لست إذن أرى في حياتي الخالية الخاوية ما يستحق أن أحتفل له إذا ما انقضى من الحياة عام. بل إني ما فكرت فيها بيني وبين الأيام من أخذ وعطاء، إلا ورأيتني قد نلت من الأيام صفقة المغبون. فقد ظللت كما يظل كل إنسان منذ مولده حتى يبلغ من الشباب ذروته، ظللت آخذ من دنياي مادة أكثر مما أعطيها، فأزداد بهذا الكسب المادي لحما وعظما، ثم بهذا اللحم والعظم أنمو صبيا ويافعا وشابا. لكني لقاء ذلك الكسب في وزن البدن، كنت محروما من المال، فلم أكن أرى منه ، إبان ذلك العهد، إلا قروشا قليلة يعطينيها أبي رحمه الله، مليمين مليمين، أو على أحسن الحظوظ قرشا قرشا، حينا بعد حين. وقد كان يحدث أيام العيد أن يتبادل أبي وعمي «الأعياد» للأولاد. فكنت آخذ من عمي ريالا أو نصفه، فلا يكاد الريال يستقر في كفي حتى يتقاضاه أبي من جديد إذا ما خلا بي. ولم أكن أفهم لذلك معنى حتى شببت وازددت علما، فعرفت أن قد كان للأمر اقتصاديات عليا لا يفهمها الصغار، على نحو ما يفعل رؤساء الحكومات اليوم. فهم يضبطون الصادر والوارد، بحيث يكون لهم في نهاية الأمر ميزان متعادل. والناس، إزاء هذا الذي يحدث في السماء العالية من دنيا الاقتصاد، لا يعرفون إلا أن السكر كان يصرف لهم بالأمس أقات تسعا، فإذا هو اليوم يصرف لهم سبعا، وأنهم كانوا يأكلون الخبز أبيض خالصا، فإذا هم اليوم يأكلونه مخلوطا أسود.
حتى إذا ما جاوزت قمة الشباب، وانتهى من الحياة طريقها الصاعد، وأخذت أسلك منها سفحها الهابط، تغير الموقف رويدا رويدا، حتى انعكس الوضع؛ فخسارة من اللحم والعظم، وكسب من المال؛ ذلك أني بدأت الآن أعطي دنياي من بنيان جسمي أ كثر مما تعطيني. فأسنان تفسد ثم تخلع، وشعر يضعف ثم يتساقط، وعضل يفتر ثم يترهل، وجلد ينكمش ثم يتغضن. بعد أن كانت الأسنان والشعر والعضلات والجلد تزداد مع الأيام قوة وفتوة. فهذا جانب الخسارة، ويقابله زيادة في كسب المال؛ فقد كانت وحدة نقودي مليما أو قرشا، فأصبحت أفكر فيها بلغة الجنيهات، وأخشى أن أقول بعشراتها، فيظن بي القارئ ثراء أو ما يشبهه، ولست من هذا بحمد الله في عير أو نفير. لكنها هذه السنوات السود التي أضاعت جزءا عزيزا من حياتنا، هي التي علمتنا ذلك الحساب كرها وقسرا. فلم أعد أدفع أجر مسكني بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل، بل أدفعه مبلغا ذا رقمين سواء استطعت إلى ذلك سبيلا أو لم أستطع. ولم أعد أشترى البدلة بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل ، بل أشتريها بالعشرات راضيا أو كارها . وهكذا تراني اليوم، بالقياس إلى يفاعتي، أخسر في بنيتي وأكسب في ثروتي، أنقص في دمي ولحمي وأزداد في مالي. فكأنني إزاء هذا كله أشترى الضلالة بالهدى، وأبيع سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور ... ولست أدري ماذا تقول أنت في مثل هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، وبمثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.
