مقدمة
زيارتي الأولى لمصر
أول ما قرأت لشوقي
اجتماعنا الأول في باريس
صداقة ومكاتبات
معارضات
صنعة الشعر وإبداع شوقي فيها
انصراف شوقي إلى الشعر
القول في مدح الأمراء والملوك
عفة لسان شوقي وبعده عن الهجاء
شوقي في بداية أمره
نموذج من رسائل شوقي
شوقي في سورية
جفوة لا سبب لها
اجتماع بعد انقطاع
حفلة السوق الخيرية
سفر المؤلف إلى حرب طرابلس
لقاء في باريز بعد الحرب العامة
شوقي واليازجي
عود إلى شوقي
الوداع الأخير
رأي المؤلف في أشعر الشعراء
قبيل وفاة شوقي
من الذي راض شوقي وحافظا في الشعر
أماثيل من شعر شوقي
مقدمة
زيارتي الأولى لمصر
أول ما قرأت لشوقي
اجتماعنا الأول في باريس
صداقة ومكاتبات
معارضات
صنعة الشعر وإبداع شوقي فيها
انصراف شوقي إلى الشعر
القول في مدح الأمراء والملوك
عفة لسان شوقي وبعده عن الهجاء
شوقي في بداية أمره
نموذج من رسائل شوقي
شوقي في سورية
جفوة لا سبب لها
اجتماع بعد انقطاع
حفلة السوق الخيرية
سفر المؤلف إلى حرب طرابلس
لقاء في باريز بعد الحرب العامة
شوقي واليازجي
عود إلى شوقي
الوداع الأخير
رأي المؤلف في أشعر الشعراء
قبيل وفاة شوقي
من الذي راض شوقي وحافظا في الشعر
أماثيل من شعر شوقي
شوقي
شوقي
صداقة أربعين سنة
تأليف
شكيب أرسلان
مقدمة
ما حال حولان على انتقال شوقي - رحمه الله - إلى عالم الخلود حتى رأيت الناس كأنهم قد نسوا أمير الشعراء، ومن عادة الناس أنهم مهما كان الفائت عظيم القدر تناسوه سريعا، ونشدوا غيره على حد ما قال أحد الشعراء:
في الحال يعتاضون منه بغيره
ويعود رب الحزن غير حزين
الورد كان العندليب حليفه
لما انقضى غنى على النسرين
ولكني أرى مثل شوقي جديرا كلما مضت عليه السنون بأن يزداد حياة في النفوس، ويعظم قدرا في الصدور؛ لأن الخلود إنما يكون لمثله وهل المتنبي اليوم أقل حياة بروحه مما كان في عصره وهو حي بجسمه؟ وهل صاحب الشوقيات التي شرقت وغربت وأحزنت وأطربت ورواها الحادي والعادي وامتلأت بها الحواضر والبوادي يجوز أن ينساه ناطق بالضاد، أو يزهد فيه ضارب من الأدب بسهم ولو في برك الغماد؟!
وقد كنت لما فجع الأدب العربي بطي هذه الصحيفة البشرية العبقرية التي يقال لها: أحمد شوقي، وعدت بأن أنشر عنه وعن ذكرياتي معه كتابا أسميه «شوقي أو صداقة أربعين سنة» وحالت الأشغال والأسفار وما يتقاذفني من عوامل الأقدار دون إخراج هذا الكتاب الذي لا يزال يحك في صدري، ولما مررت على فلسطين في هذا الصيف قافلا من جزيرة العرب وتلاقيت مع صديقي سراج العرب وطراز الأدب الأستاذ إسعاف النشاشيبي، حفظه الله، وهو من عشاق أدب شوقي والمولعين بحفظ آثاره وإحياء تذكاره، استنجزني ما كان من وعدي من وضع هذه الرسالة الشوقية، ولما اعتذرت له بما أنا فيه من مشاغل ومشادة أجابني: إن الأليق بوفائك والأخلق بأخلاقك هو أن تقدم هذه الرسالة على غيرها من الرسائل، وأن تبادر بإنجاز وعد وعدته صريحا في حق صديقك وأخيك الذي ذكره عندك مقدس وقدره لديك مرجب، فوجدت كلامه في محله، وعولت على ألا أماطل في هذا الدين الذي يجب إيفاؤه لأهله.
زيارتي الأولى لمصر
سنة 1890 كانت أول قدمة لي إلى مصر وكنت بين العشرين والواحدة والعشرين من العمر فمكثت شيع شهر في الإسكندرية، ثم جئت إلى مصر وكان أكثر اجتماعنا ذلك الوقت بأستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده وبرهطه المعهودين؛ سعد أفندي زغلول وأخيه فتحي، والشيخ علي الليثي والشيخ عبد الكريم سلمان وإبراهيم أفندي اللقاني وحفني أفندي ناصف، والسيد أحمد محمود من الرحمانية، والسيد إبراهيم الوكيل من دمنهور، والشيخ علي يوسف لأول ظهور «المؤيد»، وأحمد زكي باشا الذي هو خاتمة من أتذكره من رجال تلك الحلقة، رحمهم الله أجمع. وكانت اجتماعاتنا متواصلة وأسمارنا متطاولة ومذاكراتنا للقاصي والداني شاملة، ولكننا لم نكن نسمع في ذلك الوقت بشخص يقال له «شوقي» ولا أحسسنا له ركزا.
ولما برحت مصر كان المرحوم الخديوي توفيق في الإسكندرية، فقال لي أستاذنا الشيخ محمد عبده: إنه لا يكون خطأ، إذا ذهبت إلى سراي رأس التين وودعت الجناب العالي الخديوي، ونظمت له بعض الأبيات؛ لأن من عادة الشعراء أن يتحفوا بشعرهم الملوك. وكان الأستاذ - رحمه الله - لا يرغبني في الشعر، وما عهدته أوصاني بنظم شيء إلا مرتين لا غير؛ إحداهما عندما طبعت ديواني المسمى «الباكورة»، وهو مجموع ما نظمته من سن الرابعة عشرة إلى السابعة عشرة من العمر، فلما اطلع عليه في بيروت قال لي لأبعث منه بنسخة إلى المرحوم عبد الله باشا فكري، وكان من أعز أصدقائه، وأن أبعث مع النسخة بأبيات تناسب المقام؛ فأرسلت نسخة من الباكورة إلى عبد الله باشا ومعها أبيات لا أتذكرها جميعا، وليست عندي الآن صورتها، وإنما أذكر منها ما يلي:
بذذت الناس في نظم ونثر
وفقت الخلق من بدو وحضر
فكيف يقوم عندك نزر شعر
يذيب الرعب منه كل شطر
ولما كان ديواني إذ ذاك خاليا تقريبا من الغزل والتشبيب أشرت إلى هذا المعنى بقولي:
جعلت القول في سيف ورمح
وعفت النظم في قد وخصر
فإني عاشق غرر المعالي
ولي نفس فداؤك نفس حر
إذا فكرت يوما في كلام
يكون بمدح «عبد الله فكري»
فتلقى عبد الله باشا - رحمه الله - «باكورتي» والأبيات التي تصحبها بأحسن قبول، وأجاب على الشعر بقصيدة من نظمه المنسجم المهلهل رقة وسلاسة؛ فهو يقول:
أتت تختال في حبر وحبر
على العشاق لا كبر وكبر
منعمة الشبيبة لم يرعها
مشيب في العذار أقام عذري
لقد وافت على سحر تريني
بدائع نظمها نفثات سحر
ألا حيا ربى بيروت عني
ولبنان الحيا منهل قطر
بدر يملأ الأرجاء درا
ويمزج ترب أرضيها بتبر
وحيا من بها ربي وحيا
زمانا مر فيها غير مر
وأظن هذه القصيدة منشورة في ديوان عبد الله باشا، وهو يشير إلى تجانفي عن العبث والتشبيب في أبيات أتذكرها:
وإن يلعب فما لعب بعيب
لعهد صبا وشرخ شباب عمر
ولكن تأنف الهمم العوالي
على رغم الصبا سفساف أمر
تحرم قرب أمر فيه إمر
وتوجب هجر كل مقال هجر
فأما المرة الثانية التي أشار فيها شيخنا بالشعر، فهي عندما ذهبت إلى الإسكندرية قاصدا السفر منها إلى الآستانة، فأوصاني أن أقدم إلى الخديوي توفيق أبياتا؛ فذهبت إلى رأس التين وقابلت المرحوم الخديوي توفيق ولم أنشده الأبيات، وإنما بعد الانصراف دفعتها إلى قلم المعية السنية، وما مضى يومان قبل أن أبحر إلى الآستانة حتى رأيت قصيدتي منشورة في جريدة الوقائع المصرية؛ أي جريدة الحكومة الرسمية، وقد كان الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان رئيسا لتحرير الوقائع، وكان له قلم سيال ونثر أشبه بالقطر إذا انثال، فانتهز هذه الفرصة وأورد بمناسبة القصيدة مقدمة أوسع فيها هذا الناظم ثناء وإطراء، وليس عندي محفوظا بكثرة ما تناثر من أوراقي بين المشرق والمغرب عدد الوقائع الذي فيه هذه القصيدة وإنما أذكر منها ما يلي:
أقول لنطقي اليوم إن كنت مسعدي
إذن أرق أسباب السماء بمصعد
وانظم من القول النفيس فرائدا
تنزل شعرى الأفق في شعر منشد
إذا أنا لم أوف المكارم حقها
من الشكر في سلك القريض المنضد
فلا شغفت لي بالمكارم مهجة
ولا عز آبائي ولا طاب محتدي
ولا بلغت بي رتبة من مكانة
أنال بها لقيا العزيز محمد
وأذكر علياه وذكر محمد
ألذ كلام قيل بعد التشهد
عزيز حمدت الدهر عند لقائه
ومن لقي التوفيق للسير يحمد
ولا غرو أن حنت لتقبيل كفه
على البعد نفس تلمس النجم باليد
وشاقت له رب الرقائق طلعة
لعمرك تذكي الشوق في قلب جلمد
ومنها:
لقد كف كف الدهر أصمت سهامه
قلوب بني الأيام من كل مقصد
ورد جماح الدهر بعد كروره
عليهم لعمري قاعدا كل مرصد
ومنها:
فدونكها يا غرة الملك غادة
تميس كخوط البانة المتأود
ومن رام من إدراك كنهك غاية
يجد غاية ما تدن للوصل تبعد
وآخرها:
وإني إذا أهدي العزيز مدائحي
أبوء بصدق القول غير مفند
وإلا فما حاولت إدراك غاية
بشعري ولا نظم القصائد مقصدي
أي لم أنظم هذا الشعر إلا للقيام بفرض الشكر على انعطاف الجناب الخديوي نحوي ولست باغيا على ذلك مكافأة، وبعد أن عرفت شوقي في باريس وتذاكرنا الشعر والشعراء وجدته معجبا بقصيدتي التوفيقية هذه، وقال لي: إنها تركت في ذلك الوقت رنينا في وادي النيل.
