الجزء الأول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقريظ العلامة الكبير فضيلة الشيخ عبد الوهاب الحافظ الملقب بدبس وزيت
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى سائر الانبياء والمرسلين، وآله السادة الأبرار، وصحبه القادة الأخيار، والعلماء العاملين، ومن سلك طريقهم الى يوم الدين.
وبعد فقد قامت نخبة من اهل العلم من طلاب مولانا العلامة النحرير والموبي الكبير الاستاذ الشيخ عبد الكريم الرفاعي باشارة منه بنشر كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ﷺ، المشهور بين الأئمة الاعيان، والعلماء الاعلام، للفقيه المحقق القاضي الامام الحافظ ابي الفضل عياض بن موسى اليحصبي رحمه الله تعالى بعد توضيحهم ما فيه من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وحذف اسانيدها مع بقاء الرواة وتفسير الالفاظ اللغوية وكشف معضلاتها والاماكن الجغرافية وغير ذلك من الامور الموضحة للكتاب الكاشفة عن وجوه مخدراتها اللثام، فقد جاء بحمد الله تعالى كتابا يتناول من فوائد فوائده الخاص والعام، ويشرب من صافي شرابه كل وارد وظمآن، وكيف لا وقد قام بنشره من تغذرا بلبان العلوم والمعارف،
1 / 5
وحفتهم العنايات الربانية، والآداب النبوية وما ذلك الا بأفضال شيخهم ومرشدهم العالم الرباني من جمع في العلوم بين المنقول والمعقول والشريعة والحقيقة الاستاذ الجليل الشيخ عبد الكريم الرفاعي حفظه الله وادام نفعه للأمة واعظم له الأجر والمنة انه على ما يشاء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الوهاب الحافظ الملقب بدبس وزيت.
1 / 6
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تقريظ العلامة الكبير فضيلة الشيخ عبد الكريم الرفاعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه اجمعين وبعد:
فان من أهم ما تحتاج اليه أمة سيدنا محمد ﷺ في عصرنا هذا هو أن تتحول أنماط حياتها عما هي عليه من مخالفات في عاداتها وتقاليدها الى الشكل الذي كان يربي عليه النبي ﵊ أصحابه حتى قوم نفوسهم وأقامها على ما يرضي الله سبحانه فجعل منهم خير أمة أخرجت للناس. زهدا في الدنيا. وتورعا عما لا يليق. وثقة بالله وتوكلا عليه فهانت عليه نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم في جنب ما أكرمهم به الله.
واستطابوا كل مر ومكروه في سبيل دعوتهم فسكن يقينها قرارة قلوبهم وهيمن على نفوسهم وعقولهم فصدرت عنهم عجائب ما شهدها التاريخ في سالف أيامه فلم تنقض ولن تنقضي آثارها حتى يرث الله الارض ومن عليها.. وما كان لهم ذلك الا حين استهانوا بزخارف الدنيا وحطامها وحنوا الى لقاء الله سبحانه وتاقوا الى جنات النعيم. فكان ذلك نسيانا لراحاتهم وهجرانا للذاتهم وبذلا لكل غال ونفيس في سبيل الغاية التي
1 / 7
وضعوها نصب أعينهم وهي أن يكون الله راضيا عنهم. ورسول الله ﷺ عينه قريرة بهم ... هذا وان كل ما نقرأ ونسمع عن صفات هذا الجيل الفريد من البشر. علما وعملا ودعوة. انما كان من تأثرهم بالنبي المصطفى ﷺ وتمثلهم لصفاته الشخصية وأخلاقه العملية مهتدين بهديه مقتفين لآثاره في كل حال وقول وعمل...... ذلك هو تأسيهم برسول الله ﵊ واقتداؤهم به وذلك هو الذي يعوزنا وبنقصنا في عصرنا هذا حتى نتخلص مما تورطنا فيه من تقليد للأعاجم واتباع لهم على العمياء. وليس ثمة ما يوفر لنا ما نصبوا اليه من اتباع للسلف الصالح في السلوك والخلق الا أن يعكف أبناء هذه الأمة على دراسة تلك الصفات التي تحلى بها النبي ﷺ والشمائل التي أكرمه الله بها فشعت أنوارها على صحبه الكرام وشاعت أخبارها في كل زمان ومكان فكانوا بحق سادة الدنيا وأساتذة الخير في هذا الوجود......
