[مقدمة المؤلف]
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (قرآن كريم) بسم الله الرّحمن الرّحيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر البحر الفهامة أبو القاسم علي بن عثمان بن محمد بن أحمد بن الحسن القاصح العذري تغمده الله برحمته: الحمد لله الذي علم القرآن وزين الإنسان بنطق اللسان، فطوبى لمن يتلو كتاب الله حق تلاوته. ويواظب آناء الليل وأطراف النهار على دراسته، وهو كلام الله تعالى الذي أنزله على عبده ورسوله المصطفى محمد النبي الأمي العربي المختار المرتضى، ﷺ وعلى آله المكرمين، ورضي الله عن أصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن أسهل ما يتوصل به إلى علم القراءات من التصانيف المنظومات نظم الشيخ الإمام العالم أبي محمد قاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي، من قصيدته اللامية المنظومة من الضرب الثاني من بحر الطويل، المنعوتة «بحرز الأماني ووجه التهاني». فأول شارح شرحها الإمام علم الدين السخاوي تلقاها عن ناظمها، وتابعه الناس على ذلك فشرحوها، فمنهم من اقتصر، ومنهم من علل وأطال، وخرج عن حيز الاعتدال، وقد استخرت الله تعالى في حل ألفاظها واستخراج القراءات منها بعبارة سهلة يفهمها المبتدئ، ولهذا لم أتعرض للتعاليل المطولة فإنها مذكورة في تصانيف وضعت لها كإعراب القرآن والتفاسير وغير ذلك، وقد اختصرت هذا الكتاب من شرح السخاوي والفاسي وأبي شامة وابن جبارة والجعبري وغيرهم وزدت فيه فوائد ليست من هؤلاء الشروحات. وسميته:
سراج القارئ المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي
وأسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله إنه قريب مجيب.
ولد الشاطبي في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بشاطبة، وهي قرية بجزيرة الأندلس من بلاد المغرب. وقولهم: الرعيني نسبة إلى قبيلة من قبائل المغرب، أخذ القراءات عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن هذيل بالأندلس، عن أبي داود سليمان، عن أبي عمرو الداني مصنف كتاب التيسير. وأخذ الشاطبي أيضا عن أبي عبد الله محمد بن العاصي النفزي- بالزاي المعجمة- عن أبي عبد الله محمد بن حسن، عن علي بن عبد الله الأنصاري، عن
1 / 3
أبي عمرو الداني. ومات الشاطبي ﵀ بمصر بعد عصر الأحد، وهو اليوم الثامن بعد العشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة ودفن بالقرافة، في يوم الاثنين في تربة القاضي الفاضل، المجاورة لتربة ولي الله تعالى الكيزاني صاحب المزار المعروف في القرافة الصغرى، بالقرب من سفح الجبل المقطم، جبل قلعة مصر فرعونه وتعرف تلك الناحية بسارية، قال رحمه الله تعالى:
بدأت ببسم الله في النّظم أوّلا ... تبارك رحمانا رحيما وموئلا
أخبر الناظم أنه بدأ ببسم الله في أول نظمه، ومعنى بدأت أي قدمت، تقول: بدأت بكذا إذا قدمته، فالباء الأولى لتعدية الفعل، والثانية هي التي في أول البسملة أي بدأت بهذا اللفظ والنظم الجمع، ثم غلب على جمع الكلمات التي انتظمت شعرا فهي بمعنى منظوم أو مصدر بحاله وتبارك تفاعل من البركة والبركة كثرة الخير ونموه واتساعه،
وقوله: رحمانا رحيما يريد به تكملة لفظ بسم الله الرّحمن الرّحيم. ثم قال: وموئلا، الموئل المرجع والملجأ، وهو مفعل من: وأل إليه، أي: رجع ولجأ، أو من وأل منه أي: خلص ونجا، وفي الحديث: «لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك».
وتثنّيت صلّى الله ربّي على الرّضا ... محمّد المهدى إلى النّاس مرسلا
أخبر أنه ثنى بالصلاة على رسول الله- ﷺ والرضا بمعنى: ذي الرضا أي: الراضي من قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: ٥]، وفي الحديث: «يا محمد أما يرضيك أن لا يصلي عليك أحد من أمتك مرة إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا». والمهدى مأخوذ من قوله ﷺ: «إنما أنا رحمة مهداة للناس». وقوله: مرسلا، منصوب على الحال من الضمير في المهدى.
وعترته ثمّ الصّحابة ثمّ من ... تلاهم على الإحسان بالخير وبّلا
أصل العترة حجر يهتدي به الضب إلى مأواه، وما يبقى من أصل الشجرة. وعترة النبي ﷺ أهل بيته لقوله ﵊: «وعترتي أهل بيتي»، وروى تفسيره بأزواجه
وذريته. وقال مالك بن أنس: أهله الأدنون وعشيرته الأقربون، وقال الجوهري: نسله ورهطه الأدنون. فلما كانت العترة أصحابا ولم يكن كل الأصحاب عترة، قال: ثم الصحابة ليعم، والصحابة اسم جمع، والصحابي من رأى النبي ﵊، أو صحبه أو نقل عنه من المسلمين. قوله: ثم من تلاهم، أي تبعهم على الإحسان أي على طريقة الإحسان، وقوله: وبلا، الوبل: جمع وابل وهو المطر الغزير، شبه الصحابة ﵃ بالأمطار لنفعهم المسلمين.
وثلّثت أنّ الحمد لله دائما ... وما ليس مبدوءا به أجذم العلا
أخبر أنه ثلث بالحمد، يعني أنه ذكر اسم الله تعالى أوّلا، ثم ذكر النبي ﷺ وعترته وصحابته وتابعيهم ثانيا، ثم ذكر الحمد ثالثا فليس مراده ذكره في ثالث الأبيات بل مراده أنه لم يثلث إلا بالحمد وإن كانت في بيت رابع، والحمد الثناء، ويجوز فتح إن وكسرها في البيت وكلاهما مروي: فالفتح على تقدير «بأن الحمد»، والكسر على تقدير «فقلت إن الحمد». وقد يجوز أن تكون بمعنى نعم فيجوز حينئذ رفع الحمد بعدها ونصبه والرواية النصب. قوله: دائما، أي: مستمرا قوله وما ليس إلى آخره. الجذم: القطع أشار إلى قوله ﵊: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم». ويروى
1 / 4
«كل كلام»، ويروى «بذكر الله»، ويروى «فهو أقطع»، وعن ابن عباس ﵄: «كل كلام لم يبدأ فيه ببسم الله جاء معكوسا».
فإن قيل: قد يبدأ الناظم ببسم الله ولم بدأ بالحمد بل جعله ثالثا قيل: تثليثه به لا يخرجه عن البداءة، لأن الجميع أعني الحمد وما تقدمه مبدوء به لأنه ذكره قبل الشروع في الأحكام التي ضمنها هذا النظم، فهو مبدوء به واتفق وقوعه في البداءة ثالثا، والعلاء بفتح العين يلزمه المد وهو الرفعة والشرف، وأتى به في قافية البيت على لفظ المقصور.
وبعد، فحبل الله فينا كتابه ... فجاهد به حبل العدا متحبّلا
أي: وبعد هذه البداءة فحبل الله فينا كتابه، جاء في تفسير قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [الفرقان: ٥٢]، أنه القرآن، وقال ﵊: «هو حبل الله المتين». وقوله: «فجاهد به»، أي بالقرآن، كما قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ [الفرقان: ٥٢] أي بحججه وأدلته وبراهينه. والحبل بفتح الحاء يستعار للسبب، والقرآن سبب المعرفة، لأنه وصلة بين العبد وبين ربه. والحبل بكسر الحاء: الداهية، والعدا اسم جمع والمشهور فيه كسر العين، وحكى ثعلب ضمها فإن قيل: عداة بالهاء فالضم لا غير. قوله: متحبلا، يقال: تحبل الصيد إذا أخذه بالحبالة وهي الشبكة، أي: انصب الحبائل للأعداء من الكفرة والمبتدعين، لتصيدهم إلى الحق أو تهلكهم بما تورده عليهم من ذلك، والمراد بالحبائل أدلة القرآن اللائحة وحججه الواضحة.
وأخلق به إذ ليس يخلق جدّة ... جديدا مواليه على الجدّ مقبلا
أخلق به لفظه من لفظ الأمر ومعناه التعجب، وهو كقولك: ما أخلقه، أي ما أحقه، والهاء في «به» للقرآن، وإذ هنا تعليل مثلها في قوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف: ٣٩]. قوله: ليس يخلق جدة، أشار إلى قوله ﵊: «إن هذا القرآن لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد». وقول الناظم: يخلق، فيه لغتان: ضم الياء مع كسر اللام، وفتح الياء مع ضم اللام. وجديدا من الجد بفتح الجيم وهو العز والشرف. قوله: مواليه، أي: مصافيه مع ملازمة العمل بما فيه، والموالي ضد المعادي.
قوله: على الجد بكسر الجيم ضد الهزل، أشار إلى قوله ﵊: «يا أبا هريرة تعلم القرآن وعلمه الناس ولا تزال كذلك حتى يأتيك الموت، فإنه إن أتاك الموت وأنت كذلك حجت الملائكة إلى قبرك كما يحج المؤمنون إلى بيت الله الحرام».
وقارئه المرضيّ قرّ مثاله ... كالأترجّ حاليه مريحا وموكلا
أشار إلى قوله ﵊: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر». رواه البخاري ومسلم.
