1 - يوم أن ماتت صحافة مصر
2 - لما كانت الصحافة محتقرة
3 - الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
4 - كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
5 - الإعلانات في الصحف
6 - الأسلوب في الصحافة
7 - رذيلة صحفية: تملق الجماهير
8 - الصحافة المصرية في نصف قرن
9 - الكفاح في صحيفة اللواء
10 - الكفاح في صحيفة الجريدة
अज्ञात पृष्ठ
11 - كفاحي في الصحافة
12 - صحافة المقالة وصحافة الخبر
13 - المرأة في الصحافة
14 - الفن الكاريكاتوري
15 - الصحافة والرأي العام
16 - كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب
17 - الصحفي كما يجب أن يكون
1 - يوم أن ماتت صحافة مصر
2 - لما كانت الصحافة محتقرة
3 - الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
अज्ञात पृष्ठ
4 - كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
5 - الإعلانات في الصحف
6 - الأسلوب في الصحافة
7 - رذيلة صحفية: تملق الجماهير
8 - الصحافة المصرية في نصف قرن
9 - الكفاح في صحيفة اللواء
10 - الكفاح في صحيفة الجريدة
11 - كفاحي في الصحافة
12 - صحافة المقالة وصحافة الخبر
13 - المرأة في الصحافة
अज्ञात पृष्ठ
14 - الفن الكاريكاتوري
15 - الصحافة والرأي العام
16 - كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب
17 - الصحفي كما يجب أن يكون
الصحافة حرفة ورسالة
الصحافة حرفة ورسالة
تأليف
سلامة موسى
الفصل الأول
يوم أن ماتت صحافة مصر
अज्ञात पृष्ठ
في سنة 1930 كان يبدو للمتأمل أن الصحافة قد باتت من الفنون التي ينجح فيها سوى غير المصريين، وقد ينتهي من تأمل الواقع - في انتشار الصحف غير المصرية، وانخذال الصحف المصرية، وغنى الصحفيين الأجانب وامتلاكهم الدور الفخمة والضياع الخصبة، وفقر الصحفيين المصريين، وتشردهم في الشوارع لا يملكون كوخا ولا قيراطا - أن الكاتب الأجنبي في مصر أذكى عقلا، وأبعد نظرا، وأدق تحريرا للصحف، مجلات كانت أو جرائد، من الكاتب المصري.
ولكن هذا الاستنتاج سرعان ما ينقلب إلى النقيض عندما كان يتعمق القارئ في تأمله ويربط النتائج بأسبابها؛ فالحقيقة أن الظروف السياسية كانت مدة الاحتلال الإنجليزي (أي سنة 1920) تعمل لكبت الروح الوطنية بمساعدة الجرائد الموالية للإنجليز، ومعاكسة تلك التي تناوئهم، فنحن نرى عقب الثورة العرابية أن الحكومة تدفع تعويضا ضخما لأصحاب جريدة غير مصرية، لأن الثائرين كسروا المطبعة لانضمام هذه الجريدة إلى الخديو، وكان هذا فاتحة اليسر والخير لتلك الجريدة، ثم نجد الإنجليزية بعد ذلك يسندون بنفوذهم جريدة المقطم التي أصبح أصحابها بهذا السند القوى من أغنياء القطر المعدودين؛ وعلى هذا كان يرى القارئ في سنة 1930 أن تفوق الصحف غير الوطنية لا يعزى إلا لأسباب لا يرضاها مصري لنفسه.
ثم جاءت الحركة الوطنية سنة 1919، وحدثت الانشقاقات في الوفد بعد ذلك وصار لكل حزب جرائده، والصحفيون غير الوطنيين في مصر يعيشون كالملوك «فوق الأحزاب» فهم يتمصرون ولكن تمصرهم لا يحملهم على الغلو في الوطنية؛ ولذلك فهم يستفيدون من الوطنية المصرية لأنهم يتحامون ما فيها من غلو، هذا الغلو الذي جعل الأستاذ عبد القادر حمزة يصدر منذ سنة 1920 إلى سنة 1930 «14» جريدة تقفل كلها، بعضها إقفالا نهائيا وبعضها لبضعة أشهر.
فلنفرض أننا قابلنا بين صحفي غير وطني وبين الصحفي المصري عبد القادر حمزة، فهل من الإنصاف أن نقيم هذه المقابلة على النتيجة الحاضرة، وهي موت البلاغ وإفلاس صاحبه، بينما كانت الصحف المحايدة في سنة 1930 حية تملأ الشوارع، وأصحابها قد تكدست خزائنهم بالمال؟
نظن أن ذلك ليس من الإنصاف، والذي كان يقول بعجز المصري عن تحرير الصحف وإدارتها لا يمكنه أن يضرب المثل بالبلاغ والصحف المحايدة التي كانت تنافسها في ذلك الوقت، فإنه يفتح أعيننا للطرق التي كان يعيش بها الصحفي الأجنبي من الصحافة، وهي طرق لا يرضاها مصري.
ومن البديهي أنه لا يمكن لمصنع في العالم أن يعيش إذا كان يعرض للإغلاق 14 مرة في عشرة أعوام، كما حدث للجرائد التي أصدرها الأستاذ عبد القادر حمزة.
وهكذا أوشكت صناعة الصحافة في ذلك الحين أن تفلت من أيدينا وتمسي صناعة غير مصرية يحتكرها غير المصريين، وليس للصحفي الأجنبي ميزة علينا فيها سوى أنه لا يغضب عندما يجب الغضب، ولا يبالي مصلحة مصر تعرض للضياع ما دام هو يربح هذا الضياع ما يزيد دخله بض مئات من الجنيهات، وهو على كل حال يمتاز بوطن آخر يمكنه أن يذهب إليه ويعيش فيه إذا لم يوافقه العيش في وطننا، ولكن أين نذهب نحن؟!
وكان عارا علينا أكبر العار أن يوكل تكوين الرأي العام المصري إلى أقلام غير مصرية، غريبة عنا في المزاج، لا يشغل قلوب أصحابها ما يشغل قلوبنا من أماني وآمال، ولا يؤلمها ما يؤلمنا.
وظهر نوع من الصحف المحايدة، وكان على رأس إحدى هذه الصحف صحفي قارح، وكانت توارب وتراوغ فلا تستطيع إلا أن تشمئز منها؛ فهي تكتب أحيانا مقالا مستور اللهجة والغاية، تخرج منه بأن حكومة معينة حسنة وحزبا معينا حسن، وكان هذا هو النفاق الذي يشمئز منه الإنسان.
وكانت هناك جريدة غير مصرية تهاجم حزبا، ولكنها كانت تخشى أن يفلت منها القراء المائلون إليه، فهي تشطر نفسها شطرين لتضمن القارئ، فتجعل نفسها حكومية، وتجعل مجلة أسبوعية أخرى تصدر عن نفس الدار حزبية، فمن يكره الجريدة اليومية لحكوميتها يقرأ المجلة الأسبوعية لحزبيتها!
अज्ञात पृष्ठ
وكانت هذه المجلات والجرائد تعيش في بلادنا، ويربح أصحابها الألوف من الجنيهات، وتستقر لهم بها صناعة يثرون منها مع ما فيها من الأذى، بينما كتابنا المصريون أمثال محمود عزمي يبحثون عن عمل آخر غير الصحافة يستطيعون أن يعيشوا منه؛ لأن صحفنا المصرية كان قد مضى عليها عشرون سنة وهي تعطل ويخرب أصحابها ويشتت محرروها، أما الصحف الأجنبية فلا تعل ولا يمس أصحابها أذى.
وكان علينا جميعا أن نقرأ كل يوم ما يكتبه لنا الصحفيون غير المصريين فيما يجب علينا وما لا يجب أن نتبعه في سياسة بلادنا من الخطط، كأن الصحفي الأجنبي هو الوحيد الذي كان يؤتمن على مصلحة مصر في الصحف، أما المصري فلا يؤتمن على ذلك.
وكان هذا شقاء.
وكان هناك صحفي غير مصري يكتب صباح مقالا افتتاحيا للمصريين عن فوائد الاحتلال البريطاني، وجهالات الوطنيين الذين لا يعرفون ما يقولون، وكان هذا الصحفي يسمي الزعيم مصطفى كامل «شحاذ بردنجوت»، وكان قبل ذلك يكتب في جريدة في الخرطوم، يشتم المصريين ويمدح الانجليز، وكان يكتب كل يوم مقالا عن الأوباش المجرمين الذين يطالبون بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في مصر، ويدعو الرجعيين إلى أن يملئوا صحيفته بآرائهم، فإذا وجد من ذلك فائدة مالية تملأ اليد فذاك، وإلا فإنه يدعو المجددين للكتابة في صحيفة ويحثهم على شتم الرجعيين ، ثم يدعو فيقول إن هذه الوزارة حسنة وتلك سيئة، وإن النظام البريطاني لا يفيد المصريين كثيرا، وإنما يفيدهم بناء الموانئ وصنع السفن إلخ. وعاشت تلك الجريدة طول عمرها تقول إن احتلال الإنجليز لمصر خير من استقلالها، وكانت صحيفة غير مصرية أخرى في الصراع الذي قام بين الخديو توفيق والحزب الوطني تمالئ الخديو وتساعده على الأمة التي نكبت به.
