على أن المسلمين لم يتراجعوا حتى قتلوا من بني حنيفة خلقا كثيرا، وكان في الأولين الذين قتلوا نهار الرجال القارئ الفقيه الخائن الخادع، خرج في طليعة بني حنيفة، فلقيه زيد بن الخطاب فقتله، فأزال بقتله من الوجود روح الإثم التي طوعت لمسيلمة أن يبلغ ما بلغ، وأن يقف وجنده يهدد المسلمين ويرسل الروع في نفس كل حريص على دين الله.
لم تزايل خالد بن الوليد رباطة جأشه حين زال عن فسطاطه، ولم يداخله ريب في مصير اليوم، لقد رأى أنما انهزم من جند المسلمين من انهزم لتنابز الناس وتواكلهم، فلو لم يتواكلوا انتصروا، لذلك لم يلبث، حين لاحت له فترة تهادن بين الفريقين أن صاح في الجند صيحة بطش وغضب: «امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي، ولنعلم من أين نؤتى.» ودوت هذه الصيحة تداولها سمع الجيش كله فنبهته إلى حقيقة أمره، واطمأن خالد، حين رأى الناس امتازوا، إلى أنه قطع بأمره كل مظنة للتواكل، وأنه هيأ للنصر طريقه.
أثارت صيحة خالد ما ركب في الفطرة العربية من قوة العصبية، ورأى زعماء المسلمين ما حل بهم، فثارت في قلوبهم الحمية لدين الله، وسما الإيمان بنفوسهم إلى ما فوق مراتب الحياة، وتجلى الاستشهاد أمامهم باسما مضيئا يفتح لهم أبواب الجنة خالدين فيها، وأظلتهم نسمة من روح الله أرتهم الحياة لهوا ولعبا وغرورا باطلا، فانقلبوا من الهزيمة يطلبون النصر أو الشهادة، قال ثابت بن قيس، وكان على رأس الأنصار: «بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إني أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء (وأشار إلى أهل اليمامة) وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء (وأشار إلى المسلمين).» ثم اندفع في الوطيس يقاتل ويقتل، وينادي: «هكذا عني حتى أريكم الجلاد.» وأبلى بلاء أذهب عن الأنفس الروع، وظل يجاهد حتى خلصت إليه الجراح من كل جانب فمات وقد رزق الشهادة. وكان البراء بن مالك من الصناديد الذين لا يعرفهم الفرار، فلما رأى ما صنع الناس وثب وقال: «أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك، هلم إلي!» وسمعه المسلمون وكلهم يعرفون بأسه، ففاء إليه منه فئة قاتلت القوم وقتلت منهم حتى أجلتهم عن مواقفهم، وهبت ريح أثارت الرمال في وجوه المسلمين، فذهب قوم يتحدثون إلى زيد بن الخطاب ما يصنعون، فكان جوابه: «لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، غضوا أبصاركم وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم وامضوا قدما.» واندفع في صدر القوم يقاتل ويقتل، وجنده من ورائه، حتى لقي الله يكلمه بحجته، وصاح أبو حذيفة بمن حوله: «يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.» وألقى بنفسه في الغمار يقاتل وقومه حتى ضمه الله إليه، وأخذ سالم مولى أبي حذيفة الراية وقال: «بئس حامل القرآن أنا إن لم أثبت.» وقاتل حتى قتل. بهذه الصيحات الصادرة من قلوب ملأها الإيمان قوة وبأسا، سرت روح الاستشهاد في جند المسلمين جميعا، فهانت أمامهم الحياة واستحبوا الشهادة عليها، فاندفعوا يطلبونها صادقين، فردوا جيوش مسيلمة إلى ما وراء خطوطها الأولى.
وكانت جيوش مسيلمة تقاتل قتال المستيئس هي كذلك، كانت تقاتل عن وطنها وتقاتل عن أحسابها، وتقاتل عن عقيدة مريضة هي عندها دون الوطن، ودون الحسب مقاما: لذلك ثبتت للمسلمين وجعلت ترد منهم من تستطيع رده، وتحارب عن كل شبر من الأرض لا تتزحزح عنه حتى يعود وتحاول استرداده.
لم يرع خالد لاستبسال بني حنيفة، بل أيقن حين سمع صيحات المسلمين، ورأى إقدامهم على الموت مستبشرين، أنه ملك زمام اليوم، وأن النصر صار منه قريبا.