والمرضي صفة القارئ المؤمن المذكور في هذا الحديث لأنه ليس المراد به أصل الإيمان فقط بل أصله ووصفه، قال ﵊: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه». وقول الناظم: قر، بمعنى استقر أي: استقر مثاله في الحديث. ويقال: الأترج بتشديد الجيم والأترنج بالنون. وقوله: مريحا وموكلا، من أراح الطيب وغيره إذا
أعطى الرائحة وأكل الزرع وغيره إذا أطعم.
1 / 5
هو المرتضى أمّا إذا كان أمّة ... ويمّمه ظلّ الرّزانة قنقلا
هو ضمير القارئ، أي هو المرتضى قصده لأن معنى الأم القصد، وكان بمعنى صار، ويقال للرجل الجامع للخير أمة، كأنه قام مقام جماعة لأنه اجتمع فيه ما تفرق فيهم من المصالح. ومنه قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠]، وقوله: ويممه أي قصده، والرزانة السكينة والوقار، واستعار للرزانة ظلا وجعل الرزانة هي التي تقصده كأنها تفتخر به لكثرة خلال الخير فيه، قال ﵊: «من جمع القرآن متّعه الله بعقله حتى يموت». والقنقل الكثيب من الرمل، والقنقل أيضا المكيال الضخم، وكان لكسرى تاج يسمى القنقل.
هو الحرّ إن كان الحريّ حواريا ... له بتحرّيه إلى أن تنبّلا
هو ضمير القارئ المرتضى قصده، والحر الخالص من الرق أي لم تسترقه الدنيا ولم يستعبده الهوى، وكيف يقع في ذلك من فهم قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: ١٨٥]، [الحديد: ٢٠]، وقوله ﵊: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء». والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة والحريّ بمعنى الحقيق، والحواري الناصر الخالص في ولايته، والياء مشددة خففها ضرورة، والتحري بذل المجهود في طلب المقصود واشتقاقه من الحري أي اللائق والتحري القصد مع فكر، وتدبر واجتهاد أي بطلب ما هو الأحرى أي الأليق. إلى أن تنبلا أي إلى أن مات، يقال: تنبل البعير إذا مات، والهاء في «له» للقرآن، وفي «تحريه» للقارئ.
وإنّ كتاب الله أوثق شافع ... وأغنى غناء واهبا متفضّلا
هذا حث على التمسك بالقرآن والعمل بما فيه ليكون القرآن شافعا له كافيه، وهو أوثق شافع أي أقوى، وصفه بذلك لأن شفاعته مانعة له من وقوعه في العذاب، وشفاعة غيره مخرجة له منه بعد وقوعه فيه، قال ﵊: «من شفع له القرآن يوم القيامة نجا»، قوله: وأغنى غناء أي: وأكفى كفاية، أي كفاية القرآن أتم من كفاية غيره، قال ﵊: «القرآن غنى لا فقر معه ولا غنى دونه، وليس منا من لم يتغن بالقرآن»، أي: يستغن، لأنه ﵊ قاله حين دخل على سعيد وعنده متاع رث. قوله:
واهبا متفضّلا، أي: زائدا في دوام هبته وبذلها على الاستمرار من غير انقطاع.
وخير جليس لا يملّ حديثه ... وترداده يزداد فيه تجمّلا
القرآن خير جليس، وهو أحسن الحديث لقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر ٢٣]. وقوله ﵊: «ما تجالس قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده». قوله: لا يمل حديثه، أي لا تمل تلاوته وسماعه، أشار إلى قولهم: «كل مكرر مملول إلا القرآن»، والهاء في ترداده تعود على القرآن، لأنه كلما ردد ازداد حسنا وجمالا، ويجوز أن يعود على القارئ لأنه يزداد بترداده من الثواب الجزيل، وفوائد العلم الجليل، ما يتجمل به في الدنيا والآخرة.
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته ... من القبر يلقاه سنا متهلّلا
وصف القارئ بالفتوة وهو خلق جميل يجمع أنواعا من مكارم الأخلاق، ويرتاع أي:
يفزع وأضاف الظلمات إلى الفتى لأنها ظلمات أعماله الناشئة من القبر يلقاه القرآن سنى متهللا، والسنى بالقصر
1 / 6
الضوء، وبالمد الشرف والرفعة. والمتهلل الباشّ المسرور قال ﵊: «إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله لينورها لهم بصلاتي
عليهم». والهاء في «يلقاه» للفتى أو للقرآن لأن كل واحد منهما يلقى الآخر.
هنالك يهنيه مقيلا وروضة ... ومن أجله في ذروة العزّ يجتلى
هنالك إشارة إلى القبر، يهنيه أي: يهنئ القارئ، مقيلا المقيل موضع القيلولة وهي الاستراحة في وسط النهار، وأراد بها الناظم مطلق الراحة أي يصير القبر كالمقيل وكالروضة بثواب القرآن، والمقيل لا يكون إلا موضعا حسنا ذا ظل وراحة، والروضة المكان المتسع قال ﵊: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». قوله ومن أجله أي: ومن أجل القرآن في ذروة العز ذروة كل شيء أعلاه، وتقرأ في البيت بكسر الذال وضمها، والعز الشرف، ويجتلى أي: هو بارز ينظر إليه من قولك اجتليت العروس إذا نظرت إليها بارزة في زينتها.
يناشد في إرضائه لحبيبه ... وأجدر به سؤلا إليه موصّلا
يناشد أي: يلح في المسألة، والهاء في إرضائه للقرآن، والحبيب القارئ وهاؤه للقرآن ولامه للتعليل بمعنى لأجل حبيبه أي يسأل القرآن الله تعالى أن يعطي القارئ ما يرضى به القرآن، قال ﵊: «يقول القرآن يوم القيامة: يا رب رضني لحبيبي. قوله: وأجدر به تعجب كأخلق به، والسؤل المسئول وهو المطلوب أي: وما أحق الإرضاء المطلوب بالوصول إلى القارئ أو القرآن.
فيا أيّها القاري به متمسّكا ... مجلا له في كلّ حال مبجّلا
نادى قارئ القرآن المتصف بالصفات المذكورة في هذا البيت وبشره بما ذكره في البيت الآتي بعده والقارئ مهموز وإنما أبدل الهمزة ياء ضرورة، والهاء في به
للقرآن وهو متعلق بمتمسكا مقدما عليه أي: متمسكا به أي: عاملا بما فيه، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ [الأعراف: ١٧٠].
وقال ﵊: «كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسكوا بكتاب الله وخذوا به». وقوله: مجلا له إجلال القرآن تعظيمه وتبجيله توقيره وحسن الاستماع والإنصات لتلاوته.
هنيئا مريئا والداك عليهما ... ملابس أنوار من التّاج والحلا
أي: عش عيشا هنيئا والهنيء الذي لا آفة فيه والمحمود الطيب المستلذ الخالي من المنغصات، والمريء المأمون الغائلة المحمود العاقبة المنساغ في الحلق وهما من أوصاف الطعام والشراب في الأصل ثم تجوّز بهما في التهنئة بكل أمر سار، وأشار إلى قوله ﵊: «من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا».
وفي مسند بقي بن مخلد أن النبي ﷺ قال: «ويكسى والداه حلة لا تقوم لها الدنيا وما فيها». ففي هذا ذكر الحلة وفيما قبله ذكر التاج، والتاج الإكليل، ثم نظم بقية الحديث المتقدم وهو فما ظنكم بالذي عمل بهذا فقال.
1 / 7
فما ظنّكم بالنّجل عند جزائه ... أولئك أهل الله والصّفوة الملا
هذا استفهام تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه، أي: ظنوا ما شئتم من الجزاء بهذا الولد الذي يكرم والداه من أجله. والنجل النسل كالولد، يقع على المفرد والجمع قوله: أولئك أهل الله أشار إلى قوله ﵊: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته». قوله:
والصفوة أي: الخالص من كل شيء، وفي صاده الحركات الثلاث، والرواية الفتح والكسر أشار إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢]. والملا بفتح الميم أشرف الناس وهو مهموز أبدل همزه ألفا للوقف، أشار إلى قوله ﵊: «أشرف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل».
أولو البرّ والإحسان والصّبر والتّقى ... حلاهم بها جاء القرآن مفصّلا
أي هم أولو البر، والبر الصلاح والإحسان فعل الحسن، والصبر حبس النفس على الطاعة وردعها عن المعصية وأصله في اللغة المنع، والتقى اجتناب جميع ما نهى الله عنه.
قوله: حلاهم أي صفاتهم، جاء بها القرآن مفصلا أي مبينا أي أهل الله جمعوا صفات الخير المذكورة في القرآن نحو قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [المطففين: ٢٢]، [الانفطار:
١٣]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ١٩٥]، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:
١٤٦]، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: ٦٨]، إلى غير ذلك من الآيات العظيمة المتضمنة لهذه المعاني والقرآن في البيت بلا همز كقراءة ابن كثير.
عليك بها ما عشت فيها منافسا ... وبع نفسك الدّنيا بأنفاسها العلا
أي بادر إلى صفاتهم وألزمها ما عشت، أي مدة حياتك فيها منافسا أي مزاحما فيها غيرك، وبع نفسك الدنيا أي أبدل نفسك الدنية بأنفاسها العلا أي بطيب أرواح الأعمال الصالحة التي هي علا، والأنفاس جمع نفس بفتح الفاء، والعلا بضم العين صفة الأنفاس.
