انظر إليه بعد ذلك في غزوة بدر: عدل المكيون صفوفهم، وعدل النبي صفوف المسلمين للقتال، وبنى المسلمون عريشا للنبي في المؤخرة، بإشارة سعد بن معاذ، حتى إذا لم يكن النصر في جانبهم لحق رسول الله بالمدينة، وأقام أبو بكر مع النبي في العريش يرقب معه سير المعركة، فلما ابتدأت، ورأى محمد كثرة عدوه وقلة رجاله، استقبل القبلة واتجه: فاتجه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده، ويهتف به أن يتم له النصر ويقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!»
وما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، ولم يطمئن حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه من بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
هذا موقف الرسول: لم يطمئن إلى انتصار رجاله القليلين على أعدائه الكثيرين، حتى اتصلت روحه بسر من ربه أراه النصر، وكشف أمامه حجب هذا اليوم الحاسم في حياة الإسلام، أما أبو بكر فظل إلى جانب الرسول ممتلئا إيمانا بأن الله لا ريب ناصر دينه، ممتلئا مع إيمانه بالنصر إعجابا بالرسول في مناجاة ربه، وإشفاقا على الرسول لشدة خوفه من مصير ذلك اليوم، وهذا ما دعاه، والرسول ينادي ويناشد ويستنجز ربه ما وعده، ويكرر ذلك ويعيده حتى سقط رداؤه، أن يهيب به وهو يرد الرداء على منكبيه: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك!»
ألف الناس في كثير من المؤمنين بعقيدة لا يمارون فيها ولا يداجون، أن يبلغ منهم التعصب لعقيدتهم مبلغا يجعلهم أشداء لا يهنون، غلاظا لا يلينون، بل إن منهم لكثيرين لا يطيقون النظر إلى وجوه من يخالفونهم في هذه العقيدة، هؤلاء يرون أن الإيمان الحق يقتضيهم هذا التعصب وهذه الشدة والغلظة، أما الصديق فكان، على جلال إيمانه وعظم تعصبه لهذا الإيمان وشدته فيه شدة لا تهن ولا تتردد، بعيدا عن الغلظة، قريبا إلى اللين، عفوا عند القدرة، محسنا متى تم لإيمانه النصر، بذلك جمع في قلبه بين مبدأين من أسمى المبادئ الإنسانية: حب الحق، والرحمة، ففي سبيل الحق كان يستهين بكل شيء، وبالحياة قبل كل شيء، فإذا علت كلمة الحق، غلب فيها جانب الرحمة، وانقلب مؤمنا بها إيمانه من قبل بالحق، ضعيفا لها حتى لتذرف عينه الدمع ترسله مدرارا.
تم النصر للمسلمين في بدر، فرجعوا إلى المدينة ومعهم أسرى قريش، وكان هؤلاء يطمعون في الحياة، وفي العود إلى مكة، وإن أغلوا الفداء، لكنهم كانوا يخشون شدة محمد وبطشه بهم بعد الذي أذاقوه وأصحابه سنوات مقامه بينهم، قال بعضهم لبعض: «لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، وأكثرهم رحمة وعطفا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه.» وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: «يا أبا بكر، إن فينا الآباء، والإخوان، والعمومة، وبني العمومة؛ وأبعدنا قريب، كلم صاحبك يمن علينا أو يفادنا.» فوعدهم خيرا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فتحدثوا إليه بمثل حديثهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرا ولم يجب، وأقام أبو بكر نفسه شفيع هؤلاء القرشيين المشركين عند رسول الله، فجعل يستعطفه عليهم ويلين قلبه لهم، ويدفع حجج عمر في الشدة بهم، ويذكر ما بينهم وبين النبي من قرابة، وهو إنما صنع ما صنع من ذلك لما فطر عليه من طيب القلب والإيمان بالرحمة كإيمانه بالحق والعدل، ولعله كان يرى بعين بصيرته أن لسلطان الرحمة الغلب آخر الأمر، وأن الناس ينزلون على حكم صاحبها وعلى عقيدته ما رأوها رحمة إنسانية سامية، مبرأة من الضعف، منزهة عن الهوى، لا تحركها في النفس إلا القوة والقدرة، وإلا سلطان الإنسان على نفسه سلطانا يكبح من بطش القوة ويلين من عسف القدرة.
