المني ثم ينتقل بعد ذلك إلى شيء آخر، كان هو بالقوة أيضا ذلك الشيء، بل المادة الأولى هو بالقوة كل شيء. فبعض ما يحصل فيها يعوقها عن بعض، فيحتاج المعوق عنه إلى زواله، وبعض ما فيه لا يعوق عن بعض آخر ولكنه يحتاج إلى قرينة أخرى حتى يتم الاستعداد، وهذه القوة هي قوة بعيدة. وأما القوة القريبة فهي لا تحتاج إلى أن تقارنها قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية التي تنفعل بها، فإن الشجرة ليست بالقوة مفتاحا لأنها تحتاج إلى أن تلقاها أولا قوة فاعلية قبل القوة الفاعلية للمفتاحية وهي القوة القالعة والناشرة والناحتة، ثم بعد ذلك تتهيأ لأن تفعل من ملاقاة القوة الفاعلية للمفتاحية. والقوى بعضها يحصل بالطباع وبعضها يحصل بالعادة وبعضها يحصل بالصناعة وبعضها يحصل بالاتفاق. والفرق بين الذي يحصل بالصناعة والذي يحصل بالعادة أن الذي يحصل بالصناعة هو الذي يقصد فيه استعمال مواد وآلات وحركات فتكتسب النفس بذلك ملكة كأنها صورة تلك الصناعة، وأما الذي بالعادة فهو ما يحصل من أفاعيل ليست مقصورة فيها ذلك فقط، بل إنما تصدر عن شهوة أو غضب أو رأي يتوجه فيها القصد إلى غير هذه الغاية. ثم قد تتبعها غاية هي العادة، ولم تقصد، ولا تكون العادة نفس ثبوت تلك الأفاعيل في النفس، وربما لم يكن للعادة آلات ومواد معينة، فإنه لا سواء أن يعتاد إنسان المشي وأن يعتاد التجارة من الجهة التي قلنا وبينهما تفاوت شديد. ومع ذلك فإنك إذا دققت النظر عاد حصول العادة والصناعة إلى جهة واحدة. والقوى التي تكون بالطبع منها ما يكون في الأجسام الغير الحيوانية ومنها ما يكون في الأجسام الحيوانية وقد قال بعض الأوائل، وغاريقوا منهم: إن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدمه، وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير. فالقائل بهذا القول كأنه يقول : إن القاعد ليس يقوى على القيام أي لا يمكن في جبلته أن يقوم ما لم يقم فكيف يقوم؟ وأن الخشب ليس في جبلته أن ينحت منه باب، فكيف ينحت؟ وهذا القائل لا محالة غير قوي على أن يرى وعلى أن يبصر في اليوم الواحد مرارا، فيكون بالحقيقة أعمى، بل كل ما ليس موجودا ولا قوة على أن يوجد فإنه مستحيل الوجود. والشيء الذي هو ممكن أن يكون فهو ممكن أن لا يكون وإلا كان واجبا أن يكون، والممكن أن يكون لا يخلو إما أن يكون ممكنا أن يكون شيئا آخر، وأن لا يكون، وهذا هو الموضوع للشيء الذي من شأنه أن تحله صورته. وإما أن يكون كذلك باعتبار نفسه، كالبياض إذ كان يمكن أن يكون وممكن أن لا يكون في نفسه، فهذا لا يخلو إما أن يكون شيئا إذا وجد كان قائما بنفسه، حتى يكون إمكان وجوده هو أنه يمكن أن يكون قائما مجردا
पृष्ठ 88