جزى الله بالخيرات عنّا أئمّة ... لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا
قال ﵊: «إذا قال الرجل لأخيه: جزاك الله عني خيرا فقد أبلغ في الثناء»، معناه كأنه يقول: يا رب أنا عاجز عن مكافأة هذا فكافئه عني، دعاء لكل من نقل القرآن من الصحابة والتابعين وغيرهم إلينا لقوله ﵊: «من أولى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له». قوله: عذبا وسلسلا. أي: نقلا عذبا لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه، ولا حرفوا ولا بدلوا، وعذوبته أنهم نقلوه إلينا غير مختلط بشيء من الرأي
بل مستندهم فيه النقل الصحيح، والعذب الحلو، والسلسل السهل الدخول في الحلق.
فمنهم بدور سبعة قد توسّطت ... سماء العلى والعدل زهرا وكمّلا
أي: فمن تلك الأئمة الناقلين للقرآن سبعة، جعلهم كالبدور لشهرتهم وانتفاع الناس بهم، والبدر إذا توسط في السماء وسلم مما يستر نوره وكمل فهو النهاية، والعلى الرفعة والشرف، والعدل الحق، واستعار للعلى وللعدل سماء وجعل هذه البدور متوسطة بها، وفيه إشارة إلى أن من لم يتوسط هذه السماء ليس من بدور القراء والأزهر المضيء والكامل التام.
1 / 8
لها شهب عنها استنارت فنوّرت ... سواد الدّجى حتى تفرّق وانجلى
الشهب جمع شهاب والشهاب في أصل اللغة اسم للشعلة الساطعة من النار، ويقال:
نار واستنار أي أضاء، والدجى الظلم جمع دجية وهي هنا كناية عن الجهل وتفرق تقطع وانجلى انكشف، أي للقراء السبعة رواة أشبهت الشهب في العلو والاشتهار والهداية أخذت القراءة عنهم وعلمتها الناس حافظين سبلها، فأماطت عنهم ظلمة الجهل وألبستهم أنوار العلم.
وسوف تراهم واحدا بعد واحد ... مع اثنين من أصحابه متمثّلا
أي ترى البدور مذكورين في هذه القصيدة على هذه الصفة، أي مرتبين واحدا بعد واحد، فكأنه نزل ظهورهم في النظم سماعا أو كتابة منزلة المتشخص من الأجسام،
والأصحاب الأتباع كما تقول: أصحاب الشافعي وأصحاب مالك. قوله متمثلا أي متشخصا، من قولهم تمثل بين يديه.
تخيّرهم نقّادهم كلّ بارع ... وليس على قرآنه متأكّلا
تخيرهم بمعنى اختارهم، والنقاد جمع ناقد، والبارع الذي فاق أضرابه، والهاء في تخيرهم ونقادهم للبدور السبعة أو للشهب أولهما، أثنى عليهم بالبراعة في العلم ثم أثنى عليهم بالزهد فقال: وليس على قرآنه متأكلا أي بارع غير متأكل بقراءته، يعني أنهم كانوا لا يجعلون القرآن سببا للأكل أشار إلى قوله ﷺ: «لا تأكلوا بالقرآن».
فأمّا الكريم السّرّ في الطّيب نافع ... فذاك الّذي اختار المدينة منزلا
شرع في ذكر البدور السبعة واحدا بعد واحد فبدأ بنافع، وهو نافع بن أبي نعيم مولى جعونة ويكنى أبا رويم، وقيل غير ذلك، وأصله من أصبهان أسود، كان إمام دار الهجرة وعاش عمرا طويلا قرأ على سبعين من التابعين، منهم يزيد بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، وعبد الرحمن بن هرمز. وقرءوا على عبد الله بن عباس، على أبيّ بن كعب، على رسول الله ﷺ.
وأشار بقوله: الكريم السر، إلى ما روي عنه من أنه كان إذا تكلم يشم من فيه ريح المسك، فقيل له: أتتطيب كلما قعدت تقرئ الناس؟ قال ما أمسّ طيبا ولكني رأيت النبي ﷺ في المنام يقرأ في فيّ، فمن ذلك الوقت توجد فيه هذه الرائحة. قوله: فذالك الذي اختار المدينة منزلا، المنزل موضع النزول والسكن، يعني أن نافعا اختار السكنى بمدينة النبي ﷺ، فأقام بها إلى أن مات فيها سنة تسع وستين ومائة في خلافة الهادي، وقيل: سنة سبع وستين، وقيل غير ذلك. وله رواة كثيرة ذكر منهم راويين في قوله:
وقالون عيسى ثمّ عثمان ورشهّم ... بصحبته المجد الرّفيع تأثّلا
الأول: هو أبو موسى عيسى بن مينا ويلقب بقالون، قرأ على نافع بالمدينة، ومات بها سنة خمس ومائتين.
الثاني: أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش، ولد بمصر ثم رحل إلى نافع فقرأ عليه بالمدينة، ومات بمصر سنة سبع وتسعين ومائة وقبره معروف في القرافة يزار.
والضمير في قوله:
1 / 9
ورشهم للقراء، أي هو الذي من بينهم لقبه ورش وكذا قوله فيما يأتي، وصالحهم أبو عمر هم وحرميهم والهاء في «بصحبته» لنافع، والمجد الشرف، والرفيع العالي، ومعنى تأثلا أي جمعا أي سادا بصحبة نافع والقراءة عليه.
ومكّة عبد الله فيها مقامه ... هو ابن كثير كاثر القوم معتلا
وهذا البدر الثاني أبو معبد عبد الله بن كثير المكي، مولى عمرو بن علقمة، تابعي وأصله من أبناء فارس، وكان طويلا جسيما أشمر أشهل يخضب بالحناء، قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي الصحابي، وعلى أبي، وعلى مجاهد بن جبير ودرباس، على عبد الله بن عباس، على أبيّ وزيد بن ثابت، على النبي ﷺ، ولد بمكة سنة خمس وأربعين في أيام معاوية، وأقام مدة بالعراق ثم عاد إليها، ومات بها سنة عشرين ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وله رواة كثيرة ذكر منهم راويين في قوله:
روى أحمد البزّي له ومحمّد ... على سند وهو الملقّب قنبلا
الأول: منهما هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة، وإليه نسب. قرأ على عكرمة، على إسماعيل، وعلى شبل بن عباد، على ابن كثير.
والثاني: أبو عمر محمد ولقبه قنبل، قرأ على أحمد القواس، على أبي الإخريط، على إسماعيل، على شبل ومعروف، وقرأ هذان على ابن كثير، وهذا معنى قوله: «على سند»، أي بسند، يعني أنهما لم يرويا عن ابن كثير نفسه، بل بواسطة هؤلاء المذكورين. وأصل السند في اللغة ما أسند إليه من حائط ونحوه، وسند الحديث والقراءة من ذلك.
وأمّا الإمام المازنيّ صريحهم ... أبو عمرو البصري فوالده العلا
وهذا البدر الثالث: أبو عمرو بن العلاء البصري المازني، من بني مازن كازروني الأصل، أسمر طويلا. والصريح الخالص النسب، واختلف في اسمه، فقيل: اسمه كنيته، وقيل زيان، وقيل غير ذلك، قرأ على جماعة من التابعين بالحجاز والعراق، منهم ابن كثير، ومجاهد، وسعيد بن جبير، على ابن عباس، على أبيّ، على النبي ﷺ. ولد بمكة سنة ثمان أو تسع وستين أيام عبد الملك، ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة سنة أربع أو خمس وخمسين ومائة في خلافة المنصور أو قبله بسنتين، وله رواة كثيرة ذكر منهم راويا فرع منه راويين في قوله:
أفاض على يحيى اليزيديّ سيبه ... فأصبح بالعذب الفرات معلّلا
أفاض يعني أفرغ من فاض الماء، واليزيدي هو يحيى بن المبارك اليزيدي، عرف بذلك لأنه كان عند يزيد بن المنصور يؤدب ولده نسب إليه، والسيب العطاء، والعذب الماء الحلو، والفرات الصادق الحلاوة، والمعلل الذي يسقى مرة بعد أخرى، يعني أن أبا عمرو أفاض عطاه على اليزيدي، وكنى بالسيب عن العلم الذي علمه إياه، فأصبح اليزيدي ريانا من العلم.
أبو عمر الدّوريّ وصالحهم أبو ... شعيب هو السّوسيّ عنه تقبّلا
ذكر اثنين ممن قرأ على اليزيدي: أحدهما أبو عمر حفص بن عمر الدوري، والثاني أبو شعيب
1 / 10
صالح بن زياد السوسي، والهاء في «عنه» لليزيدي، أي تقبلا عنه القراءة التي
أفاضها أبو عمرو عليه. يقال تقبلت الشيء وقبلته قبولا أي: رضيته.
