فبين أن كلية الموضوع لا توجب كلية الحكم فلذلك ما كانت القضيتان المهملتان المتخالفتان بالسلب والإيجاب ليستا بمتضادتين. وأعنى بالمهمل ما موضوعه كلى قد بين كيفية الحمل فيه ولم تبين كميته، فهاتان ليستا بمتضادتين وكيف وقد يصدق أن الإنسان كاتب على ما بينا، ويصدق أن يقال ليس بكاتب، فيجتمعان على الصدق. إلا أن ذلك ليس يمنع أن يكون هذا المعنى الملحق يلحق بالطبيعة العامة، وإن لم يصرح به. فحينئذ تكون قوة الإيجاب والسلب قوة المتضادتين إذ نحن لم نوجب أن هذا الحكم يتناول المحكوم عليه من حيث هو خاص لا محالة، بل قلنا إن معنى الإنسان يصدق على العام وعلى الخاص. فإذا كان يصح أن يحمل المحمول بالإيجاب والسلب على الإنسان وهو عام، ويصحبه فى عمومه، فيصح أن يكون الإيجاب والسلب فيه فى قوة المتضادتين لكن ليس ذلك واجبا فى نفس الأمر، حتى إذا حمل أمر على الإنسان وجب أن يحمل على العام لا محالة، كما إذا حمل عليه وجب أن يحمل على الخاص لا محالة. والإنسان لا يمتنع أن يكون عاما وأن يكون خاصا، لكن نفس اللفظ لا يكون دل على ذلك، وهو كما يقول قائل: إن بعض الناس كاتب وبعض الناس ليس بكاتب، فلا يبعد أن يكون البعض من الناس هو زيد فى القضيتين فيكونان فى حكم المتناقضتين، وإن كان اللفظ لا يوجبه. والأمور الممكنة فى اللفظ هى التى تصلح أن تتفق، ولا يوجبها اللفظ. فهذا وجه تأويل لما قيل فى هذا الموضع إن المعنيين اللذين يستدل عليهما بهما قد يمكن أحيانا أن يكونا متضادين. والذى قيل إنه إنما عنى بهذا القول أنا إذا قلنا الإنسان ليس بصحيح كانت قوته قوة قولنا الإنسان صحيح والإنسان مريض، إذ الإنسان الذى ليس بصحيح هو المريض، إذ هما من الأضداد التى لا متوسط بينهما، فهو أيضا وجه. لكن الأولى هو الوجه الأول فلا يبعد عندى أن يقال فى هذا الموضع إن القضيتين ليستا بمتضادتين. ويعنى بالتضاد فيما سلف وفيما يبنى عليه ويلحق به معنيين مختلفين إلا أنه مع ذلك محتمل ومتكلف، فيتضح من هذا أن المهملة فى قوة الجزئية.
والذى قال إن الألف واللام فى المهملات تدل على الحصر الكلى، فإذن لا مهمل إلا وهو كلى، فقد غلط من وجهين: أحدهما أنه ليس الكلام بحسب لغة دون لغة، فعسى أن لا يكون فى لغة العرب مهمل ألبتة. والثانى أن الألف واللام فى لغة العرب أيضا لا توجب الحصر، فإنك تقول إن الانسان نوع ولا تقول ألبتة كل واحد من الناس نوع، وتقوت إن الضحاك محمول على زيد ولا تقول كل ضحاك محمول على زيد. فليس ما ظنه هذا المتحذلق بصحيح.
واعلم أن أخذ الألف واللام مكان السور مما يغلط فى كثير من المواضع حتى إن القضية تكون صادقة مع الألف واللام، فإن لحقها السور بان كذبها. كما إنك تقول إن الأبيض أبيض بالضرورة فتقبله قبولا، فإن قلت كل ما يوصف به بأنه أبيض فهو أبيض بالضرورة، لاح لك كذبه. وأما البحث عن مشاركة الألف واللام والسور فهو أولى بصناعة النحويين. فبين من جملة هذا أن كلية الموضوع غير كلية الحكم، وأن كلية الحكم تدل عليه. أما فى الإيجاب فبلفظ كل، وأما فى السلب فبلفظة ليس ولا واحد، وهذان يدلان على عموم الحكم. وأما الموضوع فعموم ليس من جهة لفظ يدل عليه، بل لأنه فى طبعه كلى. والسور الكلى يدل على كلية الحكم بحسب الموضوع لا بحسب المحمول، فإن المحمول وإن كان كليا فليس السور يدل على أن النسبة لكليته بل على أن نسبته إلى كلية الموضوع. وإذا قلت كل إنسان حيوان لم تعن أن الحيوان بكليته للأنسان، بل إن الحيوان لكلية الإنسان. فإن احتجت أن تدل على ذلك لم تدل عليه بهذا السور، بل تحتاج أن تورد لفظا آخر يدل على الكم، كما تقول كل إنسان هو كل حيوان. وإن حذفت هذا السور فقلت الإنسان كل حيوان لم يغن هذا اللفظ المذكور شيئا فى الدلالة على كلية الحكم. وأمثال هذه القضايا منحرفات، وليس فى إحصائها واستقصائها كبير جدوى، لكن العادة جرت بذكرها فلنتأملها ونعرف أحوالها.
الفصل الثامن (ح) فصل في المنحرفات الشخصية
पृष्ठ 171