وقد يخيل إلى من يتصور ما أتيح للمسلمين من الفتوح أيام عمر، والانتصار المؤزر على الفرس والروم جميعا، أن عمر كان سعيدا بهذه الفتوح العظيمة وبما كان يتدفق عليه في المدينة من المال الذي كان المسلمون يخمسون له من الغنائم ويرسلونه إليه من الفيء، ولكن الشيء المحقق أن عمر لم يهنأ قط بهذه الفتوح ولا بما أفاء الله عليه من هذه الأموال التي لا يكاد التصور يحيط بكثرتها.
كان يسره انتصار المسلمين ويرضيه، وكان يسره أن ينتشر نور الله في الأرض، وتعلو كلمة الإسلام، وكان يسره ويرضيه كذلك أن يسعد المسلمون بما كان الله يفيء عليهم من المال الذي أخرجهم من ضيق العيش إلى السعة، وأتاح لهم الرخاء بعد ما كانوا فيه من الشظف وقسوة الحياة، ولكن عمر على ذلك كان أشقى الناس بالفتوح والمال.
كان الفتح يكلفه أن يدبر أمر الحرب في الشرق والغرب، وأن يدبر هذا الأمر كأنه مع المحاربين في الشرق والغرب جميعا، وكان يكلفه أن يدبر أمر الأرض التي تفتح شرقا وغربا، وأمر الذين يعيشون فيها من المسلمين والمعاهدين، وكان يضطره إلى دقة أي دقة في اختيار العمال ومراقبتهم بعد ولايتهم أقسى المراقبة وأبعدها في الشدة، وكان المال الذي يرسل إليه يكلفه عناء أي عناء، كان لا يرى شيئا منه إلا أمعن في البكاء وجعل يسأل نفسه لماذا صرف الله هذا كله عن رسوله
صلى الله عليه وسلم
وعن أبي بكر، وأتاحه للمسلمين في أيامه هو، أكان ذلك خيرا صرفه الله عن رسوله وعن خليفته وآثره هو به؟ ثم لم يكن يلبث أن ينكر ذلك أشد الإنكار، ويقول: كلا، والله ما أتاح الله هذا المال لعمر إلا محنة له وابتلاء.
ثم لم يكن عمر يثق بنفسه ولا يطمئن إليها لا في سياسة الحرب، ولا في سياسة السلم، ولا في سياسة المال. كان يخشى دائما أشد الخشية أن يكون قد جار عن القصد في قول أو عمل خطير أو ضئيل، وأن يكون هذا الجور قد سجل عليه في ذلك الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه سيلقى الله بهذا الكتاب يوم القيامة فيسأله عما فيه من الصغير والكبير سؤالا لا هوادة فيه ولا لين، وكذلك كان نهاره منغصا وليله مؤرقا، لولا أن أمور المسلمين كانت تستغرق أكثر نهاره وشيئا غير قليل من ليله. ثم كان على ذلك يأتمر بما أمر به القرآن الكريم؛ فيستيعن على خلافته بالصبر والصلاة، ثم لا يمنعه هذا كله من أن يقول بين حين وحين: وددت لو أني خرجت منها كفافا لا علي ولا لي.
8
وظهرت لعمر مشكلتان يسيرتان لم يجد في النفوذ منهما عناء، ولا تقاسان إلى غيرهما من المشكلات التي عرضت له.
فأما أولاهما: فلقب الخليفة، وما أظن عمر فكر فيه، أو فكر فيه غيره من المسلمين، إلا بعد أن سير الجنود إلى العراق ودبر أمر الجيش في الشام، على ما كان عليه يحب من عزل خالد وتأمير أبي عبيدة، وجعل ينتظر أنباء جيوش المسلمين في الشرق والغرب.
هنالك فكر هو أو فكر من حوله من أصحابه في اللقب الذي يدعونه به، كانوا يرون أن أبا بكر - رحمه الله - قد قام على أمرهم بعد وفاة النبي
अज्ञात पृष्ठ