وأمّا دمشق الشّام دار ابن عامر ... فتلك بعبد الله طابت محلّلا
وهذا البدر الرابع: عبد الله بن عامر الدمشقي التابعي، قرأ على المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان بن عفان ﵁، وعلى أبي الدرداء عن النبي ﷺ وقيل: إنه قرأ على عثمان ﵁. ووصفه الناظم بأن دمشق طابت به محلّلا أي طاب الحلول فيها من أجله، أي قصدها طلاب العلم من أجله للقراءة عليه والرواية عنه، ولد قبل وفاة النبي ﷺ بسنتين بقرية يقال لها رحاب، ثم انتقل إلى دمشق بعد فتحها، ومات بها في يوم عاشوراء من المحرم سنة ثمان عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، ذكر من رواته اثنين في قوله:
هشام وعبد الله وهو انتسابه ... لذكوان بالإسناد عنه تنقلا
هو أبو الوليد هشام بن عمار الدمشقي، قرأ على عراك المروزي وأيوب بن تميم، على يحيى الزماري، على ابن عامر. والثاني أبو عمرو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان، قرأ
على أيوب على يحيى على ابن عامر. قوله: وهو انتسابه لذكوان يعني أن عبد الله بن ذكوان انتسب إلى جده ذكوان، قوله: بالإسناد عنه، أي عن ابن عامر، يعني أن هشاما وعبد الله نقلا القراءة عن ابن عامر بواسطة هؤلاء المذكورين شيئا بعد شيء، وهذا معنى قوله تنقلا.
وبالكوفة الغرّاء منهم ثلاثة ... أذاعوا فقد ضاعت شذا وقرنفلا
الغراء أي البيضاء المشهورة، قوله: منهم ثلاثة، أي في الكوفة ثلاثة من البدور السبعة وهم: عاصم وحمزة والكسائي، أذاعوا أي أفشوا العلم بها وشهروه، فقد ضاعت أي الكوفة أي فاحت رائحة العلم بها، شبهوا ظهور العلم بظهور رائحة الورد والقرنفل، لأن الشذا كسر العود والقرنفل معروف.
فأمّا أبو بكر وعاصم اسمه ... فشعبة راويه المبرّز أفضلا
هو عاصم بن أبي النجود وكنيته أبو بكر، تابعي قرأ على عبد الله بن حبيب السلمي، وزرّ بن حبيش الأسدي، على عثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد، ﵃ على النبي ﷺ، ومات بالكوفة أو السماوة سنة سبع أو ثمان أو تسع وعشرين ومائة أيام مروان الأخير. ذكر من رواته اثنين أحدهما شعبة ذكره في قوله فشعبة راويه المبرز أفضلا أي الذي برز فضله، يقال: إنه لم يفرش له فراش خمسين سنة، وقرأ أربعا وعشرين ألف ختمة في مكان كان يجلس فيه، ولما كان شعبة اسما مشتركا والمشهور بهذا الاسم بين العلماء هو أبو بسطام شعبة بن الحجاج البصري ميز الذي عناه بما يعرف به فقال:
وذاك ابن عيّاش أبو بكر الرّضا ... وحفص وبالإتقان كان مفضّلا
ذاك إشارة إلى شعبة لأنه مشهور بكنيته واسم أبيه، ومختلف في اسمه فقيل شعبة وقيل غير ذلك.
1 / 11
وهو أبو بكر بن عياش بن سالم الكوفي، تعلم القرآن من عاصم خمسا خمسا كما يتعلم الصبي من المعلم، وذلك في نحو من ثلاثين سنة. قوله: الرضا أي العدل.
ثم ذكر الراوي الثاني فقال: وحفص إلخ، هو حفص بن سليمان الكوفي ويكنى أبا عمرو، ويعرف بحفص قرأ على عاصم، قال ابن معين: هو أقرأ من أبي بكر، ولهذا قال الشاطبي: وبالإتقان كان مفضلا، يعني إتقان حرف عاصم ﵀.
وحمزة ما أزكاه من متورّع ... إماما صبورا للقرآن مرتّلا
هو حمزة بن حبيب الزيات الكوفي، ويكنى أبا عمارة، كان كما وصفه الناظم زكيا، متورعا، متحرزا عن أخذ الأجرة على القرآن، صبورا على العبادة، لا ينام من الليل إلا القليل مرتلا، لم يلقه أحد إلا وهو يقرأ القرآن قرأ على جعفر الصادق، على أبيه محمد الباقر، على أبيه زين العابدين، على أبيه الحسين، على أبيه علي بن أبي طالب، رضي الله
عنهم. وقرأ حمزة أيضا على الأعمش، على يحيى بن وثاب، على علقمة، على ابن مسعود، وقرأ حمزة أيضا على محمد بن أبي ليلى، على أبي المنهال، على سعيد بن جبير، على عبد الله بن عباس، على أبيّ بن كعب. وقرأ حمزة أيضا على حمران بن أعين، على أبي الأسود، على عثمان، وعلي ﵄. وقرأ عثمان وعلي وابن مسعود وأبيّ على النبي ﷺ. ولد سنة ثمانين أيام عبد الملك، ومات بحلوان سنة أربع أو ثمان وخمسين ومائة أيام المنصور أو المهدي، ذكر من رواته راويا فرع منه راويين في قوله:
روى خلف عنه وخلّاد الّذي ... رواه سليم متقنا ومحصلا
أما خلف فهو أبو محمد خلف بن هشام البزار، آخره راء مهملة، وهو صاحب الاختيار. وخلاد هو أبو عيسى خلاد بن خالد الكوفي، والهاء في «عنه» لحمزة؛ يعني أن خلفا وخلادا رويا عن حمزة بواسطة سليم الحرف الذي نقله عنه إليهما. متقنا أي محكما محفوظا، ومحصلا أي مجموعا. وجملة الأمر أن خلفا وخلادا قرآ على سليم، وسليم قرأ على حمزة.
وأمّا عليّ فالكسائيّ نعته ... لما كان في الإحرام فيه تسربلا
هو أبو الحسن علي بن حمزة النحوي، مولى لبني أسد من أولاد الفرس. قيل له:
الكسائي من أجل أنه أحرم في كساء. والسربال القميص وكل ما يلبس كالدرع وغيره. قرأ على حمزة الزيات، وقد تقدم سنده، وقرأ على عيسى بن عمر، على طلحة بن مصرف، على النخعي على علقمة، على ابن مسعود على النبي ﷺ. عاش سبعين سنة، ومات برنبويه قرية من قرى الري صحبة الرشيد سنة تسع وثمانين
ومائة أيامه، ذكر من رواته اثنين في قوله:
روى ليثهم عنه أبو الحارث الرّضا ... وحفص هو الدّوري وفي الذّكر قد خلا
ليثهم مثل ورشهم، والهاء في عنه للكسائي، أي روى أبو الحارث الليث بن خالد عن الكسائي القراءة، والرضا العدل. والثاني هو أبو عمر حفص الدوري راوي أبي عمرو بن العلاء، وقد ذكر
1 / 12
في هذا البيت أنه روى عن الكسائي أيضا، وقد تقدم ذكره مع ذكر السوسي، فلهذا قال: وفي الذكر قد خلا.
أبو عمرهم واليحصبيّ ابن عامر ... صريح وباقيهم أحاط به الولا
أضاف أبا عمرو إلى ضمير القراء كما سبق في ورشهم. قوله: واليحصبي في صاده الحركات الثلاث مطلقا، والرواية الفتح، وقد تقدم أن أبا عمرو مازني، وذكر في هذا البيت أن ابن عامر يحصبي نسبة إلى يحصب حي من اليمن، ويحصب بطن من بطون حمير.
والصريح الخالص النسب، يعني أن أبا عمرو وابن عامر من صميم العرب، وباقيهم أي:
وباقي السبعة. أحاط به الولاء، أي أحدق به، وغلب على ذرية العجم لفظ الموالي، يقال:
فلان من العرب وفلان من الموالي، قال الجعبري في كنز المعاني: أبو عمرو وابن عامر نسبهما خالص من الرق وولادة العجم، وباقي السبعة شيب نسبهم بولاء الرق إن ثبت أنه مسهم أو أحد آبائهم، وإلا فولادة العجم وولاء الحلف لا ينافي الصراحة. وهذا النقل هو الأشهر، وإلا فقد اختلف فيهما وفي ابن كثير وحمزة انتهى كلامه.
لهم طرق يهدي بها كلّ طارق ... ولا طارق يخشى بها متمحّلا
لهم ضمير الرواة، والطرق جمع طريق وهو هنا لمن أخذ عن الراوي لأن أرباب هذا الفن اصطلحوا على أن يسموا القراءة للإمام والرواية للآخذ عنه مطلقا، والطريق للآخذ عن الراوي كذلك، فيقال مثلا: قراءة نافع رواية قالون طريق أبي نشيط ليعلم منشأ الخلاف عن الراوي. قوله: يهدي بفتح الياء وكسر الدال ويروى بضم الياء وفتح الدال، أي لهؤلاء القراء مذاهب منسوبة إليهم من الإظهار والإدغام والتحقيق والتسهيل والفتح والإمالة، وغير ذلك على ما يأتي بيانه. ومعنى يهدي أي يهتدي بها في نفسه أو يرشد المستهدي بتلك الطرق كل طارق، أي كل عالم يعرفها يهدي من طلب معرفتها. والطارق النجم المضيء، كني بالنجم عن العالم. ثم قال: ولا طارق أي: ولا مدلس، يخشى بها أي فيها متمحلا أي ماكرا.
