برغتها أو شمسها
وأرض بيتك كنسها
وكذلك اعمل بالدكان
هذه صورة عن الزجل الأول، أما مدرسة الزجل الكلاسيكية النابتة فروعها على هذا الجذع فهاك حديثها.
الطور الكلاسيكي
رافقت هذه المدرسة طفلا، فعلى أنغام هذا الشعر وأصدائه، استيقظت نفسي، فهو نشيدة مهدي وترنيمة سريري؛ ولهذا انطبع في ذهني، وهيهات أن يمحو الزمن ذكريات الصبا. إن هذا الشعر منبثق من أعماق نفوس اللبنانيين وقلوبهم، من ظلمات أوديتهم وثرثرات أنهارهم وجداولهم، من أضوائهم وظلماتهم، من عرازيلهم وخيامهم، من قلق العجائز وأحلام الصبايا. إنه منسوج من خيوط شمسنا الذهبية، لحمته من وراء البنفسج وسداه من خيوط القلوب؛ ولهذا أسموه المعنى والعتابا. أما حياته الفنية فمستمدة من هواء هذا الجبل المتصوف ومائه.
لقد رافقت هذا الشعر رفقة عمر لا رفقة طريق. استهواني فعشقته، ورأيت فيه أصدق صور المحيط الذي أمدني بما نسميه حياة. قرأت عن هذا الشعر في الكتب، فعرفت كيف نشأ الزجل الأول من ابن القلاعي اللحفدي، فكان حافلا بالمعاني، وكاد يكون خاليا من الصور والألوان. ثم نظرت إليه فرأيت كيف تطور مع القس حنانيا المنير الذوقي، ثم أخرج من دائرة الكتب إلى ألسن الرواة، وما رواته إلا أبي وعمي وخالي وجيراني، فصرت أطير فرحا كلما سمعت بعرس جديد، أنتظره لأسمع المعنى والقرادي من ابن عمتي سركيس، ومن ابن عمي طنوس عبود، ومن طنوس المير، والزغنا، على نقر الدف. ثم نسمع العمين أنطون وأرسانيوس يتباريان بقصيدة زجلية موضوعها مفاخرة بين «البيضا والسمرا» فتتطاول الأعناق وتتلاقى النظرات، وتنقسم العرب عربين.
هؤلاء كانوا رواة الشعر اللبناني في ضيعتنا، ومثلهم كثير في كل قرية، فهم الذين غذوا مخيلتي بهذا الشعر الرائع الذي لا يزال يهز نفسي اليوم كما كان يهزها يوم كنت ابن أربعة عشر؛ ولهذا أراني، بعدما سمعت من هذا الشعر ورويت وحفظت، أستطيع تقسيمه إلى مدارس كالشعر الفصيح.
فالشعراء الأولون هم ابن القلاعي والمنير وغيرهما كثيرون. أما الكلاسيكيون فهم شعراء القرن التاسع عشر، وكان رواتهم عندنا من ذكرتهم لك. إن أكثر أسماء هؤلاء الشعراء مجهولة، وحالهم حال الشاعر العربي الفصيح المجهول، فيقولون عند رواية شعر له: قال الشاعر وكفى. لقد تأسفت أشد الأسف؛ لأني لم أدون قصائد غراء من هذا الشعر، فقد كان يؤلف صورة صادقة عن الحياة والمحيط لو حفظ، ولكن الحرب العظمى الأولى ذهبت بكثير من رواته ولم تترك في نفوسنا إلا اللوعة والحسرة عليه.
إن ذلك الشعر الذي سميته بالكلاسيكي مجهولة نسبته، وقد أريتك نماذج منه كما سمعته من الرواة، وأنت ترى وتعرف أن لشعرائه جولات حسانا في مجالات شتى، أما أكثر أغراض هذا الشعر فحنين وعتاب ومساجلات.
अज्ञात पृष्ठ