وبعبارة أخرى: ففي الفترة التي كانت حياة اسپينوزا فيها عامرة بالأمل والثورة، كان يقول بالحتمية والضرورة وببقية أفكاره العلمية الصارمة. أما عندما دهمه اليأس؛ فقد لاذ بالتصوف، وإذا شئنا ردا على مثل هذا الفرض، فليس لنا إلا أن نتساءل: هل تخلى اسپينوزا عن معقوليته ومنطقيته وتفسيره الحتمي والعلمي للظواهر العلمية عند نهاية حياته؟
والرد على ذلك هو النفي القاطع؛ إذ إن نظرته كانت تزداد دقة وصرامة بمضي الوقت، بل إن نفس الجزء «الصوفي» في كتاب الأخلاق تتخلله نظريات وملاحظات مادية وحتمية لا تخطئها العين. (10)
والمثل الأخير هو «ولفسون»، الذي يعلق على فكرة اسپينوزا الواردة في الجزء الأخير من كتاب الأخلاق، والقائلة أن حب الله هو الشفاء الأعظم للنفس، فيقول: «لا يبدو أن هذا الدواء الأسمى ... يعد الناس في الحياة الحاضر بشيء يزيد على هذه الثقة بالإله التقليدي. ويبدو أن من الغريب حقا أن ترسو سفينته، بعد كل معاركه مع الأحبار والفلاسفة المدرسيين، وبعد كل أبحاثه عن فلسفة جديدة، إلى تلك الأرض الصوفية القديمة ذاتها؛ أعني اللوذ بالله، ولكن ربما لم يكن اسپينوزا يرمي إلى أن يعد الناس بأكثر من ذلك ... فالهدف الذي شرع يعمل له منذ البداية هو أن يثبت حقائق معينة عن طبيعة الله، وأن ينكر عليه بعض العناصر التشخيصية التي أضفاها عليه اللاهوتيون، حتى أعمقهم نظرا ، وأن يبين أن مثل هذا الإله، حتى بعد نزع الطابع التشخيصي عنه، يظل مع ذلك قوة تعمل لخير حياة الإنسان.»
78
وهكذا ينضم ولفسون إلى مجموعة القائلين بأن اسپينوزا قد عاد في هذا الجزء إلى المفهوم التقليدي، بل الصوفي، لفكرة الله، ويؤكد وجود تناقض مع اتجاهات اسپينوزا السابقة في الكتاب عن طريق إبداء دهشته مما سبق أن أثاره اسپينوزا من الخلافات والمشاكل مع السابقين، وهي دهشة يكون لها ما يبررها تماما إذا كان هدف اسپينوزا بالفعل هو العودة إلى صوفية الالتجاء إلى الله. ومن الغريب حقا أن باحثا فلسفيا مثل «ولفسون» يتحدث بكل وضوح عن رفض اسپينوزا للصفات التشخيصية لفكرة الله، ولتشبيهه بالإنسان، ثم يتحدث في نفس المكان عن كون إله اسپينوزا «ملاذا» للإنسان، وكونه موضوعا للحب وللثقة، وكونه دواء لعلل النفس، بل يصف الله عنده بأنه «الواهب الأعظم، والمنعم الأكبر، وصخرة خلاصنا، وملاذنا في الملمات ...»
79
فماذا تكون هذه الصفات، إن لم تكن صفات تشخيصية وتشبيهية؟ إننا لا نعصم اسپينوزا من تهمة عدم الاتساق، فأعظم المفكرين مهددون على الدوام بها، ولكن هل يعقل أن يكون قد تناقض مع نفسه إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يكون الفيلسوف الذي حذر الناس على الدوام من تشبيه الآلهة بالإنسان، ومن الاعتقاد بغائية الحوادث الطبيعية، والذي أكد الحتمية وقضى على أي وجود مطلق للقيم في عالم الواقع - هل يمكن أن يكون حقا قد قصد هذه الأفكار بمعناها هذا؟
في هذه النماذج السابقة لآراء شراح اسپينوزا، رأينا كيف يؤدي البحث في النصف الثاني من الباب الخامس من «الأخلاق» إلى إثارة مشكلة تناقض اسپينوزا بكل وضوح. والواقع أن هذا الجزء تحدث بالفعل عن الأزلية، وعن الحب الإلهي، وعن الخلاص و«البركة»، وسعادة الإنسان، واستخدم لغة لا تختلف على الإطلاق عن لغة جميع المذاهب اللاهوتية التقليدية. وهكذا كان شراح اسپينوزا يجدون على الدوام صعوبة في فهم هذه اللغة التقليدية بأي معنى سوى معناها الحرفي؛ إذ إنها تضم مجموعة من أقوى الألفاظ والتعبيرات ارتباطا بالمعاني الدينية التقليدية. ومع ذلك كان من الواضح في نظرهم، أو في نظر معظمهم على الأقل، أن أفكار اسپينوزا في هذا الجزء لو كانت تقليدية كذلك بالفعل، لتناقضت تماما مع أفكاره في بقية أجزاء الكتاب، وكذلك في كتاباته الأخرى. وهكذا يضطرون إلى التسليم - كما رأينا في الأمثلة السابقة - بوجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا، يتمثل في علاقة هذا الجزء الأخير ببقية أجزاء فلسفته.
