कविता और चिंतन
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
शैलियों
آثار أيامي التي قضيتها على الأرض.
إني لأستشعر تلك السعادة القصوى،
وأستمتع الآن بأسمى اللحظات. (القسم الثاني، الفصل الخامس، 11563-11586)
ولعل هذا التناقض يتناسب أخيرا مع تلك الجدلية أو الثنائية الروحية التي ألح عليها المؤلف في تقييم جوته للتقدم البشري. لقد عجز في رأيه عن إدراك الحياة الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية الناشئة إدراكا تصوريا واضحا، فعبر بدلا عن ذلك بحدسه الشعري عن دورها المتناقض في تطور الإنسانية. وإن حلم فاوست الأخير بالمستقبل ليصور بإيقاعه القاسي المدمر تصويرا كافيا نظرة جوته إلى هذا التناقض، الذي لم يحل أو لم يستطع هو نفسه أن يجد له حلا، وإن عظمته الشعرية لتكمن في طرحه لهذا التناقض (الذي جعل فاوست يضع تحقيق حلمه الكبير بالعمل من أجل المجموع بين يدي مفيستو كما يضع في يديه كذلك إمكانية تحطيمه)، ويكفيه صدقا أنه صور لنا احتدام هذا التناقض في نفس فاوست، وكشف عن قدرة «نواته الباطنة» على الصمود والبقاء نقية في صراعها مع الشيطان. وهو صادق، حتى في عجزه عن أن يقدم أكثر من حلمه المشرق بالمستقبل، بل ربما بسبب هذا العجز نفسه (الذي كان في رأي لوكاش تعبيرا أمينا عن الوعي البرجوازي العاجز في عصره عن رؤية الواقع الموضوعي رؤية ثورية صحيحة)، ولعل صراع فاوست للحفاظ على نقاء نواته الباطنية أن يكون دليلا شعريا حقيقيا على الإيمان بأن البشرية رغم مفيستو ورغم الرأسمالية لم يحكم عليها بالسقوط في أيدي الشيطان ، ولا «أكل التراب» كالدودة الحقيرة! وهي لن تسقط ما بقيت على إيمانها بأن النجاة والخلاص من نصيب من يسعى بأمانة وإخلاص.
يشعر القارئ بعد هذا العرض الموجز لفصول الكتاب أن القضايا الجمالية البحتة لم تأخذ حقها الكافي، أو يشعر على الأقل بأنها التحمت بالمسائل التاريخية والاجتماعية، بحيث لا تنفصل عنها تأثيرا وتأثرا. ويأتي الفصل الأخير استجابة لهذه الحاجة النظرية والجمالية، فيحلل المفاهيم الفنية الأساسية التي قامت عليها أعمال جوته الشعرية، وفي مقدمتها فاوست.
وفاوست من الناحية الجمالية إنتاج لا يقاس به غيره. إنها كما ذكرنا من قبل ليست دراما ولا ملحمة، وإن جمعت أفضل خصائص النوعين. فهل يكفي أن نصفها بأنها قصيدة كبرى عن تطور الجنس البشري من خلال تطور فرد ومصيره؟ أم يقتضي الأمر النظر في بعض أفكار جوته النقدية قبل التسرع إلى هذا الحكم؟
لقد حاول جوته وصديقه شيلر - في رسائلهما التي تحدثنا عنها - تمييز الدراما والملحمة وتحديد الطابع النوعي لكل منهما. ولم يأت حرصهما على ذلك بدافع نظري محض، وإنما كان الأمر ضرورة اقتضتها عملية الإبداع ذاتها عندما وجدا نفسيهما في مواجهة مضامين تتأبى على الشكل الدرامي أو الشكل الملحمي وحده، وتفرض عليهما التسليم بالتفاعل بينهما. وقد أخذ جوته على عاتقه تحديد المفاهيم الأساسية لكل منهما، وكان من أهمها أن كل شيء في الملحمة يصور كماض، في حين أن كل شيء في الدراما هو حاضر. بهذا تكون فاوست بحق عملا دراميا يقوم على الحضور المحسوس لأشكال الوعي التي يمر بها فاوست خلال اكتمال تطوره الروحي في مشاهد تصور الحقيقة الواقعية لكل مرحلة من مراحله، وكأن كلا منها - كما صرح جوته نفسه لصديقه وتلميذه أكرمان - عالم مستقل صغير، لا يتماس مع بقية العوالم، ولا يرتبط بالمجموع إلا بعلاقة رخوة مع الأحداث السابقة واللاحقة. والغريب أن هذا المبدأ الدرامي في التأليف هو الذي يخلق الطابع الملحمي للعمل ككل! فالعوالم الصغيرة المستقلة تفتقر إلى الترابط الضروري الذي تفترضه الدراما، ولهذا يبقى العمل في مجموعه غير قابل للقياس، ويظل مسألة مفتوحة وغير محلولة تحفز الناس باستمرار إلى التأمل فيه. ومعنى هذا أن فاوست تحقق التفاعل بين المبادئ الدرامية والملحمية؛ لأنها إذا كانت درامية في كل جزء منها، فهي ملحمية في استقلال هذه الأجزاء داخل تصور كلي (كما كتب إليه