جرع «خالد» في عهد قلبه الجديد، الذي لم يطق معه أن يركب للواقع الثقيل أجنحة من ريش الأحلام الطيارة الدوارة؛ جرع في عهد قلبه هذا مر الواقع وعلقمه، لكنه مع ذلك تمنى لأمته كلها أن يبدلها الله قلوبا بقلوب؛ فينزع من صدورها القلوب الحالمة المساهمة النائمة، ليضع مكانها قلوبا صاحية متيقظة واعية.
أصنام تحطمت
صادفتني أيام الشباب طائفة قليلة من رجال نزلوا من نفسي عندئذ منزلة إكبار لا ينتهي وإجلال ليس بعده مزيد. ثلاثة منهم أو أربعة كانوا دوما أمام عيني مثلا أتمثل به حين أطلب لنفسي، أو حين أسوق للناس مثلا للرجل كيف يصلب عوده وتتعدد جوانبه وتتنوع نواحيه. كنت أنظر إليهم نظرة الطفل إلى أبيه، يراه عملاقا قادرا على كل شيء؛ فهو إن شاء أمسك بالقمر، وهو إن أراد أنزل المطر، وأراني بالقياس إليهم قطرة من محيط أو ذرة من جبل ... آه لو كان لي قلم فلان وشهرته ولتنزل بي نكبات الدهر بعد ذلك ألوانا فما أبالي! أو لو كانت لي هذه الحيوية الدفاقة التي لفلان وهذا الأفق الواسع والعلم الغزير! إن شخصه ليملأ الفضاء حتى ليكاد يتعثر به السمع والبصر أنى مضيت. وانظر إلى فلان كيف كسب القلوب بترفعه عن الصغائر وازدرائه لما ينغمس فيه الناس إلى أذقانهم من توافه! وأين لك مكانة فلان في هدوئه واعتداده بنفسه؛ حتى لتتوجه إليه الأنظار أينما حل. أتذكر في يوم جلس في جمع كبير من كرام الناس وأحس التعب في قدميه، فخلع الحذاء في حركة ثابتة طبيعية كأن إنسانا لم يكن معه؟ أين أنت من هذا وأنفاسك تكاد تتقطع حياء من نفسك؟! ... هكذا كان هؤلاء الرجال يملئون مني شعاب الخيال في عهد الشباب.
ومضت الأعوام وازددت خبرة بالناس وطبائعهم، وراقبت من كثب، وفي شيء من الدقة والتفصيل، بعد أن كنت أنظر من بعيد وعلى وجه التعميم والإجمال. فأخذ نفر من هؤلاء العمالقة يصغرون ويضؤلون حتى لأراهم اليوم أقرب إلى الأقزام. كنت أحسبهم أقوياء بنفوسهم، فرأيت كيف يضعفون أمام أيسر الدوافع وأصغر ضروب الغواية. إن الفرق بعيد بين صورة الهرم الأكبر حين تبدو لعينيك من بعد، وبينها وأنت إلى جواره؛ فالمسافة البعيدة تزيل الحفر والنقر والغلظة والخشونة، وتجعل الجدار أملس صقيلا. إن القمر الذي تراه من بعد لامعا ساطعا وضاء، هو على القرب حزون وجبال عتمة مظلمة سوداء. لقد كنت مع جماعة من الأصدقاء ليلة في مرقص، فأبى واحد منا عرفناه بالظرف والفكاهة إلا أن يجلس في آخر الصفوف. ولما سئل في ذلك أجاب بأنه يرى الراقصات على هذا البعد روائع فاتنات، فلماذا يقترب ويرى الغضون والعيوب فيجعل الجميل قبيحا؟
والحق أني حين ازددت خبرة بهؤلاء الناس على مر السنين، وصغر في عيني منهم من صغر، كبرت عند نفسي على حسابهم؛ فلم أعد أراني قطرة من بحر ولا ذرة من جبل كما كنت أتوهم. وإن الله لينعم عليك بالنعمة الكبرى إذا وهبك القدرة على وزن نفسك، ووزن الناس ميزان صحيح لا تحيز فيه ولا تحيف.