وهنّ اللّواتي للمواتي نصبتها ... مناصب فانصب في نصابك مفضلا
وهن أي القراءات والروايات والطرق والمواتي الموافق وأصله الهمز فخفف. ونصبتها أي جعلتها مناصب أي أعلاما للعز والشرف لما لم يتضمن هذا القصيد جميع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث بل سبع قراءات منها. قال: هذه المذاهب إنما نظمتها لمن يوافقني على قراءتها ويستعمل اصطلاحي فيما نظمته، وأما من لا يوافقني عليها بل يريد غير هذه الأئمة كيعقوب الحضرمي، والحسن البصري وعاصم الجحدري والأعمش وغيرهم ممن نقل الأحرف السبعة فليس هذا النظم موضوعا له وليطلب ذلك من غيره من كتب الخلاف.
قال الجعبري: وخفي معنى هذا البيت على أكثر القراء وبلغ جهله إلى أنه كان إذا سمع قراءة ليست في هذا النظم قال شاذة، وربما ساوت أو رجحت، والحق أن من سمع قراءة وراء علمه حققها من جهابذة النقاد وكتب الثقات.
قلت: هذا القائل إنما قال ذلك لقلة اطلاعه على حقيقة هذا الفن واقتصاره على القصيد فيزعم أن ما سواه متروك وقد ألفت مختصرا
1 / 13
لطيفا جمعت فيه ست قراءات من الأحرف السبعة الواردة في الحديث من كتب متعددة، قرأت بها وذكرتها في ذلك المختصر.
فالقراءات الست عن ستة أئمة، وهم: يزيد بن القعقاع وابن محيصن والحسن البصري ويعقوب والأعمش وخلف. فإذا قرأ القارئ بما تضمنه هذا القصيد وبما تضمنه المختصر
في القراءات الست تحصلت له ثلاث عشرة قراءة عن الأئمة الثلاثة عشر وجميعها من الأحرف السبعة الواردة في الحديث. قوله: فانصب أي اتعب في نصابك، أي في أصلك، وأراد به النية لأنها أصل العمل ونصاب الشيء أصله، ومنه نصاب المال. أي أتعب ذاتك في تحصيل العلم الذي يصير أصلا لك تنسب إليه مفضلا أي ذا فضل.
وها أنا ذا أسعى لعلّ حروفهم ... يطوع بها نظم القوافي مسهّلا
ها حرف تنبيه، وأنا ضمير المتكلم وحده، وذا اسم إشارة، وأسعى بمعنى أحرص، أي إني مجتهد في نظم تلك الطرق، راجيا حصول ذلك وتسهيله، والضمير في «حروفهم» للقراء، والمراد قراءاتهم المختلفة، قال صاحب العين، كل كلمة تقرأ على وجوه من القراءات تسمى حرفا. ويجوز أن يكون المراد بالحرف الرموز، لأنها حروفهم الدالة عليهم ويدل عليه قوله بعد ذلك جعلت أبا جاد، ويطوع بمعنى ينقاد، والقوافي جمع قافية وهي كلمات أواخر الأبيات بضابط معروف في علمها.
جعلت أبا جاد على كلّ قارئ ... دليلا على المنظوم أوّل أوّلا
أخبر أنه جعل حروف «أبي جاد» دليلا أي علامة على كل قارئ نظم اسمه من القراء السبعة ورواتهم. أول أولا أي الأول من حروف أبي جاد للأول من القراء، ففي اصطلاحه أبج لنافع وراوييه، فالهمزة لنافع، والباء لقالون، والجيم لورش. «دهز» لابن كثير وراوييه، الدال لابن كثير، والهاء للبزي والزاي لقنبل. «حطي» لأبي عمرو وراوييه، الحاء لأبي عمرو والطاء للدوري، والياء للسوسني. «كلم» لابن عامر وراوييه، الكاف لابن عامر واللام لهشام، والميم لابن ذكوان «نصع» لعاصم وراوييه، النون لعاصم والصاد لشعبة والعين لحفص. «فضق» لحمزة وراوييه، الفاء لحمزة والضاد لخلف، والقاف لخلاد «رست» للكسائي وراوييه، الراء للكسائي، والسين لأبي الحارث والتاء
للدوري عنه وترتيبها عند الحساب. (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ).
فغيرها الناظم إلى اصطلاحه فصار ترتيبها عنده أبج دهز حطي كلم نصع فضق رست ثخذ ظغش والواو للفصل.
ومن بعد ذكري الحرف أسمي رجاله ... متى تنقضي آتيك بالواو فيصلا
المراد بالحرف هنا ما وقع الاختلاف فيه بين القراء من كلم القرآن، سواء كان حرفا في اصطلاح النحويين، أو اسما أو فعلا، وأسمي بمعنى أضع. والمراد برجاله قراؤه أي أذكرهم برموزهم التي أشرت إليها لا بصريح أسمائهم، فإن ذلك يتقدم على الحرف ويتأخر كما سيأتي. وبيّن بهذا البيت كيفية استعماله الرمز بحروف أبجد فذكر أنه يذكر حروف القرآن أولا، ثم يأتي بحروف الرمز ولا يأتي بها مفردة،
1 / 14
بل في أوائل كلمات، قد تضمنت تلك
الكلمات معاني صحيحة، من ثناء على قراءة أو قارئ، أو تعليل مفيد. ثم يأتي بالواو الفاصلة كقوله: ومالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤] راويه ناصر. وعند صراط ذكر أولا حرف القرآن وهو مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤]، ثم ذكر الرمز في قوله: راويه ناصر وهما الراء والنون ثم أتى بالواو الفاصلة في قوله وعند صراط. وهذا معنى قوله: «متى تنقضي آتيك بالواو فيصلا»، أي إذا انقضى ذكر الحرف المختلف في قراءته ورمز من قرأه، آتي بكلمة أولها واو تؤذن بانقضاء تلك المسألة واستئناف كلمة أخرى. وقوله: ذكري الحرف يقرأ بإضافة ذكر إلى ياء المتكلم، ونصب الحرف ويقرأ بخفض الحرف على إضافة ذكر إليه عوض ياء المتكلم الساقطة من اللفظ لالتقاء الساكنين.
سوى أحرف لا ريبة في اتّصالها ... وباللّفظ أستغني عن القيد إن جلا
يعني أنه ربما استغنى عن الإتيان بالواو الفاصلة إذا دل الكلام بنفسه على الانقضاء والخروج إلى شيء آخر وارتفعت الريبة كقوله: وغيبك في الثاني إلى صفوه دلا خطيئته التوحيد عن غير نافع، فإن لفظ خطيئته دل على انقضاء الكلام في الغيبة والخطاب، وقوله:
وباللفظ أستغني عن القيد، كقوله وحمزة أسرى في أسارى، فإنه استغنى عن تقييد اللفظين كما قيد في قوله في بقية البيت وضمهم نقاد وهم والمد. قوله إن جلا أي إن كشف اللفظ عن المقصود وبينه ومنه، يقال جلوت الأمر إذا كشفته، يعني لا يستغني باللفظ إلا إذا كان اللفظ يكفي عن ذلك القيد وإن لم يكف قيد.
وربّ مكان كرّر الحرف قبلها ... لما عارض والأمر ليس مهوّلا
رب حرف جر في الأصح لتقليل النكرة ومكان مجرورها. وقوله: كرر يقرأ بضم الكاف وكسر الراء، والرواية بفتحهما ففي كرر ضمير يعود إلى الناظم، أي رب مكان، كرر الناظم حرف الرمز قبل الواو الفاصلة، وأراد بالحرف هنا حرف الرمز الدال على القارئ لا الكلمة المختلف فيها المعبر عنها بقوله ومن بعد ذكري الحرف. قوله: لما عارض، أي لأمر عارض اقتضى ذلك من تحسين لفظ أو تتميم قافية وهو في ذلك على نوعين: أحدهما أن يكون الرمز لمفرد مكرر بعينه كقوله: حلا حلا وعلا علا. والثاني أن يكون الرمز لجماعة ثم يرمز لواحد من تلك الجماعة كقوله سما العلا ذا أسوة تلا، وقد يتقدم المفرد كقوله: إذ سما كيف عولا، والهاء في قبلها تعود على الواو الفاصلة المنطوق بها أي قبل موضعها وإن لم توجد فإن حلا حلا وعلا علا ليس بعدهما واو فاصلة. فإن قيل فما الرمز فيهما هل هو الأول والثاني؟
قيل: ظاهر كلام الناظم أن الرمز هو الأول وهو الذي ينبغي أن يكتب بالأحمر، فإن كان صغيرا مع كبير فلا يحمر إلا الكبير الذي دخل فيه الصغير نحو إذ سما فلا يحمر ألف إذ، وكذا سما العلا لا تحمر الألف من العلا، وكذلك إذا أضيف الكبير إلى ضمير نحو
حرميهم وصحبتهم، لا يحمر الهاء والميم.
واعلم أنه كما يكرر الرمز لعارض فقد تكرر الواو الفاصلة أيضا لذلك كقوله: قاصدا ولا ومع جزمه يفعل ولم يخشوا هناك مضلّلا وأن يقبل. قوله: والأمر ليس مهولا، بكسر الواو، أي أمر استعمال الرمز هين ليس مفزعا.
