ولكن هذا النظر إنما هو فيما دخلت الشبهة من قبله، والشبهة إنما هى فيما يقع التكون منه، فإنه وإن كان الخير ليس بطائر، وأيضا ليس بشرير، وكان الطائر ينافيه والشرير ينافيه، فأحدهما قد يكون عنه التكون، والآخر لا يكون عنه التكون. أما الذى يكون عنه التكون فالمقابل من هذين وهو الشرير، وأما الذى لا يكون عنه فالذى ليس بمقابل وهو الطائر. والشبهة إنما هى فى المقابل كالشرير والجائر. وتلك الشبهة أن العقد فيه أنه عادل، هل يضاد العقد فيه أنه شرير جائر. وهذا موافق لما قيل فى التعليم الأول، ويكون الغرض فيه أن يجعل توطئة وتبنيها على أنه ليس كل عقد مناف مقابلا بالتضاد، وإلا لكان الشبهة تدخل فى أن العقد فى زيد أنه عادل سيضاد العقد فيه أنه طائر ويضاد اعتقادات أخرى بلا نهاية. فيشبه أن يكون غرض المعلم الأول ما أومأنا إليه، فأنه إنما قدم جميع ما قدمه إلى هذا الموضع لا على سبيل الاحتجاج، بل على سبيل التوطئة. وإنه إنما ابتدأ يحتج بعد فراغه من هذا الكلام حين يقول ما معناه إنه قد تبين أنه ليس نفس تضاد الأمرين يوجب تضاد العقدين، ولا نفس تنافى العقدين يوجب تنافى الأمرين، فيجب أن ينظر فى ذلك نظرا أخص من النظرين، فنقول: إنا إذا قلنا للخير إنه خير، صدقنا، وإذا قلنا إنه ليس بشر، صدقنا. لكن صدقنا عليه فى قولنا: إنه خير، صدق تام فى ذاته، وصدقنا عليه فى قولنا: إنه ليس بشر، صدق عليه فى أمر ليس بذاته. فإن الخير خير لذاته، وأما أنه ليس بشر فعارض له حين يقابل بأمر غير ذاته مباين لذاته وهو الشر، فيسلب عنه ذلك الأمر. فإثبات الخير يتم عليه بذاته وسلب إنما يتم له بغيره، وقد علمت أن السلوب من اللوازم فى مثل هذه الأشياء لا من الدواخل فى الذات. وبازاء هذين الصدقين كذبان: كذب أنه ليس بخير وهو كذب مقابل له فى ذاته،وكذب أنه شر وهو كذب مقابل لأمر له عارض. ولما كان اعتقاد أنه خير صدقا فى أمر ذاتى مقابل لاعتقاد أنه ليس بشر صدقا فى أمر عرضى كان اعتقاد أنه ليس بخير كذبا فى أمر ذاتى، والكذب فى الأمر الذاتى أشد معاندة للصدق فى الأمر الذاتى من الكذب فى الأمر العرضى، هكذا يجب أن يقال. وأما الظن بأن أحد الأمرين أشد كذبا والآخر أقل كذبا فذلك باطل، فإنه لا صدق أشد صدقا من صدق ولا كذب أشد كذبا من كذب، بل بعض الصدق يكون أدوم وبعضه يكون ليس بأدوم، وبعضه فى أمر ذاتى، وبعضه فى أمر غير ذاتى؛ والذى هو كذب فى أمر ذاتى أشد عنادا. وقد ينبعث من هذا احتجاج آخر يجب أن يفهم على هذه الصفة، أى إذا اعتقدت فى العدل الذى عرفته وتحققته فى نفسه أنه خير لا احتاج أن أعتقد مع ذلك فيه أنه ليس بشر، إذ هذا ليس ذاتيا له، بل أمر يعرض له. وليس يحتاج فى إخطار الأمر الذاتى بالبال أن يلتفت إلى أمر بالقياس إلى خارج ألبتة، بل الصدق الذاتى إنما ينعقد بإخطار الموضوع والمحمول بالبال، أخطر غيره أو لم يخطر. فان جئت وقابلت هذا العقد بعقدين: أحدهما أنه شر والآخر أنه ليس بخير، وجدت عقد أنه شر لا يتم لى إلا أن يتضمن أنه ليس بخير، فإن الكذب المقابل للصدق العرضى لا يتم إلا بأن يخطر بالبال الكذب الذاتى، فإنه إن لم أخطر ببالى أن العدل الذى عرفته خيرا صار لا خيرا، لم يمكننى أن أقصى عليه بأنه شر. وذلك لأنى علمت واعتقدت أن العدل خير، وأن ذلك حق، فحين أجعله شرا على سبيل امتحان التقابل يخطر ببالى ضرورة أنى سلبت عنه ذلك الحق، وليس إذا خطر ببالى سلب ذلك الحق عنه يكون قد خطر ببالى أنه شر. فهكذا يجب أن يفهم هذا الدليل وبهذا التكلف، وإلا لم يستقم، وهو قريب مما أوردناه أولا وفى قوته. وحجة أخرى وهو أن جميع القضايا يوجد لها متقابلات من باب التناقض، وليس يوجد لجميعها مقابلات من موجبات تحمل الضد، فإنا إذا قلنا: كذا مربع، وجدنا بازائه أنه ليس بمربع، ولم نجد أنه كذا الذى هو ضد المربع. فهاهنا المعاند هو السالب دون الموجب المضاد المحمول، وحيث للقضية موجب مضاد فالسالب أيضا معاند. فكل قضية موجبة لها من السالب معاند وليس كل قضية موجبة لها من الموجب معاند. فعناد السلب عناد للقضية الموجبو من حيث هى موجبة وعناد الآخر أمر عارض لها من حيث هى موجبة.
पृष्ठ 202