أول ما قرأت لشوقي
خرجت إذن من مصر في أواخر سنة 1890 وأنا لا أسمع بشاعر اسمه شوقي في مصر، وكنت أوانئذ أراسل جريدة الأهرام، وكان صاحب الأهرام يكاتبني كثيرا ويبني كثيرا من الآراء على ملاحظاتي وإذا أرسلت إليه بمقالة جعل عنوانها «لأحد الأفاضل السياسيين»، فإذا راجع القارئ أهرام سنة 1890 والتي بعدها وجد بقلم «أحد الأفاضل السياسيين» فصولا سياسية كثيرة، وبينما كنت أطالع الأهرام في ذات يوم وقع نظري على أبيات لامية في مدح الخديوي توفيق فيما أذكر قال عنها الأهرام إنها من نظم «أحمد أفندي شوقي»، ولما كان هذا الناظم مجهولا عندي لم أشأ أن أضيع وقتي بقراءة تلك الأبيات فلم أعلم منها كثيرا ولا قليلا، إلا أنه لم يطل الأمر حتى قرأت شعرا آخر لهذا الذي يقال له أحمد أفندي شوقي، فجربت هذه المرة أن أقرأه فلما قرأته لم أمجه ووجدته من الشعراء الذين يقال فيهم «من حقه أن تسمعه»؛ فقد قالوا كما لا يخفى:
الشعراء في الزمان أربعة
فشاعر يجري ولا يجرى معه
وشاعر ينشد وسط المعمعة
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر من حقه أن تصفعه
ولم يطل الأمر أيضا حتى قرأت لأحمد شوقي هذه القصيدة الآتية في مديح الجناب الخديوي:
إن الوشاة وإن لم أحصهم عددا
تعلموا الكيد من عينيك والفندا
لا أخلف الله ظني في نواظرهم
ماذا رأت بي مما يبعث الحسدا
هم أغضبوك فراح القد منثنيا
والجفن منكسرا والخد متقدا
وصادفوا أذنا بيضاء لينة
فأسمعوها الذي لم يسمعوا أحدا
لولا احتراسي من عينيك قلت ألا
فانظر بعينيك هل أبقيت لي جلدا
الله في مهجة أيتمت واحدها
ظلما وما اتخذت غير الهوى ولدا
وروح صب أطال الحب غرتها
يخاف إن رجعت أن تنكر الجسدا
دع المواعيد إني مت من ظمأ
وللمواعيد ماء لا يبل صدى
بالله رد على العباس شاعره
بنظرة واتخذها في الزمان يدا
من للعزيز يناجي روض نعمته
إن أسكت الدهر هذا الطائر الغردا
إلى آخر ما قال في ذلك اليوم. فتلوت القصيدة من أولها إلى آخرها ومن شدة ما طربت لها أعدت قراءتها مرارا، وعلمت أن هناك شاعرا مطبوعا وأيقنت أن في تلك المغارة أسدا، وصرت كلما عثرت على شعر لأحمد شوقي أتهافت عليه تهافت الظمآن على نمير الماء؛ لأني رأيت فيه الشاعرية بجميع شروطها: النسج الرقيق المتين، والأسلوب الرشيق الرصين، اللغة العربية الفصحى التي لا تؤتى من جهة والمعنى المتناهي في الدقة اللابس من اللفظ أجمل حلة، والانسجام المطرد من الأول إلى الآخر في سكب واحد وسبك متوارد، فعند ذلك حكمت بأن هذا الشاعر سيكون من شعراء العصر وإن لم أصل في الحكم إلى أنه سيكون أمير شعراء العصر، وأذكر الآن أني كنت اطلعت له على قصيدة قبل هذه في مدح الخديوي توفيق يهنئه فيها بشهر الصيام لم تكن أقل رقة وانسجاما من القصيدة الدالية المار ذكرها، وهي التي يقول فيها:
يا حسنه بين الحسان
في شكله إن قيل بان
كالبدر تأخذه العيو
ن وما لهن به يدان
ملك الجوانح والفؤا
د ففي يديه الخافقان
ومناي منه نظرة
فعسى يشير الحاجبان
فيها يزكي حسنه
من لا له في الحسن ثان
خلوه يعدل أو يجو
ر فإنه ملك العنان
حق الدلال لمن له
في كل جارحة مكان
يا أصغري بأي آ
لاء العزيز تكذبان
ملك يداه بالندى
لعفاته مبسوطتان
الناس تشترط الغنى
وعلى مكارمه الضمان
ماضي الإشارة والبدي
هة والعزيمة والجنان
قالت له الآباء كن
في المجد ما كنا فكان
ولمجده من نفسه
نجم تسامى عن مدان
وكذا معالي الملك تالد
ها بطارفها يزان
عوذت ملكك يا أبا ال
عباس بالسبع المثان
ملك بعدلك آمن
والعدل عنوان الأمان
مولاي حبك مذهب
من لا يدين به يدان
الناس فيه أئمة
وأبو حنيفتها الزمان
يا خير من شهد الهلا
ل وخير من سمع الأذان
بشراك بالشهر الذي
لك فيه عند الله شان
تسعى الموالي فيه مز
لفة لعلياك التهان
هذا هو السهل المني
ع فهل سمعت عن ابن هان
قدرته ووزنته
ونظمته نظم الجمان
وبعثته لك مدحة
تجلو مناقبك الحسان
آيات حمد فيك تر
جمها عن القلب اللسان
والله ما كذب الفؤا
د ولا أشط الترجمان
فعندما قرأت هذه القصيدة وجدتها من النوع المرقص الذي لا يقع نظر أديب عليه إلا اهتز طربا وراح نشوان، وكما قال هو عن نفسه كانت أبياته هذه من السهل الممتنع؛ أشبه بشعر البهاء زهير لو اندمجت في ديوانه، ولم يقل أحد لقارئ الديوان إنها من نظم شوقي لكانت حقيقة بشعر البهاء زهير لا تقل عنه شيئا، ولو سمعها الحسن بن هانئ لارتضاها لنفسه ولم يتكبر عليها. أما ابن هانئ الأندلسي الذي قال فيه المعري إن شعره أشبه برحى تطحن قرونا فإنه بعيد عن هذا الأسلوب بعد الشرق عن الغرب.
ومذ ذاك الوقت صرنا نترقب قصائد شوقي رقبة الصائم هلال العيد، ونعلم أنه سيكون الشاعر الذي يجري ولا يجرى معه، نعم كنت إلى ذلك الحين أرجح عليه محمود سامي البارودي ولا أرى أحدا يعلو علوه في المتأخرين، وقد يلز في قرن واحد مع أفصح المتقدمين.
اجتماعنا الأول في باريس
وبقيت لا أعرف شوقي معرفة شخصية إلى سنة 1892؛ إذ ذهبت من الآستانة إلى فرنسا قاصدا السياحة ومستشفيا من مرض طرأ علي، وكان أحمد شوقي يدرس علم الحقوق في مونبلييه وفي أثناء العطلة المدرسية جاء إلى باريس ومعه رفيق اسمه دلاور، فبينما نحن في الحي اللاتيني بحسب قولهم؛ إذ جمعتنا الأقدار وما عدت أتذكر كيفية اجتماعنا وتعارف بعضنا مع بعض، ولكن لم نجتمع حتى صرنا كأخوين، وغدونا نجتمع كل يوم مرة بل مرتين، وأكثر تلاقينا كان في مقهى يقال له مقهى داركور
Dharcourt .
ومن غريب الاتفاقات أننا في سنة 1926 تلاقينا أنا وشوقي - رحمه الله - في باريس، جاء فسلم علي في فندق ماجستيك؛ فذهبت أرد له السلام في فندق كان نازلا به في الحي اللاتيني، فسألت عنه فقيل إنه خرج إلى النزهة وإذا بهذا الأوتيل على مسافة مائة متر من مقهى داركور، وإذا بشوقي جالس هناك ومعه مطربه محمد عبد الوهاب، فجلست إليهما وأخذت أتأمل في دوران الدهر ورد العجز على الصدر؛ فقد كنت أول مرة عرفت فيها شوقي أجلس وإياه في هذا المقهى نفسه، ومضى على ذلك ستة وثلاثون حولا ولم نجتمع في باريس، فلما اجتمعنا إذ بنا من دون تعمد في هذا المقهى أيضا، فقلت لشوقي: أتدري كم سنة مضت على اجتماعنا في هذا المقهى؟ هذه ست وثلاثون سنة، وكان رحمه الله لا يرتاح إلى الأحاديث التي تذكره بالشيخوخة، فقال لي: تمسكك بهذه التواريخ لا أدري لم؟ فضحكت وعرفت أنه ضاق صدره من هذه الذكرى، وأنا قصدت أن أتذكر نعمة بقائنا طول هذه المدة ولقائنا من بعدها؛ هذا إذا كان طول العيش معدودا من النعم.