وكان كل هذا مسبة لذكائنا ووطنيتنا وعارا بل فضيحة لتغلب هذه الصحف على صحافتنا.
وهكذا كان أولئك الصحفيون غير المصريين أغنياء، وكنا نحن الصحفيين المصريين فقراء، وليس ذلك لأنهم أذكياء ونحن بلداء؛ لأننا كنا نكتب بضمير وطني، ونغضب عندما نعتقد أن الغضب واجب، وهم يكتبون بضمير غير وطني ولا يغضبون لأية نكبة تنزل بنا، لأن الوطن ليس وطنهم بالعاطفة والقلب.
وكانوا لا يبالون بالأذى يصيب عقولنا، وهم أغنياء يملكون دورا كالقصور، ويعيشون في ترف قد لا يبلغه الوزراء، ولم تكن هذه الجرائد والمجلات غير المصرية تخشى تعطيلا من الحكومة، ولم يكن أحد من التجار يتوقع لها موتا قريبا أو بعيدا؛ ولذلك كانت تنال إعلاناتهم وتستحوذ بذلك على آلاف الجنيهات التي يحرم منها الصحفي المصري لأن التجار لا يثقون بصحفه إذ هي عرضة للتعطيل في كل وقت.
ونترك هذه الصحف غير الوطنية ونقصد إلى حيث كان يعيش الصحفيون المصريون، فكأنك انتقلت من مدينة الأحياء إلى جبانة الأموات. كنت تجد أحدهم قابعا في غرفة أو شقة وقد تأخر علية إيجاره لخمسة أو ستة أشهر، أو كنت تجده يصدر الصحيفة وهو لا يملك المطبعة، أو هو يملك المطبعة ولا يملك الصحيفة، وكنت تقرأ الصحيفة المصرية فلا تجد بها أخبارا لأنها عطلت مرارا حتى تركها المخبرون وبحثوا لهم عن عمل آخر يستطيعون أن يعيشوا منه.
ودار الصحيفة مصنع، تكتسب الخبرة فيه بالتجارب المتكررة ويحظى بعطف التجار بالاستمرار، فالصحيفة إذا عطلت 14 مرة في 10 سنوات، كما عطلت جرائد عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وأحمد حافظ عوض وتوفيق دياب، لا تستطيع أن تحظى باعتماد التاجر في إعلانه، بينما كان الصحفي الأجنبي المحايد يمكنه أن يختار أحسن المخبرين ويشتري الورق بالثقة، وكان لا يمكن للصحفي المصري أن يفعل ذلك، كان قد مضى عليه عشرون سنة وهو مزعزع، تقفل داره في أي وقت، ويطرد إلى الشارع في أي وقت؛ ولذلك لم يكن يثق به أحد. عشرون سنة مضت من الاضطهاد للصحافة المصرية قضت علينا وجعلتنا فقراء.
وكانت لنا خصومات داخلية أسدلت على عيوننا غشاوة، فصرنا لا نفقه الحق ولا نستطيع تمييزه من الباطل، حتى بتنا ينبذ بعضنا بعضا بالخيانة، فصار الدستوري لا يقرأ جرائد الوفد، وصار الوفدي لا يقرأ جرائد الدستوريين؛ فانتهت القصة أو المهزلة بأن التجأنا إلى الجرائد المحايدة نقرأها لأنها ليست وفدية ولا دستورية.
अज्ञात पृष्ठ
ومضى علينا أكثر من عشرين سنة وجرائدنا ومجلاتانا تقفل بحزبية عمياء وعصبية صماء، وسقطت الصحافة المصرية بذلك، وخسرت في ذلك الحين كل شيء إلا الشرف، فصار الغنى في جانبهم والفقر في جانبنا، والوجاهة لهم والاحتقار لنا؛ وكل ذلك لأننا كنا نخلص لمصر وطننا.
وكنا نصدر الجريدة أو المجلة فلا يثق بنا تاجر ويأتمننا على إعلان واحد، وكانت تفتح الجريدة الأجنبية في مصر فتراها حافلة بالإعلانات التي تعود على أصحابها بعشرات الألوف من الجنيهات، ولكنك كنت تفتح المجلة أو الجريدة المصرية فلا تجد بها إعلانا واحدا يستحق الذكر.
وهكذا انهزمت الصحافة المصرية، وأصبح الصحفي المصري شخصا ساخطا فقيرا، أضاع ماله كما أضاع عمره في صناعة اعتقد أنه سيجد فيها المجال للخدمة الصادقة لأمته؛ فعادت عليه هذه الصناعة بخسارة العمر وخسارة المال. وكنت أينما سرت، من الاسكندرية إلى أسوان، لا تجد إلا جرائد ومجلات مصرية في النزع الذي تستقبل فيه الموت القريب.
مثل هذه الحال كان يجب أن ندرسها وأن نتعرف أسبابها، لأنها حال لم تتفق وكرامتنا الوطنية أو مصلحتنا الاقتصادية.
الصحيفة هي مرآة الأمة، مرآتها اليوم تريها نفسها كما هي الآن، ثم هي مرآتها في الغد تريها نفسها كما يجب أن تكون في المستقبل.
وهي لهذا السبب يجب ألا يقوم بها أجنبي غريب عنها في الدم أو المزاج أو الرجاء، ولكل أمة مزاجها التي تتميز به من سائر الأمم، فنحن نضحك من النكتة التي لا يضحك منها الأجنبي لأن لنا مزاجا هو خلاصة آلاف السنين من الوراثة ليس لأحد أبناء الأمم الأخرى. ولكل أمة فكاهتها التي تضحكها ولا تضحك غيرها، فقد يأخذ أحدنا مجلة بنش الإنجليزية أو سمبلسموس الألمانية ويقلب صفحاتها فلا يفتر ثغرة بابتسامة، بينما يجد الإنجليزي أو الألماني فيها ما يجعله يقهقه.
فهذا المثال البسيط يدلنا على أن لكل أمة ذوقا لا يستجيب للغريب في النكتة والفكاهة، وهي كذلك لا يمكنها أن تستجيب للغريب في الأدب أو الصحافة، بل هي إذا استجابت له في ذلك فاستجابتها برهان على أن ذوقها قد فسد ونفسها قد وهنت لطول ممارستها لهما، وهذه الصحف والمجلات الأجنبية في مصر لم تكن تعبر عن النفس المصرية أو الذوق المصري، لأننا كما نختلف عن الأجانب في النكتة والفكاهة كذلك نختلف في الروح الصحفية، ومن الإفساد الكبير لأذواقنا ونفوسنا المصرية أن نطبعها بطابع أجنبي.
ولكل أمة رجاء تقصد إليه بقلبها وعقلها، ونحن لنا رجاء الاستقلال والحرية والإصلاح الاجتماعي، وهو رجاء لا يؤنس قلب الصحفي الأجنبي، ولو أنه آنسه لكانت بلاده أولى به منا.
لقد مات مصطفى كامل فكان شبابنا يبكون في الشوارع، ومات بعد ذلك سعد زغلول فكانت نساؤنا قبل رجالنا يبكينه في البيوت، فهل بكى الأجنبي من أجل مصطفى أو سعد؟
وكان لنا مسائل اجتماعية، منها مسألة المرأة ومسألة الفلاح، وهي مسائل كانت تشعرنا بالضفة والانحطاط كلما رأينا الشقاء الذي يعيشان فيه، وكنا نحن راضيين بالتضحية والجهاد من أجل إصلاحها، فهل كان يرضى الصحفي الأجنبي في مصر بأن يضحي بشيء من ماله أو نفسه من أجل ذلك؟ كلا؛ لأن رجاءنا كان يختلف عن رجائه.
अज्ञात पृष्ठ
والصحافة هي بعد ذلك نوع من الأدب الجديد، أدب الجماهير والعامة، فهل نحن نبغي منه أدبا مصريا أو أدبا أجنبيا؟
ليس شك أننا كنا نريد أدبا مصريا. كنا نريد من الصحفي المصري أن يخاطبنا بلغتنا، وأن يحرض في نفوسنا الأماني المصرية، ولم ننتظر من الصحفي الأجنبي أن يؤدي لنا هذا الواجب؛ بل هو لا يستطيعه لو أراده لأن نفسه غير نفسنا، فلم نكن ننتظر من الجرائد والمجلات الأجنبية أن تطالبنا بدرس الحضارة الفرعونية كما فعل الدكتور محمد حسين هيكل، وأن يثبت على هذه الدعوة بينما المجلات الأجنبية تتهمه بالإلحاد من أجلها، ولم نكن ننتظر منها أن تدعونا إلى وطنية مصرية، كما فعل الأستاذ لطفي السيد في الجريدة، مع الإهانات المتكررة التي لقيها من العامة على ذلك.
