أما مدينتنا فهي عظيمة، واسعة الأرجاء، يحدها من الشمال جبل هائل مرتفع، ومن الشرق صحراء ممتدة إلى غير نهاية. ويجري في وسطها نهر لطيف محبوب، بين صفين من أشجار النخيل، وما أكثر ما تراءت مدينتنا لعيني تنينا ضخما، ينفث الدخان من فمه، وعلى رأسه تطوف سحابات شتاء قاتمة. ربما يرجع هذا إلى أن عيني يأكلهما الرمد من زمن بعيد، فلا تميزان الرؤى والمشاهد. كل ما أستطيع أن أؤكده أنني كلما سرت في شوارع مدينتنا استطالت أمامي أجسام الناس، وتضخمت أبعادها، واختلطت علي حدودها، فلا أكاد أعرف إن كانوا بشرا، وتكاد عيناي تدمعان.
مدينتنا مدينة عظيمة كما أسلفت، أعظم ما فيها هذا السور الهائل المنيع الذي لا يذكر اسمها إلا مقترنا به؛ يحدها من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب. وتاريخها مذكور في الكتب، مدون في الأسفار الكبيرة، محفور في الآثار والصخور، وفي رءوس حكمائنا الشيوخ. وإن نسينا في بعض الأحيان أن مدينتنا قد هاجمتها جيوش أعداء كثيرين، على مر الدهور، فلنا العذر في ذلك؛ فذاكرة أمثالي من رجال أمتنا ضعيفة. وكيف تعلق بأذهاننا تفاصيل لا حصر لها؟
كان من أعدائنا من يلبسون العمائم الكبيرة والبيضاء، ويحملون السيوف في أيديهم، ويقاتلون أجدادنا كالوحوش، وكان منهم من يلبسون القبعات فوق رءوسهم، ويتطاير الشرر من عيونهم الخضراء، ويرطنون بلسان غريب على أفهامنا، ولكنه رقيق. لن نستطيع أن نذكر جميع أعدائنا. كل ما نذكره أنهم قد بنوا هذا السور الهائل المنيع حول مدينتنا. تقول عجائزنا المخرفات إنهم قد بنوه منذ مئات السنين. ويقول حكماؤنا ذوو اللحى الطويلة، والرءوس الصلعاء من أثر الحكمة: إنه موجود على حاله منذ الأزل. ونحن بينهم حائرون. فتحنا أعيننا فرأينا هذا السور الهائل المنيع يطوق مدينتنا، من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يكاد يخنق أنفاسنا، ويكاد الحزن يغلبنا فنعتقد أننا سنموت ونتركه وراءنا.
حكاية هذا السور العظيم لا تبرح رءوسنا ولا شفاهنا، في كل بيت، في كل منتدى، في كل شارع، في كل حي، نجد من يذكر السور وهو خائف، وأطرافه ترتعد. جدتي قالت لي - أيام أن كانت تروي لي الحواديت في ليالي الشتاء - إن هذا السور قد بناه حاكم عظيم، كأنه مارد من الجان، بساعديه الغليظين. وأمي حذرتني - وهي على فراش الموت - من أن أقربه، لكنني مع ذلك بقيت حائرا، والشك يطل من عيني. حرصت على أن أجمع كل خبر، وأن ألتقي بكل من أتوسم فيه المعرفة بنبأ السور العظيم. وكان أن جمعت أنباء طيبة، وإن كنت أتعجب من اضطرابها، ومن تناقضها في أكثر الأحيان؛ فحراسنا الأشداء يقولون إنه يحمي مدينتنا من غارة الأعداء - وهم كثيرون - والفلاحون الأتقياء يؤكدون في لهجة صادقة أنه يصد عنا رياح الشمال التي كانت تهلك فيما مضى محاصيلنا، وتؤذي زرعنا ونباتنا. أما الحكماء فهم يقولون - وعيونهم لا تفتأ تتأمل الكتب القديمة الصفراء، وأصابعهم تتخلل لحاهم البيضاء - إن هذا السور يعصمنا من الجهل الذي عم البلاد، ومن وباء استشرى في سائر الأمم، وإننا لذلك سنبقى حكماء عاقلين ما بقي لنا هذا البناء العظيم.