لذلك كله لم نجد بدا من وضع كتاب بين أيدي المحبين لرسول الله ﷺ عامة وأبنائنا من طلاب جامع زيد بن ثابت الأنصاري خاصة. يدلهم على الطريق وينير لهم السبيل ليتبينوا ما يجب أن يحملوا أنفسهم عليه من أخلاق وأعمال تقربهم من النبي ﵊ فتصبغهم بأوصافه وتقيمهم على ما يرضيه فلم نعثر على كتاب يؤدي المقصود ويفي بالغرض مثل كتاب الشفاء الذي تلقفته أيدي العلماء منذ تاليفه فنفذ الى قلوبهم ونال ثقتهم وحاز اعجابهم.. وزاد من ذلك كله أن المؤلف القاضي عياض رضي الله تعالى عنه كان في حياته وصفاته من أجدر من يمسك بالقلم ليخط مثل هذا الموضوع
1 / 8
مستمدا من قلبه الكبير وخلقه القويم ونفسه المتواضعة بل وحياته كلها تلك التي كان يتأسى خلالها بالنبي ﷺ خير أسوة. ولما كانت الطبعات التي أخرجت متن هذا الكتاب الى أسواق الكتب طبعات فيها من التساهل في تحقيق الكتاب الشي الكثير. ومن الاخطاء المطبعية ما هو أكثر ... بل وأبلغ من هذا وذاك أن هذه الطبعات عزت وفقدت فلم يعد بامكان طالب العلم أن يحصل عليها الا ببذل جهد غير يسير ... لما كان هذا كله رغبت الى بعض أبنائي بالنظر في الكتاب نظر تحقيق دقيق يعتمد على أساس متين من العلم والتمحيص ليخرجوا به الى طلاب العلم كتابا شافيا وافيا ... فقاموا بذلك ﵃ على أحسن شكل مطلوب فكان ذلك تلبية منهم لحاجة ملحة لأبناء هذه الامة طالما تاقت اليها واشتاقت.. نرجو الله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب كل عامل به وقارىء له وناظر فيه.. والحمد لله رب العالمين.
عبد الكريم الرفاعي
1 / 9
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المحققين
لا يشك مسلم في أن مصدر التشريع الأول هو القرآن الكريم ويليه في الأهمية سنة الرسول ﷺ..
وكما اعتنى المسلمون بالقرآن حفظا ودراسة كذلك وجهوا جهودهم للسيرة النبوية باحثين ممحصين حتى أنتج اهتمامهم الكبير بهذا المصدر العظيم من مصادر التشريع تلك الدراسات الواسعة والقواعد التاريخية الدقيقة والمؤلفات الغزيرة..
فرحم الله ذلك الجيل الكريم الذي خدم كتاب الله أجل خدمة وحفظ سنة رسول الله ﷺ أعظم حفظ وأدقه.
ولقد كانت دراسة السيرة النبوية جزءا مهما من دراسة السنة المطهرة ...
ولذا اهتم العلماء بهذه السيرة لفائق أهميتها في فهم الشريعة وتوضيح نصوصها من عمل الرسول الكريم ﷺ وتصرفاته كلها..
فسيرة الرسول بهذا تجسيد لمبادىء الإسلام في مثلها العليا وهي تفيد في معرفة جوانب من الحياة الإسلامية منها:
«١- فهم شخصية الرسول ﷺ (النبوية) من خلال حياته وظروفه التي عاش فيها، للتأكد من أن محمدا ﵊ لم يكن مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه رسول أيده الله بوحي من عنده وتوفيق من لدنه.