والخلاصة أن الصحيفة التي يقرأها المصري يجب أن تكون مصرية بالدم والروح والمزاج، لأنها مرآة نفسه في اليوم والغد، وتمثل رجاءه في الاستقلال والحرية، وتنشد له أدبا مصريا يتفق ومزاجه ولغته وبيئته ومصريته.
وكانت الصحافة تجارة مثل أي التجارات، ولكن كانت قيودها أثقل من سائر التجارات، وكان الصحفي المصري يحمل هذه القيود راضيا وينزل على شروطها صاغرا، لأنه كان يراها تتفق ومصلحة وطنه التي هي أكبر من مصلحته، ولكن الصحفي الأجنبي لم يكن يبالي بهذه القيود، فهو كان ينشد من هذه التجارة الربح، والربح فقط.
لهذا السبب مضت علينا ثلاثون سنة والجرائد المصرية تعطل بينما الجرائد الأجنبية لا تعطل، وانتهت هذه الحال بأن أصبحت الصحافة في مصر صناعة أجنبية كاد ينساها المصري، ونحن نعرف من الشبان المصريين عشرات هجروا الصحافة لأنهم وجدوا من تعرضها المستمر للتعطيل ما يجلب عليهم الجوع والحرمان، فتركوها ساخطين.
والصحفي الأجنبي المحايد لم تتعرض جريدته للتعطيل لأنه كان يسير مع كل حزب ويمشي وراء الغالب، وهو لم يكن يشعر بالعار يلحق بالإنسان إذا استبدل بآرائه وخططه السياسية خططا وآراء أخرى كما يستبدل الإنسان حذاءه؛ وذلك لأن مصر ليست وطنه، وهو إنما هاجر إليها يبغي منها المال ولم يبغ منها وطنا؛ ولهذا السبب لم تكن تجد أجنبيا ينضم إلى حزب معين من الأحزاب السياسية المصرية، وقد تسمع منه أنه متمصر وأنه لا يعرف من الأوطان سوى مصر، ولكنه مع ذلك لم يكن يرضى أن يكون وفديا أو دستوريا لأن مصلحته التجارية كانت تدفعه إلى أن يبقى خارج الأحزاب يستغلها كما يشاء، ولأنه كان يخشى اذا هو تقيد بأحد الأحزاب أن يتعرض للتضحية، ثم هو إلى الأغراض المالية والكسب المادي كان يسير على الدوام مع الكثرة من العامة في الشئون الاجتماعية.
وكنا نحن في مصر نطالب بحرية المرأة، ولكنه كان يرى أن العامة تكره هذه الحرية، فهو يسير مع العامة ويدافع عن الحجاب، مع أنه في بيته وبين أهله وبني وطنه كان يضحك منا وينسب تأخرنا إلى الحجاب، وهذا هو السبب في المقالات الكثيرة التي كان يكتبها الرجعيون في الجرائد المحايدة الأجنبية في الدفاع عن الحجاب وتفشي الإلحاد في مصر.
هذا إلى هذر وهذيان وسخف من القصص والحكايات والخرافات كان يكتب في الصحف الأجنبية لتسميم العامة وإضعاف عقولها.
وبينا كنا نرى الصحف المصرية معطلة والأقلام المصرية مقصوفة، نرى المجلات الأجنبية تنساب بين العامة كأنها الحيات السامة، تشرح لهم كيف أن «الأستاذ» حافظ نجيب كان ينصب على الناس، وكيف أن بطلا من أبطال الأوباش كان يأكل حذاء كاملا، وكيف استطاع شحاذ أن يشتري بالشحاذة عقارا ضخما، وكيف يدخن الحشيش، وأين؟
وكان يكتب هذا في مجلات أنيقة الطبع، تستهوي العين بالصور الجميلة وبالطبع الحسن، فيقرأها الشاب المصري ويضعف عقله ويختل نظره للأشياء، حتى ليظن العبقرية في النصب والشحاذة والسخافة.
अज्ञात पृष्ठ
ولنضرب مثلا على الأجنبي في مصر بواحد منهم جعل الصحافة المصرية هذرا وهذيانا، يجمعون منها قروش العامة ويثرون، بينما عبد القادر حمزة ومحمد التابعي وعباس العقاد وحافظ عوض وتوفيق دياب ومحمد أبو طايلة وأحمد حلمي وغيرهم، تقصف أقلامهم وتخرب بيوتهم.
كان هذا «الأستاذ» يكتب في المجلات الأجنبية قصصا يتكرر بعضها عشر مرات أحيانا عن فتح الله بركات باشا، الذي يختلف عن سائر الناس أجمع من حيث إنه لا يأكل المدمس وانما هو يغمس اللقمة في مرق المدمس فقط، ويذكر «الأمير» فاروق فيقول عنه: إنه لا يخاطب جلالة والده أو والدته بقوله «يا صاحب الجلالة» أو «يا صاحبة الجلالة»، وإنما يقول كما يقول سائر الأطفال في العالم: يا «بابا» ويا «ماما»، ثم يذكر الامير عمر طوسون فيقول عنه: إنه يدخن الشيشة قبل الظهر ويدخنها أحيانا بعد الظهر وأحيانا لا يدخنها قبل الظهر أو بعد الظهر، ثم هو - أي الأمير - يأكل في الغذاء أكثر من العشاء، وأحيانا يأكل في العشاء أكثر من الغذاء.
ثم يقول إن الأستاذ لطفي السيد تقابل مع علي الشمسي باشا فبدلا من أن يبدأ التحية علي باشا بدأها الأستاذ لطفي السيد.
هذا هو الكاتب المثالي الأجنبي الذي كان يكتب للعامة هذا الهذر ليضعف عقولهم، بينما كتابنا المخلصون كانت أقلامهم قد قصفت، وكان بعضهم يبحث عن عمل آخر غير الصحافة يمكنه أن يعيش منه دون أن يتعرض للجوع.
وفي سنة 1930 أصدر إسماعيل صدقي باشا قرارا بإقفال ثلاثة مصانع مصرية، هذه المصانع هي: (1) «البلاغ» لصاحبه عبد القادر حمزة. (2) «الكوكب» لصاحبه أحمد حافظ عوض. (3) «اليوم» لصاحبه توفيق دياب.
وكل من هذه الجرائد كان مصنعا يحتوي على آلات كبيرة، ومواد كيماوية، ويحتاج إلى عمال ميكانيكيين وكيماويين يفهمون الآلات ويدرون بالأصباغ، ولا يمكن لأحد هذه المصانع أن يرتقي ويبلغ درجة من الإتقان تجذب عين القارئ إلا بعد تجارب وتضحيات كبيرة، وقد كان يعيش في كل من هذه الجرائد وحولها نحو خمسمائة أسرة مصرية.
ولكن هذه المصانع المصرية أقفلت، فوثبت الصحف المحايدة الأجنبية إلى الأمام وأخذت مكانها، والجريدة ترسخ بالزمن لأنها مصنع يرتقي بالتجارب الفنية، والزمن وحده هو الذي يجعلها تنال حظوة التجار في الإعلان عن بضائعهم، والتاجر لا يمكنه أن يأتمن جريدة على إعلانات وهي معرضة للموت في أي يوم.
وهذه الخطة في إقفال الجرائد المصرية قد مضى عليها عشرون سنة بل أكثر، وكانت تسير نحو هدم الصحافة باعتبارها صناعة مصرية وإحيائها باعتبارها صناعة أجنبية، حتى بتنا نحن الصحفيين المصريين نرى الهزيمة واضحة في جانبنا والفوز ظاهرا في جانب الأجانب، وبينما كانت الحكومة تسن القوانين لمساعدة المصانع الأخرى، تعمد إلى المصانع الصحفية المصرية فتقتلها؛ فكنا في حاجة إلى تغيير الخطة كلها للمحافظة على هذه الصناعة .
ونحن نضرب مثلا عن شناعة هذه الخطة بجريدة البلاغ، فهذا «البلاغ» قد اشترى في سنة 1930 ماكينة للطبع لا يقل ثمنها عن سبعة آلاف جنيه ويبلغ قسطها الشهري 700 جنيه، وكانت هذه الماكينة تستطيع إخراج البلاغ بالألوان والصور، وقد عطله إسماعيل صدقي بعد تجارب مضى عليها أشهر، كانت كلها خسارة في انتظار الربح القادم، أي لما أوشك كل شيء أن يتم وبعد التضحيات الكثيرة عطلت الجريدة، ولم يكن على الأستاذ عبد القادر حمزة سوى أن يبيع هذه الماكينة بأبخس ثمن أو أن يعلن إفلاسه، وفي إفلاسه إفلاس العمال الذين تعلموا هذه الصناعة، بل إفلاسنا جميعا.
