कविता और चिंतन
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
शैलियों
ولكن الروح العلمية والنزعة العقلانية لم تكد تقوم حتى الآن بأي دور في حياة الحارة. فالناس يأخذون معارفهم في أغلب الأحيان عن «الحكايات القديمة». وهذا وحده شيء يدعو للارتياب؛ لأن الذين يروون هذه الحكايات هم «الشعراء» أو الرواة المحترفون الكذابون نهازو الفرص، الذين يخدمون الناظر وينافقون الفتوات (ص117، 120، 179 وما بعدها، 187، 196، 226 وما بعدها، 310، 318، 551)، بل إن عرفة ليتشكك في قيمة الحكايات التي تروى عن الجبلاوي وجبل ورفاعة وقاسم (ص468، 371).
والعقبة الأخرى التي تقف حجر عثرة في طريق المعرفة العقلانية هي الحشيش. فهذا المخدر يظهر كأنه عنصر بديهي في حياة الحارة، وهو يعود دائما إلى الظهور، فيعبق به الجو في زفة أدهم قبل طرده من بيت أبيه (ص27)، وجبل- موسى يتجاذب الجوزة مع الحاوي العجوز (البلقيطي) الذي يعلمه أصول فنه (ص171)، ورفاعة-يسوع لا يطيقه حقا (ص246، 259)، ولكن أباه يتناوله بانتظام (ص225)، وقاسم يحبه ويقدمه لأصحابه (ص322، 330، 338 وما بعدها، 342).
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف يعتبر الحشيش وسيلة لا ضرر منها لنسيان هموم الحياة، ومنغصاتها الصغيرة والكبيرة. صحيح أن تجارة المخدرات يرد ذكرها كسبيل للإثراء غير المشروع (ص209)، ولكن القارئ سيصدم بغير شك حين يعرف أن قاسم يعرض في جلسة خططه التي تهدف إلى تحقيق رسالته في الحرية والكرامة والسعادة (ص362 وما بعدها)، والرجل الوحيد في الحارة الذي لا يقبل على الحشيش هو «الساحر» عرفة الذي يحتاج عمله إلى اليقظة والانتباه، ولكنه لا يلبث أن يصبح حشاشا بعد دخوله في خدمة الناظر (ص525، 530 وما بعدها) هنا يتبين من جديد أن اللوحة التي يقدمها لنا نجيب محفوظ متعددة الأبعاد والمستويات، فالحشيش شر في ذاته بطبيعة الحال، ولكنه هنا رمز يدل بجانب ذلك على التفكير غير الدقيق، والتأمل غير الواقعي، والهروب من الحقيقة، كما يدل على الاستسلام الأعمى للشهوات، وعلى كل ما يتعارض مع الروح العلمية المأمولة.
إن مهمة السحر، أي العلم، هي أن يقضي على الفتوات، ويطهر النفوس من عفاريتها، ويجلب الحياة الصافية اللاهية التي حلم بها أدهم (ص498). أما الهدف الأسمى الذي يلوح لعيني «الساحر» عرفة فهو قهر الموت. عند هذه النقطة يعود المؤلف، فيتجه إلى الميتافيزيقا. وهو لا يكتفي بالتعبير عن الخوف من الموت الذي يشترك فيه الناس كافة، وإنما يثور على حاجز القوة الذي وضع هنا أمام الإنسان، فلا يمكنه أن يقهره أو يبلغ مداه. إن قدري- قابيل يقول لنفسه أمام جثة أخيه المقتول: «ما دمت لا أستطيع أن أرد الحياة، فلا يجوز أن أدعي القوة أبدا (ص96)، وعرفة الذي يعتقد أنه تسبب في موت الجبلاوي ينتهي إلى أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكفر عن جريمته هو إعادة الحياة إلى الجبلاوي
8 (ص502)، وليست هذه النية مجرد محاولة يائسة لإلغاء حادث وقع، فيصبح وكأنه لم يكن، وإنما تزيد عن ذلك وتصدر عن اقتناع بأن الخسارة التي وقعت يتحتم التعويض عنها كما يمكن أن يتم هذا التعويض، إن كلمة من جدنا كانت تدفع الطيبين من أحفاده إلى العمل حتى الموت، موته أقوى من كلماته، إنه يوجب على الابن الطيب أن يفعل كل شيء، أن يحل محله، أن يكونه.» (ص503) معنى هذا أن الإنسان يجب أن يحل محل الإله، وعندما يفعل ذلك يكون قد حقق المقصد الإلهي. وهكذا تكون إعادة الحياة إلى الإله هي الرمز الذي يدل على أن العالم أو الإنسان الذي يسلك سلوكا عقلانيا هو الذي يتولى عن الإله تنظيم العالم.