كانت غزوة بدر مبدأ حياة جديدة للمسلمين، وكانت كذلك مبدأ اتجاه جديد في حياة أبي بكر، بدأ المسلمون ينظمون سياستهم إزاء قريش وإزاء من ناوأهم من القبائل المحيطة بهم، وبدأ أبو بكر يشتغل مع النبي بهذا التنظيم أضعاف شغله بحماية المسلمين أيام مقامه بمكة، فقد كان المسلمون جميعا يعلمون أن قريشا لن يهدأ لها بال حتى تأخذ بثأرها من بدر؛ وكانوا يعلمون أنهم في حاجة إلى حماية دعوتهم الناشئة، وإلى دفع كل معتد عليهم، فلا بد من التقدير لذلك كله، وتدبير الأمر له، وما كان لأبي بكر، وموقفه من رسول الله ما رأيت، أن يشغل نفسه من بعد بغير هذا التقدير والتدبير، حتى لا تكون فتنة داخلية في المدينة بتحريض اليهود والمنافقين، وحتى لا يغزو المدينة غاز من الخارج.
والحق أن نصر المسلمين ببدر قد أعز كلمتهم، فحرك في نفوس منافسيهم حقدا عليهم أي حقد، حرك في نفوس اليهود حفائظ كانت ساكنة، وحرك في قلوب القبائل المجاورة للمدينة مخاوف كانت مطمئنة، ولم يكن بد، لاتقاء ما ينجم عن هذا وذاك، من سياسة حكيمة، وتقدير دقيق، ومشاورة متصلة بين النبي وأصحابه، وقد اتخذ النبي من أبي بكر وعمر وزيرين يمحص على ضوء ما بينهما من تباين في الطبع مع صدق المشورة، ما ينظم به سياسته الناشئة، هذا مع مشاورته غيرهما من سائر المسلمين، مشاورة كان لها أثرها الكبير في جمع الكلمة، وفي توزيع التبعة على الجميع، توزيعا يشعر كل واحد بأن عليه منها قسطا ونصيبا.
وكان من أثر ما تحرك من حفائظ اليهود أن حاصر المسلمون منهم بني قينقاع وأجلوهم عن المدينة، وكان من أثر ما تحرك من مخاوف القبائل أن جعل المحيطون بالمدينة يجتمعون للاعتداء عليها، فإذا سمعوا بخروج محمد إليهم ولوا فرارا وملئت قلوبهم رعبا.
وكانت هذه الأنباء تصل مكة، فلا تصد قريشا عن التفكير في الثأر لبدر، ولقد ذهبت تلتمس هذا الثأر، فالتقت بالمسلمين عند أحد، فدارت الدائرة وجه النهار عليها لكن مصير اليوم تغير حين خالف رماة المسلمين أمر النبي، وتركوا مواقفهم وانطلقوا يغنمون مع الغانمين، فقد اهتبل خالد بن الوليد الفرصة؛ فأوقعت قريش بالمسلمين فاضطربوا؛ وأصيب النبي بحجارة كان المشركون يقذفونها، فوقع لشقه، وأصيب في وجهه، وتنادت قريش أنه مات، ولولا أن أحاط به من أبطال المسلمين من افتدوه بأنفسهم وأرواحهم، لكان لله في خلقه من يومئذ شأن غير الشأن، ومن يومئذ صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في غزواته وحين مقامه بالمدينة، وأنت تذكر أن حياة المسلمين، إلى أن استقر لهم الأمر بعد فتح مكة وإسلام ثقيف بالطائف، قد كانت حياة غزو، ودفع للغزو، أو استعداد لدفعه، دع عنك الغزوات الصغرى التي كانت أدنى إلى المناوشات، فقد كان اليهود، وعلى رأسهم حيي بن أخطب، لا يفتئون يؤلبون على المسلمين، وكانت قريش تبذل جهد الطاقة لإضعافهم والقضاء على سلطانهم، فكانت غزوات بني النضير والخندق وبني قريظة وما تخللها من الغزوات الصغرى، أثر سياسة اليهود وحقد قريش.
صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في هذه المواقف والمواقع جميعا، وهو أشد ما يكون برسالته إيمانا وتصديقا، فلما اطمأن رسول الله إلى منعة المدينة وآن له أن يوجه خطته توجيها جديدا يمهد الله به لإكمال دينه، كان لأبي بكر مواقف زادت المسلمين اقتناعا بأنه الرجل الذي يلي رسول الله مكانة من نفوسهم، وسموا في تقديرهم.
अज्ञात पृष्ठ