بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة مؤلف الكتاب
رب يسر ولا تعسر
الحمد الله عز وجل فاطر السموات والأرض رازق العباد عالم السر والجهر وغفار الذنوب والسلام على خير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام أعظم الأنبياء ورسول الله بالفرقان للناس كافة وعلى أصحابه وعترته أجمعين
يقول العبد الفقير حسين الطوسي أنه لما صدر الأمر الملكي العالي من لدن معز الدنيا والدين أبي الفتح ملكشاه بن محمد يمين أمير المؤمنين أعز الله أنصاره وضاعف اقتداره إلي والى آخرين غيري عام 479 ه بأن ليقلب كل منكم صفحات فكره ويتأمل أيوجد ثمة شيء غير محمود على عهدنا أو أنه جرى على غير شرطه أو غام عن أعيننا وخفي علينا تنفيذه سواء في البلاط أم الديوان أم القصر أم المجلس هل من أمر سار فيه الملوك قبلنا سيرا صحيحا وفاتنا ذلك أنعموا النظر في كل شيء من أنظمة الملك وقواعده وعادات الملوك في عهد ملوك السلاجقة السالفين تأملوها جيدا وقيدوها بجلاء ثم أعرضوها علينا كيما ننظر فيها ونأمر بأن تطبق الأمور الدينية والدنيوية بعد هذا وفق أصولها وقواعدها ونعرف ما يمكن تلافيه ونجري كل أمر على شرطه وقاعدته ونقضي بتنفيذ أوامر الله تعالى وتطبيقها ونتلافى ما نستطيع كل ما مضى من عمل سيئ لأن الله تعالى وهبنا الدنيا وملكها وأسبغ علينا نعمة كاملة وقهر أعداءنا ينبغي ألا يظل أي شيء بعد الآن في مملكتنا ناقصا أو متزلزلا أو أن الأمور فيها تسير بخلاف الشرع وأوامر الله تعالى
لذا عمدت أي نظام الملك إلى درج وشرح كل ما كنت أعرفه أو رأيته أو خبرته من
पृष्ठ 43
تجارب في حياتي أو تعلمته من أساتذتي في الموضوع في هذا الكتاب في خمسين فصلا ينطق فهرسها بموضوعات كل منها وأوردت في كل فصل ما يليق به من أخبار وحكايات من أقوال العظماء التي لا تبعث على الملل عند القراءة بل تكون ألصق بالطبع وأقرب إن في هذا الكتاب فوائد كثيرة فمن يقرأه ويعمل بمقتضاه ينل ثواب الدنيا والآخرة ولقد ألفته لخزانة كتب السلطان المعمورة عمرها الله وقدمته إليه راجيا أن يحظى بقبوله وتأييده إن شاء الله
ليس لأي ملك أو حاكم مندوحة من اقتناء هذا الكتاب ومعرفة ما فيه خاصة في هذه الأيام فكلما قرأوه أكثر ازدادت درايتهم بأمور الدين والدنيا واتسعت رؤيتهم في معرفة أحوال الصديق والعدو وانفتحت أمامهم سبل تصريف الأمور وإدارتها واتضحت لهم قواعد تدبير شؤون البلاط والقصر والديوان والمجلس والميدان والأموال والمعاملات والعسكر والرعية بحيث لا يظل في أرجاء المملكة شيء خافيا صغيرا كان أم كبيرا قريبا أم بعيدا إن شاء الله تعالى
في البدء ألف نظام الملك نور الله قبره هذا الكتاب بديهة من تسعة وثلاثين فصلا مختصرا وقدمه غير أنه أعاد النظر فيه بعد ذلك فأضاف إليه لما كان يعتمل في صدره من ضغن على مخالفي هذه الدولة أحد عشر فصلا أخرى وزاد على كل فصل ما يليق به ثم أعطانيه عند خروجه للسفر لكنني لم أجرؤ على إظهاره على الناس للحادث الذي وقع له أي نظام الملك على طريق بغداد وخروج الباطنية وإلحاقهم الأذى بالناس إلا في الوقت الذي قويت فيه شوكة العدل والأنصاف والإسلام في ظل سيد العالم خلد الله ملكه أدام الله تعالى بحق محمد وآله هذه الدولة إلى يوم القيامة
पृष्ठ 44
الفصل الأول في أحوال الناس وتقلب الأيام ومدح سلطان العالم خلد الله ملكه
يتخير الله تعالى في كل عصر وزمان واحدا من بين خلقه فيضفي عليه فضائل الملك ويزينه بها ويكل إليه مصالح البلاد وراحة العباد ويوصد به أبواب الفساد والاضطراب والفتنة ويبث هيبته ووقاره في أعين الورى وأفئدتهم ليقضي الناس أيامهم في ظل عدله ويعيشوا آمنين متمنين دوام ملكه
فإذا ما بدا والعياذ بالله من العباد عصيان واستخفاف بالشريعة أو تقصير في طاعة الله تعالى واتباع أوامره وأراد أن يعاقبهم ويجازيهم بأعمالهم لا أرانا الله مثل هذه الأيام وجنبنا هذا الإدبار فإنه تعالى يصب عليهم جام غضبه وخذلانه بأن يحرمهم من ملك صالح يختطفه من بينهم فتشب الفتن وتشرع السيوف وتهرق الدماء ويفعل الأقوياء ما يشاؤون إلى أن يهلك المجرمون والعاصون جميعا في أتون تلك الفتن ونزيف الدم ويخلو العالم منهم ويصفو ولا مناص من أن يهلك والحال هذه عدد من الأبرياء بجريرة المذنبين فحين تشتعل النار في المقصبة فإنها تلتهم اليابس كله وقسما كبيرا من الأخضر أيضا بالمجاورة
