ولعل تقسيم السلطان في الشام بين عدة أمراء من العرب كان بعض سياسة الروم في عهود كثيرة، حتى لا يناوئ العرب الإمبراطورية بوحدتهم، يرجع ذلك إلى أن الغسانيين لم تك لهم عاصمة بالشام كما كانت الحيرة عاصمة اللخميين بالعراق؛ بل كانت الجابية عاصمة، وكانت تدمر عاصمة، وكانت جولان عاصمة، وكانت جلق على مقربة من دمشق عاصمة، وهذا يتفق مع السياسة المركزية التي جرت عليها إمبراطورية الروم، كما تتفق سعة السلطان لصاحب الحيرة مع سياسة اللامركزية التي جرت عليها الإمبراطورية الفارسية.
ذكرنا فيما سلف أن عرب العراق وعرب الشام استمسكوا باستقلالهم الذاتي وبحياتهم العربية، لذلك ظلت لغة أهل شبه الجزيرة لغتهم؛ فلم تمحها الفارسية في العراق؛ ولم تمحها اليونانية أو اللاتينية في الشام، وكان من أثر هذا أن ظلت صلات ملوك الحيرة وصلات بني غسان بشبه الجزيرة وثيقة، وظل الذين يشيدون بذكر هؤلاء الملوك وينالون جوائزهم هم شعراء شبه الجزيرة، وكتب الأدب ودواوين الشعراء تروي للنابغة الذبياني ولأعشى قيس ولعلقمة الفحل ولغيرهم كثيرا مما قيل في هؤلاء الملوك وكرمهم وما بلغوا من حضارة وترف، وحسان بن ثابت شاعر النبي كان وثيق الصلة بجبلة بن الأيهم قبل إسلامه.
كان احتفاظ هؤلاء العرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة إلى بادية الشام بخصائصهم وبحياتهم ولغتهم العربية، من الطلائع التي مهدت للفتح العربي والإمبراطورية الإسلامية، وسنرى من بعد كيف انضم هؤلاء العرب في كثير من الأحيان لجيوش المسلمين، وكيف حاربوا في صفوفهم من كانوا حلفاءهم من الروم والفرس.
هل تأثرت علاقات فارس والروم بالقضاء على ملك الحيرة؟ كلا! ظلت الحروب متصلة بينهما بعد ذلك، كما كانت متصلة بينهما سبعة قرون متوالية من قبل، كانت إمبراطورية الروم لذلك العهد مسرح قلق واضطراب شجع الفرس على غزو الشام، وكان فوكاس إمبراطور الروم يومئذ في شغل بثورة هرقل عليه، لذلك أوغل الفرس في بلاد الشام، فاستولوا على إنطاكية وانحدروا منها إلى ناحية بيت المقدس يحاصرون المدن ثم يأخذونها عنوة، وتولى هرقل حين كان الفرس في مسيرتهم إلى القدس فلم يستطع ردهم أو منعهم من تخريب آثار المسيحية واليهودية بالمدينة المقدسة، ثم إن اليهود انضموا إلى المجوس وأعانوهم على النصارى، فلما استقر الأمر لكسرى بالشام، فتح مصر وحل بسلطانه محل الروم فيها، وفي هذه الانتصارات المتوالية للفرس على الروم نزل قوله تعالى:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ... (الروم: 1 : 5).
وصدق الله العظيم ففي بضع سنين عاد هرقل فحارب الفرس وأخرجهم من مصر ومن الشام، وطاردهم إلى المدائن، واسترد منهم الصليب الأعظم ثم رده إلى بيت المقدس في حفل حافل، لذا تضعضع سلطان الفرس وإن استنفد ذلك من قوة الروم ما كان بالغ الأثر في التمهيد للفتح العربي والإمبراطورية الإسلامية.