ثم كانت إحدى الجرائد الأجنبية التي تسير مع كل حزب وتجري مع كل ريح، وتضحك منا جميعا، قد اشترت ماكينة للطبع بالألوان أيضا ونجحت بها، ولم تخش الجريدة الخسارة لأن صاحبها لم يصدم بأية قوة غالبة في البلاد، وعندما عاد البلاغ إلى الظهور كانت الصحف الأجنبية المتفرجة قد رسخت ونالت حظوة القراء، وحظوة التجار في الإعلانات، فلم يستطيع البلاغ أن يزحزحها عن مكانها.
अज्ञात पृष्ठ
والمغزى أن مصنعا أجنبيا كان يتغلب على مصنع مصري ويقتله، والنتيجة أني أنا وأنت أيها القارئ المصري كنا نخسر بهزيمة الصحف المصرية التي يعطلها الحاكم.
والعلاج الوحيد هو أن ننقل العقاب من الصحيفة إلى الصحفي؛ فالصحيفة المصرية مصنع يجب ألا يقفل بأية حال، فإذا حدثت عن سبيلها جناية فلنعاقب الجاني وهو الشخص الكاتب، ولا نعاقب الصحيفة. فلنفرض أن جريدة البلاغ مثلا ارتكبت جناية، فلنقبض على المرتكب ونعاقبه، أما الجريدة فيجب أن تصدر كل يوم لأنها في نفسها لا ترتكب الجناية وإنما هناك شخص أو أشخاص يرتكبونها وهم الذين يستحقون العقاب.
وقد كان القدماء يعاقبون الآلة التي ارتكبت بها الجريمة فيتلفونها، ولكننا ارتقينا عليهم وقصرنا العقاب على الشخص الجاني.
أما الآلة فشيء نافع يجب أن يستمر في العمل، فإذا فرضنا أن قاطرة داست بعض الناس وقتلتهم فنحن لا نتلف القاطرة بل نعاقب السائق، ونترك القاطرة تؤدي خدمتها للجمهور بعد أن يتسلمها سائق آخر خبير بالسياقة ، وهكذا يجب أن تكون الحال في الصحافة عندما ترتكب إحدى الصحف جناية، نعمد إلى الكاتب فنجلده أو نحسبه أو نشنقه، ولكن يجب أن تترك الصحيفة تصدر كل يوم وتؤدي خدمتها للناس لأنها هي الآلة، وهي حديد وحبر وورق، لا يمكنها وحدها أن ترتكب جناية، وإنما المرتكب شخص يمكن استبداله وعقابه، ثم في إقفال الجريدة أو المجلة قتل لصناعة مصرية يجب أن تشجع وتعيش مثل سائر الصناعات.
الفصل الثاني
لما كانت الصحافة محتقرة
أذكر أني في 1923 احتجت إلى أن أستأجر مسكنا بالقاهرة، وقصدت إليه وعاينته وارتضيته بأجرة شهرية قدرها سبعة جنيهات، وشرعنا في كتابة عقد الإيجار، وما هو أن فهمت مالكة المسكن أني صحفي حتى انتفضت من مقعدها وهي تقول: «جرنالجي» ويدفع منين سبعة جنيهات في الشهر؟
ورفضت التوقيع على العقد، ولم تجد معها المناقشة والشرح، وخرجت وأنا أتعثر في ثوب الخيبة.
واستطعت، بعد أن تشفعت بقريب لها، وبعد أن دفعت مقدما أجرة ثلاثة أو ستة شهور، أن أحصل على رضا المالكة وعلى المسكن.
وقد مضى على هذه الحادثة 35 سنة، ولكني أذكرها كي أبين للقارئ المكانة المحتقرة التي كان الصحفي يحتلها في المجتمع المصري، وكانت كلمة «غازيتجي» من الكلمات التركية التي تعني «صحفي»، وكانت مألوفة عند الطبقة الحاكمة في بداية هذا القرن، وكانت تحمل معنى التشرد والفقر والصعلكة.
अज्ञात पृष्ठ
ولما تزوج الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ابنة الشيخ السادات أقام الأب دعوى عليه يطلب إلغاء الزواج بدعوى أنه صحفي، وأن الصحافة محتقرة، ولا يليق بمن تنسب إلى «الأشراف» مثل ابنته أن تصاهره، وحكمت المحكمة الشرعية بإلغاء الزواج على هذا الأساس؛ أي إن الصحافة مهنة غير شريفة، ومحترفها لا يليق لمصاهرة أسرة «شريفة».
وقبل نحو ثلاثين سنة كان صادق سلامة صحفيا في المنيا يراسل جرائد القاهرة، وكان يكتب في انتقاد المدير وسائر الموظفين المسئولين في المديرية، وغاظهم نقده، وذات صباح جاءه رجل البوليس يقوده إلى مأمور البندر، وهناك ووجه بتهمة التشرد، وتسلم «إنذار» التشرد، وكان هذا الإجراء بعض ما يلاقيه الصحفيون من رجال الإدارة والسياسة في مصر في تلك الأيام.
ولكن صادق سلامة كان رجلا إلى نخاع عظامه، فقصد إلى القاهرة، وسعى حتى حصل على رخصة بإصدار صحيفة أسبوعية أسماها «الإنذار» تخليدا للفضيحة التي ارتكبها رجال الإدارة معه في المنيا، وقد شرفني بالتحرير فيها فيما بين 1948 و1952.
والواقع أن الصحافة قبل نحو أربعين أو خمسين سنة كانت من المهن المحتقرة، إذا اعتبرنا أن نوع النجاح الذي يعترف به المجتمع هو النجاح المالي، فإني أذكر أني اشتغلت في «اللواء» سنة 1909 بأجر شهري قدره سبعة جنيهات، وخرجت لعجز الجريدة عن دفع أجري، بل خرجت ولي عندها متأخر شهرين أو ثلاثة شهور.
ونستطيع أن نعزو انحطاط الصحافة المصرية إلى جملة أسباب:
أولها أن الحكومة الاستعمارية الاستبدادية كانت تطاردها باعتبار أنها تحمل راية النقد لإدارة يجب أن تبقى مستترة عن أعين الجمهور، وكانت أيضا تدعو إلى جلاء الإنجليز المحتلين لبلادنا.
ثم كان تأخر التعليم، وتحديد عدد المدارس الحكومية، يعمم الأمية أو يكاد بين طبقات الشعب، فكان جمهور القراء صغيرا لا يغذو جريدة يومية أو أسبوعية كثيرة النفقات؛ فكانت أجور الصحفيين - تبعا لذلك - منخفضة.
ولذلك كانت جرائدنا على الدوام في إفلاس، بين التعطيل والغرامة وحبس المحررين والمخبرين، ولم تكن في حالها هذه تتيح للصحفي أن يتربى التربية الصحفية، وقد مات اللواء، ومات بعده المؤيد، ثم الدستور، ثم الجريدة، وهذا غير عشرات المجلات، وأصبح الاعتقاد العام أن الصحافة مهنة خطرة تؤدي إلى الحبس، كما هي مهنة المفلسين أو الموشكين على الإفلاس؛ ولذلك لك يكن يقبل عليها الأكفاء الذين يجدون عملا آخر يتيح لهم الطمأنينة والكسب إلا أولئك الهواة المهووسين بالفن، وهؤلاء كانوا على الدوام قلة.
ولهذه الأسباب جميعها كثيرا ما كنا نجد الشبان يلجئون إلى الصحافة كما لو كانت معبرا يعبرون منه إلى وظيفة حكومية، وكثيرا ما حدث هذا فإن المحرر أو المخبر باتصالاته بالموظفين كان يجد الفرصة لأن يثب من الصحافة إلى الوظيفة ويترك الصحافة في غير أسف.
وبقي إحساس الخطر من مهنة الصحافة قائما عند كثير من الصحفيين إلى وقت قريب، فإن الصحفي لم يكن لينتظر من مهنته أن تكون رسالة حياته أو على الأقل مورد رزقه طيلة حياته، فكان يجمع منها ما يستطيع من مال كي يشتري ضيعة أو يقتني منزلا، وهو بهذا العمل كان يخرب صحيفته إذ يكف عن ترقيتها بالإنفاق عليها حتى تزداد خدمتها للجمهور؛ ولذلك كثيرا ما ماتت الصحف لأن أصحابها لم يرعوها بالتحسين والتوسع.