ومن ثم فإن الله بقدرته الربانية يختص أحد عبادة بالسعادة والملك ويمنحه ما هو أهله من ثروة ونعمه ويهبه عقلا وعلما وحكمة يرعى بها من هم في إمرته ويسيرهم كل بما يستحق ثم يضع كلا منهم في المحل والمكان والعمل الذي يليق به ويصلح له أما الوزراء والأكفاء من الرجال فيختارهم من وسط الرعية ويحلهم الدرجات والمنازل الرفيعة ويعتمد عليهم في المهام الدينية والدنيوية ليجنب الرعية التي سلكت سبيل الطاعة وانصرفت إلى شؤونها وأعمالها الخاصة المتاعب والآلام ليقضوا حياتهم في راحة وطمأنينة
पृष्ठ 45
في ظل عدله وإذا ما ظهر من أحد الوزراء والعمال تقصير وتطاول فارتدع بعد تأديبه ونصحه ومجازاته وسدر عن غيه وصحا من غفوته فلا بأس في الإبقاء عليه وألا تجب تنحيته واستبداله بآخر لائق
وإذا لم يقدر فريق من الرعية النعمة والأمن والراحة والاستقرار حق قدرها فسولت لهم نفوسهم بالخيانة والتمرد وتجاوزوا حدودهم وأقدارهم فتنبغي مؤاخذتهم وتقريعهم بقدر ذنوبهم ومجازاتهم ومعاقبتهم بقدر جرمهم ثم العفو عنهم وغض الطرف عما حدث
أما فيما يتصل بالعمران فيجب شق القناوات وإيجاد الجداول الجيدة النافعة وإنشاء القناطر والجسور على الأنهار الكبيرة العظيمة وإحياء القرى والمزارع وإعمارها وإقامة الأسوار وتشييد المدن الجديدة وتأسيس الأبنية الشامخة والمجالس البديعة وإقامة الربط على الطرق الرئيسة وبناء المدارس لطلاب العلم فبهذا كله تخلد الأسماء إلى الأبد وينال ثواب الآخرة ويتوالى دعاء الخير
وبما أن الله تعالى قضى أن يكون هذا العهد مثالا لتواريخ العهود السالفة وزينة أعمال الملوك الماضين وأن يهب الخلائق سعادة لم تكن لغيرهم من قبل فقد أظهر سلطان العالم والملك الأعظم من أصلين باسقين جمعا بالملك والسيادة كابرا عن كابر إلى أفراسياب الكبير وأنعم عليه بمكارم وجلائل لم تكن لأحد قبله من ملوك الأرض وأسبغ عليه تعالى كل ما يحتاج إليه الملوك من حسن الطلعة والخلق الحسن والعدل والرجولة والشجاعة والفروسية والعلم والتمرس بأنواع السلاح والأخذ بكل الفنون والشفقة والرحمة بعباد الله عز وجل والوفاء بالنذور والوعود والتمسك بالدين الصحيح والاعتقاد السليم والتفاني في طاعة الله تعالى وتأدية الفضائل من مثل قيام الليل والصيام تقربا واحترام علماء الدين وإكرام الزهاد والمتقين واستمالة العلماء والحكماء وبذل الصدقات في استمرار والإحسان إلى الفقراء والدراويش ومعاملة خدمه وعماله ومن هم تحت سلطته بالحسنى وسجن الظالمين من الرعية ولا جرم في أن الله تعالى وهبه الملك والسلطان جزاء وفاقا لكفاءته وحسن اعتقاده وسخر له الدنيا وبث هيبته وسلطته في شتى الأقاليم حتى يؤدي الناس كلهم له الخراج ويأمنوا سطوته بتقربهم إليه
पृष्ठ 46
وفي حين أن عهود بعض الخلفاء ممن رزقوا بسطة في الملك والسلطان لم تخل في أي وقت من قلق وتخوف من خروج الخارجين والمنشقين فليس في هذا العهد المبارك من أحد سولت له نفسه بعصيان وتمرد أو شق عصا الطاعة أدام الله هذه الدولة إلى يوم الدين وجنبها حسد الحساد ليقضي الناس عمرهم في ظل عدل السلطان وحكمه داعين له بالخير
تمشيا مع حال الدولة التي أسلفنا فقد كان لها من العلوم والرسوم والآداب الحميدة ما يناسبها وبما أن العلم كالشمعة تنبثق منه الأنوار من كل جانب فقد خرج الناس بنور العلم من الظلمات إلى النور ولم يحتج السلطان إلى أي مشير أو دليل لكنه فكر وقدر وأراد أن يمتحن الناس ويعرف ما هم فيه من عقل وعلم
ولما كان السلطان أمرني بتقييد بعض الخلال الحميدة التي لا غنى للملوك عنها وكل ما كان عليهم القيام به ولم ينجزوه وما هو مقبول وغير مقبول فقد قمت امتثالا بالأمر الأعلى بجمع كل ما رأيته وسمعته وعرفته وقرأته ثم كتبت هذه الفصول التي يضم كل منها ما يناسبه بإيجاز وعبارة واضحة
पृष्ठ 47
الفصل الثاني في معرفة الملوك قدر نعمة الله تعالى
إن معرفة قدر نعمة الله تعالى تديم رضاه عز اسمه الذي يكون في الإحسان الى الخلق ونشر العدل بينهم ففي دعاء الناس بالخير تثبيت للملك وازدهاره ومدعاة لتمتع الملك بلسطانه وملكه فيكسب بهذا السمعة الحسنة في الدنيا والفوز في الآخرة ويكون حسابه يسيرا وقد قال علماء الدين الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم جاء في الأخبار أنه لما لاقى سيدنا يوسف (عليه السلام) وجه ربه وأرادوا نقله الى مقام سيدنا إبراهيم (عليه السلام) لدفنه في جوار آبائه هناك هبط جبرائيل (عليه السلام) وقال ادفنوه هنا فليس مكانه هناك لأنه يجب أن يسئل يوم القيامة عن الملك الذي كان يديره إن تكن هذه حال يوسف النبي فما بالك بالآخرين