وفي أثناء لقائنا الأول كنا نتذاكر حول أمور كثيرة، ولكن أهم حديث كنا نخوض فيه هو الشعر، وكان مع شوقي ديوان المتنبي وكان يحفظ منه ولا شك أنه انطبع عليه وسيأتيك في هذا الكتاب فصل تعلم منه أنني شبهت شوقي بالمتنبي في دقة معانيه وكثرة أبياته الجارية مجرى الأمثال، وشبهت البارودي بأبي تمام في علو نفسه وفحولة نظمه، وشبهت حافظ إبراهيم بأبي عبادة البحتري في طلاوته وانسجامه. هذا وبقيت أنا وشوقي نتساقى كئوس الصفا ونتبادل عواطف الإخاء مدة شهر من الزمن إلى أن حان إيابي إلى الشرق فودعته وداع الأخ لأخيه وفارقته فراق الصفي لمن يصافيه. وقد علمت منه أننا في عمر واحد؛ فقد كنت سنة 1892 في الثالثة والعشرين من عمري وظهر لي فيما بعد من مقدمة ديوانه الجزء الأول أنه في سنة 1898 كان شوقي في سن الثلاثين، والحال أنني في تلك السنة كنت في التاسعة والعشرين؛ وعليه يكون شوقي أكبر مني بسنة أو بعدة أشهر. وأنا الذي أشار عليه بأن يجمع قصائده ويجعل منها ديوانا يسير في الأقطار، فسألني: وأي اسم أعطيه؟ فقلت له: سمه بالشوقيات؛ فنسبة هذا الشعر إليك هي عندي كافية. فلما جمع ديوانه أطلق عليه اسم «الشوقيات» كما أشرت عليه به، وقد ذكر - روح الله روحه - هذه القصة في ديوانه الطبعة الأولى سنة 1898، فقال:
جمعتني باريز في أيام الصبا بالأمير شكيب أرسلان وأنا يومئذ في طلب العلم والأمير - حفظه الله - في التماس الشفاء، فانعقدت بيننا الألفة بلا كلفة، وكنت في أول عهدي بنظم القصائد الكبر، وكان الأمير يقرأ ما يرد عليه منها منشورا في صحف مصر، فتمنى أن تكون لي يوما مجموعة، ثم تمنى علي إذا ظهرت أن أسميها «الشوقيات»، ثم انقضت تلك المدة فكأنها حلم في الكرى أو خلسة المختلس، أو هي كما قلت:
صحبت شكيبا برهة لم يفز بها
سواي على أن الصحاب كثير
حرصت عليها آنة ثم آنة
كما ضن بالماس الكريم خبير
فلما تساقينا الوفاء وتم لي
وداد على كل الوداد أمير
تفرق جسمي في البلاد وجسمه
ولم يتفرق خاطر وضمير
هذا أصل التسمية سبقت به إشارة لا تخالف، ودفعت إليه طاعة واجبة، وأنا بين هاتين هدف للقال والقيل يظن بي نسبة الأثر الضئيل إلى الاسم القليل.
ثم قال:
كانت وفاة والدي من نحو ثلاث سنوات، فكان لي عجبا أن وجدت بين أوراقه شيئا كثيرا من مشتت منظومي ومنثوري ما نشر منهما وما لم ينشر، قد كتب بعضه بالحبر والبعض الآخر بالرصاص، والكل خط يد المرحوم، وقد لفه في ورقة كتبت عليها هذه العبارة: «هذا ما تيسر لي جمعه من أقوال ولدي أحمد وهو يطلب العلم في أوروبا؛ فكنت كأني أراه، وأني آمره أن يجمعه ثم ينشره للناس؛ لأنه لا يجد بعدي من يعتني بشئونه، وربما لم يوجد بعده من يعنى بالشعر والآداب.» فبينما أنا ذات يوم تعب بهذه الأوراق حيران لوصية الوالد كيف أجريها زارني صديقي مصطفى بك رفعت، فحدثته حديثي فسألني أن أعيره الأوراق أياما ثم يعيدها إلي ففعلت، ثم لم يمض شهر حتى بعث بها إلي وإذا هي قد نسخت بقلم مليح يؤيده ذوق صحيح؛ بحيث لم يبق إلا أن تدفع إلى المطابع، فأخذتها وبودي لو وفيت صديقي المشار إليه حقه من شكر الصنيع، وأنا أقول في نفسي: لئن صدق أبي في الأولى لقد ظلم في الثانية؛ فإن الخير لا يزال في الناس.
انتهى كلام شوقي، وأنا أزيد على ذلك أن والد شوقي - رحمهما الله - قد أفرط في التشاؤم؛ فإن نابغة مثل ولده لا يمكن أن يهمل وأن يعدم من يعتني بشئونه، وإن لم يكن للمرء من يحنو عليه حنو والده فكم قام الأدب مقام الوالد، وقد قيل:
إن فاتنا نسب يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
وهذه الأبيات وتلك القصائد التي كان منها ما هو مكتوب بالحبر، وما هو مكتوب بالرصاص جاء وقت نسخها فيه ناسخ بخط مليح، ثم جاء وقت آخر يقال فيه: إن هذه القصائد التي كتبت بالحبر جديرة بأن تكتب بماء التبر. وهكذا رجال الدهر تنمو أقدارهم بطول الدهر.
صداقة ومكاتبات
وأعود إلى ما قاله شوقي من أنه تفرق جسمي وجسمه ولم يتفرق الضمير والخاطر؛ فقد صدق في هذه الأبيات وأحسن الشعر ما حكى الحال؛ فقد كرعنا من الوفاء بنمير، وتفارقنا ولم يتفارق خاطر وضمير، وبقينا أكتب له ويكتب لي وأبثه ما في نفسي ويبثني ما في نفسه وأداعبه ويداعبني ونتناجى على بعد الديار، ونتراءى بالقلوب لا بالأبصار، وكنت لا أجد أعز علي ولا أغلى لدي منه مع كثرة الأصحاب ووفرة الأتراب، وهذا ما ترجمه هو بقوله:
صحبت شكيبا صحبة لم يفز بها
سواي على أن الصحاب كثير
فقد كنت أحبه لعذوبة أخلاقه وحسن معاشرته وأجله لعلو فكره وبداعة شعره، وأجمع فيه بين الحب والحرمة، وما أسعد الإنسان إذا كان يحب من يحترم ويحترم من يحب! وما أصدق قول المتنبي:
ضروب الناس عشاق ضروبا
فأعذرهم أشفهم حبيبا
وإني أتذكر من جملة ما كان بيننا من النكات كتابا بعث به إلي من فرنسا ضمنه عدة جمل متتابعة؛ قلد في كل واحدة منها أديبا من الأدباء المعدودين حاكيا أسلوبه الخاص، وليس الكتاب - مع الأسف - محفوظا عندي ولا غيره من تلك المكاتبات، ولكنني أتذكر بعضه، فهو يقول: لم يتم له ما أراد من إيصال النفيعة إلى أبناء الجلدة «بكرية»، وقد مرق من ذلك مروق السهم من الرمية «شكيبية»، ثم ذكر جملة ثالثة ما عدت أتذكرها، وقال عنها «صبرية»، وجملة رابعة لم أعد أتذكرها ولا أتذكر من حاكى بها؛ والحاصل أنه في الجملة الأولى يشير إلى أسلوب السيد توفيق البكري الأديب المشهور، وفي الجملة الثانية إلى أسلوب هذا العاجز، وفي الجملة الثالثة التي نسيتها إلى إسماعيل صبري باشا، وهلم جرا.
وأرسلت إليه من بيروت صورتي الفتوغرافية، وكتبت تحتها:
لئن كنت أحمد شوقي إلي
فما زلت أحمد شوقي إليك
رعى لك قلبي ودادا به
أضن على الكل إلا عليك
وكنت أبعث إليه من فرنسا بكثير من حلاوات الشام، وأتلذذ على البعد بأن يتذوقها ويتلذذ بها، وكنت كلما قرأت له قصيدة من تلك القصائد الرنانة - لأن شعره بدأ يرن من ذلك العهد - تمتلئ جوانحي بها مسرة ونواظري قرة، وبقي ذلك ديدني معه إلى أن مات، لا أتلو له شعرا إلا كان لي سبب سرور، وإلى هذا أشرت بقولي في القصيدة التي نظمتها له بمناسبة يوبيله سنة 1927:
أقرأ قصائده فتملأ مهجتي
جذلا يزيل شجونها وعناءها
وأظل مغتبطا بها فكأن لي
دون الأنام ثناءها وسناءها
ومن نعم الله علي أنه عافاني من داء الحسد الذي قد يبتلى به الكثيرون لا سيما من رجال الأدب الذين لا يزال الواحد منهم يتعقب ويترقب حتى يجد لأخيه غلطة يبرد غلته بتكرارها وتنبيه الأفكار إليها. وأنا لم أكن حاسدا لشوقي ولا كافيا إياه حسدي ونفاستي وغصتي برفيع مقامه فحسب، بل كنت مفتخرا به فرحا بنبوغه سعيدا بعبقريته أجده من حسنات هذا الزمان الكبرى، ولا تتاح لي الفرصة للإتيان بذكره أو للاستشهاد بشعره إلا توردتها، وقد كان يبدو لي من كتبه إلي أن ذلك يروقه لا سيما عندما كان في أول ميدانه ولم يكن أحرز ما أحرزه فيما بعد من الشهرة الطائرة والزعامة القاهرة، وقد كان يفضي بما يشعر به من افتتاني به إلى خليله وخليلي معا شاعر القطرين وثالث القمرين خليل بك المطران، فكان الخليل يقول له: إن شكيب لا يحسدك ولا يحسد أحدا؛ ولذلك تراه دائما مفتخرا بك.