1 / 15
ومنهنّ للكوفيّ ثاء مثلّث ... وستّتهم بالخاء ليس بأغفلا
عنيت الأولى أثبتّهم بعد نافع ... وكوف وشام ذالهم ليس مغفلا
لما اصطلح على رموز القراء منفردين، كل حرف من حروف «أبي جاد» رمز لقارئ كما تقدم، اصطلح أيضا على حروف من حروف «أبي جاد» دالة عليهم مجتمعين كل حرف يدل على جماعة. واعلم أن الحروف الباقية من حروف «أبي جاد» ستة يجمعها كلمتان «ثخذ، ظغش». ولهذا قال: ومنهن، أي من حروف أبي جاد للكوفي، أي للقارئ الكوفي من السبعة، أي لهذا الجنس، وهم عاصم وحمزة والكسائي. ثاء مثلث، أي ذات نقط ثلاث، جعل الثاء المثلث وهو الأول من ثخذ دالا على الكوفيين الثلاثة إذا اجتمعوا على قراءة نحو قوله: وفي درجات النون مع يوسف ثوى، فالثاء من قوله: ثوى، ذات رمز لهم.
قوله: وستتهم بالخاء، أي وستة القراء بالخاء المنقوطة، والأغفل من الحروف الذي لم ينقط. قوله: عنيت، أي أردت، الأولى أي الذين أثبتهم أي نظمتهم، أخبر أنه جعل الحرف الثاني من «ثخذ» وهو الخاء لغير نافع، فلهذا قال: عنيت الأولى أثبتهم، أي عنيت بالستة الذين ذكرتهم في النظم بعد ذكر نافع، وهم: ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، إذا اجتمعوا على قراءة رمز لهم، بالخاء كقوله: والصابئون خذ، فالخاء رمز لهم، ثم شرع في الحرف الثالث من ثخذ، فقال: وكوف وشام ذالهم، أخبر أنه جعل الذال المعجمة للكوفيين وابن عامر، إذا اجتمعوا على قراءة كقوله: «وما يخدعون»، الفتح من قبل ساكن، وبعد ذكا، فالذال من ذكا رمز لهم. وقوله: ليس مغفلا، أي ليس مغفلا من النقط بل هو منقوط. ثم لما فرغ من حروف ثخذ شرع في تفصيل حروف ظغش فقال:
وكوف مع المكّيّ بالظاء معجما ... وكوف وبصر غينهم ليس مهملا
أخبر أن الحرف الأول من حروف ظغش، وهو الظاء المعجمة أي المنقوطة جعلها للكوفيين والمكي، يعني أن عاصما وحمزة والكسائي وابن كثير، إذا اجتمعوا على قراءة رمز لهم بالظاء كقوله: وفي الطور في الثاني ظهير، فالظاء من ظهير رمز لهم. قوله: وكوف وبصر، إلخ ... أخبر أن الحرف الثاني من حروف ظغش، وهو الغين، جعلها رمز العاصم وحمزة والكسائي وأبي عمر. وإذا اجتمعوا على قراءة كقوله: وقبل، يقول: الواو غصن، فالغين رمز لهم. وقوله: غينهم ليس مهملا، أي منقوط، والمهمل الخالي من النقط، والمعجم من الحروف المنقوط من قولهم: أعجمت الكتاب، أي أزلت عجمته بالنقط.
وذو النّقط شين للكسائي وحمزة ... وقل فيهما مع شعبة صحبة تلا
صحاب هما مع حفصهم عمّ نافع ... وشام سما في نافع وفتى العلا
ومكّ وحقّ فيه وابن العلاء قل ... وقل فيهما واليحصبي نفر حلا
أخبر أن الحرف الثالث من حروف ظغش، وهو الشين المنقوط جعله رمز الحمزة، والكسائي إذا اجتمعا على قراءة كقوله: وقل حسنا شكرا، فالشين رمز لهما، وإليه أشار بقوله: ذو النقط، أي صاحب النقط. فهذا آخر حروف «أبي جاد»، وكملت حروف المعجم جميعها، وهو آخر الرمز الحرفي.
ثم اصطلح
1 / 16
على ثمان كلمات جعلها رموزا وهن: «صحبة صحاب عم سما حق نفر حرمي حصن». ثم شرع في بيان مدلول تلك الكلمات فقال: وقل فيهما مع شعبة صحبة الضمير في «فيهما» عائد على حمزة والكسائي، أي قل في الكسائي وحمزة مع شعبة هذه الكلمة وهي صحبة، فجعل صحبة علما دالا على هؤلاء، يعني أن حمزة والكسائي إذا اتفق معهما شعبة على قراءة، عبر عنهم بلفظ صحبة كقوله: وصحبة يصرف، فصحبة رمز لهم.
وتارة يرمز لهم بالحرف كقوله: «وموص ثقله صح شلشلا»، فالصاد لشعبة، والشين لحمزة والكسائي. قوله: تلا أي تبع الرمز الكلمي الرمز الحرفي.
ثم شرع في الكلمة الثانية وهي صحاب فقال: صحاب هما مع حفصهم، أخبر أنه جعلها رمزا لحمزة والكسائي وحفص، إذا اجتمعوا على قراءة، رمز لهم بصحاب كقوله:
وقل زكريا، دون همز جميعه صحاب الضمير في قوله: هما يعود إلى حمزة والكسائي ومراده حفص عاصم.
الكلمة الثالثة عم جعلها رمزا لنافع وابن عامر، فقال عم نافع وشام.
الكلمة الرابعة: سما جعلها رمزا لنافع، وأبي عمرو وابن كثير، فقال: سما في نافع وفتى العلا. ومكّ.
الكلمة الخامسة: حق جعلها رمزا لابن كثير وأبي عمرو فقال: ومك وحق وابن العلاء قل.
الكلمة السادسة: نفر جعلها رمزا لابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر فقال: وقل فيهما واليحصبي نفر حلا. ثم ذكر باقي الكلمات فقال:
وحرميّ المكّيّ فيه ونافع ... وحصن عن الكوفي ونافعهم علا
الكلمة السابعة: حرمي جعلها رمزا لابن كثير ونافع.
الكلمة الثامنة: حصن جعلها رمزا لنافع والكوفيين، وهم: عاصم وحمزة والكسائي.
قوله: حرمي بكسر الحاء وسكون الراء وتشديد الياء، لغة في الحرم. وقوله: علا أي: ظهر.
المراد وهذه الثمان كلمات تارة يأتي بها بصورتها، وتارة يضيف بعضها إلى ضمير كقوله:
«صحابهم وحقك يوم لا مع الكسر عمه».
ومهما أتت من قبل أو بعد كلمة ... فكن عند شرطي واقض بالواو فيصلا
أي: ومهما أتت كلمة أولها رمز من قبل كلمة من الكلمات الثمان، التي وضعتها رمزا تارة استعملها مجردة عن الرمز الحرفي، وتارة يجتمعان فإذا اجتمعا لم ألتزم ترتيبا بينهما، فتارة يتقدم الكلمي على الحرفي نحو وعم فتى، وتارة يتقدم الحرفي على الكلمي نحو نعم عم، وتارة يتوسط الكلمي بين حرفين نحو صفو حرميه رضى، ومدلول كل واحد من الحرفي والكلمي بحاله لا يتغير بالاجتماع، فهذا معنى قوله: فكن عند شرطي، أي: على ما شرطته واصطلحت عليه قوله: واقض بالواو فيصلا، أي احكم بعد ذلك بالواو فاصلا على القاعدة المتقدمة.
وما كان ذا ضدّ فإني بضدّه ... غنيّ فزاحم بالذّكاء لتفضلا
انتقل إلى بيان اصطلاحه في عبارات وجوه القراءات فقال: كل وجه له ضد واحد سواء كان عقليا أو اصطلاحيا، فإني أستغني بذكر أحد الضدين عن الآخر لدلالته عليه، فيكون من سمى يقرأ بما ذكره، ومن لم يسم يقرأ بضد ما ذكره. قوله: فزاحم بالذكاء أي:
زاحم العلماء بذكائك، أي بسرعة فهمك لتفضلا أي لتغلب في الفضل.
واعلم أن الأضداد المذكورة تنقسم قسمين: أحدهما: ما يعلم من جهة العقل.
والثاني ما يعلم من جهة اصطلاحه، ثم هي تنقسم قسمين آخرين منها ما يطرد وينعكس، أي كل
1 / 17
واحد من الضدين يدل على الآخر، ومنها ما يطرد ولا ينعكس. فبدأ بالقسم الأول من القسمين أعني الذي يعلم من جهة العقل المطرد المنعكس.
كمدّ وإثبات وفتح ومدغم ... وهمز ونقل واختلاس تحصّلا
المد ضده القصر كقوله: فإن ينفصل فالقصر بادره. وقوله: وعن كلهم بالمد ما قبل ساكن، وتارة يعبر بالمد عن زيادة حرف كقوله: وفي حاذرون المد، وتارة يعبر
بالقصر عن حذف الألف كقوله: وقل لابثين القصر. قوله: وإثبات الإثبات ضده الحذف كقوله:
وتثبت في الحالين درا لوامعا ... وقل قال موسى واحذف الواو دخللا
قوله: وفتح الفتح هنا ضده الإمالة الكبرى والصغرى، ولم يستعمله الناظم إلا في قوله في سورة يوسف: والفتح عنه تفضلا، وفي باب الإمالة في قوله: «ولكن رءوس الآي قد قل فتحها». وإنما لم يقع التقييد بالفتح إلا في هذين الموضعين، لأن القراءة إذا كانت دائرة بين الفتح والإمالة، فما يعبر الناظم بالفتح لعدم دلالة الفتح على أحد نوعي الإمالة،
لأن الإمالة منقسمة صغرى وكبرى فما تفهم القراءة الأخرى لو عبر بالفتح، فيعبر بالإمالة إما الصغرى أو الكبرى وأيهما كانت فضدها الفتح.