لم يغب علم ما نزل بالروم ثم بالفرس عن أهل مكة والمدينة، ولم يغب عنهم كذلك أمر بني عمومتهم من العرب ببادية الشام وما جاورها من العراق وبلاد الشام، وقد هون ذلك من أمر الإمبراطوريتين العظيمتين في نظرهم، وزاد في تهوين أمرهما قيام النبي العربي وانضواء بلاد العرب كلها تحت لواء الإسلام، لكن ما هان من أمر الإمبراطوريتين لم يبلغ بالعرب حد التحرش بهما أو التفكير في غزوهما، وإن بلغ بهم حد اليقين باستقلال شبه الجزيرة عنها والذود عن هذا الاستقلال في وجهيهما، لذلك ألقت اليمن وألقت بلاد الجنوب كلها بنير فارس، ثم اتجه جل غرض الرسول (عليه السلام) إلى تأمين التخوم العربية في الشمال من جنود قيصر، ولم يدر بخواطر المسلمين أن يغيروا على الشام، أو أن يتخذوا من دعوة النبي هرقل إلى الإسلام سببا للإيغال فيه، ترى أيقيم أبو بكر على هذه السياسة لا يتعداها، وله في رسول الله أسوة حسنة، أم يغامر بحرب قيصر، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء؟
كان هذا الخاطر يدور بنفس أبي بكر حينما كان النصر يحالف أعلامه في حروب الردة، فمذ قضى خالد بن الوليد على مسيلمة باليمامة، ومنذ نشر المهاجر بن أبي أمية وعكرمة بن أبي جهل لواء الإسلام في أرجاء اليمن وما جاورها، أيقنت شبه الجزيرة كلها أن الأمر فيها صائر بإذن الله إلى خليفة رسول الله، لكن أبا بكر كان أحصف من أن يستنيم لهذا النصر فينسى به ما تنطوي عليه صدور العرب من حفيظة قد تضطرم فتضرم الثورة كرة أخرى، وليس من الخير أن تتجه أنظار العرب إلى ما وراء الحدود من شبه الجزيرة فتنسى بذلك حفائظها وتنسى أحقادها! وبادية الشام تنتشر فيها القبائل من العرب، فجدير بها أن تسمع الدعوة إلى الدين الجديد كما سمعها العرب في شبه الجزيرة، ولعل هذه القبائل إذ تتصل بأصولها، وتسمع الحديث عن أجدادها، تعود بها الذكرى إلى الماضي، فتسرع لتشارك بني عمومتها فيما هداهم الله إليه من الحق، وتشهد معهم أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
كان هذا الخاطر يدور بنفس أبي بكر وهو في داره المتواضعة بالمدينة، وكان يدور بنفسه وهو في مجلسه بالمسجد، ثم كان يدور بنفسه وهو يجوب الأنحاء الفقيرة آناء الليل في سر من الناس، يعين المحتاج، ويأسو كلوم الجريح، ويسكن أنات البائس والمسكين، ولم يستأثر هذا الخاطر بتفكير أبي بكر؛ لأنه يحب السلطان لنفسه أو يطمع في التوسع فيه، بل؛ لأنه كان يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم للمسلمين الطمأنينة ما قام الحكم فيهم على أساس من العدل المجرد من الهوى، والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو به فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات والتجرد لله تجردا مطلقا، جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه وأهله، ثم هو مع ذلك يتتبع أمور الدولة جليلها ودقيقها بكل ما آتاه الله من يقظة وحذر.
وكان حكم أبي بكر في العام الأول من خلافته يكاد ينحصر في القضاء على الردة والقائمين بها، وهل كان للمسلمين المقيمين بالمدينة ما يختلفون فيه وأهلوهم جميعا قد ذهبوا مجندين يقمعون الثورة ويقضون على أسباب الفتنة، وهم أثناء ذلك يتتبعون أخبارهم ويقيمون الصلوات لنصرهم؟! ولى أبو بكر عمر بن الخطاب القضاء في المدينة، فأقام عاما كاملا لم يختلف إليه متقاضيان، وكان أبو عبيدة بن الجراج قائما بأمر المال، يتلقاه من الزكاة، وينظر في توزيعه على حاجات المسلمين، وكان عثمان بن عفان يكتب الأخبار للخليفة، ويكتب زيد بن ثابت ما عداها، وقد كفاه عماله على البلاد والقبائل مئونة إدارتها بما كان لهم من أمانة وحسن بصر بالأمور، ثم كانوا على اتصال دائم به في توجيه سياستهم، وقد رأيت الشيء الكثير من ذلك فيما كان بينه وبينهم من مكاتبات أثناء حروب الردة، وإذ كان أبو بكر في شغل بهذه الحروب طيلة العام الأول من خلافته، فقد أقام مقامه عتاب بن أسيد عامله على مكة في الحج بالناس ذلك العام.
अज्ञात पृष्ठ