لو خيرت في الأمر لسرت بالحياة في طريق معكوس، بحيث تأتي الشيخوخة أولا والشباب آخرا، فالخمسون تأتي قبل الأربعين، والأربعون قبل الثلاثين، والثلاثون قبل العشرين، حتى أنعم بالصعود في سلم الحياة، ولا أحزن لمثل هذا الهبوط. وأنا مسئول عن كل النتائج التي تترتب على هذا الوضع المعكوس ... لو كنت موظفا مدنيا في الحكومة؛ فسأبدأ بالدرجة الأولى وأتمتع براتبها الضخم، وأنا بعد في سن العشرين. ولا بأس عندي أن أعقب عليها بالثانية فالثالثة وهلم جرا، بحيث أنحدر في الدرجات والمال كلما دب في جسمي الهزال؛ لأننا على هذا الوضع الراهن بمثابة من يخزن البندق حتى تزول عن فكيه الأضراس والأنياب. فقل لي بربك: ما غنى هذه الدرجات تعلو، وهذه النقود تزداد، ولم يعد لها في الجسم مستقبل أو مستجيب؟ هذه هي السوق قائمة، وتلك هي الحلوى معروضة أمام بائعيها كما عهدتها وكما اشتهيتها أيام الصبا. وهذا هو المال في جيبي، فلماذا لا أشتري الحلوى ولطالما تمنيتها؟ أما وقد تهيأت لي الأسباب فلماذا لا أشتري الحلوى، ولطالما سال مني عليها اللعاب؟! ... لأنني خزنت البندق، حتى زالت الأضراس والأنياب!
ولو كنت موظفا عسكريا؛ فسأبدأ الشوط بكتف مملوءة بكل ما عندهم من أنجم وتيجان. ولا بأس عندي أن تتساقط عن كتفي هذه اللوامع واحدة بعد واحدة كلما تقدمت بي الأعوام، كما تسقط عن الشجرة أوراقها في الخريف بعد أن أينعت ناضرة عاطرة في الربيع. وإلا فحدثني بربك ما معنى أن يكون ربيع على الكتفين وخريف في صميم البدن؟!
ولو كنت كاتبا فسأبدأ الحياة بكومة من الكتب هي كتبي، ومئات من المقالات جرى بها قلمي؛ فأزهى بهذا كله يوم يكون للزهو معنى مستساغ . ولا بأس عندي أن يخفت على مر الأيام صوتي، ويقل صيتي، وينكمش اسمي سيرورة وذيوعا. فذلك كله عندي خير ألف مرة من أن أزداد في درجات الحكومة رفعة، أو أزداد في كتفي التماعا، أو أزداد في دولة الأدب أو العلم شيوعا وذيوعا، حتى إذا ما اكتمل لي من هذا أو ذاك قدر أحسد عليه؛ لم أجد له في نفسي صدى، فكأنما أمتلئ من خارج، إن صح هذا التعبير، وأخلو وأفرغ من داخل ... ولست أدري: ماذا تقول أنت في هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، ومثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.
رسالة إلى صديقة أدبية
أهديها إلى الآباء والأمهات الذين قد ينزلون بأبنائهم السوء من حيث لا يعلمون. ***
صديقتي أ ...
يشاء الله يا صديقتي أن تكون أولى رسائلي إليك صادرة عن قلب مكروب مكلوم حزين، وقد كنت أوثر أن يجيء أول اللقاء ابتسامة صافية لا تشوبها شائبة من هذه الهموم التي أترعت بها نفسي. لكننا تعاهدنا - ألا تذكرين؟ - تعاهدنا على الصدق الذي ينثر مكنون القلب نثرا، ولا يفتري على الحق شيئا ... أفلا تذكرين ذلك اللقاء السريع العابر، والبحر يطن في مسامعنا صداه، حين اختلجت يداك، ولمعت عيناك، في إيمان صادق، وقلت صارخة: حرام، حرام أن يعيش الناس في جو من أكاذيب ... فلنكن نحن صادقين في رسائلنا، ولنسكب خواطرنا ومشاعرنا على الورق خالصة لوجه الفن، لا نخشى في تصوير الحق لومة لائم.
هذا القلب الجريء الذي لا يخاف لوم اللائمين هو أملي، وهو علة إخفاقي في آن معا!
अज्ञात पृष्ठ