ولما نشرت كتابي في تاريخ الأندلس تذييلا على رواية «آخر بني سراج» للفيكونت شاتوبريان ختمت ذلك الكتاب بفصل في حالة الشرق وما آل إليه، واستشهدت لشوقي بأبيات ذكرت بمناسبتها أنه شاعر العصر وهي:
وذات دلال من بني الروم حولها
إذا ما تبدت إخوة سبعة مرد
عنيت بها حتى التقينا فهزها
فتى عربي ملء بردته مجد
فقالت أطيب بعد عسر وشدة
فقلت نعم مسك الأحاديث والند
عطلنا من النعمى وطوق غيرنا
تداولت الأيام وانتقل العقد
وما ضاعت الدنيا علينا وحسنها
ولكن عن أغصانه رحل الورد
معارضات
وكنت مع ذلك أعارضه في الأحايين؛ فإنه نظم مرة قصيدة لدى زيارته الأولى للآستانة وحلوله ضيفا كريما على السلطان عبد الحميد، فإنه قال يومئذ:
رضي المسلمون والإسلام
فرع عثمان دم فذاك الدوام
كيف يحصى على علاك ثناء
لك منك الثناء والإكرام
هل كلام العباد في الشمس إلا
أنها الشمس ليس فيها كلام
ومكان الإمام أعلى ولكن
بأحاديثه يتيه الأنام
إيه عبد الحميد جل زمان
أنت فيه خليفة وإمام
ما رأت مثل ذا الذي تبتني الأق
وام مجدا ولن يرى الأقوام
دولة شاد ركنها ألف عام
ومئات تعيدها أعوام
وأساس من عهد عثمان يبنى
في ثمان ومثلهن يقام
حكمة حال كل هذا التجلي
دونها أن تنالها الأفهام
يسأل الناس عندها الناس هل في الن
اس ذو المقلة التي لا تنام
أم من الناس بعد من قوله وح
ي كريم وفعله إلهام
صدق الخلق أنت هذا وهذا
يا عظيما ما جازه إعظام
شرف باذخ وملك كبير
ويمين بسط وأمر جسام
عمر أنت بيد أنك ظل
للبرايا وعصمة وسلام
ما تتوجت بالخلافة حتى
توج البائسون والأيتام
وسرى الخصب والبهاء ووافى ال
بشر والظل والجنى والغمام
وتلقى الهلال منك جبين
فيه حسن وبالعفاة غرام
فسلام عليهم وعليه
يوم حيتهم به الأيام
وبدا الملك ملك عثمان من عل
ياك في الذروة التي لا ترام
يهرع العصر والملوك إليه
وبنو العصر والولاة الفخام
هكذا الدهر حالة ثم ضد
ما لحال مع الزمان دوام
ولأنت الذي رعيته الأس
د ومسرى ظلالها الآجام
أمة الترك والعراق وأهلو
ە ولبنان والربى والخيام
عالم لم يكن لينظم لولا
أنك السلم وسطه والوئام
هذبته السيوف في الدهر واليو
م أتمت تهذيبه الأقلام
أيقولون سكرة لن تجلى
وقعود مع الهوى وقيام
ليذوقن للمهلهل صحوا
تشرف الكأس عنده والمدام
وضع الشرق في يديك يديه
وأتت من حماته الأقسام
بالولاء الذي تريد الأيادي
والولاء الذي يريد المقام
كيف تهدى لما تشيد عيون
في الثرى ملؤها حصى ورغام
مقل عانت الظلام طويلا
فعماها في أن يزول الظلام
قد تقوم النفوس في الضيم حتى
لنرى الضيم أنها لا تضام
أيها النافرون عودوا إلينا
ولجوا الباب إنه الإسلام
غرض أنتم وفي الدهر سهم
يوم لا تقعد السهام السهام
نمتم ثم تطلبون المعالي
والمعالي على النيام حرام
شر عيش الرجال ما كان حلما
قد تسيغ المنية الأحلام
ويبيت الزمان أندلسيا
ثم يضحي وناسه الأعجام
عالي الباب هز بابك منا
فسعينا وفي النفوس مرام
وتجليت فاستلمنا كما للن
اس بالركن ذي الجلال استلام
نستميح الإمام نصرا لحلمي
مثلما ينصر الحسام الحسام
فلحلمي وآله والرعايا
بك يا حامي الحمى استعصام
يشهد الله للنفوس بهذا
وكفاها أن يشهد العلام
وإلى السيد الخليفة نشكو
جور دهر أحراره ظلام
وعدوها لنا وعودا كبارا
هل رأيت القرى علاها الجهام
فمللنا ولم يك الداء يحمي
أن تمل الأرواح والأجسام
يمنع القيد أن نقوم فهل تا
ج فبالتاج للبلاد قيام
فارفع الصوت إنها هي مصر
وارفع الصوت إنها الأهرام
وارع مصرا ولم تزل خير راع
فلها بالذي أرتك ذمام
إن جهد الوفاء ما أنت آت
فليقم في وفائك الخدام
وليصولوا بمن له الدهر عبد
وله السعد تابع وغلام
فاللواء الذي تلقوا رفيع
والأمور التي تولوا عظام
من يرد حقه فللحق أنصا
ر كثير وفي الزمان كرام
لا تروقن نومة الحق للبا
غي فللحق هزة وانتقام
إن للوحش والعظام مناها
لمنايا أسبابهن العظام
رافع الضاد للسها هل قبول
فيباهي النجوم هذا النظام
قامت الضاد في فمي لك حبا
فهي فيه تحية وابتسام
إن في يلدز الهدى لخلالا
أنا صب بلطفها مستهام
قد تجلت لخير بدر أقلت
في كمال بدت له أعلام
فالزم التم أيها البدر دوما
والزم البدر أيهذا التمام
وهذه القصيدة غير خالية من أبيات فيها غموض وأخرى فيها تعقيد، ولكنها على كل حال عامرة بشوارد الأبيات، وشوقية كسائر الشوقيات وفيها درر يتائم، وألفاظ كسجع الحمائم، ولما طالعتها نظمت من البحر والقافية:
هل لسان أقواله الإلهام
أم بيان آياته الأحكام
فتباري الألفاظ شأو المعاني
ويوفى حق الثناء الإمام
الذي شرفت خلافته الأر
ض فحف البرية الإكرام
وغدت لهجة الثناء عليه
مثلما دام للصلاة إقام
قعدت نهضة البلاغة عنه
ودنت عن خياله الأوهام
قعس في الصفيح من أطلس العز
تهاوت من دونه الأفهام
إنما وصفه على فاتح الأف
كار في الذروة التي لا ترام
كل طرف للفكر عنه كليل
كل طرف للجري فيه كهام
قصر الوصف دون من يفضح الوص
ف وعند الفعال يخفى الكلام
ينبذ الشعر والشهود الرياضي
ات عدا والحجة الأرقام
إن ما سال في ثناه يراع
لا كما سح من يديه غمام
وفعال الضرغام أوقع في النف
س من القول إنه الضرغام
كل يوم له صنائع تترى
في البرايا لباسهن الدوام
تكفل الناس مثلما يكفل الغب
راء غيث له عليها انسجام
طوق الخلق جوده ونداه
فهي في مدحه لعمري حمام
وجدير أن تنطق الطير والوح
ش فيتلو الصداح فيه البغام
نسخت عنده الملوك وأمسى
خبرا من أخبار كان الكرام
ما رأى مثله الزمان عظيما
صبية عنده الرجال العظام
جاء من ضئضئ الخلافة فردا
هو من معشر الملوك السنام
فرع عثمان وكفى المجد والأح
ساب والمكرمات والأحلام
دولة حجة الزمان على الخل
ق بها دون مرية إلزام
ليس للشرق غيرها فبنو المش
رق طرا بدونها أيتام
قد أقامت سرادق العز يعلي
ه الوشيج الرماح والأقلام
فوقه راية الهلال منيرا
يدبر الظلم عندها والظلام
ينضوي تحتها النقاد مع الأس
د وترعى الذئاب والآرام
مجد عثمان ليس غيرك مجد
كل مدح من دون مدحك ذام
لم تزل شامخا بأنف عزيز
ولكم أعطس الملوك الرغام
لا ترى دولة هزالا وضعفا
حولها المسلمون والإسلام
وعلى رأسها خليفة عصر
دهره تابع له وغلام
لم يزل قائما لديه بأبوا
ب عليهن للجباه ازدحام
حيثما تهطع الملوك وتعنو
تحت تيجانها الطلى والهام
موقف تخشع النواظر فيه
وتسوى الرءوس والأقدام
قد حباه عثمان أسا متينا
مثل البيت عنده والمقام
شاب فرق الزمان وهو مكين
وتخطت مئاتها الأعوام
وغدا آلفا سهام الليالي
فلذا لا تنال منه السهام
إيه عبد الحميد إن زمانا
أنت فيه عباسه بسام
أوله نصرك العزيز وأيد
وارو مصرا له إليك أوام
أشخصت نحوك العيون حيارى
أمم الخافقين والأقوام
وتصبى القلوب منك خلال
يحرم العشق دونها والهيام
أقبل العصر يرتجيك وفي اليم
نى كتاب وفي الشمال حسام
حبذا الدولة التي صار فيها
توءمين العلوم والأعلام
هو ذا الشرق في حماك لك الأم
ر جميعا وفي يديك الذمام
هزه هزة تثوب بها الرو
ح وتحيا الآمال وهي رمام
أرهف الحد للخطوب فما ين
فع مع هذه الليالي احتشام
لم تزل أرضنا مآسد بالله
ومأوى رجالنا الآجام
إن للشرق هبة بعد نوم
أزعجته خلالها الأحلام
هبة تبعث الحمية في النا
س كما يبعث الخمار المدام
يسأل الغرب عندها الشرق هل جا
ءك روح تحيا به الأصنام
ترسل الكهرباء فيها شعاعا
ويرى للبخار فيها ركام
وتشب النيران في كل أرض
فتعود النيران وهي سلام
إنما تثلج الصدور بسلم
حينما يوقد الصدور ضرام
يا إمام الهدى هنيئا وأولى
أن يهنى بالعيد عنك الأنام
إن أحاول على علاك ثناء
فهو مما قضى علي الذمام
أو أعارض فتى القريض فما عا
رض ورد الحدائق القلام
ذا مجال رضيت فيه من السب
ق بعزم لم يثنه الإحجام
وإذا كان بدع وصفك سمطا
جاء عفوا من القريض النظام
إن يوما به الجلوس تجلى
هو يوم خدامه الأيام
كفر الدهر فيه عن كل ما جر
فلم يتجه عليه ملام
جاء ختما لطارقات الليالي
فاختلافاتها إلينا لمام
ليس يلحى على أواليه عصر
بمعاليك طاب منه الختام
ولم أجاذب أخي شوقي الحبل إلا في هذه القصيدة، ولم أنس أن أشير فيها إلى المعارضة معترفا بأن الدر لا يعارض بالحصى، وذلك عند قولي:
أو أعارض فتى القريض فما عا
رض ورد الحدائق القلام
وقد وجد مع هذا من رجح قصيدتي على قصيدته، ومنهم الشاعر الأديب داود بك عمون الذي صار فيما بعد الحرب رئيسا لحكومة لبنان، وهو من أترابي في السن، وقد تذاكرت وإياه في موضوع هذه المعارضة، فرأيته يستحسن قصيدتي على قصيدة شوقي، فقلت له وأين أنت من قوله:
ما كلام الأنام في الشمس إلا
أنها الشمس ليس فيها كلام
فقال لي: وأنت جعلت بإزاء هذا البيت قولك:
وفعال الضرغام أوقع في النف
س من القول إنه الضرغام
وعلى كل حال فلست أدعي سبق شوقي في هذا الميدان، وأنا الذي أقول فيه في القصيدة التي قلتها في يوبيله:
وفرت يا شوقي السباق على الورى
برئاسة بات السباق وراءها
تتقطع الأعناق عن إدراكها
حتى الأماني لا تحوم إزاءها
ولكن مما لا مرية فيه أنني أنا منذ أيام الشباب قلما نظمت الشعر رغبة فيه ونزوعا مني إلى الاتصاف بالشاعرية بعكس النثر الذي كان أبدا مرمى آمالي ومطمح خيالي. وسألني مرة إبراهيم بك المويلحي الكاتب المشهور عندما اجتمعنا في الآستانة سنة 1890 فقال لي: أيهما أفضل عندك النظم أم النثر؟ فأجبته: لا مقايسة عندي بينهما، إني أفتخر بأن أكون كاتبا وأستحي من أن أكون شاعرا. فاستحسن المويلحي هذا الجواب الذي لا شك أني بالغت فيه، ولكنه كان يعرب عن ذات صدري؛ لأنني طول حياتي لم أحاول أن أكون في الشعر سباق غايات وطلاع أنجد على حين أني كنت أرى منتهى السعادة في الدنيا في أن أكون من الكتاب المعدودين، وقلما نظمت الشعر انبعاثا من نفسي وإطاعة لمجرد خاطري، فليس لي على هذا الوجه إلا قصائد معدودات، وكل ما عدا ذلك من شعري إنما نظمته قياما بواجب أو امتثالا لرسم أو نزولا عند رغبة؛ ولهذا تجد أكثر شعري مراثي للأصحاب أو للأعلام الذين لا مناص من رثائهم، وسيظهر ديواني قريبا إن شاء الله، فيقف القراء منه على تحقيق كلامي هذا.
