سبب نزول قوله: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)
الآية الثلاثون بعد المائة: قول الله ﷿: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة:١٣٠].
بعدما ذكر ربنا خبر ذلك العبد الصالح إبراهيم ﵊، وأنه ابتلاه بكلمات فأتمهن، ونجح نجاحًا عظيمًا في كل الاختبارات، بذل ماله للضيفان، وبذل نفسه للنيران، وولده للقربان، وابتلاه الله ﷿ بالطغاة والجبابرة مثل النمرود بن كنعان الذي قال: أنا أحيي وأميت، وابتلاه بأبيه الطاغية الذي كان يصنع الأصنام ويبيعها للناس، وابتلاه الله ﷿ كذلك بخصال الفطرة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وفرق الرأس، وأما التي في الجسد: فالاستحداد، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وغسل أثر البول والغائط بالماء، فإبراهيم ﵇ نجح في هذا كله، فقال الله ﷿: «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ» يعني: من يترك ملة إبراهيم الحنيفية السمحة إلى غيرها إلا السفيه: «إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ»، وهذه المادة: السين والفاء والهاء تدل على الرقة والخفة، ومنه تقول العرب: ثوب سفيه إذا كان رقيقًا خفيفًا، وإذا قيل: هذا رجل سفيه، يعني: في عقله خفة.
﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة:١٣٠].
هذه الآية نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ﵁ ابني أخيه سلمة ومهاجرًا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله قد قال في التوراة: إني باعث نبيًا من ولد إسماعيل اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت الآية.
وعبد الله بن سلام هو الحبر البحر الذي أسلم عن علم، وأثنى عليه ربه في القرآن فقال: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد:٤٣]، والذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام.
وقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف:١٠] والشاهد هو عبد الله بن سلام.
وقد دعا ابني أخيه إلى الإسلام عن علم، واحتج عليهما بالتوراة، وقال لهما: قد علمتما أن الله ذكر في التوراة أنه باعث من ولد إسماعيل نبيًا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد هدي ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأحد الرجلين وفق فأسلم، والآخر أبى؛ فأنزل الله ﷿: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة:١٣٠].
13 / 6