अज्ञात पृष्ठ
وواضح أن هذا الإحساس بالخطر من مهنة الصحافة كان يعود في الأكثر إلى القوانين الغاشمة التي ذكرناها والتي كانت تحمل الصحفي على أن يبحث عن عمل آخر، أو يقتني ما يكفل له العيش من مرتزق آخر، وخاصة إذا كانت صحيفته من تلك الصحف المكافحة، وليست من تلك الصحف المتفرجة؛ أي تلك الصحف التي وضعت نصب عينها مكافحة الاستعمار ومكافحة الاستبداد، فإن موقفها كثيرا ما كان يقضي عليها بالإلغاء، أي الموت أو الحبس المؤذي المهين، أو الغرامة الفادحة.
ويمكن أن نعد الصحف المصرية التي ظهرت ثم ماتت لموقف الكفاح هذا بالمئات منذ عرفت مصر الصحافة، وهي لم تمت إلا بعد أن بعثت في قرائها روح الكفاح، وبعد أن نادت وأطلقت صرخاتها من أجل الحرية والاستقلال ونزاهة الحكم؛ ولذلك لن ننسى فضلها. •••
كانت الصحافة مهنة محتقرة، كما كانت أيضا خطرة ولكنها كانت أيضا فقيرة.
وكان مرجع فقرها إلى أنها كانت مهددة بالإفلاس في كل وقت، فلم تكن تؤدي من الأجور والمرتبات للذين يعملون فيها إلا أخس المبالغ، ثم كان موقف العداء الدائم الذي كانت تقفه منها الحكومات الاستبدادية يحرم المشتغلين فيها أي ضمان من الإقالة أو حرمان المكافأة.
وكان هناك من أصحاب الصحف استغلاليون، دخلوا في هذه الحرفة بنفس الروح التي يقدم بها التاجر على تجارة ما، لا يبغي سوى الربح؛ ولذلك كانوا يرهقون عمالهم من المحررين إلى الطباعين بالعمل الشاق الذي كثيرا ما أودى بصحتهم.
وجميع الصحفيين يعرفون كيف أن إحدى الدور الصحفية القديمة في القاهرة كانت ترهق محرريها بالعمل حتى كانوا يخرجون منها وهم في انهيار نفسي، لو أنه طالت مدته لكان قد حملهم على الانتحار أو قضى عليهم بالجنون، وكيف أن كثيرا من عمال الجمع والطبع أصيبوا بالسل لمشقة العمل، زد على هذا أنه لم تكن هناك مكافآت للصحفي عن سني عمله إذا استقال، وقد عملت أنا سبع سنوات في دار صحفية مشهورة، وخرجت دون أن أحصل على مليم واحد مكافأة.
وكانت خسة الأجور والمرتبات من دواعي الاحتقار عند الشعب للصحفي؛ فإننا نعيش في نظام ثرائي اقتنائي يحسب فيه مقام الفرد بمقدار ثروته وما يقتني من عقار وما يحصل عليه من دخل.
الفصل الثالث
الصحافة تلقى عنتا وتعسفا
بعض ما أكتب في هذا الفصل قد أشرت إليه في مواضع أخرى موجزا عابرا، ولكني أحتاج هنا إلى الإيضاح والتركيز.
अज्ञात पृष्ठ
فالصحف هي عين الشعب على الحاكمين، فإذا كان هؤلاء من المستعمرين والمستبدين فإنهم لا يطيقون هذه العين الناقدة البصيرة التي تعين الأخطاء وتفضح الخيانات وترتب المسئوليات، وقد كان كثير من الحاكمين في مصر منذ 1882 إلى 1952 خونة ولصوصا، ترتشي ضمائرهم عن الحق والعدل، وترضى نفوسهم نهب البلاد، وقد رأيت كثيرا في حياتي الصحفية من جرائم هؤلاء الحاكمين.
أذكر، قبل أكثر من عشرين سنة، أني كنت في دكان حلاق كنت أوثره على غيره لأنه كان يستخدم حلاقا يدعى «المصري» كانت له اتصالات بالصحافة، وكان يجيد الكتابة في شئون العمال، وبينما هو يشتغل بقص شعري إذا بشرطي يدخل ويلقي القبض عليه ويقيده، وكانت التهمة التي سيق بها إلى مركز البوليس هي «التشرد».
التشرد وفي يده المقص يقص شعر الزبون.
وقد كانت تهمة «الشرد» من التهم المحبوبة المأثورة عند البوليس أيام الحاكمين المدنسين، يتهمون بها الصحفي من وقت لآخر كلما عجزوا عن إثبات تهمة صحفية واضحة عنه.
فقد ألقي القبض في المنيا على صادق سلامة وسلم «إنذار»، وكان كل ما ارتكبه أنه كان يراسل صحف القاهرة وينتقد المدير والوكيل في المديرية، وأصدر بعد ذلك صحيفته الأسبوعية باسم «الإنذار» في ذكرى هذا الحادث على ما ذكرنا قبلا وبقيت صحيفته بهذا الاسم إلى أن توفي في 1955.
وأسوأ من هذا في باب الظلم، ما حدث لأحد أصحاب الصحف، فقد كان في أوروبا وكتب أحد محرري صحيفته كلمة استوجبت تحقيق النيابة، ولم يقرأ صاحب الصحيفة ما كتبه هذا المحرر، ولم يعرف موضوع التهمة، فلما وصل إلى ميناء الإسكندرية ألقي القبض عليه وحوكم، وحبس بسبب ما نشره في هذا المحرر وهو غائب في أوروبا، وقد كان قانون الصحفيين في ذلك الوقت ينص على مسئولية صاحب الصحيفة لما يكتب في جريدته حتى ولو كان غائبا عنها، وكان هذا بعض العنت الذي اخترعته الأمخاخ السوداء في رءوس المستبدين والمستعمرين في مصر في وقت ما.
ومن هذا العنت أيضا أن تختص محاكم الجنايات بمحاكمة الصحفيين في قضايا الجنح، وفي هذا الاحتيال العجيب لإيذاء الصحفيين إشارة واضحة إلى الفساد الذي كان هؤلاء الحاكمون الفسدة يحاولون التسلل به إلى إفساد نزاهة القضاة.
وكانت «المطبعة» التي تطبع بها الصحيفة المعارضة موضوعا آخر للمعاكسات؛ ذلك أنها تعد «مصنعا» ينطبق عليه تعريف الإنجليز بقانون 1904 للمصانع المصرية، وهو أنه «محل مقلق للراحة أو مضر بالصحة أو خطر».
وأذكر أني كنت مع شريك قد أقمنا سنة 1950 مطبعة في قسم الأزبكية لطبع صحيفة، فلم نحصل في مدى أربعة شهور على الترخيص بإدارتها، مع أننا كلفنا مهندسا متمرنا على شئون المباني كي يقوم بالرسم ويعين المواضع، وجاء طبيب قسم الأزبكية فوافق على الترتيبات جميعها، ولكنه عاد إلينا بعد ذلك يقول إن الوزارة تطلب نقل النافذة نافذة المرحاض من الجهة الشمالية إلى الجهة الشرقية، وإنه لا يعرف علة هذا الرأي، ويسألنا: هل نحن نعرفه؟
ولم نكن نعرف سوى العنت الذي كانت الوزارة تهدف منه إلى إقفال المطبعة، ونجحت في ذلك.
अज्ञात पृष्ठ
وفي تلك السنة بالذات فكر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين في اتخاذ جملة خطوات مشئومة، ليست لتقييد حرية الصحف فقط بل أيضا لإخفاء جرائم فاروق ورجال قصره الدنس حتى لا يقف الجمهور المصري على الحقائق السوداء التي تمس رجال الحكم في القصر، وذلك بأن أعد مشروعا لمنع الصحف من نشر أخبار القصر ، أي أخبار فاروق ونازلي وبولي وكريم ثابت، وأخبار الراقصات اللائي كن يرافقن فاروق في رحلاته إلى الإسكندرية أو الصحراء، وينزل معهن في الأوبرج بالفيوم أو غير هذا الفندق في الأماكن الأخرى.
وأذكر أنه جيء بي من بورسعيد محروسا برجل البوليس إلى القاهرة؛ كي تحقق معي النيابة العامة بشأن جملة وردت في مقال لي بجريدة «الشعلة» هذه كلمتها بالنص: «الأوبرج وما أدارك ما الأوبرج»!
وكان المحقق الأستاذ إسماعيل عوض الذي استطاع أن ينقذني، ثم ينذرني. وكانت كلمة الأوبرج من الكلمات الحساسة عند فاروق لما كانت قد شاع وقتئذ لأنه يسلك سلوكا شائنا في هذا الفندق.