وورد في الأثر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه سيؤتى يوم القيامة بكل من كانت له على الناس حكومة وسلطة مغلول اليدين فإن كان عادلا فعدله هو الذي يفك قيده ويدخله الجنة وإن كان ظالما فجوره هو الذي يبقيه مكبلا ويلقي به في النار
وورد عنه (صلى الله عليه وسلم) أيضا إن كل من وكل في الدنيا بأحد سواء من الناس أم من أهل بيته أم من هم من تحت إمرته سيسئل عنهم يوم القيامة مثلما يسئل الراعي عن غنمه
يقال أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما سأل أباه وهو يحتضر يا أبت متى أراك فأجاب في الدار الآخرة فقال عبد الله أريد قبل هذا قال عمر ستراني في المنام الليلة الأولى أو الثانية أو الثالثة ومرت اثنتا عشرة سنة دون أن يراه ولما رآه بعد ذلك قال له يا أبت ألم تقل أنني سأراك بعد ثلاث ليال
पृष्ठ 48
قال عمر وكنت مشغولا إذ كانت قنطرة قد انهارت في سواد بغداد فتوانى أولو الأمر في إعادة بنائها ولما كان قطيع من الغنم يمر من عليها علقت رجل شاة في أحد جحورها فانكسرت ومنذ ذلك الوقت إلى الآن وأنا أجيب عن ذلك
وفي الحقيقة أن سلطان العالم يدرك أنه سوف يسئل في ذلك اليوم العظيم عمن هم تحت أمرته وأنه لن يسمع منه إذا ما أحال الأمر على شخص آخر فما دام الأمر كذلك ينبغي عدم العهد بهذه المهمة لأحد وعدم الغفلة عن شؤون الخلق بل يجب الاستفسار عن أحوالهم في استمرار سرا وعلانية بقدر المستطاع والقضاء على التطاول وإنفاذ المظلومين من الظالمين حتى تؤتي هذه الأفعال أكلها في عهده وتترى أدعية الخير له إلى يوم القيامة
पृष्ठ 49
الفصل الثالث في جلوس الملك للمظالم والتحلي بالخصال الحميدة
لا بد للملك من الجلوس للمظالم يومين في الأسبوع لاستلال العدل من الظالمين وأنصاف الرعية والاستماع إلى مطالبها والبت في أهم الشكاوى التي تعرض عليه وإصدار حكمه فيها فما إن يشيع في المملكة بأن الملك يستدعي إليه المتظلمين وطلاب العدل يومين أسبوعيا ليستمع إلى مطالبهم وتظلماتهم حتى يخاف الظالمون فيكفوا أيديهم عن الناس ولا يجرؤ أحد على الظلم والتمادي خشية العقاب
حكاية في هذا المعنى
قرأت في كتب المتقدمين أن أكثر ملوك العجم كانوا يقيمون دكة مرتفعة في العراء ويقفون عليها ممتطين الجياد ليتمكنوا من رؤية جميع المتظلمين الذين كانوا يجتمعون هناك لإنصافهم وكان سبب هذا أن الملك كان يجلس في مكان موصدة أبوابه وهو البلاط حيث الدهاليز والحجب والحجاب مما يمكن ذوي الأهواء والظالمين من الحيلولة دون وصول المتظلم إليه
حكاية أخرى
وسمعت أن أحد الملوك كان ثقيل السمع فكان يظن أن النقلة والحجاب لا ينقلون إليه شكاوى المتظلمين في صدق ودقة مما كان يحمله على إصدار أحكامه وأوامره بخلاف مقتضيات الأمور لذا أمر بوجوب ارتداء المتظلمين ثيابا حمراء على أن لا يرتدي غيرهم مثلها حتى يعرفهم ثم كان يجلس على فيل في الصحراء وينادي كل من يراه بثوبه الأحمر
पृष्ठ 50
الى أن يجمعهم كلهم ومن ثم يجلس وحيدا ويستدعيهم واحدا واحدا مستفسرا عن أحوالهم بصوت عال ويقضي بأنصافهم
لقد اتخذوا كل هذه الاحتياطات ابتغاء الدار الآخرة وحتى لا يظل شيء خافيا عليهم
يعقوب بن الليث وخليفة بغداد
كان من جملة السامانيين أمير يدعى إسماعيل بن أحمد الذي كان عادلا جدا وصاحب خصال حميدة منها الاعتقاد الخالص بالله عز وجل والإحسان إلى الفقراء وكان إسماعيل هذا أميرا على بخارى وكانت خراسان والعراق وما وراء النهر كلها في حوزة آبائه
ومن مدينة سجستان خرج يعقوب بن الليث واستولى على كل سجستان ثم مضى إلى خراسان واستولى عليها وتوجه منها إلى العراق واستولى عليها جملة ويقال أن الدعاة خدعوه فبايع الإسماعيلية سرا وضغن على الخليفة ببغداد ثم جمع عساكر خراسان والعراق وتوجه إلى بغداد للقضاء على الخليفة وتقويض أركان البيت العباسي
لما بلغ الخليفة خبر توجه يعقوب إلى بغداد أرسل إليه يقول لا شأن لك ببغداد فمن الصواب أن تحتفظ بمناطق العراق الجبلية وخراسان وتتصرف بها حتى لا تنشب الفتن والاضطرابات فلتعد لكنه لم يصدع للأمر وقال لن أعود ما لم أحقق أملا يراودني وهو القدوم إلى البلاط والمثول بين يديكم وتجديد العهد لكم
وعلى الرغم من كثرة رسل الخليفة إلى يعقوب فإنه لم يجد عن جوابه الأول بل جمع العساكر واتجه صوب بغداد وظن الخليفة به ظن السوء واستدعى عظماء العاصمة بغداد وقال أرى أن يعقوب بن الليث شق عصا الطاعة وهو إنما يجيء إلينا في خيانة لأننا لم نستدعه انه يتقدم وأنا أمره بالعودة لكنه لا يعود إنه يضمر خيانة على
पृष्ठ 51