صنعة الشعر وإبداع شوقي فيها
ومن المعلوم أن صاحب الصنعة إنما يتقدم فيها إذا كان راغبا لا متكلفا ومغرما لا متبرما، وكان مجتهدا أن يبدع فيها لأجل الإبداع ولأجل سبق غيره من الصناع، فأما شوقي فكان كله شعرا قد وقف نفسه على هذه الصنعة؛ لا يهمه أن يتقن غيرها وصارت له غراما؛ فهو آناء ليله يفكر في الشعر، وأطراف نهاره يستنبط المعاني الغريبة، وكلما عن له معنى قيده، وكلما انفتق في ذهنه مرمى أحرزه وهيأ له قالبا رائعا حتى إذا جاءت أول فرصة أودعه إياها.
ومن أهم ما يغفل عنه الناس، وهو من أحق الحقائق أن نفوس الأدباء لها أوقات صفو وأوقات كدر، وأنها في أوقات الصفاء قد تبرم قوانين وتخلق معاني لا تتأتى لها في جميع الأحايين. وربما لاح في فكر الأديب خاطر في إحدى السويعات لو استرسل فيه لأتى فيه بالعجائب، على حين أنه إذا نشده في وقت آخر وحاول أن يستأنف ما كان يلوح له في ساعة الصفاء لوجد زنده فيه صلدا، ورأى أنه يهيب بتلك الخواطر السابقة فلا تجيبه، ويطمع أن يقتنص تلك الشوارد التي كانت بين يديه، فإذا هي الآن لا تطيعه ومنها ما ذهب غير معاود، ومنها ما عصى غير مقرن؛ ولذلك كان يجب على الأديب شفاف الطبع أنه إذا عن له في سويعات الصفاء معنى مبتكر أو خاطر شريف ووجد هذا الموضوع منثالا عليه أن يسرع إلى قيده أوابده، ويأخذ القلم فيحرره، وإذا كان شعرا نظمه وإذا كان نثرا دبجه حتى لا يفوته فيما بعد؛ فإن الأفكار من جملة حظوظ الدنيا تهب أحيانا وتركد أحيانا، فإذا هبت مرة وجب اغتنامها ولم يجز إهمالها على نية أن يعاد إليها مرة أخرى، وإن الأفكار نظير الأقدار ليس في مقدور الكاتب أو الشاعر أن يجيدها كل حين، وقد تفيض على الرءوس أشعة إذا ولت تعذر استردادها. فاللبيب اللبيب هو الذي يقتنص الشاردة لأول سنوحها ولا يدعها تذهب على أمل أنه يصطادها فيما بعد فإنها إذا شردت قد تفوت، والفلاة طويلة عريضة، فلا يحيط بها الصائد ولا تطوى له كيف يشاء.
وقد كان شوقي ممن يقيد الشوارد ولا يدعها تفوت، وممن يقف في المظان التي تختلف فيها الطرائد فكلما عن سانح رمى بسهمه، فلهذا عظم توفيقه في الصيد، وجاء بما لم يجئ به غيره، ولم يقل لنفسه في وقت من الأوقات: دعينا من هذا الآن؛ لأن لنا ما يشغلنا عنه وسنعود إليه في ساعة أخرى، بل كان المعنى المبتكر هدفا له كيفما عن وأنى عرض، فلا يكاد يتراءى له شيء إلا وتر قوسه وفوق سهمه.
وهكذا ينبغي أن يكون الشاعر إذا أراد أن يجيد وأن يقول فيه الناس: من ذا قالها؟ ولا يجوز للشاعر أن يجعل السياسة أو الاقتصاد أو الصناعة أو الفقه أو شيئا آخر من مناحي الحياة فوق الشعر، بل ينبغي أن يكون الشعر هو غرضه الأول، وأن تدور حياته من حوله، فجميع المشاغل تكون له فضلة ويكون الشعر هو العمدة؛ ولهذا قال خليل مطران: إن شوقي كان يفكر في الشعر قاعدا وقائما وحاضرا وباديا وسائرا وساريا وفي المركبة وماشيا إلى غير ذلك؛ فقد قام نحو الشعر بالواجب الذي لم أقم به أنا ولا غيري ممن جعل الشعر فضلة عمله ولم يقله إلا عند الضرورة. قد أعطى شوقي نفسه للشعر، فأعطاه الشعر ما لم يعط غيره في هذا العصر.
انصراف شوقي إلى الشعر
هذا، وكان شوقي متصلا بخدمة سمو الخديو السابق، ومنذ بداية نبوغه لقبوه بشاعر الأمير، فصار ذلك اللقب باعثا له على زيادة الاجتهاد وفرط الارتياد حتى تكون مكانته الشعرية متناسبة مع المقام العالي الذي يخدمه بشعره، وبعبارة أخرى من حيث قيل له شاعر الأمير آلى على نفسه أن يكون أمير الشعراء، فانصرف بكليته إلى الشعر حتى تعطيه الإجادة قيادها، ويعلم العزيز سيده أنه إن كان هو سيد الأمراء، فإن شاعره سيد الشعراء، وأن هذا المقام الذي يشغله شوقي برسمه يشغله أيضا بنظمه. فإذا لزم أن يكون شاعر الأمير سباق الحلبة ومقدام العصبة فإنه لكذلك، وإن سليقته قبل وظيفته. وقد كان هذا الحرص منه على إفهام سيده أنه الشاعر الذي لا يشق له غبار، والذي اتفقت على تقديمه الأقطار، هو الذي يدعوه أن يكون أبعد من غيره نجعة وأوسع فتوحات عقلية، فلا يقول الشيء الذي يقوله سائر الناس. فكان يقضي معظم أوقاته في تجويد نظمه وتسديد سهمه في تعمير صدره بالمعاني العالية، وشحذ خاطره بالمرامي الدقيقة والأغراض السنية حتى صار ذلك خلقا له غير منفك عنه، وصار إذا قال كلمة سارت في الآفاق وتطاولت إلى قراءتها الأعناق وبذخ فيها على الشعراء بالاتفاق. وأظن أن أصوب آراء شوقي هو أنه لم يرد أن يكون شيئا غير شاعر كبير لا يقال لسيده إنه يوجد في غير المعية السنية من هو أشعر منه. فكان طبع شوقي ظرفا لا يسع مع الشعر حاجة أخرى.
ولم يخلط شوقي الشعر بالسياسة ولا التجارة ولا الفقه ولا الإدارة ولا الزراعة ولا عمل من الأعمال الأخرى التي يتعاطاها الناس وكثيرا ما قرنوا بعضها ببعض فأخذ العمل الواحد من قوة العمل الآخر. وقلما زاول الإنسان عملين إلا غلب أحدهما عليه أو قصر في الاثنين، وقد علم شوقي بثقوب فكره أنه إن حاول أن يكون سياسيا عظيما أو إداريا ماهرا أو زراعيا متقنا أو اقتصاديا مدققا سلبت عنايته بمهنته هذه من ملكته الشعرية بمقدار انصرافه عنها إلى غيرها، فقصر عن إدراك الأمد الأقصى الذي لم يزل مطمح نظره في الشعر، وقعد عن الرتبة الأدبية اللائقة بمن يقال له شاعر الأمير وأمير الشعراء. وكما أن لقب شاعر الأمير وأمير الشعراء كان يزيد شوقي نفاذا في صنعته وصقالا لقريحته، كان يكسوه أيضا أمام الناس بهاء يستمده من منصبه، ويلمع عليه بسبب حظوته عند الجناب العالي، فكان كل من لقبه وأدبه عونا للآخر.
القول في مدح الأمراء والملوك
وقد عاب بعضهم على شوقي قضاءه عمره في مدح الأمير ومدح السلطان والإشادة بذكر ذوي السلطة، وربما عابونا نحن أيضا لمثل ذلك وغمزوا بالكثيرين الذين وقفوا أشعارهم على مدح الأمراء والملوك وزعموا أن في ذلك دليلا على طلب الزلفى أو التماس الجائزة.