1 / 11
٢ ان يجد الإنسان بين يديه صورة للمثل الأعلى في كل شأن من شؤون الحياة الفاضلة، كي يجعل منها دستورا يتمسك به ويسير عليه. ولا ريب أن الإنسان مهما بحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة فإنه واجده كله في حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ على أعظم ما يكون الوضوح والكمال، ولذا جعله الله قدوة للإنسانية كلها، فقال: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) «١» .
٣- ان يجد الإنسان في دراسة سيرته ﵊ ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وتذوق روحه ومقاصده، إذ أن كثيرا من آيات القرآن إنما يفسرها ويجليها الأحداث التي مرت برسول الله ﷺ وموقفه منها.
٤- ان تتجمع لدى المسلم من خلال دراسة سيرته ﷺ أكبر قدر من الثقافة والمعارف الإسلامية الصحيحة، سواء ما كان منها متعلقا بالعقيدة أو الأحكام والأخلاق، إذ لا ريب ان حياته ﷺ إنما هي صورة مجسدة لمجموع مبادىء الإسلام وأحكامه.
٥- أن يكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حي عن طرائق التربية والتعليم، فلقد كان محمد ﷺ معلما ناصحا، ومربيا فاضلا لم يأل جهدا في تلمس إحدى الطرق الصالحة إلى ذلك خلال مختلف مراحل دعوته.
وإن من أهم ما يجعل سيرته ﷺ وافية بتحقيق هذه الأهداف كلها أن سيرته ﵊ شاملة لكل النواحي الإنسانية والاجتماعية التي توجد في الإنسان من حيث إنه فرد مستقل بذاته أو من حيث إنه عضو فعال في المجتمع.
_________
(١) الأحزاب ٢١.
1 / 12
فسيرته ﵊ تقدم الينا نماذج سامية للشاب المستقيم في ذاته، الأمين مع قومه وأصحابه، وللإنسان الداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، الباذل منتهى طاقته في سبيل إبلاغ رسالته. ولرئيس الدولة الذي يسوس الأمور بحذق وحكمة بالغة، وللزوج المثالي في حسن معاملته والأب في حنو عاطفته مع تفريق دقيق بين الحقوق والواجبات لكل من الزوجة والأولاد، وللقائد الحربي الماهر والسياسي الصادق المحنك، وللمسلم الجامع بين واجب التعبد والتبتل لربه، والمعاشرة الفكهة اللطيفة مع أهله وأصحابه.
لا جرم إذا أن دراسة سيرة النبي ﷺ إنما هي تفهم لهذه الجوانب الانسانية كلها مجسدة في أرفع نموذج وأتم صورة» «١» .
إن السيرة التي يحق لصاحبها أن تتخذ الناس من حياته اسوة حسنة ومثلا أعلى يجب أن تكون متصفة بالصفة التاريخية الصحيحة.
أما السيرة التي حاكتها الاساطير وتفشت منها الخرافات فانها لا تملك قدرة السيطرة على القلوب والنفوس ومن ثم لا يستطيع الناس أن يتأسوا ويتقيدوا بها ونحن معشر المسلمين نؤمن برسالات الأنبياء كلها ونؤمن بهم ونتعرف على جوانب حياتهم ودعوتهم من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة بعد أن عض الزمان والنسيان على سيرتهم التاريخية؟ وبعد أن تلاعبت الايدي بالمسخ والنسخ فيها.
ونؤمن بالأنبياء كلهم مع علمنا بأنهم مجاهدون رتبة ومكانة ونحن نرى من عرض سير الانبياء والرسل ان صحة الأسانيد وبقاءها محفوظة لم يتاحا لسيرة واحد منهم مثلما اتيح لسيرة سيدنا محمد ﷺ.
_________
(١) نقلا عن كتاب فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ص ١٩.