والصحيح أن الفتح هنا غير الفتح الذي يأتي مؤاخيا بينه وبين الكسر، لأن الفتح هنا ضد الإمالة بخلافه ثم فإن ضده الكسر. قوله: ومدغم إلى آخره، ضد الإدغام الإظهار.
وضد الهمز ترك الهمز وضد النقل إبقاء الهمز على حركته، وإبقاء الساكن قبله. وضد الاختلاس إكمال الحركة، لأن معنى الاختلاس خطف الحركة والإسراع بها، وقوله:
تحصلا، أي تحصل في الروية وثبت.
ثم شرع في بيان الأضداد التي اصطلح عليها فقال:
وجزم وتذكير وغيب وخفّة ... وجمع وتنوين وتحريك اعملا
الجزم ضده في اصطلاحه الرفع، وهو يطرد ولا ينعكس. أما بيان اطراده فلأنه متى ذكر الجزم فخذ ضده الرفع، كقوله: وبالقصر للمكي واجزم فلا يخف. وأما الرفع فضده النصب كما سيأتي. والتذكير ضده التأنيث، وكل من الضدين يدل على الآخر كقوله: وذكر لم يكن شاع، وقوله: وإن تكن أنث. والغيبة ضدها الخطاب، وكل من الضدين يدل على الآخر كقوله: وفي يعملون الغيب حل، وقوله: وتدعون خاطب إذ لوى. والخفة ضدها الثقل، وكل منهما يدل على صاحبه، كقوله: وكوفيهم تساءلون مخففا. وقوله: وحق وفرضنا ثقلا والجمع ضده التوحيد والإفراد، وهو من الأضداد المطردة المنعكسة باصطلاحه نحو: وجمع رسالاتي حمته ذكوره، وكقوله: خطيئته التوحيد رسالات فرد. والتنوين ضده تركه، وهو من الأضداد المطردة المنعكسة كقوله: لثمود نوّنوا واخفضوا رضى وقوله: ثمود مع الفرقان والعنكبوت لم ينون. والتحريك ضده الإسكان، سواء كان مقيدا نحو: وحرك عين «الرعب» ضما أو مطلقا، نحو: معا قدر حرك من صحاب، وقوله: اعملا أي عاملا في الحرف.
وحيث جرى التّحريك غير مقيّد ... هو الفتح والإسكان آخاه منزلا
التحريك يقع في القصيد على وجهين: مقيد، وغير مقيد، فالمقيد كقوله: واللام حركوا برفع خلودا، وكقوله: وحرك عين الرعب ضما. وغير المقيد كقوله: معا قدر حرك.
ولا يكون إذا إلا فتحا، ومثله قوله:
1 / 18
نعم ضم حرك واكسر الضم أثقلا، والإسكان ضدهما معا، وإنما قال في هذا البيت والإسكان آخاه ولم يستغن بما تقدم في البيت الذي قبله لفائدة، وليس هذا بتكرار. أراد به إذا ذكر التحريك غير مقيد فضده الإسكان، وإذا ذكر الإسكان فضده الفتح إذا كان الإسكان غير مذكور الضد كقوله: ويطهرن، في الطاء السكون
فضد هذا السكون الفتح لأنه ذكره ولم يذكر له ضدا، فإن كان للسكون ضد غير الفتح فلا بد من ذكره وتقييده كقوله:
وحيث أتاك القدس إسكان داله ... دواء وللباقين بالضم أرسلا
لما كان ضد الإسكان هنا الضم ذكره وعينه. وكقوله: وأرنا وأرني ساكنا الكسر. ثم شرع يذكر بقية الأضداد التي اصطلح فيها فقال ﵀:
وآخيت بين النّون واليا وفتحهم ... وكسر وبين النّصب والخفض منزلا
أخبر أنه آخى بين النون والياء، وبين الفتح والكسر، وبين النصب والخفض. وفعل ذلك لكثرة دورهما في التراجم وفرق بين لقبي الفتح والنصب، وبين لقبي الكسر والخفض، على اصطلاح البصريين في التفرقة بين ألقاب حركات الإعراب والبناء.
فحاصل هذا البيت أن النون والياء ضدان، وكل واحد منهما يدل على صاحبه، فمتى كانت القراءة دائرة بين الياء والنون فإذا ذكرت الياء لقارئ نحو قوله: ويا ويكفر عن كرام، فتأخذ للمسكوت عنهم النون لتصريحه بالياء، وإذا ذكر النون لقارئ نحو قوله: وحيث يشاء نون دار، فتأخذ للمسكوت عنهم الياء، لتصريحه بالنون. وقوله: وفتحهم وكسر إلخ الفتح والكسر ضدان، وكل واحد منهما يدل على صاحبه كقوله: إن الدين بالفتح رفلا، فتأخذ للمسكوت عنهم القراءة بكسر الهمز. ومثال الكسر كقوله: عسيتم- بكسر السين- حيث أتى انجلا، فتأخذ للمسكوت عنهم القراءة بفتح السين. وأما النصب والخفض فهما ضدان، وكل واحد منهما يدل على الآخر كقوله: وغير أولي بالنصب صاحبه كلا. ومثال التقييد بضده كقوله: والأرحام بالخفض جملا. وقوله: منزلا، بضم الميم أي: منزلا كل شيء من ذلك منزلته.
وحيث أقول الضّمّ والرّفع ساكتا ... فغيرهم بالفتح والنّصب أقبلا
أخبر أنه إذا ذكر الضم وسكت عن قراءة الباقين كانت بالفتح كقوله: وفي إذ يرون الياء بالضم كللا: فابن عامر يقرأ بالضم، والباقون يقرءون بالفتح، وإذا ذكر الرفع وسكت عن قراءة الباقين كانت بالنصب كقوله: وحتى يقول الرفع في اللام أولا، فنافع يقرأ بالرفع، والباقون يقرءون بالنصب، وإذا لم تكن قراءة الباقين في النوع الأول بالفتح، ولا في النوع الثاني بالنصب، فإنه لا يسكت عنها مثاله في الضم قوله: وجزءوا وجزء ضم الإسكان صف. فقد ذكر الضم لأبي بكر، وذكر معه الإسكان، فتأخذ لغيره الإسكان لأنه المذكور مع الضم. وكذلك قوله: ورضوان اضمم غير ثان العقود كسره صح، فتأخذ لأبي بكر الضم لنصه عليه، وتأخذ للباقين المذكور معه وهو الكسر. ومثاله في الرفع قوله: يضاعف ويخلد رفع جزم كذي صلا: فتأخذ لابن عامر وأبي بكر القراءة بالرفع وتأخذ للباقين ما ذكر مع
الرفع وهو الجزم وكذلك قوله:
وخضر برفع الخفض عم حلا علا
فالحاصل أن ضد الرفع إذا سكت النصب، وضد النصب الخفض وكذلك ضد الضم إذا سكت الفتح، وضد الفتح الكسر. فالفتح والكسر ضدان، وكل واحد منهما
1 / 19
يدل على الآخر وكذلك النصب والخفض كل واحد منهما يدل على الآخر قوله: أقبلا أي جاء الغير بالفتح في مقابلة الضم، وبالنصب في مقابلة الرفع وبالله التوفيق:
وفي الرّفع والتّذكير والغيب جملة ... على لفظها أطلقت من قيّد العلا
أي في القصيد جملة مواضع من: الرفع، والتذكير، والغيب، وأضدادها، أطلقت القارئ الذي فهم الأضداد المتقدمة على قراءتها، خالية من الترجمة. فاعلم من هنا أن الخلاف إذا دار بين الرفع وضده فلا أذكر إلا الرفع رمزا أو صريحا، وإذا دار بين التذكير وضده فلا أذكر إلا التذكير، وإذا دار بين الغيب وضده فلا أذكر إلا الغيب. فإذا علمت أحد الوجهين من هنا أخذت للمسكوت عنه ضده من المتقدم. وقوله: على لفظها، أي على قراءتها أطلقت أي أرسلت. أي: وفي الرفع والتذكير والغيب جملة من حروف القرآن، في القصيد أطلقت على لفظها من غير تقييد، يعني أنه ربما استغنى بألفاظ هذه الثلاثة عن تقييدها. وقد اتفق اجتماع هذه الثلاثة في بيت واحد بالأعراف، وهو قوله: وخالصة أصل، ولم يقل بالرفع، فكان هذا الإطلاق دليلا على أنه مرفوع. ولا يعلمون قل، ولم يقل بالغيب، لشعبة في الثاني ويفتح شمللا، ولم يقل بالتذكير، ونبه بقوله: من قيد العلا، على أنه إنما وضع قصيده لمن عرف معانيه ليرتقي به إلى أعلى هذا الشأن، أي: من حاز الرتب العلا:
وقبل وبعد الحرف آتي بكلّ ما ... رمزت به في الجمع إذ ليس مشكلا
أخبر أنه لا يلتزم لكلم الجمع مكانا، بل يأتي بها تارة قبل الحرف وتارة بعده، إذ لا إشكال فيها، بخلاف حروف أبجد. والمراد بالحرف هنا كلمة القرآن. والرمز في اللغة الإيماء والإشارة ومنه قوله تعالى: إِلَّا رَمْزًا [آل عمران: ٤١]، ولما كانت هذه الكلمات والحروف التي جعلها دالة على القراءة كالإشارة إليهم، سماها رمزا وأراد بما رمز به في الجمع الكلمات الثماني، فإنها هي التي لا يشكل أمرها في أنها رمز سواء تقدمت على الحروف أو تأخرت. وأما الحروف الدالة على الجمع كالتاء والخاء وما بعدهما فلها حكم الحروف الدالة على القراء منفردين، وقد التزم ذكرها بعد حرف القرآن بقوله:
ومن بعد ذكري الحرف أسمي رجاله
وقد تقدم هذا، ومثال ذكره رمز الجمع قبل حرف القرآن، نحو: وصحبة يصرف
ومثال ذكره إياه بعده نحو يستبين صحبة ذكر وأولا وقوله ليس مشكلا أي ليس بصعب؛
وسوف أسمّي حيث يسمح نظمه ... به موضحا جيدا معمّا ومخولا
أخبر أنه يسمي القارئ باسمه ولا يرمزه، حيث يسمح نظمه به، أي حيث يسهل عليه نظمه تارة يذكره قبل حرف القرآن، وتارة بعده على حسب ما يسهل كقوله: «لحمزة فاضمم كسرها أهله امكثوا»، وقوله: «ولا كذابا بتخفيف الكسائي أقبلا.