وكما قلنا من قبل، فنحن لا ننزه اسپينوزا عن الوقوع في التناقض، ومع ذلك فقد أمضى اسپينوزا في تأليف كتاب الأخلاق خمس عشرة سنة، كان يصقل خلالها قضاياه وحججه على الدوام، فهل يعقل أن تناقضا صارخا كهذا قد فاته؟ إن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تجعلنا نرفض وجود تناقض في هذه الحالة على التخصيص؛ إذ إن هذا ليس تناقضا بسيطا، وإنما هو تناقض في أول الأسس التي قامت عليها فلسفته، ولو سلمنا به لجعلنا اسپينوزا أضعف الفلاسفة منطقا؛ إذ إن الآخرين كانوا على الأقل يتناقضون حين يتسرب الخطأ إلى استدلالاتهم دون وعي منهم. أما هنا فالتناقض يغدو واعيا ومتعمدا ومتعلقا بالأسس الأولى للمذهب نفسه.
وفي اعتقادي أن القول بتناقض اسپينوزا ليس إلا اعترافا صريحا بإخفاق كل تفسير لفلسفته لا يقوم على المنهج الذي أشرنا إليه، وهو منهج القول إن اسپينوزا كان يتحدث بلغة المدرسين واللاهوتيين متعمدا حتى يخفف من وقع معانيه الثورية العلمية الدقيقة، التي لا تمت إلى المجال اللاهوتي بصلة. وقد أحجم جميع من كتبوا عن اسپينوزا - تقريبا - عن هذا الفرض، ومن المؤكد أن القليلين جدا منهم، إذا كانوا قد أشاروا إليه، فإنهم لم يعرفوا كيف يسيرون فيه من البداية إلى النهاية. والسبب الرئيسي في ذلك هو اعتقادهم بأن في هذا الفرض اتهاما لاسپينوزا بالغش والخداع، ونيلا من نزاهته العقلية وأمانته الخلقية. وقد سبق لنا أن أوضحنا (في الفصل الخاص بالمنهج) أن طريقة اسپينوزا هذه في الكتابة لم تكن ترجع إلى أي ضعف أخلاقي لديه، وأنه ليس ثمة ارتباط على الإطلاق (ولا سيما في عصر اسپينوزا) بين الكتابة الحذرة وبين الرغبة المتعمدة في الخداع، وأن اسپينوزا قد أرضى ضميره تماما إذ اعطى قارئه كل التنبيهات الكفيلة بإرشاده إلى معانيه الحقيقية، بحيث إنه إذا لم يصل الناس إلى هذه المعاني لم يكن الذنب في ذلك ذنب الفيلسوف نفسه، وإنما ذنب قرائه. ولسنا هنا نتهم شراح اسپينوزا بالقصور العقلي، ولكن هناك عوامل مختلفة تضافرت في جعلهم يحجمون عن مثل هذا التفسير؛ منها إقحام الكثيرين منهم لمشاعرهم الدينية القوية في تفسير اسپينوزا؛ مما أدى إلى فرض معان تقليدية عليه قسرا، ومنها رغبة المفسرين اليهود، وهم كثيرون، في ترك مجال تنفذ منه المؤثرات اليهودية إلى فلسفته؛ إذ إن هذه الفلسفة لو فسرت تفسيرا علميا خالصا فسوف توصد أبوابها في وجه المؤثرات اليهودية إلى الأبد، ومنها ذلك النفور - الناتج عن دوافع أخلاقية نبيلة، ولكنها غير منطبقة على هذا المجال - من القول بأن اسپينوزا تعمد أن يظهر غير ما يبطن.
अज्ञात पृष्ठ