والجواب على ذلك يحسن بنا أن نوضحه إيضاح من لا يبقي عليه ظلمة الإبهام وهو: جرت عادة الملوك والأمراء سواء في الشرق أو في الغرب من قديم الزمان أن ينتدبوا لأنفسهم رهطا من الفصحاء من شاعر مفلق وكاتب مبرز وخطيب مفوه ونديم مطرب، وأمثال هذا الضرب من ذوي المواهب العقلية الوافرة والحظوظ الأدبية الراجحة؛ يشيدون بذكرهم في المحافل بالقصائد الشوارد أو بالخطب الأوابد أو بالمناشير الصادرة كعقود الفرائد مما يزيد في وقار الملك وسنام العرش وحرمة الرعية للراعي، ويلقي على الأفعال أقوالا تزيد في بهائها وتضاعف من بقائها؛ إذ لا يوجد مثل الشعر والنثر تقييدا للمآثر وتخليدا للمفاخر؛ فالشاعر الذي يتصل بملك من الملوك أو أمير من الأمراء سواء في شرق أو غرب لم يكن يجد من الغضاضة في شيء التغني في مدح سيده، حتى لو لم يكن أهلا لكل ذلك الإطراء؛ لأن مثل هذه الطبقة من الشعراء والأدباء يذهبون إلى أن الكلام إنما هو للمقام لا للمقيم، وأن المقام إنما هو رمز الأمة وعنوان الملة، ثم قد شاءت الأقدار في أخريات الزمان أن يدخل الضعف على الدول الإسلامية بأجمعها وأن تغلظ شوكة الأجانب الغربيين بين أيديها ومن خلفها وأن تحيط بكثير منها وتأخذ على أيدي ملوك الإسلام، فلا تبقى لهم سوى الرسوم والألقاب ويتغلغل نفوذ الأجانب في هذه الحكومات المغلوبة على أمرها فتصير الأمة التي في مثل هذا الموقع وقد أخذ الأجانب بخناقها تتطلع إلى أميرها الأصلي وتعزز من مقامه وتضاعف من إجلاله ؛ بناء على أنه هو رمز استقلالها الوحيد، فالمبالغة في إجلال هذا الرمز إنما هي المبالغة في حفظ الاستقلال نفسه.
فعندما يهتف شوقي ومن في نمطه بتلك القصائد الرنانة؛ إما في مدح عزيز مصر أو في مدح الخليفة الأعظم، فإنما هو في الحقيقة يشيد باستقلال مصر في وجه الأجانب الطامعين المستأثرين بالأمر، وعندما يرسل كلماته الخالدة في مديح السلطان الخليفة فإنما يقدس مقام الخلافة العزيز على المسلمين، الناظم لشملهم، القائم في وجه عدوهم. فليس في هذا المذهب ما يدل على سلوك طريق التزلف كما يظن من لا يدقق في أسرار الأمور، ولكنها الصارخة القومية والنزعة الإسلامية، والنضح عن حوض الخلافة، والذود عن بنيان السلطنة، وهذا أشبه شيء بالدعاء الذي يقال في الجوامع نهار الجمعة استنزالا من عند الله لنصر سلاطين الزمان الحافظين لكيان الأمة في الداخل والخارج، وليس هذا الدعاء خاصا بأشخاصهم وإنما هو للمقام الذي يتبوءونه، لا يزال الخطيب يدعو لهم حتى إذا زال الواحد منهم عن كرسيه دعا لخلفه. ولا يقال في مثل هذه الحالة إن خطباء الجوامع متزلفون، وإنهم لذلك ليسوا على شيء من حرية الفكر. فالكلام هنا راجع كله للدولة مقصود به مجد الأمة وليست هنا الأشخاص هي القصد من الرسوم، وأيضا فإن هؤلاء الملوك والأمراء يبرون شعراءهم ويغمرونهم بالنعم الجسام ويحسنون إليهم بأنواع الإحسان والنفوس مطبوعة على حب من أحسن إليها، وقد قال المتنبي: ... ... ... ... ...
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
فلا عجب أن يكون أحمد شوقي قد قال في الخديوي السابق القصائد التي سارت في البلاد وترنم بها الحاضر والباد، وقال مثلها وأحسن منها في السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين الذي بمديحه تطيب نفوسهم وتهتز أعطافهم. ويزيد هذا البرهان ظهورا أنه لم تكن تقع حرب تظهر فيها قوة الدولة ويتلألأ مجد الملة إلا وجدت شوقي قد جاء يجر جحفل فصاحته ويرفع لواء بلاغته، كما نظم في حرب الدولة مع اليونان تلك القصيدة الباقية التي بذ فيها شعراء العالمين وساوى فيها شعر المتقدمين، وسنذكر فيما بعد ما يأخذ بالألباب منها. •••
ولقد درت درر شوقي في مديح الخديوي السابق بخيرات وشت بروده وكفته مئونة العيش الأبله، فما من شعر اخضر له رعي وأورق له غصن كشعر شوقي، وهذه هي عائلته تتقلب ولله الحمد في النعماء التي أثلها شعره.
وأما أنا فقد كان أكثر فراري من الشعر خشية أن يظن بي مزاولته تكسبا لا تأدبا؛ وذلك لكثرة الشعراء الذين سلكوا تلك الشعاب فكنت إذا مدحت السلطان فإنما أمدحه لأجل أمتي التي هو سلطان عليها، وكنت أنشر قصيدتي في الجرائد ولا أقدمها إلى الحضرة السلطانية، وفي إحدى المرار عندما كنت في ريعان الصبا نظمت قصيدة واستنسختها بخط أنيق وموهتها بالذهب وقصدت تقديمها للمابين الهمايوني كما كان يقال، ثم عدلت عن ذلك واكتفيت بنشرها في الجرائد، وقد سبق أني لما أشار إلي الأستاذ الإمام بأن أنظم شيئا للخديوي محمد توفيق - رحم الله الاثنين - نظمت تلك القصيدة الدالية التي تقدمت في رسالتي هذه ولم أغفل أن أختمها بهذين البيتين:
وإني إذا أهدي العزيز مدائحي
أبوء بصدق القول غير مفند
وإلا فما حاولت إدراك غاية
بشعري ولا نظم القصائد مقصدي
وهذا حرصا مني على ألا يفهم الخديوي رغبة مني في المكافأة، وفي هذا مني نظر إلى قول أحد شعراء الأندلس، وكان من أبناء البيوتات:
وما أنا بالباغي على الشعر رشوة
أبى ذاك لي جد كريم ووالد
وأني من قوم قديما وحادثا
تباع عليهم بالألوف القصائد
عفة لسان شوقي وبعده عن الهجاء
ولنعد إلى أوصاف شوقي الشعرية، فنقول: إنه وإن كان أسرف في المديح وفي مديح أمير بلاده خاصة، فلم يلوث شعره بالهجاء، ولم أسمع له قصيدة يهجو بها أحدا، قد عصمه الله من ذلك، فإن من أقبح ما قبح سمعة الشعراء وجعل الخلق ينظرون إليهم بشيء من الريبة، أن كثيرا منهم رتعوا في لحوم الناس وسيروا المثالب التي قد تكون بلا أصل، أو يكون لها أصل ضعيف ولكن الناس حفظوها وتدارسوها لبداعة قوالبها خلفا عن سلف، حتى انتهى الأمر بأن صدقوا فحواها وصارت في نظرهم وقائع تاريخية. فلو كان شوقي شتاما مقذعا مع ما أوتي من الإجادة لكان ثلم أعراضا وخلد مقابح وأورث أحقادا وقيد فضائح، وكان هجا نفسه بهجوه لغيره، وما أصدق هذه الجملة: الإناء ينضح بما فيه. فعفة لسان شوقي وتنكبه طريقا طالما سلكها شعراء كبار وصغار ومتوسطون هذا دليل على زكاء طبعه وفرط حيائه وأيضا رجاحة عقله وأصالة رأيه، فكم أحدث الشعر من فتنة وأراق من دم وأحرج من جماعة وحرم العالم من نعمة، وأية نعمة كانت أعظم من شعر المتنبي الذي كانت حياته كلها أقوالا عبقرية آخذا بعضها برقاب بعض، ولكنه برغم جميع حكمه الاجتماعية وآرائه الفلسفية لم يتنبه إلى ما في الهجو من الاستهداف للمقت والتعرض للهلكة، فقال من الأقوال الصغار ما يخالف تلك الحكم التي تفرد بها وأسف في الهجو إسفافا يحار العقل لصدوره من مثله، وانتهى بأن ذهب فريسة إقذاعه، وكل يعلم أن قصيدته المسخوطة التي أولها:
ما أنصف القوم ضبه
وأمه الطرطبه
قد كانت سبب قتله على يد فاتك الأسدي خال ضبة الذي انتقم لشرف أخته وحرم الناس مواهب تلك النفس العظيمة في إبان إجادتها وأوج مجادتها، ونكتفي بهذا المثال عن الأمثلة الكثيرة التي كانت مآسي في تاريخ العرب، وجراحات اللسان ليس لها التآم، فمن محاسن شوقي التي يجب أن تذكر وتؤثر أنه لم يستمطر عارض خاطره في تقييد شنعاء أو تخليد صلعاء، وما أجدره بقول نصيب الشاعر: ما قلت بيتا قط تستحي الفتاة الحيية من إنشاده في ستر أبيها. كان شوقي عفا طاهر اللفظ صافي النفس تنعكس على مرآه نفسه النقية المحاسن دون القبائح، وكان لا يسلم من الحسد والمنافسة ومثله من يحسد ويغص بمكانه، ولكنه كان يمر باللغو كريما وبالحسد عظيما وكأنه يرى نفسه فوق أن يزاحم ويجد شوطه أبعد من أن يسابق فيعف عن قدرة ويتواضع عن أنفة، وقد صدق حيث قال:
فلا حكمتي دعوى ولا منطقي هوى
ولا مبدئي لؤم ولا قلمي وغد
جعلت مديحي آية الود في الورى
فجاب به الدنيا وما انتقل الود
قواف لرب الشعر لا النظم طائل
إذا هي سارت في البلاد ولا النقد
يهذبها العلم الذي العلم بعضه
وهذا البيان الوحي والفطنة الوقد
أوانس أحيانا شوارد تارة
لها لعب آنا وآنا لها جد
وما قال هذه الأبيات إلا على أثر قالة بلغته، وهذه كانت غاية ما ثار ثائره، ويجوز أن يكون وقع له غيرها، ولكني لم أطلع على ذلك بمكاني من بر الشام والمصريون أدرى بهذا مني، وأنت ترى أن في تعريفه هذا بمن ينافسه أو يحاول الغض منه ما لا يجد فيه قائل مقالا.
