فالأولى بنا أن ندرس سيرة الفاتح ونفرق غث أعماله من سمينها، لنعرف ما إذا كان اتبع فيها تعصبا ذميما أو ميلا خاصا، أو أنه تقيد بالدواعي والإيجابات السياسية. والذي نعتقده نحن أن سيف الشريعة الذي تقلده الفاتح لم يجرد على أحد بغير مسوغ وموجب، فنسبة التعصب إليه عاطلة باطلة.
ولو كانت به نزعة إلى التعصب الديني لما أبقى على المذهب الأرثوذكسي وخص بطركيته بجزيل المساعدات وحسن الصنيع، ولا زلنا إلى الآن نرى رسوم الأنواط التي صاغها الروم وعلى أحد جانبيها صورة الفاتح، وهي أعدل شاهد على شكرانهم منه واعترافهم له بالجميل.
وإذا نظرنا إلى الأمور بمنظار التأمل وسبرناها بمسبار التعقل نرى أن الفاتح كان يعامل أسرى المسلمين والمسيحيين سواسية، وقد أمر بإعدام أسرى تتر الوارساق والتركمان من المسلمين بعد ضبطه قرمان وظهوره على حسن الطويل.
ولو كان في نفسه ميل لسفك الدماء لبانت آثاره في ضبطه القسطنطينية، ولجرت الدماء فيها أنهارا بعد أن قاسى ما قاساه من الضنك والنصب، فضلا عن أن له ثأرا دينيا عند الأروام من عهد يلدرم بايزيد، فإنهم لما علموا باندحار السلطان تلقاء تيمورلنك، أبادوا الحي الإسلامي الذي أقامه بايزيد بين ظهرانيهم في القسطنطينية، وقتلوا أهله عن بكرة أبيهم. والذي يكون لديه هذان السببان العظيمان وهما يدعوانه إلى الانتقام فيتناساهما، هل يحق القول عليه بأنه على شيء من التعصب؟
ومن الكبائر التي يلصقها به مؤرخو الروم نقض العهد، وينكرون عليه منها رفضه الأمان الذي أعطاه محمود باشا المسلم إلى ملك بوسنة المسيحي. ولنفرض أن كل ما أتوا به من الروايات التي ليس لها نصيب من الصحة ولا عليها غبار من الصدق واقعية، فإن كل التواريخ الأوربية مجمعة في أن الخلف بالوعود والإخلال بالعهود ميراث تركه الصليبيون للقرون الوسطى، حتى إنك لتجد الدول المسيحية إذ ذاك مزمعة على اعتبار عقد العهود مع من يخالف دينهم من الخدع الحربية الواجبة، وتحين الفرص لنقض ذلك من ضروب السياسة والحكمة.
يقول فولتير في فلسفته التاريخية بكتاب الملاحظات على الأخلاق: «إن عهدة الصلح التي عقدها السلطان مراد الثاني العثماني مع ملك المجر لم ترق لدى جولين سزاريني النائب البابوي في جرمانيا، والسلطان لم يدع مجالا لوقوع ما يناهض أحكامها أو يستدعي النقد عليها، فأفتى ذلك النائب بأن كل عهد وعقد جرى مع غير المسيحيين يعتبر لغوا وباطلا. وأصبح بعدها نقض المبرم قاعدة في الدول المجاورة للدولة العثمانية.»
فإذا كان الفاتح كال لأعدائه بكيلهم واعتدى عليهم بمثل ما اعتدوا هم به عليه، فلا إثم عليه ولا حرج بل يجب أن يفاخر بأعماله، وهو الذي لم يجار تيار تلك الأيام ويوافق الدول على مبادئها بالاغتصاب والوقيعة، فقد اكتفى بإقامة تخوم ضرورية تقي بلاده شر الأعداء، وصافى البلاد المجاورة له وأولاها أحسن الولاء.
والأدلة على ذلك كثيرة منها؛ احتماله من حكومة مصر إنكارها عليه ترميم مجاري مياه الحرمين الشريفين وصدها إياه بعظمة وخيلاء، واهتضامه منها مداخلاتها في بعض شئون ذو القدرية، وهي من أملاكه، ومخادنته حسين بايقرا (في ما وراء النهر) وهو على بعد شاسع منه، ومعاهدته مع البندقية وصقلية ووفاؤه بعهده، واكتفاؤه بتشديد النكير على جند حسن الطويل وعدم مساسه شعبه بسوء عندما غلبه على أمره، بعد أن سبق للمذكور تدميره توقاد تدميرا هائلا. ويجب ألا ننسى أن محمود باشا الوزير الأكبر وفق إلى منع الفاتح عن مثابرة الحرب ومتابعة حسن الطويل بقوله: «إن هذه البلاد هي إسلامية، فلا تجوز الإغارة عليها.»
ويعزو بعض المؤرخين قتل خليل باشا ومحمود باشا إلى حبه بسفك الدماء، نعم إن السلطان قتل هذين الوزيرين، ولكن بعد أن بلغ السيل الربى ولم يبق للصلح موضع.
فخليل باشا هو أول من عمل على اعتزال السلطان للمرة الأولى ليخلو له الجو، وقد نسيها له لولا عوده إلى بذل كل مرتخص وغال في سبيل استبقاء نفوذه، فوشاياته لإمبراطور القسطنطينية من طرف خفي بفك عقال الأمير المرهون عنده، وتركه حرا في بلاد الدولة لتتهيأ لهما أسباب الانتقاض، وتحريضه على إبداء كل مقاومة وقوة في الحصار، ومحاولته إقناع السلطان على وجوب ترك الحرب كما ثبت بشهادة فريق من أعيان الروم، تدل على أن الرجل لم يخلص النية ويمحض النصح في أفعاله، فكان قتله جزاء وفاقا على تجسسه وخيانة وطنه، ولو وجد هذا الوزير اليوم بأي دولة راقية لما كان نصيبه إلا نفس هذا الجزاء حبا بتطهير البلاد من الأعداء الداخليين. على أن هناك أسبابا سياسية كبرى تدعو الفاتح إلى استئصال هذا الرجل؛ لأن الوزارة تأصلت في بيت الجندرلي بعد علاء الدين باشا،
अज्ञात पृष्ठ