المبالغة في كل شيء علامة لا تخطئ على الضعف العقلي عند من يبالغ؛ المبالغة في قلقك على صحتك وفي جعلها محورا لحديثك مع الناس، المبالغة في مقدار ما تشتريه لنفسك من ثياب ومن أثاث، مبالغة الأمة في الألقاب، المبالغة في التزمت والتشبث بعقيدة أيا كانت، المبالغة في صقل اللفظ إن كنت كاتبا، إلى آخر هذه الأمثلة التي لا حصر لها ولا عدد.
وأنت مهذب مثقف متمدن سليم الذوق بمقدار ما تلجم هذا الجموح من نفسك.
الرأس والساعد
بين الرأس والساعد، بين الفكر والعمل، بين العقل والبدن، بين الذين يفكرون والذين يعملون؛ صراع طويل عنيف على الغلبة والسلطان: فلمن تكون الكلمة العليا؟ أنلقي بزمامنا في أيدي أصحاب الآراء النظرية والأفكار المجردة؟ أم نجعل السيادة للعاملين بالأيدي والسواعد؟
فقد التقيت منذ أيام بشاب استوقفني في الطريق مناديا باسمي، وذكرني بنفسه، فإذا هو تلميذ قديم من تلاميذي. وسألته كيف دنياه؟ فأجابني بعد أن مط شفتيه وهز كتفيه بما دل على أنه قلق في حياته: أنا أشتغل بالمحاماة، وليست الحال كما قد كنت أتمنى لنفسي؛ فلا أكسب من عملي ما يكسبه سائق السيارة ... وهكذا انقلبت الأوضاع.
فقلت: وكان ينبغي للأوضاع أن تنقلب يا صديقي، فقد مضى الزمان وانقضى، الذي كان يزهى فيه صاحب الرأس بنفسه على صاحب الساعد.
فسألني: ماذا تريد؟
وهنا اقتربنا من المكان الذي كنت أقصد إليه لأشرب الشاي، فدعوته، وجلسنا نصف ساعة، كنت فيها متكلما وكان منصتا: كان «الكلام»، يا صديقي، في القرون الماضية كلها؛ هو صاحب السلطان على «العمل»، ولا تزال هذه الحال - ولن تزال - قرينة التأخر في الأمم.
كان «الكاهن» في العصور القديمة آمرا مطاعا، بل كان سيدا مخوفا مهيبا؛ لا لأنه يزرع الأرض وينتج الغلة للناس يأكلون؛ بل لأنه يعرف كيف يتكلم، فينفث السحر بكلامه، فقد كان يظن أن الكلام وحده ينحدر من شفتي كاهن كفيل بإنزال المطر من السماء، والظفر بالنصر على الأعداء، وبكل شيء مما قد يعوز الفرد أو تحتاج إليه الدولة.
ولبثت الحال كذلك مع تغير في نوع «الكلام» الذي يكتب لصاحبه السيادة والسلطان؛ فللخطيب في الأمم المتأخرة شأن أي شأن، مع أنه لا يحمل في جعبته إلا «كلاما»! وانظر إلى التاريخ؛ تر الأمم كلها في بدايات أشواطها تفسح مجالا أسمى للخطباء المصاقع. هكذا كان العرب في جاهليتهم، وهكذا كان اليونان، حتى لقد تزاحم الشبان الأغنياء في اليونان القديمة على معلمي الخطابة يتعلمون عنهم صناعة الكلام؛ لما رأوا أن الكلام وحده ضمين لصاحبه أن يظفر بأكثر الأصوات عند سواد الشعب، وبالتالي فهو ضمين لصاحبه أن يتبوأ مكان الزعامة ومناصب الحكم، بل هكذا كانت إنجلترا منذ قرنين؛ فسرعان ما كان يبرز الخطيب بين الناس، فإذا هو النائب في البرلمان، وإذا هو الوزير الحاكم بعد حين. وهكذا كانت فرنسا كذلك أيام ثورتها الكبرى، ولست بحاجة إلى أن أضيف بلادنا مثلا آخر، فقد اقتضت طبيعة موقفها أيام ثورتها أن تجعل زعامتها، بل حكومتها، في أيدي القادرين على الكلام.
अज्ञात पृष्ठ