وقد كان يتجنب أيضا المساجلات والمناقشات في شعره؛ فلا يهاجم ولا يهاجم، وربما نيل منه في غيابه ولكنه كان يقابل بالسكوت، ولعل سكوته هو لما تقدم من ثقته بنفسه وشعوره بأنه الصخرة التي ينحط عنها السيل، وربما لو ذهب في المناقضات مذهب الغابرين لكان أتى ببدائع أبقاها عزوفه عن هذا الأمر ملفوفة في غلافها مكنونة في أصدافها، فقد قرأنا فعلمنا أن الشعراء المفلقين إنما يحلقون في سماء الفصاحة عندما يناقض بعضهم بعضا، انظر على سبيل التمثيل قول رماح بن ميادة يمدح قيسا ويفتخر بها ويهجو تميما وأسدا:
وأحقر محقور تميم أخوكم
وإن غضبت يربوعها وربابها
ألا ما أبالي أن تخندف خندف
ولست أبالي أن يطن ذبابها
ولو أن قيسا قيس عيلان أقسمت
على الشمس لم يطلع عليكم حجابها
إذا غضبت قيس عليك تقاصرت
يداك وفات الرجل منك ركابها
وإن غضبت من ذا قريش فقل لها
معاذ الإله أن أكون أهابها
وإني لقوال الجواب وإنني
لمفتخر أشياء يعيي جوابها
فأجابه عبد الرحمن بن جهيم الأسدي:
لقد كذب العبد ابن ميادة الذي
ربا وهو وسط الشول تدمي كعابها
أرماح إن تغضب صناديد خندف
يهج لك حربا قصبها واعتيابها
ولو أغضبت قيس قريشا لجدعت
مسامع قيس وهي خضع رقابها
لقد جر رماح بن واقصة الخصي
على قومه حربا عظيما عذابها
وقد علم المملوح بالشؤم رأسه
قتيبة أن لم تحم قيسا غضابها
ولو أن قيسا قيس عيلان أصحرت
لأنواء غنم أغرقتها شعابها
ولو أن قرن الشمس كان لمعشر
لكان لنا إشراقها واحتجابها
ولكنها لله يملك أمرها
بقدرته إصعادها وانصبابها
لعمري لئن شابت حليلة نهبل
لبئس شباب المرء كان شبابها
ولم تدر حمراء العجان أنهبل
أبوه أم المري تب تبابها
ووالله لولا أن قيسا أذلة
لئام فلا يرضى لحر سبابها
لألحقتها بالزنج ثم رميتها
بشنعاء يعيي القائلين جوابها
لا جرم أن في هذا الشعر، سواء من المهاجم أو المدافع من جزالة اللفظ وبلاغة التأثير وعلو النفس وقوة الطبع، ما يندر أن يكون في شعر شاعر، وقد كان يلذ للقارئ ويحلولى في ذوق السامع ويستعاد مرارا لولا ما في جواب الشاعر الأسدي من المقاذر، ولو أنهم كانوا اقتصروا على المفاخرة والمعاتبة لكان بهم أحجى، ولهم أنجى، وبالأفئدة أعلق، وبزكاء شمائلهم أنطق، وعلى كل حال لم يعلم ماذا كان يكون من شوقي لو فاخره مفاخر أو كاثره مكاثر؛ فإنه لم يسلك هذه الطريقة ولا اختار هذا المركب ولو أنه كان اختاره أو دفع إليه لوجد من يجاذبه الحبل ومن يقف في وجهه وقوف الكفء للكفء فلا حافظ إبراهيم ولا خليل المطران ولا الكاظمي ولا الرصافي ولا من في درجتهم، كان يعجز عن أن يقابل شوقي السجل بالسجل، ولكن إما لرغبة منه عن الشحناء وإما لترفع منه عن مباراة النظراء، ربأ بنفسه عن القال والقيل، وتباعد بها عن كل نزاع من هذا القبيل، وأصبح الفذ الذي لا يساجل والجواد الذي لا يجارى، حتى إني قلت فيه عند وفاته من جملة رثائي له:
ولقد رويت الشعر عن آحاده
وألفت للسباق في حلباته
وقضيت فيه صبوتي وصبابتي
وقطفت منه خير نواراته
وأثرت في الميدان بزل فحوله
وأطرت في الآفاق شهب بزاته
فرأيت شوقي لم يدع في عصره
قرنا يهز قناته لقناته
شوقي في بداية أمره
ولما نشر شوقي الجزء الأول من ديوانه؛ وذلك في سنة 1900 بعث إلي بعدد لا أتذكر مقداره من النسخ فنشرتها في بيروت ولبنان وسورية، وأعلنت عن ذلك الديوان في الجرائد السورية، وقلت في الإعلان: إذا كان الشعراء أربعة فإن الشاعر الذي يجري ولا يجرى معه في هذه الأيام، والذي أحيى بشعره عهد أبي نواس وأبي تمام، إنما هو أحمد شوقي بك شاعر مصر وصناجة العصر ... إلى أسطر لم تبق في بالي. وكان شوقي قد اشتهر وسار شعره في بر الشام، ولكن هذا الديوان زاد في لمعانه وجمعت أثمان النسخ وبعثت بها إلى شوقي، ولما كان الكثيرون لم يدفعوا أثمان النسخ التي خصصناهم بها، كما هي عادة الشرقيين في استهداء المطبوعات مجانا، فقد أرسلت من جيبي بثمن ما لم أقبض بدله إلى شوقي، ولم أخبره بأن ذلك هو مني؛ لئلا يرده إلي.
وكان شوقي إلى ذلك العهد ضعيف الحال، لم يحصل على الثروة التي جمعها فيما بعد، والتي كان السبب فيها شعره بدون نزاع. ولما بعث إلي بذلك العدد من نسخ ديوانه أهداني نسخة خاصة بي بجلد مذهب لا تزال في حوزتي، وقد كتب عليها في الصفحة الأولى: «إلى أميري وأخي شكيب أرسلان. «شوقي»» والتاريخ 27 مارس 1900، أما النسخة التي
في الطبعة الأولى وعلى قصائد جديدة، ولكن مقدمة شوقي في الطبعة الأولى محذوفة من الطبعة الثانية، وهي المقدمة التي ترجم فيها نفسه، فقال شوقي كما ترجم نفسه:
الآن أدخل في الحديث مع فريق طلبوا مني أن أجعل صورتي في هذه المجموعة، وآخرين رغبوا إلي في كلمة تقال عنها وعن صاحبها وألا يقولها سواي. معذرتي إلى الفريق الأول أن من يعرض صورته على الناس كمن يعرض وجهه عليهم، وأعوذ بالله وبالمحبين أن أكون ذلك الرجل. على أن صورتي ما عشت بينهم ينظرون إليها، فإذا مت فليأخذوها من أهلي إذا جد بهم الحرص عليها. وللآخرين أقول: إني لا أزال في أول النشأة وإن حياتي لم تحفل بعد بالعجائب، ولم تمتلئ من الفوائد ولا المصائب حتى أحدث الناس بأخبارها، لكني لا أثق بيومي الآتي وأخاف بعدي رجوم الظن وضلات الأحاديث، فلي العذر أن أجيب طلبهم على أن يكون الحديث بيني وبينهم كما يكون بين الأحباب. سمعت أبي - رحمه الله - يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم هذه الديار يافعا يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا، وكان جدي، وأنا حامل اسمه ولقبه، يحسن كتابة العربية والتركية خطا وإنشاء، فأدخله الوالي في معيته ثم تداولت الأيام وتعاقب الولاة الفخام وهو يتقلد المراتب العالية ويتقلب في المناصب السامية إلى أن أقامه سعيد باشا أمينا للجمارك المصرية، فكانت وفاته في هذا العمل عن ثروة راضية بددها أبي في سكرة الشباب، ثم عاش بعمله غير نادم ولا محروم، وعشت في ظله وأنا واحده أسمع بما كان من سعة رزقه ولا أراني في ضيق حتى أندب تلك السعة، فكأنه رأى لي كما رأى لنفسه من قبل ألا أقتات من فضلات الموتى.
إلى أن يقول:
أما ولادتي فكانت بمصر القاهرة وأنا اليوم أحبو إلى الثلاثين. حدثني سيد ندماء هذا العصر المرحوم الشيخ علي الليثي قال: لقيت أباك وأنت حمل لم يوضع بعد، فقص علي حلما رآه في نومه، فقلت له وأنا أمازحه: ليولدن لك ولد يخرق - كما تقول العامة - خرقا في الإسلام.
ثم اتفق أني عدت الشيخ في مرض الموت، وكانت في يده نسخة من جريدة الأهرام، فابتدر خطابي يقول: هذا تأويل رؤيا أبيك يا شوقي، فوالله ما قالها قبل في الإسلام أحد. قلت: وما تلك يا مولاي؟ قال: قصيدتك في وصف «البال» التي تقول في مطلعها:
حف كأسها الحبب
فهي فضة ذهب
وها هي في يدي أقرؤها. فاستعذت بالله، وقلت له: الحمد لله الذي جعل هذه هي «الخرق» ولم يضر بالإسلام فتيلا. ا.ه.