1 / 13
كما أن من الشروط المحتمة التي لابد منها لكل من يرجو أن تكون سيرته وهدايته اسوة للبشر، الكمال والتمام والجمع. والمراد بالكمال والتمام والجمع ان الطوائف الانسانية المتفرقة والطبقات البشرية المختلفة تحتاج الى أمثلة كثيرة ومتنوعة تتخذها منهاجا لحياتها الاجتماعية. وكذلك الأفراد في المجتمع الانساني يحتاجون إلى مثل عليا يقتدون بها في جميع مناحي حياتهم. لذا يجب أن تكون حياة المتأسى به واضحة ناصعة عاليه..
وهذه النظرة الصحيحة لا نجدها تتمثل في حياة أحد مثلما تتمثل في حياة سيدنا محمد ﷺ ذلك لانها استجمعت الصفات التي مر ذكر بعضها وهي.
١- ان تكون سيرة تلك الحياة (تاريخية) أي ان التاريخ الصحيح الممحص يصدقها ويشهد لها..
ولقد شهد التاريخ كله شرقيه وغربيه مسلمه وكافره، ان الدقة التي وصل إليها المسلمون في دراسة السيرة النبوية من الوجهة العلمية بلغت الاوج والمنتهى الذي تقف عنده أقلام النقد والتمحيص ... ولا يزال المنهج التاريخي العلمي الذي ابتدعه المسلمون أول ما ابتدعوه لغاية الحفاظ على سيرة هذا الرسول العظيم- لم يزل ذلك المنهج قدوة المؤرخين في سلوك طريق البحث والتنقيب حتى الآن.
٢- أن تكون سيرة الحياة (جامعة) أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
في البيت وفي السوق، مع نفسه ومع ربه ومع الناس في الفرح وفي الترح في الغضب وفي الرضى في الحرب وفي السلم في الجد وفي المداعبة في الليل وفي النهار مع الاعداء ومع الاصدقاء ... في كل هذه الحالات
1 / 14
يجب أن تجمع هذه الحالات مختلف هذه الجوانب بشكل واضح وصريح وبصورة تعطي للناس قدوة حسنة يمكن اتباعها والتأسي بها. وهذا كله أدته السنة المطهرة في كتب الحديث والسنن الواسعة الموثوقة.
٣- أن تكون (كاملة) أي تكون متسلسلة لا تنقص شيئا من حلقات الحياة الواسعة التي تشمل مختلف العواطف البشرية والنزعات الانسانية.
ومن أعجب العجب أن أية نبضة من نبضات القلب البشري أو أية إشرافة من إشرافات الفكر الإنساني تجدها من خلال دراسة السنة المطهرة وقد ظهرت في أسمى نزعاتها وأرفع غاياتها وكأن السنة بهذا صورة واقعية ورسم واضح لما تمليه الإرادة الإلهية ولما تطلبه من نبي البشر.
٤- أن تكون تلك السيرة (عملية) أي تكون الدعوة الى المبادىء والفضائل والواجبات بعمل الداعية وأخلاقه. وأن يكون ما دعا إليه بلسانه قد حققه في سيرته وعمل به في حياته الشخصية والبيتية والاجتماعية.
ونعتقد أن هذه الناحية العملية في سيرة النبي العظيم هي أعظم ما يجذب اليه القلوب ويؤلف حول دعوته الارواح.
وان هذه الناحية المهمة في سيرة محمد ﷺ لأشهر وأبرز من أن يجهلها إنسان فهي واضحة في كل تصرفاته وحركاته وسكناته..
ولقد تعددت السير النبوية واختلفت في منهاج الدراسة التي سارت عليه متتبعة أحواله ﷺ في الفترة ما بين الميلاد أو ما قبله أيضا. الى وفاته ﷺ.
وامتازت كل طريقة بميزات خاصة أبرزتها من ناحية وأفردتها من ناحية
1 / 15
اخرى حتى أصبح الدارس المتعمق لا يستغني عن أكثر ما كتب في هذا المجال.