أية حال وأحسب أنه بايع الباطنية لكنه لن يظهر هذا قبل وصوله إلى هنا علينا ألا نكون في غفلة من اتخاذ الحيطة والحذر فماذا أنتم قائلون فاتفقوا على أن يخرج الخليفة من المدينة إلى الصحراء ومعه خاصته وجميع حشمه وأعيان بغداد ويعسكر فيها فإن كان يعقوب يضمر العصيان فلن يوافقه جمع أعيان خراسان والعراق وقادة جيوشهما أو يرضوا عما يراود فكره وإذا ما أعلن العصيان فلا مندوحة لنا من حيلة نستميل بها جيشه ألينا فإذا فشلنا في هذا وعجزنا عن الصمود في قتاله فستكون الطريق أمامنا ممهدة نستطيع أن نمضي معها إلى الجهة التي نريد لآننا لن نكون أسرى محصورين بين أربعة جدران وأعجبت أمير المؤمنين الخطة فنفذوها وكان أمير المؤمنين المعتمد على الله أحمد
لما وصل يعقوب نزل قبالة معسكر الخليفة وعسكر هناك فاختلط العسكران معا وفي اليوم نفسه أعلن العصيان وأرسل إلى الخليفة يقول سلم بغداد وامض إلى حيث تشاء فاستمهله الخليفة شهرين فأبى ولما أرخى الليل ستوره بعث الخليفة رسولا إلى جميع قادة جيش يعقوب يقول لقد أعلن يعقوب عصيانه وانضم إلى الشيعة وما جاء إلى هنا إلا لتقويض أركان ملكنا والقضاء علينا وإحلال أعدائنا ومخالفينا محلنا أتقرونه على هذا أم لا فقال فريق أنه مصدر رزقنا وكل ما نحن فيه من جاه ونعمة وعظمة سنفعل ما هو فاعل وقال الغالبية لا علم لنا بما يقول أمير المؤمنين وما كنا نحسب أن يعقوب سيخالفه أبدا أما وقد فعل فلن نوافقه بأية حال وعند اللقاء فنحن معك لا معه سنقاتل إلى جانبك وننصرك وكان هؤلاء أمراء خراسان
سر الخليفة لما سمع جواب قادة يعقوب على هذا النحو فأرسل إليه في اليوم التالي برباطة جأش يقول الآن أبديت كفران النعمة فخالفتنا وانحزت إلى مخالفينا السيف بيني وبينك لا تخيفني قلة جندي وكثرة عسكرك فالله عز وجل ناصر الحق معي وذاك الجيش الذي تملك جيشي ثم أمر جيشه بارتداء السلاح فتهيأوا للقتال وأعلنوا النفير وخرجوا من معسكرهم واصطفوا في الصحراء لما سمع يعقوب رسالة الخليفة على ذلك النحو قال الآن أدركت بغيتي ثم أمر هو بإعلان النفير أيضا وامتطى عسكره خيولهم ومضوا إلى الصحراء مجهزين واصطفوا إزاء جيش الخليفة وجاء الخليفة من الجانب الآخر وتمركز في القلب في حين كان يعقوب في الجانب المقابل ثم أمر الخليفة رجلا قوي الصوت أن يقف بين الصفين ويقول بأعلى صوته يا معشر المسلمين اعلموا أن يعقوب بن الليث أعلن العصيان وأن غرضه من المجيء إلى هنا
पृष्ठ 52
القضاء على بني العباس والمجيء بمخالفيهم مكانهم ثم تنحية أهل السنة جانبا وإظهار البدعة ان من يخالف الخليفة إنما يخالف رسول الله عز وجل وان من يخرج عن طاعة رسول الله عليه السلام إنما يخرج عن طاعة الله وعن حوزة المسلمين والله عز وجل يقول في محكم كتابه العزيز {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} والآن من ذا الذي يؤثر منكم الجنة على النار وينصر الحق ويدير للباطل ظهره فيكون معنا لا مع مخالفنا
لما سمع عسكر يعقوب بن الليث هذا الكلام خرج أمراء خراسان دفعة واحدة واتجهوا صوب الخليفة وقالوا ظننا أنه إنما كان يجيء للمثول بين يديكم امتثالا للحكم والأمر والطاعة أما وقد أظهر التمرد والعصيان الآن فنحن معك نحارب إلى جانبك حتى الرمق الأخير
ولإحساس الخليفة بقوته أمر الجند بأن يحملوا جملة فكسر يعقوب من أول حملة وانهزم باتجاه خوزستان واستولى جيش الخليفة على معداته ومعسكره ونهبوها فأثروا بما غنموا ولما وصل يعقوب إلى خوزستان بعث رسلا إلى كل النواحي والأطراف في طلب العساكر والعمال يأمرهم بإحضار ما في خزائن خراسان والعراق من أموال ومن فضة وذهب
ولما بلغ الخليفة خبر مقام يعقوب بخوزستان أرسل إليه في الحال رسولا برسالة تقول تبين لنا انك رجل طيب القلب غير أنك خدعت بأقوال المخالفين دون أن تفكر في عواقب الأمور أو لم تر أن الله تعالى فعل فعلته فهزمك وجندك وصان آل بيتنا وحماهم إن ما حدث لم يكن سوى سهو خفي عليك أنني لعلى يقين بأنك قد صحوت الآن من غفوتك وندمت على فعلتك ليس ثمة من هو أجد منك بإمارة العراق وخراسان ولن نقدم عليك أحدا لما لك علينا من حق خدمات كثيرة تغفر لك ما ارتكبته من خطأ فبما أننا غضضنا الطرف عن فعلتك وكأن شيئا لم يكن فما عليك إلا أن تنسى الموضوع وتمضي في أسرع وقت إلى العراق وخراسان وتتسلم أمور الولاية هناك وسأرسل إليك العهد واللواء والخلعة في أثر هذه الرسالة حتى لا يكون ثمة أي اضطراب أو فتنة
لما قرأ يعقوب الرسالة لم يلن قلبه أبدا ولم يندم على فعلته لكنه أمر بإحضار شيء من كراث وسمك وبصل على طبق من خشب ثم بإدخال رسول الخليفة وإجلاسه