والفضيلة في هذا الأمر، كما هي في شتى الأمور، وسط بين طرفين كما يقول أرسطو. فرذيلة منك أن تغلو في قدرك لنفسك حتى تراها أضخم مما هي، وكذلك رذيلة منك أن تحط من قدر نفسك حتى تراها أضأل مما هي. والفضيلة ها هنا إنما تقع في الوسط الذهبي الذي يضع النفس في موضعها الصحيح، فلا زيادة من طرف، ولا نقص من طرف آخر، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه كما يقولون.
كان الخطأ الأكبر عند عبدة الأصنام هو أنهم عبدوا شيئا كان يمكن لخيالهم أن يتصور ما هو أكبر منه، وإن كان هنالك ما هو أكبر، ففيم عبادة الأصغر؟ إن كان إلهك صنما صغيرا من حجر، فالجبل الأشم أولى منه بالعبادة، أو كان جبلا عاليا فالشمس أعلى، أو كان شمسا واحدة فالسماء أوفر شموسا. وهكذا تستطيع أن ترقى بمعبودك حتى تدرك في النهاية أن من يستحق العبادة كائن واحد - سبحانه وتعالى - كل ما عداه صغائر عابرة، تتجمع حينا كسحاب الصيف لا يلبث أن ينقشع ويزول، وكذلك قل في تقديرك للناس من حولك، فما دمت تنوي أن تعنو بوجهك لإنسان؛ فليكن عظيما حقا في البعد والقرب على السواء.
إن الشيطان الذي أبى أن يعبد الله استعلاء واستكبارا لأجدر عندي بالتقدير والتوقير من عابد الصنم الصغير ذلة وخنوعا. وليس من عجب أن يخفق «ملتن» في الفردوس المفقود، فلا يوفق إلى ما يريده بالشيطان من تحقير! أراد أن يصف تمرد الشيطان وعصيانه وصفا يحمل القارئ على مقته وازدرائه. فأفلت منه الزمام رغم أنفه. وإذا القارئ يقرأ القصيدة ليرى عراكا يوشك أن يكون بين ندين، فليس يخلو من العظمة من تحدثه النفس أن يخاصم العظيم.
عدم الخوف هو سر النجاح، فعش حياتك على فوهة بركان، كما قال نيتشه. ولا تركن إلى الأمن والدعة، فأنت حي بمقدار ما أنت مغامر جريء، لا تتمثل أمامك فكرة الموت فتصيبك بالجمود والشلل، عدم الخوف هو جوهر الحكمة كما يقول رسل. ومن الجبن أن تكبل نفسك بأغلال الخوف وأصفاده إزاء المخاطر الحقيقية، فما بالك بما هو في الواقع ظلال وأشباح؟! وأول المغامرة أن تحطم الأصنام، ففيم عبادتك أصناما من أناس عبادة الخائف يخشى منهم السطوة والبطش ويرقب منهم الصدقة والإحسان؟
انظر كم تجني على حاضرنا عبادتنا لماضينا! إن موتانا ليتحكمون في رقابنا بأبشع ما يتحكم به أغلظ الطغاة في عبيده الأذلاء، لماذا؟ لأننا نخشاهم فلا نخشى فيهم إلا وهما، كما يخاف الطفل خشخشة الورق في الظلام، نخشاهم فنعبدهم فنكيل لهم الحمد والثناء بغير حساب. وليس بعد ذلك من بأس إن صغرنا نحن بسبب إكبارهم، وذللنا بسبب إعلائهم؛ فاللغة ما نطقوا، والشعر ما نظموا، والنثر ما كتبوا، والحكومة الرشيدة على غرار ما حكموا، والعلم الصواب ما علموا، كأن الأرض تدور من المشرق إلى المغرب، أو كأن الزمان يسير القهقري، والأمر كله عبادة أصنام رسمت من ظلال. إن عبء الموتى يكاد ينقض ظهورنا؛ فهلا ألقيناه عنا لنمضي في الطريق خفافا! ... ولأمر ما ركبت الأعين في الجباه؛ لتنظر إلى أمام ولم تركب في مؤخرة الرءوس.
अज्ञात पृष्ठ