ولئن كان هذا الضرب من الفرار من وجه الحقائق قليلا نادرا لا يستطيعه إلا نفر معدود؛ فهناك ضروب أخرى شائعة يلجأ إليها سواد الناس كل يوم، منها قراءة القصص. فلسنا على صواب إن زعمنا أن الإنسان يحب قراءة القصة - أو الأدب بصفة عامة - إذا كان فيه تصوير نفسه، بل العكس؛ كثيرا ما يكون هو الصواب، فتعجبك القطعة الأدبية بمقدار بعدها عن تصوير نفسك؛ فلو أخذت تقص أخبار الفقراء على فقير لما أعارك أذنا ولا احتفل لحديثك؛ لأنه منقوع في الفقر، ولا يثير انتباهه شيء هو منغمس فيه إلى أذنيه، لكن قص على الفقير كيف يعيش الأغنياء في قصورهم يرهف لك الأذن؛ لأنه يحب أن يعلم كيف تدور الحياة في هذا العالم البعيد. وكذلك يحب القعدة أن يسمع قصص المغامرين، ولا يشوق المصري أن يسمعك تحدثه عن المصريين بقدر ما يشوقه أن يسمع نبأ رحلة بين أهل الصين ... وإذن، فطريق الفرار قد أصبحت واضحة أمام من خيبت حقائق الواقع أحلامه، فليقرأ قصة فيها حياة تشبه هاتيك الأحلام الرائعة، وهكذا يفعل الناس.
وليس كل الفرار من الحقائق البغيضة يتم على هذا النحو العملي الذي وصفنا، بل هناك من تخيب أحلامه فينطوي على نفسه. وحسبه بذلك فرارا، فلا هو من الهمة بحيث ينسحب إلى دير بعيد، ولا هو من هواة القصص يهرب فيها من دنياه الواقعة، فأقل ما يستطيعه هو أن يغلق أبواب نفسه على نفسه ويظل يجتر أحلامه كما يجتر الجمل طعامه المخزون إذا عز الطعام في عرض البادية. وكم رجل وامرأة ممن ترى حولك لا يعيشون مع الناس بقدر ما يعيشون في نفوسهم! أولئك لم يستطيعوا سد الثغرة التي تباين بين الحقائق والأحلام.
وإذا كان لكل فرد منا حقائقه وأحلامه جنبا إلى جنب، فمراحل العمر - بالإضافة إلى ذلك - تختلف من حيث رجحان كفة هذه أو تلك، في الشباب ترجح كفة الأحلام بصفة عامة، وفي الرجولة المكتملة والكهولة ترجح كفة الحقائق بصفة عامة كذلك؛ فقلما يستطيع الشاب الفياض بغمرة الحياة الدافعة أن ينظر إلى الواقع، ثم يقف عند هذا الحد لا يعدوه، بل تراه - بغير وعي منه - يضفي على ذلك الواقع ألوانا زاهية من عنده؛ ولذلك قل أن تجد شابا يائسا. وفيم اليأس ما دام خياله كفيلا أن يكمل النقص الذي أصاب الواقع؟!
وأما إذا نضجت الرجولة - أو الأنوثة - في إنسان؛ فهو يزداد حصرا لنظره في نطاق الحقائق، فكأنما كان وهو شاب زوبعة من دخان لا تمكن العين من رؤية الحطب المشتعل، فلما تقدمت سنه انجلى ذلك الدخان شيئا فشيئا وتبلورت النار في جمرات محددة المعالم، وهي إلى أن تحدد معالمها بالقياس إلى الحطب أول اشتعاله؛ أحمى نارا وأشد فعلا ... وأقصد بذلك أن الرجل القادر على رؤية الحقائق بعيدا عن غفوة الأحلام أخصب إنتاجا من الشاب الذي تعميه أحلامه عن رؤية الحقائق في وضوح وجلاء، ومن ثم كان أكثر زعماء العالم في شتى نواحي النشاط رجالا أو كهولا، وندر جدا في التاريخ من أنتج إنتاجا غزيرا وهو لم يزل في صدر شبابه الحالم: التجار ورجال الأعمال وأصحاب البحث العلمي وقادة الجيوش وساسة الحكم، ثم الفلاسفة والأنبياء؛ معظمهم رجال تجاوزوا سن الشباب.
على أنه لا مناص للإنسانية في سيرها من شباب يحلم وشيوخ يلجمون الأحلام بالحقائق الواقعة، أو إن شئت فقل: لا بد لها من قلب يحس وعقل يفكر.
من وحي العزلة
في هذه الغرفة التي أسكنها في الطابق السادس من البناء، معتزلا ما استطعت إلى العزلة سبيلا، جلست في مساء ما بعد أن جاوز الليل نصفه، وهدأت المدينة في نعاس حالم، فلم أكن أسمع إلا حفيف السيارات آنا بعد آن، وإلا حركة المصعد حينا بعد حين ... جلست وحدي في هذه الغرفة العالية بعد أن جاوز الليل نصفه، وكان القمر ينشر غلالة شفافة رقيقة على صف من العمائر المتلاصقة، فرأيتها أمامي مفضضة الصدور معتمة الأسافل، كأنها صف من عمالقة الجن توحي للإنسان ما توحي، فخيل إلي عندئذ أني من غرفتي تلك في برج من هاتيك الأبراج التي يقال إن أصحاب الفكر يعتصمون بها من ضجة الحياة وصخبها، لولا أني أحسست أن البرج لم يكن من عاج!
في ذلك الهدوء الساكن الحالم، ألقيت على نفسي سؤالا: هل يمكن أن تكون هذه الطبيعة الوديعة «مخضبة بالدماء نابا ومخلبا» - كما يقول تنسن، شاعر الإنجليز فيما أذكر؟ هل يمكن أن تكون هذه الطبيعة - التي تراها الآن نائمة وساهمة - مليئة بأنواع التنافس والتناحر والتقاتل والتنازع، حتى ليقال إن الحياة ليست إلا قتالا متصلا بين أفراد النوع الواحد من جهة، ثم بين الأنواع الحيوانية المختلفة من جهة أخرى؟ هل صدق «دارون» حين صور وجه الأرض معتركا لا تنفك الكائنات الحية فيه ناشبة الأنياب والأظفار بعضها في بعض، بحيث لا يكون بقاء إلا للأقوى، حتى أوحى بوصفه هذا إلى الشاعر الإنجليزي الذي عاصره أن يتغنى قائلا: إن الطبيعة «مخضبة بالدماء نابا ومخلبا»؟ أم أن الحياة قوامها التعاون والتساند والتآزر؟ ... بعبارة أخرى: هل الحياة في صميمها حب أم قتال؟
لو كنت ألقيت هذا السؤال على نفسي منذ شهرين، لوجدت من الظروف التي كانت تحيط بي عندئذ ما ينطق لساني بالجواب السريع الصريح، وهو أن الحياة لحمتها قتال، وسداها قتال، ونسيجها قتال، وأولها قتال وآخرها قتال. فقد كانت الحياة عندئذ تبدو في ضوء خبرتي «مخضبة بالدماء نابا ومخلبا»؛ لأني رأيت الناس يكاد يأكل بعضهم بعضا من تسابق وتنافس.
لكني حين ألقيت هذا السؤال الآن، في هذه العزلة الساكنة الهادئة التي تجنب الإنسان اضطراب الخواطر وثورة المشاعر، أراني في عجب كيف يخفى على عين الرائي ما في الحياة من تعاون إلى جانب ما فيها من تنازع ومن حب إلى جانب ما فيها من قتال؟!
अज्ञात पृष्ठ