पृष्ठ 53
وبعد ذلك التفت نحوه وقال إذهب وقل للخليفة أنا ابن صفار تعلمت الصفارة عن أبي كان طعامي خبز الشعير والسمك والبصل والكراث أما الملك والكنوز والثروة فنلتها بجدي وجهدي وشجاعتي لا إرثا عن أبي ولا هبة منك إنه لن يقر لي قرار ما لم أبعث برأسك إلى المهدية وأقض على آلك فإما أن أنفذ ما قلت وإما أن أبقى على ما أنا فيه من أكل خبز الشعير والسمك والبصل لقد فتحت الكنوز واستدعيت الجيوش وهأنذا قادم في أثر هذا الرسول وهذه الرسالة وبعث برسول الخليفة وعلى الرغم من كثرة ما أرسل الخليفة من رسائل إلى يعقوب فإنه لم ينثن عن عزمه أو يتراجع عن مطلبه إنما جمع الجيوش واتجه بها من خوزستان إلى بغداد ولم يكد يقطع من الطريق سوى مراحل ثلاث حتى أصابه مغص أوصله إلى حال أيقن معها أن لا خلاص له فيها من الألم فعهد بولاية العهد إلى أخيه عمرو بن الليث وسلمه ثبت الكنوز ثم أسلم الروح
وعاد عمرو من هناك متجها صوب مناطق العراق الجبلية ومكث فيها مدة ثم مضى منها إلى خراسان وملكها جميعا باقيا على طاعة الخليفة كان الجيش والرعية يحبون عمرا أكثر من يعقوب لأنه كان عالي الهمة معطاء وسياسيا يقظا وقد بلغت مروءته وسخاوته حدا أن مؤن مطبخه كانت تحتاج إلى أربعمائة بعير لحملها وقس على هذا أما الخليفة فكان يخشى أن ينهج عمرو نهج أخيه ويفعل ما فعل ومع أن عمرا لم يكن يدور بخلده شيء من هذا القبيل إلا أن الموضوع كان يشغل تفكير الخليفة الدائم فكان يرسل إلى إسماعيل بن أحمد ببخارى في استمرار أن أخرج واحمل بجيشك على عمرو بن الليث وخلص الملك منه إنك أحق بإمارة خراسان والعراق اللذين كانا ملك آبائك سنوات عديدة بعد أن استولوا عليهما عنوة وإنك صاحب الحق أولا وخصالك حميدة ثانيا وأنا أدعو لك ثالثا ولست أشك لهذه الأسباب الثلاثة في أن الله تعالى سينصرك عليه لا تنظر إلى قلة عددك وجيشك بل أنظر إلى قوله عز وجل {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}
وأثر كلام الخليفة في نفس إسماعيل بن أحمد فعقد العزم على الانتفاض على
पृष्ठ 54
عمرو بن الليث ثم جمع ما كان لديه من جيوش وعبر به نهر جيحون لهذا الغرض وأخذ يعد الجند بطرف سوطه فبلغوا عشرة آلاف كانت ركائب أكثرهم خشبية حتى أنه لم يكن ثمة ترس واحد مع كل عشرة منهم ولا درع واحدة مع كل عشرين ولا سهم واحد مع كل خمسين أما من كان منهم بغير مطية فكان يربط درعه بحلقة سرج حصان آخر ثم مضى بهم من مدينة آموي إلى بلخ
لما اخبر عمرو بن الليث الذي كان آنذاك بنيسابور بعبور إسماعيل بن أحمد جيحون ووصوله إلى بلخ في طلب الملك وبفرار شحنة سرخس ومرو جهز سبعين ألف رجل بكامل أسلحتهم وعددهم ومضى بهم إلى بلخ ولما تقابل الجيشان واشتبكا معا هزم عمرو بن الليث عند مشارف بلخ وفر جنوده جميعهم دون أن يجرح أحد منهم أو يؤسر أما عمرو نفسه فوقع في قبضة خصومه الذين ما إن اقتادوه إلى إسماعيل حتى عهد به إلى الحرس وهذا النصر من عجائب الدنيا
حين كان أحد فراشي عمرو بن الليث السابقين يتجول في المعسكر عصرا وقعت عينه عليه فتألم وتقدم نحوه فقال له عمرو لقد تركت وحيدا فابق معي الليلة وقال انني جائع فهل لك أن تهيئ لي شيئا آكله إذ لا غنى للإنسان عن الطعام ما دام حيا واستطاع الفراش أن يحصل على من من اللحم ثم استعار مقلاة حديدية من الجنود وأخذ يدور في كل جانب إلى أن جمع كمية قليلة من روث الحيوانات الجاف ثم نصب ثلاث أثافي ووضع عليه المقلاة ليقلي اللحم وتركها ومضى في طلب شيء من الملح وكان النهار في أخرياته فإذا بكلب يسطو على المقلاة لانتشال ما فيها فلذعت فمه ولما رفع رأسه علقت حلقة المقلاة بعنقه ففر بها من شدة الألم لما رأى عمرو بن الليث هذا المنظر التفت نحو الجند والحراس وقال لتعتبروا فأنا الذي كان يحمل مؤن مطبخي أربعمائة بعير كل صباح صرت إلى حال ينهب فيها كلب ما لدي في لحظة ليلا وقال أصبحت أميرا وأمسيت أسيرا وهذه من عجائب الدنيا أيضا
पृष्ठ 55
قصة عمرو بن الليث
وأعجب من هذا الحال أيضا ما كان من أمر الأمير إسماعيل وعمرو بن الليث التالي فلما أسر عمرو التفت إسماعيل نحو العظماء وقال ان الله عز وجل هو الذي وهبني هذا النصر وليس لأحد سواه عز اسمه من فضل علي في هذه النعمة وقال أيضا اعلموا أن عمرو بن الليث كان رجلا عالي الهمة معطاء كثير السلاح والعدة صاحب رأي وتدبير يقظا في كل شيء وكريما عارف للحق إنني أرى أن أسعى جاهدا لإنقاذ حياته وفكاكه من الأسر فقالوا الرأي ما يراه الأمير يقضي بما يراه مناسبا فأرسل إسماعيل إلى عمرو بن الليث يقول ليهدأ بالك فأنني بصدد الشفاعة لك لدى الخليفة لإنقاذ حياتك ولن أبالي في أن أنفق كل ما في خزينتي في هذا السبيل لتقضي بقية عمرك سالما