شيلر بحق). ويبدو أن جوته قد استفاد من هذه التأملات النظرية في طبيعة الدراما الملحمية عندما عاد إلى «عمله البربري»، وهو يائس من تحقيق صفته الدرامية أو الملحمية بصورة كاملة. ولهذا لا يفاجئنا قوله لصديقه إنه سيحرص على أن تكون الأجزاء ممتعة ومسلية، أما الكل فسيبقى دائما شذرة ناقصة ... والواقع أن تداخل الدرامية والملحمية في بنية فاوست أمر يقوم - كما أشرنا من قبل - على موقف جوته من المأساة ونظرته الشاملة إلى العالم. فهو يرى أن المراحل النموذجية لتطور البشرية سلسلة من المآسي، ولكنها في مجموعها الكلي ليست مأساوية. ولا بد أن اعتقاده بالضرورة الكونية ووحدة الوجود التي تأثر فيها بفلسفة اسبينوزا قد أثرت بدورها على هذه النظرة العالمية، كما اقتضى التعبير عنها بصورة مكثفة وشاملة ذلك الشكل الدرامي الملحمي الذي يحقق ديناميكية الأجزاء وتوازن الكل. ولهذا يصبح من الخطأ أن نتصور فاوست كما لو كانت ملحمية مكونة من درامات منفردة أو دراما كبرى مؤلفة من أجزاء ملحمية. فالتداخل بين الشكلين ملموس في كل جزء من أجزائها؛ لأن مصير نموذج إنساني (أي مرحلة من مراحل تطور البشرية)، يتقرر أمام أعيننا على أساس الجدل الكامن في تناقضاته الداخلية وبطريقة مأساوية في معظم الأحيان، كما أن كل جزء من جهة أخرى هو ملحمة؛ لأن الصدق الضروري لهذا النموذج أو النمط الإنساني أو هذه المرحلة من التطور البشري قد استلزم إعطاء الوسط الاجتماعي لهذه التناقضات امتلاء ملحميا يتعدى ما هو درامي بحت. بهذا أمكن أن تصبح فاوست رواية تربوية من طراز «فيلهلم ميستر»، أو ملحمة هوميرية حديثة تتضمن سلسلة من الدرامات.
هكذا أدرك جوته وشيلر أن التفاعل والتداخل بين الدراما والملحمة من سمات «الأدب الواقعي» الحديث الذي بدأ في أواخر أيامهما وأعمالهما. وقد تأكدت هذه السمة المميزة، حتى صارت اتجاها عاما أبرزه «بلزاك» بعد ذلك بنصف قرن في مقدمته للكوميديا الإنسانية عندما شدد على العنصر الدرامي والطابع التاريخي للرواية الحديثة في القرن التاسع عشر (عند بلزاك نفسه وستندال ووالتر سكوت ومانزوني وغيرهم) خلافا لما كانت عليه في القرن السابق عليه. ولا شك أن أعمال جوته قد أقامت «الجسر الجمالي» بين هذين القرنين، وعبرت عن ذروة اكتمال المفاهيم الفنية في عصر التنوير كما تخطتها في الوقت نفسه، ومهدت لعصر الواقعيين العظام الذين أشرنا إلى أهم أسمائهم. وإذا كانت «فترة فنية» قد انطوت بوفاته، فترة كان السعي فيها وراء الجمال والانسجام والكمال هو غاية الغايات، فإن تأثيره على واقعية العصر الحديث يثبت أن الجمال عنده لم يكن على الإطلاق جمالا شكليا بحتا (كما سيفعل الشعر الرمزي اللاحق واتجاه الفن للفن)، بل كان له محتواه الاجتماعي المعبر عن مشكلات العصر وتناقضاته التاريخية تعبيره عن الوعي بتقدم الإنسان وارتقائه نحو الكمال. ولهذا يمكن القول بأن إيمانه الثابت بالجمال الإغريقي أو الكلاسيكي لم يكن إيمانا بمقاييس فنية أبدية، وإنما يرجع إلى أن جوهر الإنسان وعلاقاته في الحياة القديمة قد انعكست في التراث الفني والأدبي الكلاسيكي بصورة أنقى منها في حاضر الحياة التي خبرها. فكأن الأشكال الفنية ليست في نهاية الأمر «التراكيب الأكثر عمومية وتجريدية للجوهر الإنساني والعلائق الإنسانية»، وما نسميه موضوعات «فنية» هو على حد قوله ظواهر للروح البشرية تكررت، وسوف تتكرر، والشاعر وحده هو الذي يعرضها بوصفها ظواهر تاريخية، ويعبر عنها تعبيرا فكريا وجماليا (ص175)، ولعل هذا كله أن يكون تعبيرا عن النزعة الإنسانية لجوته وعصره في أكمل صورها، وعن دفاعه عن وحدة الوجود الإنساني - جسدا ومجتمعا وروحا - ضد كل القوى التي كانت قد بدأت تشوهه وتجزئه تحت تأثير الرأسمالية الوليدة، وهو في النهاية - كما رأينا في فاوست - دفاع عن نقاء النواة الباطنة في الإنسان، ومحاولة لإنقاذ الجنش البشري من خلال التضحية المأساوية للفرد الذي يرقص رقصة الموت؛ لكي ينبعث المجموع في جلاله وكماله.