وكتاب الشفاء هذا يمتاز عن كل ما كتب في دراسة السيرة النبوية بميزات أفردته وحده في هذا الميدان وأبرزت عظيم قدره عند المحبين والعلماء والمحققين ...
ولعلنا ندرك هذه الميزات إدراكا واضحا عندما نقرأ الفقر التي كتبها المؤلف في مقدمته مبينا فيها الأسباب التي دعته لتأليف هذا الكتاب:
قال ﵀: في خطابه لصاحب الرسالة الذي طلب منه تأليف الكتاب فَإِنَّكَ كَرَّرْتَ عَلَيَّ السُّؤَالَ فِي مَجْمُوعٍ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِقَدْرِ الْمُصْطَفَى ﵊، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَوْقِيرٍ وَإِكْرَامٍ، وَمَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ أَوْ قَصَّرَ فِي حَقِّ مَنْصِبِهِ الْجَلِيلِ قُلَامَةَ ظفر، وأن أجمع لك ما لا سلافنا وَأَئِمَّتِنَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ، وَأُبَيِّنَهُ بِتَنْزِيلِ صور وأمثال.
فنجد أن السائل جزاه الله خيرا طلب من المؤلف ﵀ أربعة أمور:
١- التعريف بقدر المصطفى ﷺ.
٢- ما يجب له ﷺ من توقير واحترام.
٣- حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ القدر أو قصر في ذلك.
٤- جمع أقوال السلف والائمة في هذه الامور.
وقد ذكر المؤلف ﵀ أن هذه الامور التي طالبه صاحب الرسالة بشرحها شديدة خطيرة لما تحتاجه من (تَقْرِيرَ أُصُولٍ، وَتَحْرِيرَ فُصُولٍ، وَالْكَشْفَ عَنْ غَوَامِضَ وَدَقَائِقَ مِنْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ مِمَّا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَيُضَافُ
1 / 16
إِلَيْهِ أَوْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ وَالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخِلَّةِ، وَخَصَائِصِ هذه الدرجة العلية ...)
ومن هذه اللمحات الخاطفة التي ظهرت في سؤال السائل وفي بيان المؤلف نلمح الاتجاه العلمي الدقيق الذي يمت بصلة قوية الى علم الاصول ...
ومن خلال فصول الكتاب الجميلة عرضا وترتيبا وفكرة نشاهد بوضوح هذه اللمحات وقد أخذت اتجاها منطقيا في عرض الفكرة وما يتعلق بها من آراء وأقوال ثم في مناقشة هذه الاقوال والآراء مناقشة هادئة تظهر عليها روح القاضي الهادئة وأفكاره المنظمة وعندما نصل إلى نهاية الفصل نشعر بوضوح أظهر اننا في محكمة عادلة يهيمن عليها فكر واع حصيف وقلب مدرك حساس.
وان الانسان لا يملك نفسه أما روعة الاعجاب التي تتملك نفسه وهو يتابع تلك المناقشات الرائعة لاقوال السلف والأئمة التي يعرضها المؤلف ويتابعها باخلاص علمي شديد ... ثم بعد ذلك وهو يتناولها- في تواضع عجيب- بالنقد الشريف..
وفي هذا النقد يرى القارىء عقل المؤلف في صفائه وعمقه ودقته ... ولعل أسوا ما منى به هذا الكتاب العظيم- الذي ظل مهوى أفئدة العلماء والائمة في كل عصر- ما ناله من التشويه في الطباعة والعرض خضوعا للرغبة التجارية والمكسب المادي.
