وكان أمر أبي بكر إلى خالد إذا دخل العراق أن يبدأ بالأبلة على الخليج الفارسي، وكانت الأبلة الثغر الذي تسير التجارة منه إلى الهند والسند وترد إليه منهما للعراق، وقد اختلف الرواة: أفتح المسلمون الأبلة في هذه الحرب ثم عادوا فاستردوها من الفرس أيام عمر بن الخطاب، أم إنهم لم يفتحوها إلا في عهد عمر؟ أما إجماع الرواة فعلى أن أول غزاة بالعراق كانت غزاة الحفير.
3
والحفير تقع قريبا من خليج فارس على حدود الصحراء وعلى مقربة من ثغر كاظمة، وكان هرمز أمير هذه المنطقة كلها من قبل فارس، وممن تم شرفهم بين أمرائها، وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم؛ فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مئة ألف، وتلك كانت قيمة هرمز وكان هرمز من أسوأ أمراء الثغور معاملة للعرب؛ حتى لقد بلغ من حقدهم عليه أن جعلوه مضرب المثل في الخبث؛ فكانوا يقولون: «أخبث من هرمز»، و«أكفر من هرمز»، وترجع كراهيته للعرب إلى أن أبناء عمومتهم في شبه الجزيرة كانوا لا يفتئون يشنون الغارات للنهب والسطو على البلاد الواقعة في إماراته، فكان يحاربهم في البر. أما الهنود، وكانت تجيء سفنهم إلى تلك الثغور فتقوم فيها بأعمال تشبه القرصنة، فكان يحاربهم في البحر؛ وكان بهذه الحرب في البر والبحر يعد نفسه حامي البلاد التي تعد مفاتح فارس.
سار خالد من اليمامة إلى العراق على رأس عشرة آلاف من الجند، فلما بلغ حدوده ألفى المثنى ومن معه ينتظرونه، هنالك قسم الجند كله ثلاث فرق ، وجه كل واحدة منها في طريق على أن يلتقوا جميعا بالحفير، فأما الفرقة الأولى وعلى رأسها المثنى بن حارثة الشيباني فسارت قبل خالد بيومين، وأما الفرقة الثانية وعلى رأسها عدي بن حاتم الطائي فسارت قبله بيوم، وسار خالد في المؤخرة، وكان خالد قد بعث قبل ذلك إلى هرمز كتابا يقول فيه: «أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»
تناول هرمز هذا الكتاب وترامت إليه أنباء المسلمين ومسيرة جندهم، فكتب إلى أردشير الملك بالخبر، وجمع جموعه وسار إلى الكواظم يلقى خالدا بها، فلما علم أن خالدا أمر أصحابه بالسير إلى الحفير أسرع بجنده إليها ونزل على الماء فيها.
وقدم خالد عليهم وأمر بالنداء في الجند لينزلوا ويحطوا أثقالهم، وتحدث إليه قوم من رجاله أنهم على غير ماء، فقال لهم: «ألا انزلوا وحطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصبرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين!»
ووقف هرمز في جيشه، وعلى ميمنته وعلى ميسرته أميران من بيت الملك في فارس، هما قباذ، وأنوشجان؛ ونادى هرمز: أين خالد؟ يريد أن يخرج ابن الوليد إليه يبارزه، فلقد كان يعرف من بطولة خالد وفعاله في بلاد العرب ما آمن معه بأنه إن يقتل خالدا يضمن لفارس نصف النصر إن لم يضمن لها النصر كله.
ولكن كيف سولت له نفسه أن يقتله وخالد البطل الذي لا يغلب؟! الأمر يسير؛ فالخيانة تمهد له درك غرضه، لهذا عهد إلى جماعة من فرسانه إذا رأوا خالدا خرج إليه أن ينقضوا عليه ويقتلوه.
وسمع خالد نداء هرمز فنزل عن جواده ومشى إليه فالتقيا فاختلفا ضربتين، وشد فرسان فارس يريدون قتل خالد واستخلاص هرمز من يده، لكن القعقاع بن عمرو لم يمهلهم أن حمل عليهم حين كان خالد قد قبض على ناصية هرمز يستل روحه من بين جنبيه، وشد المسلمون فانهزم أهل فارس أمامهم، فطاردوهم وركبوا أكتافهم إلى الليل، وبلغ المسلمون الجسر الأعظم من الفرات حيث تقع البصرة اليوم في حين فر قباذ وأنوشجان فيمن بقي من جيش الفرس لا يلوون على شيء.
تم النصر للمسلمين، فأمر خالد معقل بن مقرن المزني بالسير إلى الأبلة ليجمع مالها وسبيل ففعل،
अज्ञात पृष्ठ