ولما هاج الصحفيون في شجاعة وشهامة على مشروع هذا القانون، فكر فؤاد سراج الدين في مشروع آخر في 1950 أيضا هو «قانون الاشتباه السياسي» كي يصبح الصحفي مشتبها حين لا يمكن إثبات تهمة عليه، واستطاع الصحفيون أيضا أن يئدوا هذا المشروع.
وأذكر أن إحدى الشركات التي كانت تطبع الكتب الشهرية قد تعاقدت معي حوالي 1948 بشأن كتاب قديم لي كانت دار الهلال قد نشرته سنة 1926، فلما كان بالمطبعة يجري طبعه، أوقف الطبع بدعوى أن الكتاب واسمه «أشهر قصص الحب التاريخية» يحتوي فصلا عن حب الملوك، وأن في هذا تعريضا بفاروق.
وفي سنة 1945 ألفت كتيبا بعنوان «حرية العقل في مصر» دعوت فيه إلى منع مثل هذا العنت في معاملة الصحفيين والأحرار والمؤلفين.
وعلى القارئ لهذا الفصل أن يذكر أسماء الصحف المكافحة التي ماتت جميعها لأن المستبدين والمستعمرين لم يطيقوا صدورها، وقد ماتت بمثل هذه المعاكسات، في حين أن الصحف المتفرجة، التي لم تكن تبالي فحش فاروق، أو سرقات الوزراء، أو نهب الاستعمار لكنوز بلادنا، أو تأخر بلادنا في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذه الصحف عاشت وأثرى أصحابها حتى أصبحوا يملكون من العقارات وغير العقارات ما تبلغ قيمته مئات الألوف من الجنيهات.
الفصل الرابع
كيف أفسدت الحكومة الصحافة المصرية
كانت الحكومة المصرية أيام الاستعمار والاستبداد تمارس ألوانا من الفساد أو الإفساد الصحفي يتجاوز الخيال، وهو فساد أو إفساد لم تعرفه أمة أخرى في هذا العالم كله.
अज्ञात पृष्ठ
فمن ذلك مثلا المصروفات السرية التي كانت ترشو بها الوزارات المتعاقبة الصحفيين حتى ينكروا الحق وينشروا الباطل، والذي ابتدع هذه البدعة هو عدلي يكن الذي هدف منها إلى محاربة سعد زغلول بتضليل الرأي العام وشق الأمة عليه عن طريق الصحافة، ولم تلغ هذه المصروفات السرية إلا بعد ثورة 1952، وكان في إلغائها تطهير وتنظيف.
وكان الغرور والزهو يحملان بعض الوزراء على أن يسخوا سخاء الإغداق على أحد الصحفيين لأنه كان ينشر صورهم في جمال ساحر وإن يكن زائفا، ويصف مآثرهم وإن لم تكن مآثر، ويروي القصة تلو القصة بشأن إصلاحاتهم التي لم يكن يعرفها الجمهور إلا في الصحف. واتضح من الكشف الذي أذاعته حكومة الثورة في 1952 أن إحدى الصحف الأسبوعية التافهة حصلت على أكثر من 26 ألف جنيه.
وكانت صفحاتها وقفا على الثناء على وزراء الاستبداد، فلا مقال عن العلم أو الأدب أو الصناعة أو الزراعة أو السياسة، وإنما كل ما كان فيها كلمات رنانة وجمل مرصعة في الثناء على الذين يمنحونها هذه «المصروفات السرية».
ثم كانت هناك رشوة أخرى لإفساد الصحفيين هي الإعلانات الحكومية، فصاحب الجريدة المستقل المعارض الذي يهدف إلى الإصلاح ولا يفتأ ينادي بقمع الفساد، يحرم الإعلانات أو لا يحصل منها إلا على التافه، في حين أن الصحفي الذي يمدح ويتغنى بعدل المستبدين ينال الألوف من الجنيهات، بل إن إحدى الصحف الأسبوعية التي لا يزال يذكرها الصحفيون نالت من إعلانات الحكومة في عدد واحد ما تزيد قيمته على نحو ثلاثمائة جنيه.
وهذا في الوقت الذي لم تنل فيه صحيفة يومية في أربعة شهور كاملة تصدر فيها كل يوم، وتباع، وتذاع، لم تنل سوى ما قيمته أربعون جنيها أي بمتوسط عشرة جنيهات في الشهر. ولم يكن لهذه الصحيفة من ذنب سوى أن محررها كان رجلا حرا يأبى الثناء الرخيص الكاذب على وزير الداخلية المتصرف.
وكانت الإعلانات الحكومية - التي كان هدفها في الأصل خدمة الحكومة بتنبيه الجمهور أو المقاولين أو غيرهم - وسيلة لإفساد الجريدة أو المجلة، وأذكر أني حين أخرجت مجلة المصري في 1930، وعارضت فيها إسماعيل صدقي في سياسته، عمد إلى التوسل إلى إفلاسي بحرماني هذه الإعلانات، ولم يحرم «المصري» فقط بل حرمت 12 مجلة أخرى أصدرتها بعد إلغائه.
وكنت في تلك الأيام عرضة لزيارات لا تنقطع، غايتها أن أخضع، مع عرض المكافأة السخية وهي الإعلانات، ولم أخضع؛ ولذلك أفلست جميع المجلات التي أصدرتها.
ومثال آخر لرشوة وإفساد الصحفيين، هو اشتراك وزارة «المعارف» وغيرها من الوزارات في بعض المجلات والجرائد دون بعض، فقد كان المقياس هنا ليس منفعة الطلبة والتلاميذ أو الموظفين، ولكن موقفها إزاء السياسة التي تتبعها الوزارة، فإذا كانت الصحيفة معارضة وتنتقد فإنها تقاطع، وإذا كانت موالية تمدح فإن الوزارات تشترك فيها، وكثيرا ما كانت المدارس «تختزن» المجلات التافهة بألوف النسخ التي لا تفض غلافات البريد عنها لهذا السبب. وقد أثرى صحفيون تافهون كثيرون بهذه الوسيلة.
ووسيلة أخرى عرفتها الحكومة أيام الحرب الكبرى لإفساد الصحف، هي الورق، فإن مقدار المخزون منه في البلاد كان محدودا، ومقدار ما كان يرد إلينا من الأقطار الأجنبية كان أيضا محدودا، وتعللت الحكومات بهاتين العلتين وتدخلت لتوزيع الورق «بالعدل»، وكان من هذا العدل أن عومل الموالون الخاضعون بالسخاء وعومل المعارضون بالتقتير. ويعرف الصحفيون في أيامنا كيف اقتنى بعض الصحفيين مئات الألوف من الجنيهات حصلوا عليها ببيع الورق في السوق السوداء.
وشاع هذا البيع حتى صار فضيحة مكشوفة، وحتى صار كثيرون من الصحفيين تجارا، يحصلون على ورق الصحف فيبيعونه لأصحاب المكتبات الذين كانوا يحتاجون إليه لطبع الكتب.
अज्ञात पृष्ठ
وألف المرحوم أمين عثمان الوزير الوفدي جمعية «للصداقة» الإنجليزية المصرية، كان شعارها أننا نحن المصريين قد تزوجنا الأمة الإنجليزية زاوجا كاثوليكيا لا تفصم عراه، وكان كل من ينضم إلى هذه الجمعية من الصحفيين يجد أجود الورق بأرخص الأثمان، بشرط الإبقاء على الزواج الكاثوليكي.
ولا أكاد أتخيل صورة أفظع من هذه الصورة في إفساد الصحف المصرية، وقد فسدت أو فسد الكثير منها، كما يدل على ذلك هذا الحادث التالي:
ذات يوم دعاني أحد أصحاب الصحف، فلما قعدت إليه وأخذنا في الحديث فهمت أنه يرغب في أن أتولى رياسة التحرير، وشرع يثني علي كثيرا، ولم يكن عندي ما يمنع من قبول هذا العرض، وجعلنا نتحدث قرابة الساعة عن وجوه الإصلاح في الصحيفة، ونتناولها صفحة بعد أخرى بالنقد والاقتراح هنا وهناك، ونقترح أسماء لمحررين نحتاج إليهم، وانتهى اجتماعنا بأن أفهمني بأنه سيكالمني بالتليفون في اليوم التالي، وودعته وخرجت.
ومضت أيام لم يكلمني فيها ولم يعتذر، وصادف لقائي لأحد الوزراء وكانت له به علاقة متينة، فشكوت إليه هذه المعاملة التي بخسني بها، فكان جوابه السريع الصريح: «اسمع يا أستاذ، فلان هذا لا يوظف محررا في صحيفته إلا بعد استئذان السراي، وأنت تعرف رأي السراي عنك؛ فلا بد أنه استشارهم فأشاروا عليه بألا يجعل لك صلة بصحيفته».
ولا أنسى أن أقول إن هذه الصحيفة كانت وقتئذ تفهم الجمهور أنها معارضة للسراي.
