وهكذا مضى «أولي» في تجاربه المتعددة المتنوعة، وكان دائما يصل إلى النتيجة عينها، وهي أن اجتماع الفرد في حياته مع زملائه (على شرط ألا يزيد عدد الأفراد المجتمعة عن حد معلوم) عامل قوي في المساعدة على البقاء من الوجهة البيولوجية.
وما تقوله عن الديدان والأسماك؛ قل أضعاف أضعافه عن الإنسان. ولسنا بذلك ننكر ما في الحياة من تنافس وصراع، لكن نكبة النكبات أن ننظر إلى الصورة من أحد وجهيها ، ثم ننكر الوجه الآخر الذي لم نوجه إليه النظر ... نعم إن بين الأفراد والأنواع تنازعا على البقاء، ولكن إلى جانب ذلك حقيقة لا سبيل إلى نكرانها، وهي أن هنالك كذلك تعاونا في سبيل البقاء.
وتعاونك مع الناس لا يكون وأنت معتزل ...
هذه خواطر أوحت إلي بها عزلتي في غرفتي حينا من زمان، وإن كان المريض أصدق الناس حديثا عن فضل العافية، وإن كان الجائع أولى الناس بالقول في نعيم الشبع؛ فقد يكون المعتزل أبصر الناس بضرورة التعاون مع سائر الناس.
الطير الذي طار وارتفع
يعجبني من الأديب أن يكذب، فإذا أكذوبته سارية في الناس جيلا بعد جيل، ترددها الألسنة فتنة بسجعها وإعجابا بوقعها في المسامع، دون أن يتمهل عندها متمهل، لينكت معناها نكتا، فيهتدي إلى مدى ما فيها من خطأ أو صواب. ولو كانت أكاذيب الأدباء التي تجري في الناس مجرى الأمثال، يقتصر شرها على دورانها في الأفواه، ورنينها في الأسماع؛ لهان خطبها، لكنها كثيرا ما تؤثر في سلوك الناس، فيضلون سواء السبيل، من حيث يريدون لأنفسهم هداية ورشدا.
فقد زعم للناس أديب - لست أدري من هو، ولا في أي زمن عاش - أنه «ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع» فانساق الناس بقوله المسجوع انسياقا أعماهم عن مدى الصواب فيما زعم، فكلما هوى في المجتمع نجم بعد سطوع، وكلما ذوت أمة بعد ازدهار، هزوا رءوسهم ومصوا شفاههم، وقالوا مع الأديب: «ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع.»
وكنت كذلك أهز رأسي، وأمص شفتي اعتبارا واتعاظا، وأقول حكمة الأديب مع القائلين، حتى كان أمس ... جلست وأسندت رأس على مقعدي و«سرحت»، وأخذتني نزعة من الحسد - ألا ما أضعف طبيعة الإنسان! - إذ طاف برأسي فلان، وأخذت أتعقب خطواته في الحياة وخطواتي، فرأيته يخطو خطوات الجبابرة، ورأيتني أكبو وأتعثر؛ فقد فرغنا من الدراسة معا، وسرنا فيما يشبه أن يكون طريقا واحدا، لكنه كاد يشرف على القمة، وما أزال ألهث في ربع الطريق! عندئذ جاءتني حكمة الأديب على سبيل العزاء: إنه ما طار طير وارتفع ...!
ولم ألبث أن أتبين كم أنا غر ساذج أتلهى بالأكاذيب! ... إن الطير هذه المرة في ارتفاع دائب، ولا ألمح فيه علامة تنبئ بسقوط. إنه صاعد أبدا ... إن الذروة قد باتت منه قريبة دانية ... لقد كذب الأديب صاحب الحكمة.
لكن من يدري؟ لعل الأديب الذي أذاع في الناس هذه السجعة معذور؛ لعله لم يرد بالناس كذبا ولا تضليلا، وإنما أراد أن يسجل ما ظن أنه الحق، فلم تقع عينه على طير طار إلا وعاد إلى الهبوط بعد حين قصير أو طويل؛ فمهما أوتي الطير من قوة الجناحين وصلابة الريش، فهو لا يستطيع أن يظل محوما في الفضاء إلى أبد الآبدين، فلا بد له من عودة إلى الغصون أو السقوف أو إلى هذه الأرض، يلتمس هنا أو هناك لنفسه مستقرا يلوذ به، وكنا يأوي إليه ولو إلى حين، لعل أديبنا لم يرد بالناس كذبا ولا تضليلا حين قال ما قال، وإنما أراد وصفا للواقع الذي يشهده في كل حين. والذي أخطأ هم الناس حين طبقوا قول الأديب على شتى أوضاع الحياة؛ فظنوا أن ما يصدق على الطير يصدق كذلك على الآدميين أمما وأفرادا.
अज्ञात पृष्ठ