فيقول الرواة: إن سعدا أرسل من يرتاد له أرضا على ما وصف عمر، فجاءه رواده وقد اختاروا له المكان الذي بنيت فيه مدينة الكوفة.
وبمثل ما أمر سعدا أمر عتبة بن غزوان - رحمه الله - فاختار له المكان الذي بنيت فيه مدينة البصرة، وأنزل جنود المسلمين المحاربين للفرس في هاتين المدينتين على أن تكونا معسكرين للمسلمين يقيم كل جند في معسكره، وتخرج من هذا المعسكر بعوث لحرب العدو، ونظم أمر هذه البعوث تنظيما دقيقا؛ فكانت الجنود لا تجمر، والتجمير هو أن يغيب الجندي عن معسكره أكثر من ستة أشهر. وكان هذا هو الذي حمل عمر على أن ينظم الأقاليم أو الأمصار بلغة ذلك العصر، فجعل دولته أمصارا، وهي: الكوفة، والبصرة، والشام، والجزيرة، والموصل، ومصر، واليمن، والبحرين.
وكان يرسل الوالي على كل مصر ويقسم الأمصار الكبيرة إلى الكور، فيكون أمر المصر وما فيه من الكور إلى الوالي الذي أرسله، ويكون أمر الكور بكل مصر إلى واليه، يختار لها العمال مستقلا بذلك أحيانا، وعن أمر عمر أحيانا أخرى، وكان عمال الكور يقيمون الأحكام في كورهم، ويجبون ما يفرض على أرضها من خراج، وما يفرض على الذميين من جزية. وقد نظم عمر أمر الجزية تنظيما دقيقا لا يخرج الولاة والعمال عنه، فجعل على كل غني من الذميين ثمانية وأربعين درهما في كل عام، وعلى الرجل من أوساط الناس أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقير اثني عشر درهما، وقال: لا يعجز الرجل منهم درهم في كل شهر.
وأكبر الظن أنه أجرى خراج الأرض على مثل ما كان يجري عليه في عهد الفرس والروم قبل الفتح، فكان عمال الكور يجبون هذه الأموال، ويرسلونها إلى ولاة الأمصار، وكان ولاة الأمصار يعطون منها الناس أعطياتهم، وينفقون منها فيما ينوبهم، ويرسلون ما بقي إلى عمر كما يرسلون إليه أخماس الغنائم، ومن كل ما كان يصل إلى عمر من هذه الأموال ومما يبقى له من أموال الصدقة كان يعطي الأعطيات وينفق فيما ينوبه من أمور المسلمين.
وعلى هذا النظام أقام عمر نظام الدولة التي فتحت عليه، وكان يجعل إلى جانب كل وال رجلا آخر يتولى أمر بيت المال في المصر؛ فكان له إذن ولاة يقيمون للناس صلاتهم، ويعطونهم أعطياتهم، ويدبرون لهم أمورهم، وعمال يقومون على بيت المال يتلقون ما يجبى في الكور، ويعطون الوالي ما يؤدي منه إلى الناس أعطياتهم، وما يحتاج إليه من نفقة فيما ينوبه، ثم يؤدون إلى عمر ما بقي من المال وحساب ما أنفق منه، فكان عمر إذن عالما بموارد الدولة ومصادرها، لا يغيب عنها من أمر هذا المال شيء، وكان أصحاب بيوت الأموال حراصا أشد الحرص على الدقة كل الدقة في أمر ما عندهم من الأموال وفي أداء حسابها إلى أمير المؤمنين، بحيث يستطيع عمر أن يقف على كل شيء وأن يحاسب الولاة على ما أنفقوا وعلى ما اكتسبوا.
وكان على ذلك يحج الناس في كل موسم ما عدا السنة الأولى لخلافته؛ فإنه ولى فيها عبد الرحمن بن عوف - رحمه الله - الحج بالناس، وكان إذا خرج للحج تقدم إلى ولاته في أن يوافوه كل على رأس من يحج من مصره، فكان ذلك يتيح لعمر أن يلقى الولاة ويلقى وفود الرعية، فيسأل الولاة عن رعيتهم ويسأل الرعية عن ولاتهم، وكان يقص أفراد الرعية من الولاة إذا ظلموهم أو مسوهم بأذى، وقد كلمه عمرو بن العاص في ذلك، وقال له: أتقص من الوالي إذا أدب رجلا من رعيته؟! قال عمر: أجل، وما لي لا أفعل وقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقص من نفسه؟!
وكان كثيرا ما يقول للرعية: أيما رجل مسه عامله بأذى فليرفع ذلك إلي أقصصه من واليه.
وكذلك أقام هذا الرجل العربي الذي لم يعرف الحضارات الأجنبية معرفة مفصلة ولا دقيقة نظام الدولة على نحو يكفل منافع الناس، ويكفل لهم العدل والإنصاف، ملائما بين ما أتيح له من الرأي في شئون الحكم للبلاد الأجنبية المفتوحة وبين أصول الإسلام، لا ينحرف عنها قيد شعرة، ولا يمس مصالح الناس قليلا ولا كثيرا، وكان حريصا أشد الحرص وأقواه على إنصاف المغلوبين الذين لم يدخلوا في الإسلام إنصافا كاملا، يأخذ منهم الجزية والخراج بالقسط والمعروف، ثم يلح على ولاته من إنصافهم دائما مذكرا لهم بأنهم ذمة الله ورسوله، قد أعطاهم المسلمون عهدا أن يؤدوا إليهم العدل والحق كله وأن يحموهم من كل عاد عليهم إذا أدوا ما عليهم من الحقوق.
अज्ञात पृष्ठ