هذا السور قد صحب أعمارنا، وحفظ ذكرياتنا، فنحن نخشى عليه من أن ينهدم منه حجر، أو تفتح فيه ثغرة. أجدادنا من المهندسين صبوا فيه عصارة أفكارهم، وسهروا الليالي الطويلة وهم يعدون رسومه، ويبدعون تصميمه، ويقيمون أعمدته وأبهاءه، وشبابنا من البنائين والصناع والعمال قد وضعوا فيه جهد أعضائهم وأعصابهم ودمائهم، لبثوا عشرات السنين يحفرون، ويردمون، ويحملون الطوب والحجارة فوق أكتافهم، ويتحملون لفحات شمسنا الخالدة فوق رءوسهم، ومات منهم كثيرون، واختلطت عظامهم بالرماد والجير والأسمنت. وأطفالنا لعبوا حوله، ولمسوا أحجاره، وحملوا في رءوسهم الصغيرة أعز الذكريات. والعشاق لم ينسوا أن يصحبوا معشوقاتهم إلى جانب السور العظيم، فاستندوا معهم على جدرانه، وغازلوهن واعتصروا أجسادهن من الحب، ورقصوا، ورجعوا في آخر الليل وقد أضناهم العناق والضم والتقبيل. أما عجائزنا من الشيوخ والنساء فقد كان لهم في جوار السور أولياء صالحون، وقديسون طيبون، يزورونهم بين حين وحين، ويؤدون فروض العبادة في أضرحتهم، ويلثمون أطراف أكفانهم، ويرجعون إلى بيوتهم راضين مستبشرين.
ولكن حدث منذ عهد قريب ما جعلنا نشفق على سورنا العظيم من أن يصيبه أذى؛ فقد أسفر صباح يوم سار فيه المنادى - وهو رجل أعمى يقوده صبي حافي القدمين - في شوارع المدينة وهو يلقي بالنبأ العظيم: «لقد وجدت أمس في جدار السور ثغرة كبيرة. الحراس يبحثون عن اللصوص.» سرى النبأ في المدينة مسرى الرعب. من هم هؤلاء اللصوص؟ من أين جاءوا؟ كيف واتتهم الجرأة على أن يتسللوا إلى مدينتنا أو يهربوا منها؟ وسرعان ما تم التدبير، واحتاط حراسنا الأشداء لكل الظروف، ووضع على مسافات متقاربة من السور رجال من الشرطة، مدججين بالسلاح، وعيونهم ساهرة بالليل والنهار. ولم يمض قليل حتى ضبط اللصوص المعتدون. وأمر الحاكم العظيم بأن ينزل بهم أشد العقاب، فسار بهم رجال الشرطة في شوارع المدينة بعد أن حلقت رءوسهم ومزقت ثيابهم، حفاة عراة إلا من خرقة تسترهم. أنا قد رأيتهم بعيني؛ فأنا واحد من شعب هذه المدينة، ومن حقي أن أقف على جانب الشارع لأتفرج على الموكب وهو يمر من أمامي. وشد ما كانت دهشتي إذ عرفت اللصوص الثلاثة. لا ريب أنهم من أهل مدينتنا، بل يخيل إلي أنني رأيتهم وعاملتهم، وإن كنت لا أذكر تماما أين كان ذلك. ولقد بلغت بي الشفقة عليهم حدا كبيرا، فاستغفرت لذنوبهم، وطلبت في قلبي لهم الرحمة من الله، ومن الحاكم، كان موكبهم شيئا يبعث على الألم حقا؛ فلا بد أن حراسنا الأشداء قد ضربوهم على ظهورهم بالسياط حتى سالت منها الدماء في خيوط متعرجة، حفرت عليها آثار عميقة كامدة.
