فتنفست الصعداء وحمدت الله، وخرج جواد بك كما دخل هادئ البال مطمئنا دون أن يقول كلمة واحدة في الدور الذي مثله ذلك التمثيل المحكم، أما شريف أفندي فجلس على الديوان يمشط لحيته بأنامله، ويبتسم ابتسامة السخرية والازدراء، ثم قال كأنه يخاطب نفسه: الأخ على أخيه، والابن على أبيه، هذي هي ثمارك أيتها الحكومة الاتحادية، وهذا هو خيرك أيها الدستور!
ثم نظر إلي فقال بلهجة العطف والاعتذار: وكيف أخلص مولاي الأمير؟ ألا يجوز الكذب يا أفندي في مثل هذه الحال؟ إني أفدي مولاي وأعز الناس إلي بدمي، فكيف لا أخلصه بلساني وبحيلة لا تضر أحدا؟! أما الآن فعلي بخلاص نفسي، سيعود هؤلاء الذئاب، سيعودون ولا شك ليفترسوني، سيفتشون مكتبي، سيحجزون أوراقي.
قال هذا وبادر إلى خزانة فيها أوراق عزيزة جدا لديه، كيف لا وفي تلك الصفحات نبضات قلبه، ولآلئ دموعه، وأنين حبه، وصيحات إخلاصه لوطنه وزماجر نقمته؟! هي قصائده تناولها بيديه ومسح بها عينيه، ثم قبلها قبلة الوداع وأشعلها بعود من الكبريت قائلا: كما تلتهمك النار الآن لتلتهم نار الجحيم أعداء أمتي أجمعين.
نبوخذنصر
حكي أن نبوخذنصر ملك بابل كان ذات يوم يتمشى في جنينة القصر وعدوه الأكبر ذلك الذي يدعى في لغات الناس الغضب، فالغضب ونبوخذنصر وحدهما وطئا تلك الليلة ثرى البستان. مثل لنفسك الملك العابس في بستانه الضاحك وقل لي فيما إذا كان مشهد الأضداد لا يثير الشجون. هاك نبوخذنصر بين السنط والنخيل ساكنا متبسلا، بل قلقا مضطربا يحسب نفحات الورد نارا ونسمات الليل إعصارا. إن كل شيء في السماء ساكن باهر جميل، وإن كل شيء على الأرض - في قلب الملك - مظلم مضطرب.
والسبب في ذلك قصة - سأقصها عليك - حدثت في بابل قبل الميلاد بنحو سبعمائة سنة.
خرج نبوخذنصر ذات يوم إلى الصيد، فركب كعادته قاربا فخما على شاطئ نهر الفرات تصحبه حاشيته وكلابه، وبعد قليل بينما كان القارب يمخر مياه ذلك النهر المجيد قديما، الحقير اليوم ، رأى الملك أسدا مضطجعا على الشاطئ بين القصب، فأمر الصيادين بأن يرسلوا عليه الكلاب، فأفلتت من سلاسلها فسبحت إلى البر إلى عرين الأسد. وكانت وقعة بين هذه الكلاب وملك الغاب، ثم رأى الملك الفريسة تجر في النهر إلى القارب الملكي، جرتها الكلاب المنتصرة وقد تركت وراءها أثرا من الدم، وإذا أجيزت لنا المبالغة نقول: استحالت المياه دما من جروح الأسد المأسور، وإذا أذن الشعراء نقول: قد تكون من دم الأسد بين الأمواج الزرقاء بحيرات من الياقوت المذاب.
كل هذا جميل، وكل هذا يسر الملك في غير هذا اليوم، أما اليوم فلا شيء في العالم يبدد غيمة الغضب التي تعلو جبينه، لا شيء في العالم يعيد إلى صدره الراحة والسكينة.
إن شيئا صغيرا أغضب نبوخذنصر، وقلما تغضب الكبائر الملوك، أما إذا غضب نبوخذنصر فليغضب لغضبه الوزراء وتضطرب الأمة ... اللهم عونك، اللهم سترك، أزل اللهم هواجس مليكنا وهمومه، واصرف عنا وعنه شر عواقبها. تشاور الوزراء وابتهلت الأمة.
أما نبوخذنصر فلما عاد ذاك اليوم من الصيد دخل غرفته الخصوصية هو وعدوه الغضوب، ورمى بنفسه على مضطجع فخم مفروش بالطنافس الهندية، والجلود المرقطة، وحشايا الريش والحرير.
अज्ञात पृष्ठ