وكان منصب «مدير المطبوعات» من المناصب العليا في الدولة، ولكن الحكومة الفاسدة كثيرا ما كانت تعين أفسدت الناس وأجهلهم لهذا المنصب؛ لأنها كانت تخشى الرجل المستقل النزيه المثقف الذي قد يأنف مما يطلب منه من اتباع خطط سافلة مؤذية للجمهور أو للصحفيين.
وأذكر أني قصدت ذات يوم إلى واحد من مديري هذه الإدارة لشأن صحفي، فلما هممت بالدخول إلى غرفته منعني سكرتيره وأفهمني أن هناك مسائل خطيرة جدا يشتغل بها مدير المطبوعات، وأني يمكن أن أنتظر حتى ينتهي منها.
وقعدت مع السكرتير، وطال انتظاري، فسئمت وأخذت استفسر منه عن هذه المسائل «الخطيرة» التي يشتغل بها مدير المطبوعات الذي كنت قد خبرته من قبل ووجدت فيه أتفه رجل عرفت.
ولكن السكرتير رفض أن يبوح، وعندئذ لم أباله، وهممت إلى الباب واقتحمته، فماذا وجدت؟
وجدت مدير المطبوعات هذا، الذي يشرف على الصحف، ويوجه الرأي العام، ويطلب إنذار صحيفة وإلغاء أخرى، ويقدم الصحفيين للنيابة العامة، ويعين مقدار الإعلانات والمصروفات السرية، وجدت هذا المدير قاعدا وأمامه عراف مشهور في القاهرة بأنه يرى الحظ ويتكهن عن المستقبل عن طريق النجوم والودع ، وكان الموضوع الذي حضر من أجله هو أن يخبر المدير عن التاريخ الذي ستقال فيه الوزارة أو تستقيل حتى يتهيأ بخطط معينة للوزارة القادمة.
अज्ञात पृष्ठ
هذا بعض مما لاقاه الصحفيون من فساد الحكم أيام الوزارات التي سبقت الثورة.
الفصل الخامس
الإعلانات في الصحف
ليس شك في أن الإعلانات التجارية والصناعية والترويحية تنفع القراء وترشدهم، فإن ربة البيت تعرف منها ما يجد من المخترعات التي تخفف الأعباء المنزلية، كما يجد جمهور القراء فيها دليلا عن المسارح والدور السينمائية ونحوها، وهذا غير ما يجده كل منا بشأن لباسه وطعامه وسكناه وسائر حاجاته.
والإعلانات، من زاوية أخرى، تخدم الروح وتزيد الاستهلاك، فلا تركد حركة الأسواق.
ثم هي بعد ذلك تصل بين الصحيفة وبين حركات الإنتاج في شتى السلع، فهي من هذه الزاوية تنطوي على عوامل تنويرية لمحرري الصحف أنفسهم لأنها تدلهم على الأحوال الاقتصادية المتغيرة المتطورة.
وفي نظام إنتاجي مثل نظامنا الحاضر يقوم على المباراة، تحتاج المتاجر إلى الإعلان، وأقرب الوسائل إلى ذلك هو الصحيفة؛ ولذلك أصبحت الإعلانات أعظم الموارد لحياة الصحيفة، حتى لقد عرف أحد المتهكمين الصحف، جرائد ومجلات، بأنها «أوراق» قد كتبت عليها إعلانات وفي ظهر هذه الإعلانات أخبار.
وعندما نتصفح إحدى جرائدنا الكبرى، مثل الجمهورية أو الأخبار أو الأهرام أو الشعب، غير المجلات الأسبوعية العديدة، نجد أن مقدار الورق أحيانا يزيد ثمنه على الثمن الذي تباع به الجريدة أو المجلة، وعلة ذلك هي الإعلانات؛ لأن قيمة الإعلان تعوض الدار الصحفية وتجعل الخسارة في ثمن الورق كسبا في قيمة الإعلان.
ونحن القراء نضيق أحيانا بكثرة الإعلانات، ولكن الجريدة التي تبلغ صفحاتها 16 أو 20 صفحة لا يمكن أن تباع بأثمانها الحاضرة لولا هذه الإعلانات العديدة التي تسد النقص في أبواب أخرى من نفقات الصحيفة.
وقد حاول أحد الصحفيين الأمريكيين أن يتحدى القواعد الصحفية في الولايات المتحدة فأصدر صحيفة في واشنطن كان يبلغ عدد صفحاتها 16 (في نصف قطع جرائدنا اليومية)؛ فلم يعتمد في عدد واحد على سطر من الإعلانات، ولكنه وقفها بعد أقل من سنتين لوفرة ما خسره في إصدارها من مال، وصحيح أن الجمهور عند صدورها أقبل عليها، ولكنه عزف عنها بعد ذلك، لأنه وجد أن الجرائد التي تستعين بالإعلانات تتوسع في عدد صفحاتها وتزيد من أخبارها وسائر مرافقها وخدماتها الصحفية أكثر مما تستطيع جريدة بلا إعلانات.
अज्ञात पृष्ठ
وللإعلانات في نظامنا القائم قيمة تنويرية كبيرة لا تقل أحيانا عما تنشره الصحيفة من أخبار أو مقالات، فإن الشركة الجديدة - في تجارة أو صناعة - تحتاج إلى شرح أعمالها القادمة، وهي لا تنتظر الخدمة المجانية من الصحيفة في هذا الشرح؛ ولذلك تقوم هي بنشره إعلانا أو إعلانات متكررة حتى تقف الجمهور على مشروعاتها ويقدم على شراء أسهمها، وكثيرا ما تظهر هذه الإعلانات في صيغة مقالات، والجمهور يستنير بهذه الإعلانات والشركة تنتفع.
وقد يقال هنا إن الشركة أو المؤسسة التجارية أو الصناعية التي تغزو إحدى الصحف بإعلاناتها تستطيع أن تؤثر في سياستها وتحددها بالحرمان إذا هي أقدمت على انتقادها بما يؤدي إلى إيذائها ماليا.
واعتقادنا أن هذا صحيح، وقد مرت بي اختبارات صحفية من هذا النوع؛ فإني أذكر أن إحدى البواخر ارتطمت، وكان عليها مسافرون مصريون، وتسلمت الخبر بالإنجليزية من إحدى شركات الأخبار وترجمته، ولكن بعد أقل من عشر دقائق جاءنا رسول من مكتب الشركة التي تملك هذه الباخرة وطلب أن نمتنع عن النشر، وكان التهديد المضمر أننا إذا نشرنا الخبر أسأنا إلى سمعة الشركة، وعندئذ تقطع إعلاناتها عن الجريدة التي كنت أعمل فيها محررا ومترجما، وامتنعت الجريدة عن النشر خاضعة ذليلة، بل حدث ما هو أفدح من هذا، فقد كانت هناك شركة تأمين في التصفية، فرشت الصحف حتى لا تنشر خبر التصفية، واستطاعت أن تنتهي من التصفية قبل أن تؤدي التزاماتها للمؤمنين عندها، ونستطيع أن نزيد.
حدث هذا قبل نحو ثلاثين سنة.
وبالطبع هذا الامتناع من الصحيفة عن نشر الحقائق خشية أن تخسر الإعلانات يعد إجراما صحفيا يترفع عنه ويأباه الصحفي الأمين المخلص، كما يجب أن تترفع عنه وتأباه الشركة التجارية أيضا سواء أكانت شركة بواخر أم شركة تأمين.
ولكن في نظامنا الاجتماعي الحاضر مفاسد، تكاد تكون أصيلة فيه، وإن يكن هناك من الرجال الأشراف من يستطيعون من وقت لآخر أن يستعلوا وأن يأبوا الخضوع لهذه المفاسد.
اعتبر مثلا جريدة المقطم، فإننا كلنا نعرف الضرر الفادح الذي أنزلته بالشعب المصري حين عاشت حياتها وهي تؤيد الاستعمار البريطاني، ولكن كانت لها فضيلة أخرى لا يعرفها الجيل الجديد الذي سمع عنها ولم يرها؛ ذلك أنها طيلة سبعين سنة أو أكثر من عمرها رفضت نشر إعلان واحد عن المشروبات الكحولية، وخسرت بالطبع بهذا الرفض نحو مئة أو مئتي ألف جنيه، ولكنها ارتضت هذا الخسار التزاما لمبدئها وهو جحد الخمور.
وشبيه بذلك أيضا ما حدث في أيامنا، ففي 1953 كتبت الصحف بشأن إحداث التدخين لسرطان الرئة، وكان الأطباء الذين يصدرون مجلة «بريتش مديكال جيرنال» قد بحثوا هذا الموضوع واقتنعوا بصحته؛ فأعلنوا في يناير من 1954 أنهم يرفضون نشر الإعلانات عن السجاير، مع أن أقل ما كانت تحصل عليه هذه المجلة الطبية من هذه الإعلانات لم يكن لينقص عن خمسة أو عشرة آلاف جنيه في السنة.
