सिद्दीका बिंत सिद्दीक
الصديقة بنت الصديق
शैलियों
وقد أعانها على هذا الخلق السمح أنها رزقت القدوة القريبة بسيد المواسين للضعفاء ومعلم الجابرين لكسر القلوب، فما من شأو بلغته في هذا المعراج الرفيع إلا ارتفع بها رسول الله إلى أعلى منه وأجمل. كانت عندها فتاة يتيمة اسمها الفارعة بنت أسعد فزوجتها لنبيط بن جابر الأنصاري وسارت معها في زفافها إلى بيت زوجها، فلما عادت سألها عليه السلام: ما كان معكم لهو فإنه يعجب الأنصاري؟ هلا بعثتم جارية تضرب بالدف وتغني؟ فسألته: ماذا تقول يا رسول الله؟! قال: تقول: أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم.»
وحدثت مولاتها أم ذرة - وهي من الثقات - أن ابن الزبير بعث إلى السيدة عائشة بغرارتين فيهما مال يبلغ مائة ألف درهم، وكانت صائمة فدعت بطبق فجعلت تقسم في الناس، ثم أمست فقالت: يا جارية هاتي فطري. قالت أم ذرة: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني! لو كنت أذكرتني لفعلت!
وقال ابن سعد عن عروة بن الزبير: «رأيت عائشة تصدق بسبعين ألفا، وإنها لترقع جانب درعها.» وأيسر ما يستفاد من هذه الروايات على اختلاف مكان رواتها من الثقة أنها - رضي الله عنها - كانت مشهورة بالكرم والإحسان إلى مستحقيه.
وقد كانت بنت أبيها في أكثر من خصلة واحدة من هذه الخصال النادرة بين الرجال والنساء، ولكنها كانت أشبه ما تكون به في خصلة الصدق التي بها اشتهر، ومن أجلها نعت بالصديق، وغلب هذا النعت عليه حتى أوشك أن ينسى الناس اسمه الذي دعاه به أبواه. وقد امتحن صدقها في مآزق عسيرة البلاء للنفوس فتمحصت عن معدن كريم وعرق سليم، ودلت على أصالة هذا الميراث النفيس من أبيها العظيم؛ ففي الغاشية التي أطبقت على العالم الإسلامي من جراء الخلاف على الخلافة تطايرت الأحاديث الموضوعة من هنا وهناك، وتعمد أناس أن يصوغوا من عندهم حديثا لكل حزب ينصره ويرضيه ويكبت خصمه ويخزيه، وافتن الوضاع في محاكاة الأحاديث النبوية ذلك الافتنان الذي شقي به المحققون للروايات بعد ذلك بسنين. وكانت السيدة عائشة تشترك في خصومات المتخاصمين على الخلافة باختيارها، أو تساق إلى المشاركة فيها على كره منها، وكانت هي أول من يسمع له إذا روت حديثا يدمغ خصومها ويعزز أنصارها، ولكنها لم تنقل قط في كل ما ثبتت نسبته إليها حديثا واحدا تمسه الشبهات من قريب أو بعيد ولا تؤيده الأسانيد الأخرى، ولم تحرف كلمة واحدة إلى غير موقعها طواعية لإغراء تلك النوازع النفسية التي تطيش بالألسنة أو تضلل العقول، وهو امتحان ليس أعسر منه امتحان في هذا الباب، ولهذا كانوا يروون عنها الأحاديث فيقولون: حدثتنا الصديقة بنت الصديق!
ومن الصفات التي شابهت فيها أباها الذكاء المتوقد والبديهة الواعية، ولم تقصر فيها عن شأوه.
بل لا نحسبها قصرت عن شأو واحد من معاصريها بين الرجال والنساء على السواء في سرعة الفهم وقدرة التحصيل، والإحاطة بكل ما يقع في متناول ذهنها.
قال أبو الزناد: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة بن الزبير. فقيل له: ما أرواك! قال: وما روايتي في رواية عائشة! ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا.
وقد كان عروة بن الزبير أشد الناس حبا لخالته السيدة عائشة وإعظاما لها وتوقيرا لسيرتها، ولكن الذي روي عنها من الشواهد الشعرية في أخبارها التي نقلت إلينا يدل على صدق ما وصفها به من غزارة الحفظ وحسن الاستشهاد.
دخل عليها النبي - عليه السلام - وهي تتمثل بالبيتين التاليين:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه
अज्ञात पृष्ठ