وأخذ الفاتح يعد ما استطاع من قوة ورباط الخيل، ونزل إلى الساحل ينشد مركزا موافقا يؤمن معه خط حركة جنود الأناضول، فوجد محل حصار الروملي الآن مطابقا لأمياله، على أنه قبل البدء ببناء القلعة كتب إلى إمبراطور القسطنطينية يستأذنه بذلك لسابق عهد بينهما؛ لأنه لم يشأ أن ينقض مبرما أو يخفر ذمة، فأجابه الإمبراطور بأن ذلك المحل للجنويين، فالسؤال يجب أن يكون منهم، وكان الجواب ذا شأن والأمر ذا بال، مما دعا السلطان إلى القول: «ليس بيني وبين الجنويين عهد، فلا أسألهم عليه أمرا.» وباشر بناء القلعة.
علم الإمبراطور بذلك، وأوجس خيفة من هذه المظاهر العدائية التي تعززت بإعلامات خليل باشا السرية، وأخذ يحاول إقناع السلطان وإرجاعه عن عزمه بدفع الجزية، ويرسل السفير تلو السفير للوصول إلى حل مرض، فلم يخرج جواب الفاتح عن حد البيانات الآتية:
لا أخال أن من يحرس ملكه بعين لا تنام يعد ناكثا لعهده. هل نسيتم الخطر العظيم الذي أحدق بوالدي عندما اتفق إمبراطوركم مع المجريين على منعه من الدخول إلى بلاد الروم (الروملي)؟ كنت إذ ذاك شابا في أدرنة ورأيت المسلمين ينتفضون خوفا ويرتعشون رعبا ورهبة، وكنتم أنتم تهزءون بهم وتسخرون منهم بتلك الأزمة الشديدة، أقسم والدي بأنه سيشيد هنا حصنا حصينا، وأنا أبر بيمينه اليوم وأحيي آماله. بلغوا ملككم أن سلطان اليوم (يعني نفسه) ليس كأسلافه، فأنا في واد وهم في واد، إن آمال أجدادي لم تصل إلى مرامي أعمالي. والآن اذهبوا بسلام، ولكن اذكروا أن من يعود بمثل هذه السفارة فإني أعامله بالجزاء الأوفى.
على هذه الصورة خرج الوفد يتعثر بأذياله، ولم يعبأ الفاتح بأقوال خليل باشا الذي كان يحاول ثني عزيمته وتثبيط همته بعبارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وثابر على عمله بهمة لا تعرف الملل.
رسم الفاتح بنفسه مصور القلعة، وجعل أبراجها الأربعة على أشكال حروف اسم «محمد» تبركا وتفاؤلا، واشتغل ببنائها ما يربو عن خمسة عشر ألف عامل، كما اشترك به الأمراء والوزراء أنفسهم نسجا على منوال السلطان الذي أراهم المثل الأعلى في سبيل الوطنية، فبلغ البنيان تمامه بأقرب وقت.
وما غرب عن فكر السلطان أن هذا العمل لا بد وأن يستلزم اهتمام الروم، ويكون من ورائه امتشاق الحسام، فقرر الحيطة والتدبر لئلا يسقط في يده وتذهب أعماله أدراج الرياح، واستكشف المدينة إبان إيابه إلى أدرنة، وأخذ مصورها بيده وبدأ بالتأهب لحصارها.
وبينما هو يجهد فكره ويشحذ قريحته شام برقا من نور أفكاره واختراعاته التي أفادت العالم المتمدن، وعادت عليه بعوائد الخير والنجاح، وأخذ بإصلاح الآلة النارية التي نشأت إذ ذاك في أوروبا، وبقي فعلها محدودا كالمتراليوز الآن.
1
أفرغ الفاتح كنانة جهده في ذلك، واستخدم معه المهندس مصلح الدين وصاريجه سكبان وأوربان المجري، فاستحالت إلى مدفع هائل يزن ثلاثمائة قنطار من النحاس، ويقذف قذيفته الرخامية التي لا تقل عن اثني عشر قنطارا إلى ما بعد ميل واحد.
وعلى إثر إتمام المعدات الحربية تعرض بعض الأروام لمحافظي الحصار العثمانيين بداعي شجار قام بينهما على بقعة أرض، مما اعتده الفاتح نكثا للعهد وبدأ بإجراء منوياته من جهة القسطنطينية، فأرسل جيشا كافيا إلى المورة تحت قيادة طرخان بك ليشاغل أخا الإمبراطور المتولي أعمال حكومة اليونان، ويمنعه عن إمداد أخيه بالمال والرجال، وتوجه هو بذاته إلى القسطنطينية في أوائل الربيع من سنة 857 هجرية.
अज्ञात पृष्ठ