ان لبعض الصحفيين أخلاقا عالية.
وأعود فأكرر القول بأن نظامنا الاقتصادي الحاضر، نظام المباراة يحتاج إلى الإعلانات، وربما لا يستطيع البقاء بدونها، ولكن في نظام آخر مثل روسيا ليست هناك حاجة إلى إعلانات في الصحف؛ ولذلك تصدر جميع جرائدها ومجلاتها بلا إعلان واحد، ونظامها الاقتصادي لا يحتاج إلى ذلك، فإن أحد الأسس الذي تنهض عليه فكرة الإعلان هي أن «سلعتي أفضل وأرخص من السلع التي يبيعها غيري».
अज्ञात पृष्ठ
وليست هناك مباراة في البيع في روسيا؛ وإذن لا حاجة إلى الإعلانات. وقد ذكرت مثالين عن إساءة الاستعمال في الإعلانات، وهما مثال شركة التأمين ومثال شركة البواخر، ولكن في ظني بل يقيني أن أعظم من أساء الاستعمال للإعلانات في الصحف هو الحكومة المصرية في عهدها اللعين البائد أيام الوزارات الإقطاعية.
فقد كانت الإعلانات توزع على الصحف المصرية، لا للانتفاع بانتشارها حتى تصل إلى المحتاجين إليها فيعرف منها المقاول مثلا أخبار المزايدة أو المناقصة أو نحو ذلك، وإنما كانت توزع بالمحاباة الصريحة بحيث تعود هدية أو رشوة من أحد الوزراء لأحد الصحفيين فحسب، أما خدمة الدولة في مصالحها المالية فلا شأن لها أي شأن في نظر الوزير. بل كانت هناك مجلات أسبوعية لا يتكلف إصدار العدد الواحد منها خمسين قرشا يحمل من الإعلانات الحكومية ما كانت تبلغ قيمته عشرين جنيها أو أكثر.
وبعض الجرائد في بعض الأحيان يزيد ثمن الورق الذي تطبع به على ثمنه وهو جريدة مطبوعة، بل يزيد أضعافا في بعض الأحيان، وإنما يحصل أصحاب الجريدة على الربح من الأجور العالية للإعلانات.
بل يحدث أكثر من ذلك، فإن بعض المصانع والمتاجر والمؤسسات المالية تؤسس الجرائد وتغذوها بالمال حتى تنتشر، ويكون القصد خدمة هذه المصانع والمتاجر والمؤسسات، وإلى الآن لا أعرف مثل هذه الحالات - لحسن الحظ - في مصر، ولا ينتظر أن يحدث مثل ذلك في مصر إلى سنين عديدة قادمة، فإن رأس المال في أوروبا وأمريكا من القوة والحيلة والدراية، بحيث تمتد شباكه إلى الصحف فيستغلها، ولكنه لا يزال ضعيفا في مصر.
وقد قلت إن الإعلان كثيرا ما يؤدي إلى التنوير، خاصة إذا كان بشأن مشروع جديد يحتاج إلى الدعاية، ولكني أعتقد أن الإعلانات في مجموعها تنتهي إلى التغرير وليس إلى التنوير، وإن تكن مع ذلك ضرورية في نظام المباراة الذي نعيش فيه، ولو أن حكومة ما من حكومات رأس المال، حزمت رأيها ومنعت الإعلانات في الصحف لكانت شكوى القراء أكبر من شكوى أصحاب رأس المال، إذ ليس لنا طريق إلى الوقوف على السلعة التي نريد شراءها غير الجريدة والمجلة في الوقت الحاضر.
ولعل من المفيد أن نقول إن تدريس فن الإعلان يلقى في بعض الجامعات اهتماما أكبر من تدريس فن الصحافة، وهذا معقول؛ إذ هو يتفق ونظام مجتمعنا القائم على المباراة في التجارة والصناعة.
الفصل السادس
الأسلوب في الصحافة
حين أعود بذاكرتي إلى الستين سنة الماضية في حياتي، أي منذ شرعت أقرأ وألتفت إلى الصحف، أجد أن الأسلوب السهل المنير الذي وصلنا إليه في الكتابة بلغتنا العربية، لا يعود الفضل فيه إلى معلمي اللغة في المدارس، بل لا يعود الفضل فيه حتى إلى الكتاب «الأدباء» القدامى، وإنما الفضل في هذا الأسلوب يعود إلى الصحف.
ذلك أنها - لاضطرارها إلى السرعة في إيراد الخبر - احتاجت إلى أن تختار من الكلمات والعبارات ما تسهل كتابته وقراءته معا؛ إذ لم يكن يتسع الوقت للخبر أو المحرر أن ينظر بكلمات السجع أو المجاز أو أن يتبختر بالعبارات الموسيقية المزيفة التي كان يعتقد أنها فنية.
अज्ञात पृष्ठ
وربا كان خير من ألف بأسلوب عربي سهل في غير الصحافة هو قاسم أمين، وإن كنت أنا أعد مؤلفاته من الصحافة، إذ هي جميعها تعالج مشكلاتنا المصرية العصرية، يليه لطفي السيد في الأسلوب الدقيق المحكم.
وصحفنا تكتب هذه الأيام بلغة شعبية، ولو شئت أن أعين شخصا كان له فضل هذا التوجيه لقلت إنه محمد التابعي؛ فإنه هو الذي اخترع لنا «الخبر المقالي» أو «المقالة الخبرية» فاحتاج إلى أن يجعل الكتابة أقرب ما تكون إلى الكلام، فأحدث أسلوبا يغري بالقراءة، وزاد عدد القراء للصحف.
وليس معنى هذا أنها ابتذلت في أسلوبها وأخبارها حتى صارت عامية، وإنما هي جذبت بسهولة الأسلوب الكتابي الذي اتبعته وطريقة إيراد الخبر، والتنويع في وسائل الإمتاع الصحفي بالصورة الفوتوغرافية والصورة الكاريكاتورية، والعناية بالأخبار النائية، جذبت فريقا من القراء لم يكونوا يعنون قبل صدورها بالسياسة العالمة والأخبار الصحفية؛ فكانت لهم بمثابة المدرسة التي شغلتهم بثقافة جديدة ترفعهم عن اللهو الرخيص الذي كانوا يمارسونه حين لم يكونوا يجدون ما يجذب من الصحف.
وليس هذا نزولا إلى العامة وإنما هو رفع العاملة إلى مستوى الشعب. ونحن جميعا شعبيون، نطالب الحكومة بأن تكون شعبية، كما نطالب بتعليم الشعب كله، بل نطالب بأن يكون الشعب هو صاحب الكلمة العليا في تقرير السياسة الداخلية أو الخارجية.
ولذلك يجب علينا نحن الصحفيين أن نتحمل مسئولية تنوير الشعب، وأولى الوسائل لهذا التنوير أن نكتب بلغة يفهمها الشعب، لغة سهلة نبلغ بها المعنى العميق دون أن نحتاج إلى الغريب الحوشي من الكلمات التي تصد القارئ.
وقد كانت صحفنا - أيام اللواء والمؤيد - تكتب بلغة تعلو أحيانا على فهم أفراد الشعب، ولكن السرعة التي تطبع الصحافة بطابعها جعلت الكتاب كما قلنا يكتبون كما يتحدثون، فكان هناك اتجاه يقوى عاما بعد عام نحو أسلوب شعبي انتقل بعد ذلك من الصحافة إلى الأدب.
والصحفي العظيم - كما أحب أن أكرر القول - هو ذلك الذي يرفع الصحافة إلى الأدب؛ إذ إن الصحافة يمكن في اعتبارات عديدة أن تعد من الأدب، وهي واقعية شعبية بطبيعة أهدافها ووسائلها، ولا يكاد يوجد أديب في مصر لم يعمل في الاثنين: الأدب والصحافة.
ولكن كما أن عندنا أدباء غير شعبيين يحبون «الصعب» من الأسلوب، ويبحثون عن موضوع لدراستهم في مجتمعات نائية في التاريخ غير مجتمعنا، كذلك كان عندنا كتاب صحفيون يحاولون أن يكتبوا بأسلوب «صعب» وكأنهم ينظرون إلى الصحيفة كما لو كانت مقصورة على الخاصة دون الشعب.
وقد استطاع محررو الصحف أن يهتدوا إلى أسلوب شعبي، لا هو عامي ولا خاص، يفهمه جمهور الشعب ويغريه بالقراءة اليومية.
وهذا التوخي للسهولة هو أيضا الذي بعث إلى إيجاد الألوان المبسطة للعلوم والأدب والشئون النسوية، بل إن الأطفال أيضا قد وجدوا نصيبا في هذا التبسيط.
अज्ञात पृष्ठ