ولقد بلغني بعد رؤية هذا المشهد بيومين، أن الحاكم الكبير لم يكتف بهذا الجزاء، بل طلب أن يوضع الثلاثة في السجن. ولما لم تكن في مدينتنا سجون، فقد أمر فبنيت لهم على عجل زنزانة ضيقة، منعزلة في قلب الجبل - قيل لي إنها قد كلفت ميزانية الحاكم أموالا طائلة - فلما قيل له إنه لا بد للمسجونين من حارس، صار يدمدم يومين كاملين؛ فالنفقات لم تكن تخطر على باله. ولقد سمعنا ونحن في المدينة - فقد صار نبأ هؤلاء المساجين أهم ما يشغلنا ويجذب انتباهنا - أن اللصوص الثلاثة قد صافحوا حارسهم في حرارة وهم يدخلون في الزنزانة، وأن واحدا منهم راح يؤكد حين أغلقت عليهم الزنزانة أنه هو الذي صنع البوابة الحديدية والقفل الكبير بيديه؛ مما سر الحارس وجعله يغرق في الضحك. وكان زميلاه في السجن كذلك في غاية من الانشراح. أما أحدهما فهو فلاح بسيط كان يعيش على قطعة صغيرة من الأرض يزرعها بقليل من القمح والخضر، ويعيش سعيدا مع أبويه العجوزين وأولاده الأربعة. وأما الآخر فكان شابا يشع من عينيه الذكاء والقلق. لم يكد الحارس يغلق عليه باب الزنزانة حتى طلب أوراقا وقلما.
وهكذا سارت الأمور على خير ما يرام؛ فالسجناء الثلاثة فرحون مستبشرون لسبب لا ندريه، بل لقد زادت شهيتهم للطعام (حتى طلب أحدهم أن يؤتى له بفخذ خروف محمر، وثلاثة أرطال من اللحم المشوي، وأقتين من التفاح والكمثرى)، وهم لا يكفون عن الضحك والتهليل حتى كأنهم قد دخلوا حانة أو مشربا، ثم إنهم ينامون نوما هادئا، وعلى الأخص ذلك الحداد الذي لا يكاد يصحو من نومه حتى يطلب الطعام من حارسه ثم يعود إلى النوم في هدوء.
ولقد سارت أمور المسجونين الثلاثة على النحو التالي: كانوا يزدادون سمنة يوما بعد يوم؛ ونتيجة لذلك زادت نفقات إيوائهم على الحاكم، حتى كان يوم استشاط فيه غضبا، أرسل إلى مدير ديوانه ليقول له وعيناه ترسلان الشرر: لا بد من الخلاص من هؤلاء الملاعين. - وكيف يا مولاي؟ - اقطعوا رقابهم. - لا نستطيع يا مولاي. - وماذا يمنعكم؟ - نخاف على سور المدينة. - وما شأن السور في هذا؟ - ستزداد فيه الثغرات، ويهجم شعبك الأمين عليه فيهدم أحجاره. - إذن فافتحوا أبواب السجن. - ومتى كانت السجون مفتوحة الأبواب؟ - افعلوا أي شيء؛ فقد ضاقت نفسي بهذه التكاليف.
وأذعن مدير الديوان لهذا الأمر، فأمر حارس الزنزانة أن يترك بابها مفتوحا، ولكن هذه الوسيلة لم تجد إزاء عنادهم؛ فقد كانوا يخرجون للطعام أو للنزهة ثم يعودون إلى السجن فيغلقونه عليهم في إحكام. وسارت الأمور على هذا النحو أياما؛ المساجين ينفذون العقوبة المفروضة عليهم بأمانة وإخلاص، والحارس يستولي عليه الملل ويغط في نوم لا يفيق منه.
अज्ञात पृष्ठ