وعندما عرض هذا الكتاب على طلبة العلم في مساجد دمشق وجد المدرس والطالب مشقة أبعدته عن حب هذا الكتاب وبالتالي عن فهمه،
1 / 17
وضاع الطالب بين سطوره المتتابعة التي حشيت فيها الاقوال حشوا ورصفت فيها الألفاظ رصفا لا يعتمد على نظام ولا يتفق على ترتيب هذا علاوة على ما فيه من أخطاء في الطباعة ونقص في تحقيق الأحاديث الواردة فيه- مع أن الشراح ﵏ خرجوا أحاديثه- فان شروح هذا الكتاب مطولة وتحتاج الى تنظيم ولا يمكن أن تقوم هذه الشروح بدل الكتاب نفسه في أيدي الطلاب.
كما أن كثيرا من كلمات الكتاب تحتاج الى شرح لغوي يبين معناها للطالب والدارس ليفهم النص دون الرجوع الى معاجم اللغة..
وعندما برزت كل هذه الصعاب للعيان عند تدريس هذا الكتاب طلب منا المربي الكبير فضيلة العلامة الشيخ عبد الكريم الرفاعي حفظه الله تعالى.
العمل على تنظيم وترتيب الكتاب لملء الفراغ المحسوس.
ولبينا الطلب مسترشدين بتعليمات فضيلة الشيخ في كيفية العمل وطريقته التي نلخصها فيما يلي:
١- عرض الكتاب عرضا واضحا.. وتحقق هذا بتوضيح الأقوال والافكار التي فيه بشكل واضح منظم من حيث تقسيم الفقرات والفصل بين الأقوال وإبراز اسم القائل لعين القارىء بحيث لا يحتاج الى البحث عنه خلال السطور بحثا دقيقا.
كما أن الآيات والأحاديث برزت عن سواها من الكلام بحروفها المتميزة.
٢- رغبة في الاختصار حذفنا السند المطوّل للأحاديث الواردة في الكتاب وأثبتنا الصحابي أو التابعي الذي رواها عن الرسول ﷺ.
1 / 18
٣- ورد تخريج الاحاديث في شروح الشفاء فنقلنا جهد هؤلاء العلماء ﵏ الى هذا الكتاب مبينين درجة الحديث المروي.
٤- تخريج الآيات الكريمة وبيان الأعلام وتفسير الكلمات اللغوية التي تحتاج الى ذلك.
٥- ولقد وضعنا على الهامش الوحشي للكتاب عناوين صغيرة تدل على ما في الفقرة أو الصفحة من معنى حتى اذا احتاج قارىء الكتاب العودة الى بعض معانيه قادته تلك العناوين الصغيرة الى مطاوبه بسرعة.
٦- ذكرنا بعض الكلمات التي وجدت في بعض النسخ بصورة مغايرة للنسخ الاخرى ونقلنا ذلك عن الشروح أيضا.
٧- ورغبة منا في العمل على نشر هذا الكتاب وايصاله الى كل بيت ليكون في متناول كل يد سلكنا طريقة اصداره مجزءا الى اقسام صغيرة حيث يسهل على القارىء مراجعة مضمون هذا الجزء اذ لمسنا ذيوع هذه الطريقة وعموم فائدتها.
٨- ولما كان الكتاب على جزأين حسب ترتيب المصنف ﵀ سنعمد ان شاء الله الى وضع ذيل يتضمن فهارس عامة لمحتويات الكتاب من حيث المواضيع وأسماء الاعلام وأسماء الاماكن وسردا خاصا بالمراجع الهامة التي عدنا اليها في تحقيق هذا الكتاب.
وإننا إثر هذا وجدنا بعد عرض الكتاب في ثوبه الجديد على فضيلة أستاذنا عبد الكريم الرفاعي وعلى ثلة من علماء دمشق الافاضل ان الكتاب أصبح وافيا بالغرض المطلوب الذي بذل هذا الجهد بصدده ونعتقد ان هذا المجهود لا يتلاءم بحال مع قدر هذا الكتاب العظيم.
1 / 19
ولكننا بذلنا ما في الوسع سائلين الله تعالى أن يقيض لهذا الكتاب العظيم من يرفعه الى مكانه الرفيع في دنيا العلم والعلماء وفي أيدي الأصوليين والفقهاء وعند دارسي سيرته ﷺ ومحبي طريقته ومتبعي شريعته ...