ولكن ماذا عن مكافحة الموت البشرية؟
يقول عرفة: «الموت يكثر حيث يكثر الفقر والتعاسة وسوء الحال.» ويسأله الناظر: وحيث لا يوجد منها شيء يا أحمق؟ فيرد عليه عرفة بهذا الجواب: نعم؛ لأنه معد مثل بعض الأمراض ... إذا حسنت أحوال الناس قل شره، فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصا على الحياة السعيدة المتاحة ... سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت، بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت. (ص354 وما بعدها) إن الثورة على الموت ليس لها طابع ميتافيزيقي فحسب، وإنما هي كذلك رمز متطرف على الكفاح العقلاني والواقعي من أجل حياة أفضل، وهو كفاح يعنيه نجيب محفوظ بكل ما لهذه الكلمة من قوة.
كل هذا يلقي مزيدا من الضوء على مفهوم المؤلف عن الروح العلمية التي يتوقع منها كل شيء لنفسه وللناس. إنها - رغم أنف الشفرة التي يستعملها - ليست لونا من ألوان «السحر» الذي تسقط نتائجه في حجر الإنسان، وإنما تتطلب كفاحا وتحتاج لأقصى جهد ممكن، وحتى إذا صح أن العلم ليس له نهاية (ص497، 542) فإن جهد العالم الواحد لا يكفي؛ لأن الواحد بمفرده لا يقدر إلا على القليل، ولأن العالم الواحد عرضة للانحراف عن الطريق الصحيح. وإذا كانت لجبل ورفاعة وقاسم جوانب ضعفهم الإنسانية، فلم يبلغ أحد منهم من الفساد مبلغ عرفة. إن نجيب محفوظ لا يمجد العلم تمجيدا أعمى، فهو يدرك الأخطار التي يتسبب فيها بابتعاده عن القيم الأخلاقية والاجتماعية . ولهذا نجده يؤكد اعترافه بالمعايير الأخلاقية وينبه إلى ضرورة إيجاد حل اجتماعي للمشكلة: يجب أن يصير أغلبنا سحرة!
هذا التحول من الفرد إلى المجتمع ملمح أساسي آخر من ملامح هذه الرواية. وليس معنى هذا أنها تصور «أولاد حارتنا» في صورة الممثلين القائمين بالأدوار الفعلية. صحيح أن آل حمدان يتمردون على الناظر والفتوات (ص118، وما بعدها)، ولكن تمردهم يبوء بالإخفاق الذريع، حتى يتبنى جبل قضيتهم. والشعب يتضامن مع رفاعة ويقف وراءه، وهو الذي لا يطمع في ريادة ولا يطمح إلى زعامة (ص276 وما بعدها)، ومع ذلك فهو الذي فجر الحركة التي عانت بسبب دعوته نفسها من الانقسام بين أتباعه حول أهدافها، وهل تكون مادية أو روحية خالصة؟ (ص302 وما بعدها) مهما يكن من شيء، فإن جبل ورفاعة وقاسم هم الذين يحددون شكل حركاتهم وغايتها، وتنهار هذه الحركات بعد موت روادها، فلا يلبث البؤس القديم أن يرجع بخطوات مسرعة. فإذا بلغنا عرفة وجدناه طوال حياته يواجه التعاسة والظلم مواجهة العاجز؛ لأنه لا يجد بين «أولاد الحارة» سندا يستند إليه.
ويوشك القارئ أن يخرج بانطباع يوحي إليه بأن هذه المراجعة الحزينة للتجارب التاريخية تفعم نفس المؤلف بالتشاؤم، أو بأنه يذكر نفسه بنفسه ويحذرها عندما نراه يعارض التواكل والقدرية معارضة صريحة (ص448)، ربما بدا للفرد أن من الممكن أن يحتفظ لنفسه بركن صغير من السعادة والسلامة وسط الشقاء المحدق بالمجموع، ولكن أدهم لا يجد مفرا من أن يناجي نفسه قائلا: لا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن (ص21 وما بعدها). ولقد تعلم عرفة في النهاية أن الفعل الذي يحدده الخوف من الموت فعل عقيم لا يجدي شيئا، فالخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت. (ص546)، والتسليم هو أكبر الذنوب جميعا (ص476)، وليس أولاد حارتنا هم أبطال الرواية، وإنما هم المقصودون بحديثها إليهم. فلا بد لهم أن يعرفوا أن الجهد المبذول لتأمين السلامة والعدالة تمهيدا لخلق الحياة الجديدة جهد يسعى إلى نجاتهم وخلاصهم، وأن نضال الموت نفسه - الذي لا بد أن يعانيه كل إنسان بمفرده - له من ناحية أخرى معنى اجتماعي. ففي مقدور الفرد أن يستمد الشجاعة من تضامنه مع الآخرين. وهكذا تنتهي الرواية نهاية واعدة تفيض بالأمل في المستقبل، هذا إذا تيسر كسب الأغلبية لمتابعة الطريق الذي بين لهم عرفة معالمه.
अज्ञात पृष्ठ