لكنه حرص مع ذلك على أن يرى المسلمون هذا النصر قريبا كما يراه هو، لذلك خرج على رأس رجاله وقال لحماته: «لا أوتين من خلفي.» ثم صاح صيحة المعركة: «يا محمداه!» وهو لم يكن يريد بخروجه وبصيحته أن يشدد العزائم فحسب، بل كان يريد كذلك أن يسلك إلى النصر أسرع طرقه، وأن يستله من مكمنه، فقد رأى بني حنيفة يسقطون حول مسيلمة قتلى لا يبالون الموت، فأيقن أن أقرب الطرق إلى النصر قتل مسيلمة نفسه، لذلك داور برجاله حتى كان حياله، ثم جعل يستدرجه ليخرج إليهم، وأقبل المحيطون بمسيلمة يخرجون إلى لقاء خالد فيلقاهم الموت من سيفه قبل أن يبلغوه، وكثر في هؤلاء القتل، وشعر مسيلمة بالخزي يركبه لشدة جبنه، فساورته أن يخرج كما خرجوا، لكنه أيقن أنه مقتول إن خرج لا محالة؛ فتردد واضطرب، وإنه لفي اضطرابه وتردده إذ شد خالد بن الوليد برجاله عليه وعلى من حوله وركبوهم يعملون فيهم السلاح، هنالك صاح أصحاب مسيلمة به: «أين ما كنت تعدنا؟!» فأجابهم وقد ولى مدبرا: «قاتلوا عن أحسابكم.» وكيف يقاتلون وقد أسرع هو إلى الفرار! أوليس المنطق أن يتبعوه فارا كما اتبعوه نبيا؟!
ورأى محكم بن الطفيل فرار القوم، ورأى المسلمين يتعقبونهم، فصاح بهم: «يا بني حنيفة! الحديقة.» يريد منهم أن يحتموا بها، وكانت هذه الحديقة على مقربة منهم، وكانت لمسيلمة وتدعى حديقة الرحمان، وكانت فسيحة الأرجاء منيعة الجدران كأنها الحصن، وقد فروا إليها وتحصنوا بها من هزيمتهم بعد أن خر الألوف منهم صرعى مجدلين في الميدان بسيوف المسلمين، ووقف المحكم برجاله يحمي ظهورهم أثناء فرارهم، وإنه لكذلك يحاول صد المسلمين ويحرض رجاله على دفعهم، ويقاتل وإياهم أشد قتال حتى يتحصن قومه؛ إذ رماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم وقع في نحره فقتله.
تحصن مسيلمة وقومه بالحديقة، أفيحاصرهم المسلمون وإن طال حصارهم؟! كلا! إن هذا الجيش الثمل بنشوة الظفر يريد النصر كاملا، ويريده سريعا، لذلك أحاط بالحديقة يلتمس فيها فرجة تغنيه عن فتح بابها الوثيق الرتاج فلم يجد، قال البراء بن مالك: «يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة.» قال الناس: «لا تفعل يا براء.» وماذا عسى أن يصنع البراء وحده بين هذه الألوف التي تكدست في الحديقة لاجئة من الموت! لكن البراء أصر على قوله وزاد: «والله لتطرحنني عليهم فيها.» ورفعه المسلمون إلى أعلى الجدار، فلما رأى القوم وكثرتهم تردد وتراجع وقال: أنزلوني. لكنه ما لبث أن عاد يقول: احملوني. وتكرر ذلك منه، ثم إنه وقف على الجدار تحدثه نفسه: إنه البراء البطل الذي يتحدث في شبه الجزيرة كلها بفعاله، ألا لئن عاد أدراجه ليقولن الناس: هم ولم يفعل، وليذهبن ذلك بشهرته في البطولة، وليتندرن الناس بإحجامه بعد الإقدام، وإن حدث ذلك فماذا يبقى له، وأي وجه يطالع الناس به؟! لذلك نضا عنه تردده وألقى بنفسه على بني حنيفة أمام باب الحديقة، فقاتلهم وقتل منهم يمنة ويسرة، حتى فتح الباب للمسلمين، ودخلوا منه زمرا تلمع في أيديهم سيوفهم، ويطل الموت من حدق عيونهم؛ فما لبث بنو حنيفة حين رأوهم أن فروا أمامهم يتراكضون في الحديقة التي انقلبت سجنا تراكض الأغنام رأت الذابح يدخل عليها بسكينه.
هذه رواية، ورواية أخرى أن المسلمين تسوروا الحديقة من الجدران وحاولوا اقتحام الباب، ولعل البراء كان بين الذين تسوروا الجدران أقربهم مكانا من الباب، وأنه ألقى بنفسه في الحديقة ففتحه للمسلمين بعد أن قاتل من وجده من القوم دونه: وذلك حين كان اللاجئون إلى الحديقة في شغل عنه بمن شدوا عليهم يرمونهم بالنبل من أعلى.
اقتحم المسلمون الحديقة والتحموا بأعدائهم فيها، وما عسى أن تجدي سيوف بني حنيفة والأشجار من حولهم تعوقهم! مع ذلك استحر القتال وكثر القتل بين الفريقين، وإن زاد قتلى بني حنيفة على قتلى المسلمين أضعافا مضاعفة، وكان وحشي الحبشي قد أسلم بعد أحد، وبعد أن قتل حمزة سيد الشهداء فيها، وكان حاضرا اليمامة، ولقد رأى مسيلمة في الحديقة فهز حربته، حتى إذا رضي عنها دفعها عليه فأصابته، وقد اشترك معه رجل من الأنصار ضرب مسيلمة بسيفه، فكان وحشي يقول: ربك أعلم أينا قتله. وصاح رجل يقول: قتله العبد الأسود.
अज्ञात पृष्ठ