لما سمع عمرو بن الليث هذا الكلام قال أنني أعلم ان لا خلاص لي من هذا الأسر أبدا وأنه لم يبق من العمر إلا أقله وأن الخليفة لن يرضى بغير موتي بديلا ولكن أرسل أنت يا إسماعيل شخصا ثقة أفضي إليه بما لدي من كلام على أن ينقل إليك ما يسمع مني فعاد رسول الأمير اسماعيل وأخبره بكل ما قيل فأرسل إسماعيل إلى عمرو بن الليث شخصا معتمدا في الحال فقال له عمرو قل لإسماعيل إنك لم تهزمني بل إن تدينك واعتقادك وحسن سيرتك وعدم رضى أمير المؤمنين عني هي التي هزمتني إن الله عز وجل هو الذي سلبني الملك من جديد ووهبك إياه وأنت بهذه الهبة والنعمة والخيرات جدير أما أنا فقد قبلت قضاء الله عز وجل وحكمه ولا أبغي لك سوى الخير لقد صرت الآن إلى ملك جديد دون أن تكون لك خزائن وثروة في حين أن لي ولأخي كنوزا ودفائن كثيرة معي ثبت بها جميعها وقد وهبتك إياها كلها لتكون لك ثروة تقوي بها نفسك وتهيئ ما تحتاج إليه من عدة وعتاد وتملأ خزانتك ثم أخرج الثبت من كمه وناوله الرسول ليعطيه إسماعيل فلما جاء الرسول إلى إسماعيل وأعاد على مسامعه كل ما سمع ووضع الثبت أمامه التفت إسماعيل نحو وجهاء القوم وقال إن عمرو بن الليث يريد بحنكته وذكائه أن يحرز قصب السبق على الأذكياء فيوقعهم في الفخ ويبتليهم بمحنة أبدية ثم تناول الثبت وألقى به أمام الرسول وقال أعده إليه وقل له إنك تريد بما أنت فيه من جلد وذكاء أن تحرز قصب السبق على الجميع أنى لك ولأخيك هذه الكنوز فوالدكما كان صفارا وقد ثقفتما هذه المهنة عنه أما الملك فشاءت الأقدار أن تصلوا إليه عنوة وتفقدوه تهورا وأما كنوز
पृष्ठ 56
الذهب والفضة فليست سوى ما سلبتموه من الناس ظلما ودون حق إنها من أثمان ما يغزل الشيوخ والأرامل من النساء ومن أقوات الغرباء والمسافرين وأموال اليتامى والضعفاء وسوف تسئلان غدا أمام الله عز وجل عن كل صغيرة منها وتتحملان وحدكما عقاب الله وعذابه إنك تريد الآن بذكائك ومكرك أن تلقي على كاهلنا بكل هاتيك المظالم حتى إذا ما جاءكما الخصوم يوم القيامة يسألون ما أخذ منهم غصبا تقولان لهم أعطينا إسماعيل كل ما غصبنا منكم فاسألوه عنه فتحيلانهم علي جميعا ولا طاقة لي آنذاك على جوابهم وعلى غضب الله عز وجل وسؤاله ورد الثبت إليه خشية من الله تعالى ولما كان عليه من تدين ولم تغره الدنيا الغرورة
فأين من هذا صنيع ولاة هذا الزمان الذين لا يخشون لدينار حرام واحد من أن يحلوا عشرة محارم ويجعلوا عشرة حقوق باطلا دون النظر في العواقب
عدل إسماعيل الساماني
كان من عادة إسماعيل بن أحمد أن يركب وحيدا في اليوم البارد جدا الذي تتساقط فيه الثلوج بكثرة ويمضي إلى الميدان ويظل ممتطيا صهوة جواده إلى صلاة الظهر وكان يقول رب متظلم لا سكن له أو نفقات يرغب في المجيء إلى القصر في حاجة له لكنه لا يستطيع الوصول ألينا بسبب البرد والثلج فينثني عن المجيء ويبقى حيث هو وإذا ما جاء فإنه يتكبد مشاق كثيرة أما إذا ما علم بوقوفنا هنا فسيجيء لا محالة فتقضى له حاجته ويعود بالسلامة
وثمة حكايات كثيرة من هذا القبيل لم يذكر إلا قليلها ولم يكن الحذر والحيطة فيها إلا خشية جواب سؤال الدار الآخرة
पृष्ठ 57
الفصل الرابع في عمال الخراج والتقصي الدائم لأحوالهم وأحوال الوزراء
يجب أن يوصي عمال الخراج بأن يحسنوا معاملة خلق الله تعالى وألا يحصلوا منهم سوى ما يترتب عليهم من أموال حتى هذه تجب المطالبة بها برفق وأدب وألا تؤخذ منهم قبل جني المحاصيل والثمار لان في تحصيلها قبل الأوان إرهاقا للزراع وتضييقا عليهم يضطرهم إلى بيع محصولاتهم قبل أوان نضجها بنصف الثمن وفي هذا من الظلم والجور مافيه وعلى عمال الخراج أن يقرضوا كل من يحتاج من الناس إلى البذار والأبقار مالا يسد به حاجته ويقضي به عوزه ليظل في حبور وطمأنينة ويبقى في أرضه ووطنه لا يغترب عنهما
حكاية في هذا المعنى
سمعت أنه لما حل القحط الذي دام سبع سنوات في عهد الملك قباذ وانقطعت خيرات السماء أمر عماله ببيع ما كان لديهم من غلات والتصدق ببعضها ومساعدة الفقراء من الخزينة وبيت المال حتى إن شخصا واحدا لم يمت جوعا في أرجاء مملكته في تلك المدة وعلة هذا تحريه لعماله ومتابعته لهم وتوجيههم وتقريعهم