واعلم أن التصريح تارة يكون باسم القارئ كما تقدم وتارة يكون بكنيته كقوله:
«وقطبه أبو عمرو»، وتارة يكون بنسبه كقوله: «وكوفيهم تساءلون»، وتارة يكون بضمير كقوله: «وبصروهم أدرى». وأما حرمي فإنه وإن كان نسبة فإنه جعله رمزا، فيجتمع مع الرمز كقوله: وإستبرق حرمي نصر وقد استمر له أنه لا يجمع بين رمز واسم صريح في ترجمة واحدة، ويجمع بينهما في ترجمتين فإنه قد يرمز بقراءة القارئ في الحرف الواحد، ويصرح فيه بالقراءة الأخرى لغيره كما قال: «يلهث له دار جهلا»، ثم قال: «وقالون ذو خلف»، وكذلك قد يرمز للقراء ويستثني بالصريح كقوله «وإضجاع «را» كل الفواتح»، ذكره حمى غير حفص. وقوله: «ليقضوا سوى بزيهم نفر
1 / 20
جلا وموضحا» أي مبينا، والجيد العنق، والمعم المخول ذو الأعمام والأخوال، وذلك أنهم كانوا يعرفون الصبي ذا الأعمام والأخوال بجيده لما فيه من الزينة.
ومن كان ذا باب له فيه مذهب ... فلا بدّ أن يسمى فيدرى ويعقلا
يريد أن القارئ إذا انفرد بباب لم يشاركه فيه غيره ذكره في ذلك الباب باسمه من غير رمز زيادة في البيان كقوله: ودونك الإدغام الكبير «وقطبه: أبو عمرو»، وقوله: وفي هاء تأنيث الوقوف وقبلها: «ممال الكسائي»، وقوله: «وغلظ ورش فتح لام لصادها». وبانتهاء هذا البيت انتهى ما رتبته من الرموز والاصطلاح في القصيد، ثم شرع يثني عليها فقال:
أهلّت فلبّتها المعاني لبابها ... وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا
الإهلال: رفع الصوت أي نادت صارخة بالمعاني، فلبتها أي أجابتها بقولها: لبيك، أي أقامت دائمة على الإجابة، من ألبّ بالمكان: أقام به، ولباب المعاني خالصها، وضعت من الصياغة ويعبر بها عن إتقان الشيء وإحكامه، وساغ سهل، والعذب الحلو والمسلسل السلس، يعني أنه نظم فيها اللفظ الحلو السلس الذي سهل على اللسان لتناسب مادته حال التذاذ السمع به لملاءمة الطبع.
وفي يسرها التّيسير رمت اختصاره ... فأجنت بعون الله منه مؤمّلا
رمت الشيء طلبت حصوله: أي أنه لما قصد اختصار كتاب التيسير ونظم مسائله في هذه القصيدة استعان بالله تعالى، فحصل له فيها ما أمله من المنفعة للمسلمين، واختصار
الشيء جمع معانيه في أقل من ألفاظه واستعار الجني للمعاني للطافتها. والتيسير يقرأ برفع الراء ونصبها والرفع الرواية. ومصنف التيسير هو الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، وأصله من قرطبة وهو مقرئ محدث مات بدانية في شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وكتاب التيسير من محفوظات الشاطبي قال: عرضته حفظا عن ظهر قلب، وتلوت ما فيه على ابن هذيل بالأندلس:
وألفافها زادت بنشر فوائد ... فلفّت حياء وجهها أن تفضّلا
الألفاف: الأشجار الملتفة لكثرتها، والفوائد: جمع فائدة، أي نشرت فوائد زائدة على ما في كتاب التيسير من زيادة وجوه وإشارة إلى تعليل وغير ذلك، ومن جملة ذلك باب مخارج الحروف ثم بعد هذا استحيت أن تفضل على كتاب التيسير استحياء الصغير من الكبير، ولفت أي سترت والذي سترت به وجهها هو الرمز.
وسمّيتها حرز الأماني تيمّنا ... ووجه التّهاني فاهنيه متقبّلا
أخبر أنه سمى هذه القصيدة «حرز الأماني ووجه التهاني» وأخبر بهذه التسمية أيضا أنه أودع فيها أماني طالبي هذا العلم وأنها تقابلهم بوجه مرضي مهنئ بمقصودهم، وتيمنا تبركا ومعنى فأهنئه متقبلا: أي تهنأ بهذا الحرز في حال تقبلك وكن به متهنئا.
وناديت اللهمّ يا خير سامع ... أعذني من التّسميع قولا ومفعلا
ناديت: أي قلت ومعنى اللهم يا الله الميم عوض عن حرف النداء وقطع همزته ضرورة، ثم كرر
1 / 21
النداء بقوله: يا خير سامع أعذني، أي اعصمني من التسميع أي من السمعة قولا ومفعلا أي في قولي وفعلي:
إليك يدي منك الأيادي تمدّها ... أجرني فلا أجري بجور فأخطلا
لما مد يده حال الدعاء قال: إليك يدي أي إليك مددت يدي سائلا الإعاذة من التسميع والإجارة من الجور، وقوله: «منك الأيادي تمدها»، الأيادي النعم أي هي الحاملة والمسهلة لي على مد يدي، أجرني أي خلصني من الخطأ فإنك إن أجرتني فلا أجري بجور أي فلا أفعله، والجور الميل عن الحق، فأخطلا أي فأقع في الخطل وهو الكلام الفاسد.
أمين وأمنا للأمين بسرّها ... وإن عثرت فهو الأمون تحمّلا
لما دعا أمن على دعائه فقال: أمين، ومعناه استجب، وفيه لغتان قصر الهمزة وهو الأصل، ومدها وهو الأفصح، وهو مبني على الفتح، وقد حكي فيه التشديد، والأمن ضد الخوف والأمين الموثوق به والسر ضد العلانية، كأنه قال: اللهم استجب، وهب أمنا للأمين بسرها أي بخالصها ومن أمانته اعترافه بما فيها من الفوائد، وقوله: وإن عثرت إلخ أصل
العثار في المشي، ثم يستعمل في الكلام يقال: عثر في منطقه إذا غلط، والعثرة الزلة، وأضافها إلى القصيدة مجازا، وإنما يعني عثرة ناظمها فيها، والأمون الناقة القوية أي يكون الناظر في هذه القصيدة قويا بمنزلة هذه الناقة في تحمل ما يراه من زلل أو خطأ فيقيم المعاذير:
أقول لحرّ والمروءة مرؤها ... لإخوته المرآة ذو النّور مكحلا
أخبر أنه مخاطب للحر بما تضمنته الأبيات التي تلي هذا البيت، وأراد الحر الذي تقدم شرحه في قوله: هو الحر، فقال: أقول لحر أخي أيها المجتاز واعترض بين القول والمقول بقوله: والمروءة مرؤها إلى آخر البيت، والمروءة كمال المرء بالأخلاق الزكية، وهي مشتقة من لفظ المرء كالإنسان من لفظ الإنسانية، وقوله: مرؤها معناه رجلها الذي قامت به المروءة، وأشار بقوله والمروءة مرؤها لإخوته المرآة ذو النور إلى قوله ﵊: «المؤمن مرآة المؤمن»، وروي «إن أحدكم مرآة أخيه فإذا رأى شيئا فليمطه».
والمكحل الميل الذي يكتحل به:
أخي أيّها المجتاز نظمي ببابه ... ينادى عليه كاسد السّوق أجملا
هذا من المقول للحر نادى أخاه في الإسلام الذي جاز هذا النظم ببابه أي: مر به، كني بذلك عن السماع به أو الوقوف عليه إنشادا أو في كتاب، واستعار الكساد للخمول وكساد السلعة ضد نفاقها أي إذا رأيت هذا النظم خاملا غير ملتفت إليه فأجمل أنت أي ائت بالقول الجميل فيه.
وظنّ به خيرا وسامح نسيجه ... بالاغضاء والحسنى وإن كان هلهلا
أي ظن بالنظم خيرا لأن ظن الخير بالشيء يوجب حسن الاعتذار عنه، وسامح من المسامحة وهي ضد المشاححة، نسيجه يعني ناسجه أي ناظمه بالإغضاء أي بالتغافل والحسنى أي بالطريقة الحسنى، وإن كان هلهلا في نسيجه، والهلهل الخفيف النسج.
1 / 22