والله ولي التوفيق.
المحققون
1 / 20
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ترجمة المؤلف
في نهاية القرن الخامس الهجري وفي سنة ست وسبعين وأربعمئة على وجه التحديد ولد مؤلف الشفاء القاضي الكبير والمحدث الجليل والأديب الفقيه عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي الغرناطي المالكي ...
لقد كان هذا القرن عصر ازدهار العلوم والفنون في بلاد الاندلس التي بدأت تنافس المشرق بالفخر العلمي وبالمجهود الأدبي الذي كان بلاط الخلفاء يزدهر بغرسه ونتاجه..
أصله ...
لقد جاء أجداد عياض من الاندلس الى بلدة فاس في بلاد المغرب يحملون معهم صفات تلك البيئة العلمية في نفوسهم وأرواحهم ... وولد قاضينا الكبير في بلدة سبتة في شهر شعبان بعد أن انتقل اليها والده من مدينة فاس......
وسبتة بموقعها الجغرافي كانت همزة وصل بين الشمال الافريقي وبين الاندلس الزاهرة أو بالاحرى بين المشرق والمغرب على اعتبار أن كلمة المغرب كانت تطلق على البلاد الاندلسية.
1 / 21
وفي هذه البلدة كان الوافدون على الاندلس والعائدون منها يلتقون ويتبادلون الآراء والافكار فتتلاقح بهذا التلاقي علوم المشرق بميزاتها الفلسفية والمنطقية وبما فيها من عمق فكري ودقة بحث مع علوم المغرب بما فيها من روح جمالية أدبية ونظرة جديدة في الوجود فرضها الواقع الجديد والبيئة الجديدة ...
ويرجع أصل المؤلف من ناحية أجداده إلى يحصب بن مالك أبو قبيلة باليمن ... فالمؤلف بهذا عربي أصيل.
فاجتمعت للمؤلف كل الصفات العلمية المؤهلة من ناحية الوراثة والبيئة ثم أضاف اليها تلك الدراسة العميقة التي أخذ بها نفسه منذ نعومة أظفاره..
ولقد كان له كثير من الشيوخ الذين أخذ عنهم الفقه والاصول والحديث والادب وظهرت جوانب من تلك العلوم في المصنفات العديدة التي ألّفها ويستطيع القارىء أن يلمح تلك الاسماء العديدة في سند أكثر الاحاديث النبوية الشريفة التي يرويها بطريقة عنهم ... وخاصة في كتاب الشفاء ...
علمه ...
واتجه القاضى منذ نعومة أظفاره إلى تعلم العلوم الشرعية فأتقنها إتقانا عجيبا وفي سن مبكرة كما ذكر صاحب كتاب أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض.... ولم تمنعه دراسته للعلوم الشرعية من الاخذ من علوم الادب واللغة وظهر ذلك جليا في كتاباته الجميلة الآسرة.
وأصبح المؤلف بعد فترة وجيزة قاضيا لسبتة في بلاد المغرب على المذهب المالكي الذي عم في افريقيا وانتشر فيها.
1 / 22
وبدأ يتجه الى التأليف واخراج التصانيف المفيدة في التفسير والحديث والسيرة النبوية الشريفة.
وبدأ فشرح صحيح مسلم شرحا جيدا ساعده عليه علمه بالحديث وروايته له. وأخرج تفسيرا للقرآن.
ولم يطل المقام به في سبتة حتى نقل إلى غرناطة سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة. ولم يطل مقامه بها حتى نقل ثانية إلى سبتة ليتولى فيها القضاء..
وقد ذكر ابن فرحون من علماء المالكية في طبقاته عن القاضي عياض انه كان إماما في الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم خطيبا بليغا وذكر من تآليفه نحو ثلاثين تأليفا جليلا.
شعره ...