وينبغي الاستفسار الدائم عن كل عامل وتقصي أخباره فإن كان يسير على النحو الذي ذكرنا فليحتفظ به وإلا فليستبدل بآخر مناسب وأن كان غصب الناس شيئا دون حق يجب استرداده منه ورده الى من غصبه منهم ثم مصادرة ما يتبقى لديه من مال وتحويله إلى الخزينة وعزله بعد ذلك على ألا يسند اليه أي عمل البتة ليكون عبرة للآخرين من المتطاولين واللصوص
पृष्ठ 58
ويجب الاستفسار عن أحوال الوزراء سرا لمعرفة ما إذا كانوا يسيرون الامور على النحو الصحيح أم لا لان صلاح الملك والمملكة أو فسادهما منوطة بهم فباستقامة الوزير وحسن مسلكه إعمار للمملكة وتقدمها وإسعاد للرعية والجيش ورفاههما وراحة الملك واطمئنانه وبانحراف الوزير يتسرب التصدع الذي لا يمكن رأبه الى المملكة فتظل في اضطراب دائم ويظل الملك حيران مضطربا
بهرام جور والوزير الخائن
يقال انه كان لبهرام جور وزير يدعى راست روشن اعتمد عليه وسلمه كل مقاليد المملكة ولم يكن يلتفت لكلام أحد فيه أما هو نفسه فكان يجري ليل نهار وراء ملذاته من تنزه وصيد وشراب وحدث أن قال راست روشن لوكيل بهرام جور مرة ان الرعية أخذوا لكثرة عدلنا يتجرأون علينا ويتمادون فإذا لم يعاقبوا فإنني أخشى والملك في شغل بالشراب والصيد عن شؤون الرعية أن يحدث مالا تحمد عقباه فلتعاقبهم أنت إذن قبل أن يفسدوا وعقابهم إنما يكون بأحد امرين أحدهما التخلص من الأشرار والآخر غصب أموال الأخيار والفضلاء ولتقبض على من أشير عليك به وأخذ راست روشن كلما قبض وكيل بهرام على أحد وحبسه يتدخل شخصيا ويأخذ منه رشوة ويقول للوكيل أطلق سراح هذا إلى أن نهبوا كل ما كان لدى الناس من أموال وخيول وغلمان وجوار وأملاك وضياع فأفقرت الرعية وشتت الفضلاء والمشاهير ولم يعد يدخل الخزانة من شيء
بعد مضي فترة على هذا طلع لبهرام جور أحد أعدائه فأراد أن يصل جيشه بصلات وهبات ويقويه ثم يوجهه لمقابلة عدوه لكنه لما صار الى الخزانه لم يجد فيها شيئا ولما سأل مشاهير المدينة ورستاق البلاد ورؤسائهما قالوا لقد ترك فلان وفلان ممتلكاتهم وثروتهم منذ سنوات ومضوا إلى الولاية الفلانية فقال لماذا قالوا لا ندري ولم يجرؤ أحد على أن يقول له الحقيقة خوفا من الوزير
وقضى بهرام جور يومه وليلته تلك يفكر في الأمر لكنه لم يستطع الاهتداء إلى مواطن الخلل فركب في اليوم التالي لقلقه واضطرابه إلى الصحراء وحيدا وراح يقطعها بالتفكير حتى أنه لم يدر كيف أن الشمس توسطت كبد السماء وكيف أنه قطع ستة أو سبعة فراسخ واشتد عليه الحر وغلبه العطش فاحتاج إلى جرعة ماء ولما مد بصره في الصحراء رأى دخانا يتصاعد من بعيد فقال لا بد من وجود أناس هناك واتجه
पृष्ठ 59
نحوه فلما دنا من المكان ورأى قطيعا هاجعا من الغنم وخيمة مضروبة وكلبا معلقا تملكه العجب واقترب من الخيمة فخرج منها رجل سلم عليه وحياه وأنزله من على فرسه وقدم إليه ما كان يحضره من طعام دون أن يعرف أنه بهرام فقال بهرام أخبرني عن أمر هذا الكلب قبل أن أتناول الطعام لاكون على بينة منه فقال الشاب كان هذا الكلب أميني على غنمي وكنت اعلم أنه يستطيع لقدرته أن يصاول عشرة رجال ويتغلب عليهم وأن أي ذئب لم يكن يجرؤ أن يحوم حول القطيع خوفا منه حتى إنني كنت أذهب إلى المدينة مرات عديدة في شغل لي وأعود في اليوم التالي وكان هو يرعى الغنم ويعود بها سالمة ومضت على هذه الحال مدة فلما عددت الغنم يوما وجدتها ناقصة ثم تبين لي أن عددها أخذ يتناقص تدريجيا كل عدة أيام ولم أستطع أن أفهم علة هذا مع أنه لا وجود للصوص هنا لقد وصلت الحال بالقطيع في تناقصه إلى حد أن عامل الضرائب جاءني وأراد مثلما هي العادة ضرائب القطيع كله فدفعت كل ما تبقى منه ضرائب والان أنا راع لذلك العامل ما حدث أن الكلب صادق ذئبة ثم تزوجها وكنت في غفلة من أمره
وذات يوم خرجت للاحتطاب وسلكت في عودتي طريقا خلف مرتفع كان يطل على القطيع فرأيته يرعى وإذا بذئبة تعدو نحوه حينئذ اختفيت خلف أجمة شوك فلما رأى الكلب الذئب هرع إليها وهز ذنبه فوقفت في هدوء ووثب على ظهرهها وقضى منها وطره ثم انتحى جانبا ونام في حين راحت هي تصول وتجول في الغنم فقبضت على شاة وافترستها دون أن ينبح الكلب أو يبدي حراكا لما رأيت موقفه من الذئبة أدركت أن مصدر بلائي لم يكن سوى تواطؤ الكلب وانحرافه فقبضت عليه وعلقته بخيانته
عجب بهرام جور لهذا الحديث وقطع طريق عودته يفكر في الأمر فانتهى به تفكيره الى أن رعيتنا هي قطيعنا ووزيرنا هو أميننا انني لأرى أمور المملكة في اضطراب وأحوال الرعية في اختلال وانني كلما أسأل أحدا لا يصدقني القول ويخفي عني الحقيقة والحل أن أحقق في أحوال الرعية وراست روشن