لا شك أن هذا الكتاب يثير قضايا ومشكلات عديدة متصلة بالنقد الأدبي الماركسي بوجه عام وتفكير «لوكاش»، ونقده وفلسفته الجمالية بوجه خاص. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نتوسع في الجانبين بما يبعد عن الكتاب نفسه، ولذلك فسوف نكتفي ببعض الملاحظات الأساسية التي لا تهملهما إهمالا تاما، ولا تتعدى الحدود المرسومة لمثل هذا العرض النقدي. ولا ننسى قبل تقديم هذه الملاحظات أن نذكر القارئ بأمرين؛ أولهما: أن الكتاب قد وضعه صاحبه سنة 1947م أيام اشتداد النزعة القطعية المتزمتة، وغلبة النظرة الاجتماعية المبسطة التي ألفناها طويلا في تلك الفترة من النقد الأدبي الماركسي (الذي أصبح اليوم نقدا تقليديا بالقياس إلى الجهود والاجتهادات الحديثة والمعاصرة في هذا النقد نفسه). وثانيهما: أن الاتجاه الذي يمثله لوكاش هو اتجاه مثالي (هيجلي) إنساني، وقد حافظ على هذا الاتجاه الذي يمكن أن نتتبعه إلى المرحلة التي سبقت تبنيه للماركسية، وذلك على سبيل المثال في مقاله المبكر عن تطور الدراما الحديثة (1909م)، وكتابه عن نظرية الرواية (1918م)، وإن توسع فيه بعد ذلك، وتعرض بسببه لمحن كثيرة لم يكن أقلها هو مصادرة كتبه ونفيه عن بلده! صحيح أنه كان في المرحلة الباكرة من إنتاجه يؤكد الجانب الذاتي الباطن، بل الجانب الفردي اللامعقول، ويتصور أن مهمة الأدب هي التعبير عنه في مواجهة مجتمع معاد ومغترب ومن خلاله، وصحيح أنه تعلم من الماركسية أن الفرد والمجتمع وحدة واحدة، وأن العلاقات الاجتماعية هي أساس الأدب والفن والجمال، ولكن هذا كله لا يمنعنا من القول بأن «لوكاش» لم يتحول كثيرا عن بعض «الثوابت» المنهجية والنظرية التي يمكن أن نبلورها في اعتقاده بالوحدة الجدلية التي تؤلف بين الذات والموضوع في المجتمع، وإيمانه بالخلاص من الاغتراب عندما يصل المجتمع عن طريق الطبقة العاملة إلى الوعي بذاته، وفكرته عن الحقيقة من حيث هي كل شامل ما يزال على الإنسان أن يكافح ويصارع في سبيل بلوغه. وتقترن بهذه الثوابت ثلاثة مفاهيم نقدية أساسية يلح عليها «لوكاش» على الدوام، وهي الوحدة الشاملة (التي يؤلف بها العمل الأدبي بين العام والخاص، وبين التصوري والحسي، وبين الاجتماعي والفردي، ويصلها وصلا جدليا حيا، بحيث يصبح العمل صورة مصغرة من الوحدة الشاملة المركبة للمجتمع)، والعامل التاريخي والاجتماعي (وهو المضمون الذي يحدد الشكل الفني، بحيث تصبح الأشكال على اختلافها تركيبات وتكثيفات معقدة لذلك المضمون التاريخي والاجتماعي - إذ لا يوجد ثمة مضمون لا يكون الإنسان نفسه هو بؤرته - وبحيث يصر لوكاش باستمرار على رفض النزعات الشكلية على اختلافها في الأدب والفن بوصفها نزعات فاسدة منحلة)، ثم تأكيده «للنمطي» على اعتبار أن مهمة الأدب هي إبرازه من خلال الفردي والاستثنائي، أي إن الشخصية النمطية أو النموذجية هي التي تجسد القوى التاريخية دون أن تفقد شيئا من خصوصيتها الحميمة وثرائها الفردي المحسوس.
ننتقل بعد هذه المقدمة الضرورية إلى بعض الملاحظات التي تتصل بالكتاب الذي نناقشه كما تتجاوزه من بعض الجوانب: (1)
अज्ञात पृष्ठ