وذكر ابن فرحون بعض أشعار القاضي عياض التي تدل على أدبه وبلاغته ومنها:
الله يعلم إني منذر لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
وقال:
انظر إلى الزرع وخاماته ... يحكى وقد ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقايق النعمان فيها جراح
كتاب الشفاء:
وإن أعظم ما خطه يراع القاضي هو كتاب الشفاء الذي تداولته أيادي العلماء من كل أمة درسا وفهما فلم يخل منه بيت عالم فاضل أو زاهد كريم أو محب على محبته مقيم ...
1 / 23
وقد ذكر ابن المقري اليمني الشافعي ﵀ في ديوانه أن كتاب الشفاء مما شوهدت بركته وكان قد ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله منه وقال في ذلك:
ما بالكتاب هواي لكن الهوى ... أمس بما أمسى به مكتوبا
كالدر يهوى العاشقون بذكرها ... شغفا بها لشمولها المحبوبا
أرجو الشفاء تفاؤلا باسم الشفا ... فحوى الشفاء وأدرك المطلوبا
وبقدر حسن الظن ينتفع الفتى ... لا سيما ظن يصير مجيبا
هذا وفي الشفاء بعض الاحاديث الضعيفة وقليل مما قيل إنه موضوع تبع فيه ابن سبع في شفائه وقد نبه على ذلك كله الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا.
وقد اختتمت حياة المؤلف الحافلة يوم الجمعة بمراكش في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة.. وما قيل من أنه قتل لا أصل له.
وقد مدحه الشاعر علي بن هارون بقوله:
ظلموا عياضا وهو يحلم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراي عينا في اسمه «١» ... كي يكتموه وشأنه معلوم
لو لاه ما فاحت أباطح سبتة «٢» ... والروض حول فنائها معدوم
ولبعض الأدباء في مدح هذا الكتاب:
عوضت جنات عدن يا عياض ... عن الشفاء الذي الفته عوض
جمعت فيه أحاديثا مصححة ... فهو الشفاء لمن في قلبه مرض
_________
(١) - ويقصد بذلك أن أصل اسمه (رياض) فأبدلت الراء عينا.
(٢) - البلد التي ولد فيها.
1 / 24
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله المتفرد «١» باسمه الأسمى «٢»، المختص بالعز «٣» الْأَحْمَى «٤» الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ «٥» مُنْتَهًى وَلَا وَرَاءَهُ مرمى «٦»، الظاهر»
لا تخيلا «٨» ولا وهما، الباطن «٩» تقدسا لاعدما «١٠»، وسع «١١» كل شيء رحمة
_________
(١) - وفي نسخة- المتفرد المتوحد.
(٢) - الاسمى- أفعل التفضيل من السمو وهو الارتفاع أي الممتاز عن المشاركة في اسمه الأعلى.
(٣) - الأعز- من العزة والعزيز الذي لا يحوم حوله ذل ولا مغلوبية.
(٤) - الأحمى- أفعل التفضيل من حميته حماية، والمحمي المصون.
(٥) - دونه- لها معان منها عند، وأمام، ووراء وهي هنا بمعنى فوق وأمام.
(٦) - مرمى- المرمى هو الغرض الذي يرمى اليه وينتهي اليه السهم. فليس للعقل وراء الايمان به ومعرفته متامس.
(٧) - الظاهر- من أسمائه تعالى (وهو بمعنى الواضح الجلي، وهو هنا الظاهر للفطرة والبصيرة في أياته. وتدبير حكمته. ولا يذكر ألا مقرونا باسمه تعالى الباطن.
(٨) - تخيلا- أي ظنا بالقوة الخيالية.
(٩) - الباطن- باعتبار ذاته لا صفاته.
(١٠) - تقدسا- تفعلا من القدس وهو الطهارة والتنزه: (عدما) أي فقدا اذ لا يقتضي عدم ظهوره نفي وجوده ونوره.
(١١) - وسع- أحاط.
1 / 25