ولما عاد إلى مقره كان أول ما فعله أن طلب لوائح المسجونين اليومية فكانت كلها من فجائع راست روشن وجرائمه فأيقن آنذاك أن الرجل لم يسس الناس بالحق بل سامهم ظلما وخسفا ثم قال
هو ليس راست روشن انه كذب وظلمة وقال مستشهدا بأحد الأمثال
पृष्ठ 60
الحق ما قالت الحكماء من أن الجوع مصير كل من تخدعه شهرته ويركب غروره بها والعدم مصير كل من يخون الخبز الذي يأكله مع الآخرين أنا الذي شددت أزر هذا الوزير حتى يراه الناس بهذا الجاه والعظمة لكنهم لا يجرؤون ألآن على أن يفضوا إلي بما في نفوسهم خوفا منه لا بد من أن أقبض عليه حين يأتي إلى القصر غدا فأبدد حرمته وجلاله على مرأى وجهاء البلاد وعظمائها وامر بغله في الاغلال الثقيلة ثم أستدعي السجناء وأسألهم عن أحوالهم وامر من ينادي في الناس لقد نحينا راست روشن عن الوزارة وقبضنا عليه وحبسناه ولم نعيده إلى العمل فعلى كل من ألحق به أذى أو لديه شكاية ضده أن يأت إلينا ويطلعنا على حاله بنفسه لننصفه منه ولا بد أن الناس سيخبروننا بكل شيء بعد سماع هذا فإن يكن سلوكه مع الناس حسنا حميدا ولم يغصب منهم مالا بل شكروه وأثنوا عليه سأحسن معاملته وأعيده إلى منصبه وإلا فسأعاقبه وأقتص منه
وفي اليوم التالي جلس بهرام جور للناس وجلس العظماء في المقدمة ودخل الوزير واتخذ مكانه فالتفت بهرام جور نحوه وقال ما هذا الاضطراب الذي أوجدته في المملكة فقد أبقيت الجيش دون سلاح ومؤونة وأفقرت الرعية لقد أمرناك أن توصل أرزاق الناس إليهم في أوقاتها وألا تغفل عن إعمار البلاد وألا تحصل من الناس إلا ما يترتب عليهم من خراج وأن تملا الخزانة لكننا الان لا نرى سوى خزينة خالية وجيش دون عتاد ومؤونه وأنقاض رعية لقد ظننت أنني شغلت بالشراب والصيد وأهملت شؤون المملكة وأحوال الرعية وأمر بتنحيته دون أن تراعى له حرمة فاقتيد إلى حجرة ووضعت الأغلال في قدميه ووضع على باب القصر مناديا يقول إن الملك عزل راست روشن عن الوزارة وغضب عليه ولن يوليه أي عمل بعد فمن كان قد أوذي منه أو أن لديه شكوى ضده فليأت إلى القصر دونما خوفا أو وجل للإفصاح عن حاله بنفسه ختى ينصفه الملك ثم أمر بفتح أبواب السجن حالا وجيء إليه بالسجناء واحدا واحدا وكان يسألهم بم سجنت قال أحدهم كان لي أخ ثري وكانت له أموال وخيرات جمة قبض عليه راست روشن وسلبه كل أمواله وعذبه إلى أن مات ولما سألوه لماذا قتلت هذا الرجل قال كانت له مع أعداء الملك مراسلات ثم حبسني حتى لا أشكوه وأتظلم منه وحتى تظل هذه المسألة طي الكتمان
وقال اخر كانت لي مزرعة جميلة جدا ورثتها عن والدي وكانت لراست روشن
पृष्ठ 61
ضيعة بجوارها ولما دخل مزرعتي يوما راقت له فأراد أن يشتريها لكنني لم أبعه فقبض علي وحبسني بحجة إنك تحب ابنة فلان فثبتت عليك الخيانة تخل عن هذه المزرعة وأكتب بنفسك إقرارا ينص على أنه لا حق لي في هذه المزرعة وهي ملك راست روشن غير أني لم أفعل واليوم تمر خمس سنوات على سجني
وقال اخر انني تاجر كنت أجوب الافاق برا وبحرا وكنت أشتري بما لدي من مال ما أجده في أية مدينة من نوادر الأشياء وأبيعه في مدينة أخرة قانعا بربح قليل واتفق أن وقعت على عقد لؤلؤ عرضته للبيع لما جئت هذه المدينة فلما بلغ الوزير الخبر ارسل إلي يطلبني فاشترى العقد مني وأرسله إلى خزانته دون أن يدفع ثمنه وترددت عليه مرات للسلام فلم يبد منه ما يدل على أنه يرغب في دفع ثمن العقد ونفد صبري وكنت على أبواب سفر فذهبت إليه يوما وقلت إن يكن العقد مناسبا فأرجو الايعاز بدفع ثمنه وإلا فبرده فإنني عزمت على المسير فلم يجيني وعدت إلى داري فإذا ب سرهنك وأربعة جنود راجلين فقالوا لي هيا بنا فالوزير يطلبك ففرحت وقلت سيدفع ثمن العقد فنهضت وذهبت معهم لكنهم مضوا بي إلى السجن اللصوص وقالوا للسجان اسجن هذا الرجل وكبله بالأغلال الثقيلة ومنذ سنة ونصف وأنا في السجن
وقال اخر أنا رئيس الناحية الفلانية كان بيتي مفتوحا دائما في وجه الضيوف والغرباء وأهل العلم وكنت أواسي الناس والمعوزين وأوزع الصدقات والخيرات على المستحقين باستمرار أسوة بابائي من قبل وكنت أنفق ما يتأتى من أملاكي وضياعي الموروثة في سبل الخير والضيافة قبض علي الوزير بحجة أنني عثرت على كنز فعذبني وصادر أموالي وأودعني السجن وكنت أبيع ملكي وضياعي للضرورة بنصف ثمنها وأعطيه إياها وها هي ذي أربع سنوات تمر على سجني وتكبيلي بالقيود ولا ألوي على شيء
وقال اخر أنا ابن الزعيم فلان صادر الوزير أملاك أبي وقتله بشدة التعذيب ثم حبسني ومنذ سبع سنوات وأنا أعاني من عذاب السجن
وقال اخر أنا عسكري خدمت والد الملك سنوات عديدة ورافقته في عدد من
पृष्ठ 62