتخيلون مساكن أو مقار تحل فيها النفس، فلا يثيرون إلا الضحك أو الاشمئزاز.»
8
وإذن فمن المحال أن يكون الإنسان حرا بمعنى أن له مشيئة أو إرادة تسلك من تلقاء ذاتها دون أن يتحكم في سلوكها سبب خارجي؛ إذ إن الإنسان على صلة مستمرة بعوامل لا متناهية في العالم المحيط به، ومن المحال أن يسلك على أي نحو دون أن يأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار. «فليس للذهن إرادة مطلقة أو حرة، وإنما يتحكم في رغبته في هذا الشيء أو ذاك سبب تحكم فيه بدوره سبب آخر كان له بدوره سبب ثالث ... وهكذا إلى ما لا نهاية.»
अज्ञात पृष्ठ