أخذتني جدتي لأمي من المهد، وهي التي أرثيها في هذه المجموعة، وكانت منعمة موسرة، فكفلتني لوالدي، وكانت تحنو علي فوق حنوهما، وترى لي مخايل في البر مرجوة، حدثتني أنها دخلت بي على الخديوي إسماعيل وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه ؛ فطلب الخديوي بدرة من الذهب ثم نثرها على البساط عند قدميه، فوقعت على الذهب أشتغل بجمعه واللعب به، فقال لجدتي: اصنعي معه مثل هذا، فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض. قالت: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي. قال: جيئي به إلي متى شئت، إني آخر من ينثر الذهب في مصر. ا.ه. ولا يزال هذا الارتجاج العصبي في الإبصار يعاودني وكان المرحوم الشيخ علي الليثي كلما التقت عينه بعيني ينشد هذا المصراع للمتنبي: «محاجر مسك ركبت فوق زئبق.» انتهى.
إلى آخر ما ذكره من صفحات حياته إلى السنة التي طبع فيها الجزء الأول من شوقياته، فتعرض له إبراهيم بك المويلحي الكاتب المشهور ونشر مقالة في المؤيد ليست محفوظة عندي، وإنما الذي أتذكره أن المويلحي هزأ بشوقي فيما ذكره عن ارتجاج عينيه، وفي قول الشيخ علي الليثي له: «محاجر مسك ركبت فوق زئبق.» وخطأه في ترجمته لنفسه زاعما أن مثل هذا غير مألوف عند المؤلفين، وأنه لم يعهد أن مؤلفا ترجم نفسه في مقدمة كتابه، وغير ذلك من المزاعم المستغرب صدورها من أديب كبير مثل إبراهيم بك المويلحي؛ فلم أستطع على ذلك صبرا، ورددت على المويلحي بمقالة في جريدة المؤيد هي أيضا غير محفوظة عندي، وقد بعثت إلى مصر أبحث عنها في مجموعة المؤيد بخزانة الكتب الملوكية، فأجابوني بأنهم بحثوا عنها فلم يعثروا عليها؛ ولذلك لا أقدر أن أروي منها طائلا يذكر لأن النثر لا يحفظ كما يحفظ الشعر. وقد وقع لي أن فقدت بعض قصائدي فأمليتها كلها عن ظهر قلبي، وأمليت من قصائد أخرى مفقودة أبياتا غير قليلة، ولكن لو فقدت مقالة من المقالات أو فصلا من الفصول لما تسنى لي أن أروي من ذلك سطرين متتابعين؛ فلهذا أكتفي بأن أقول إني رددت على المويلحي متعجبا من مكابرته فيما هو محسوس لا خلاف فيه؛ فإن كثيرا من فحول المؤلفين قد ترجموا أنفسهم في كتبهم ولسان الدين بن الخطيب أعظم كتاب الأندلس ومن أعظم كتاب العرب ، قد ترجم نفسه في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة»، وكذلك الإمام السيوطي شيخ المؤلفين لا في العرب وحدهم بل في العالم كله،
1
وهو الذي صنف أربعمائة وستين كتابا قد ترجم نفسه أيضا في «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة».
وعددت ذلك اليوم علماء آخرين ترجموا أنفسهم، فلم يجاوب المويلحي على ردي وقطع عن الكلام لعدم اتساع المجال للمماحكة، فكتب شوقي إلي على أثر هذه المناقشة كتابا يقول لي فيه: «دفعت اليازجي عني بيد هدمت كيانه وألغت بيانه، وتحامل علي المويلحي فرددت عني الرد الذي قطع حجته، فبعد أن كانوا يرمونه بالحسد والتحامل جعلوا يرمونه بالجهل والتطاول، فسبحان من جعلك جلادا لأعدائي وروبرتسا لحسادي ... إلخ.» يريد بروبرتس القائد الإنجليزي الذي دوخ الترانسفال، وكان العهد بحرب الترنسفال قريبا.
نموذج من رسائل شوقي
وأكثر كتب شوقي مفقود من عندي بكثرة أسفاري وضياع كثير من أوراقي، ثم هناك سبب آخر لصعوبة العثور على الأوراق التي أنشدها فلا أجدها، وهو أن ما عندي من الأوراق والطروس المكتوبة يملأ صناديق عديدة، بل الظروف التي تشتمل على تلك الأوراق تحصى عندي بالمئات لا بالعشرات، وهذا كله عدا المطبوع الذي منه صناديق أخرى مفعمة لزا، فإذا أردت أن أبحث عن مكتوب لزم لذلك أيام وليال وتعطيل أشغال، وبديهي أني لا أملك من الوقت ما أتفرغ فيه للبحث عن أوراق غائصة في تلك اللجج الخضر، ولا شك في أن مكاتيب شوقي هي بين هذه الأوراق ولكن لا تصل اليد إليها، وقد عثرت اتفاقا على كتاب منه في تاريخ 26 أكتوبر سنة 1907 يقول لي فيه ما يأتي:
أميري الحبيب الكريم
سلام الله العلي العظيم على ذلك الجناب الكريم وبعد، فإن أخي بيومي بك الذي يتقدم إليك برسالتي هذه هو رجل كله أدب وإن لم يكن من رجال الأدب، وقد عزم على أن يقيم ببيروت أياما معدودة، وأبى إلا أن أدله على علمها ومنارها والأثر الفخم الجليل من آثارها وهو أنت، وها قد دللته وإليك أرسلته، وأنا أغبطه بهذه الوفادة، وأحسده على تلك السعادة.
المخلص
شوقي
شوقي في سورية
وجاء شوقي مرة إلى سورية لا أتذكر أية سنة، فوصل إلى عالية وكنت مصطافا في صوفر فبعثوا إلي يقولون: إن شوقي في عالية وإنه يريد مشاهدتك، وصادف أني كنت ذلك اليوم ملتاثا فبعثت إليه بأن ينتظرني وأني أكون في الغد عنده. وثاني يوم بكرت إليه وذكرت له سبب تأخري، فقال لي على سبيل المداعبة: رجوت أن تكون كاذبا ولا تكون مريضا. فقلت له: المرض أحب إلي من الكذب، ثم دعوته إلى صوفر فمكث عندي يومين لا غير، وكان العهد قد طال علي بلقائه، وكان اشتد بي الشوق إليه فوجدت عليه في قصر مدة إقامته عندي، ولكنه كان أشبه بالطير يريد أن يبقى حرا طليقا، وكان شوقي قبل ذلك في الآستانة فحصلت معارفة بينه وبين المرحوم عمي الأمير مصطفى أرسلان رئيس العائلة الأرسلانية في وقته، وكان ذهب يصطاف في تلك العاصمة فأحب العم شوقي كثيرا، وكانا يتجالسان ساعات طوالا وكل منهما حريص على عشرة الآخر، وكلما طالت مدة اجتماعهما طابت لهما.
ولما كان شوقي في عالية سأله أحد أعيان لبنان قائلا: بلغنا أنك لقيت الأمير في الآستانة. فأجابه شوقي: ذا أمير؟ ذا ملك. قالها وهو ملآن إعجابا بالأمير مصطفى، فكان وداده لعمي إلى هذه الدرجة مما يزيدني تعلقا به. (1) زيارتي لمصر في أيام الحرب الطرابلسية
ولما هاجمت إيطاليا طرابلس الغرب سنة 1911 كاتبت الجهات في أعمال الرحلة إلى تلك البلاد نجدة لأهلها وفي تسريب الإمدادات المالية إليهم، وأبرقت إلى الآستانة ببرقيات في ذلك المعنى، جاءني عليها الجواب من محمود شوكت باشا ناظر الحربية ببرقية طافحة بالشكر على ما كنت أبديه من الهمة في أمر المدافعة عن الوطن، وكان لي يد في استجاشة المصريين لإمداد إخوانهم الطرابلسيين، سواء فيما كنت أكتبه من المقالات المؤثرة في جريدة المؤيد أو بما كنت أكتبه في رسائلي الخاصة إلى بعض أصحابي بمصر، وأخيرا كتبوا لي، ومن جملتهم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، يقترحون علي قدومي إلى مصر لأجل العمل معا في إنجاد طرابلس. وصادف هذا الاقتراح هوى في فؤادي؛ إذ كنت أحدث نفسي من أول يوم هوجمت فيه طرابلس بأن أذهب إلى هناك عن طريق مصر. وخلاصة الأمر أني جئت إلى مصر في خبر ليس هنا موضع تفصيله، وإنما أتيت به لمناسبة اجتماعي هذه النوبة بشوقي وكيف كان ذلك. (2) استطراد
جئت إلى مصر فعين لي الجناب الخديوي ثالث يوم وصولي موعدا للملاقاة، وجلست في حضرته أكثر من ساعة نتذاكر في تلك الحوادث المهمة والخطوب المدلهمة، ولقيت من سموه كل حفاوة وانعطاف، وما مضت أيام حتى أدب الخديوي مأدبة لكامل باشا وفريد باشا الصدرين السابقين في الدولة، فدعاني إليها، وكان ممن دعي أيضا شفيق باشا المؤيد من أعيان الشام، وبصري بك من أعيان الأرناءوط والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد.
وعاد الخديوي فاستدعاني مرة ثالثة، وأرادني على الإقامة بمصر وصرف النظر عن الذهاب إلى برقة. أرادني على ذلك بكل ريدة، فلم أقتنع وقلت له: إني ما جئت من لبنان إلا قاصدا الجهاد في طرابلس. فلما يئس من إقناعي بالبقاء في مصر وودعته لأجل السفر، أراد تكرما منه أن يساعدني مساعدة مالية فاعتذرت له بأنه لا يلزمني شيء من ذلك، وأنه موجود في جيبي ما يسد حاجتي في هذه الرحلة، فألح في قبول المساعدة إلحاحا شديدا لم أقدر على صرفه عنه إلا بقولي: إني إذا أنفقت ما لدي ومست بي الحاجة إلى شيء فلا أتأخر عن أن أستمد عاطفة سموكم. وكان هذا الحديث أمام أحمد بك العريس ومحمد بك عثمان. (3) في طريقي إلى بنغازي وعودتي
وودعت الجناب الخديوي وذهبت إلى الإسكندرية، ومنها ركبت السكة الحديدية إلى مريوط، ومن آخر محطة لها ركبنا الخيل أنا ومن معي من أتباعي الذين حضروا معي من جبل لبنان. وكانت جمعية الهلال الأحمر المصري قد عهدت إلي بقيادة قافلة ستمائة جمل موقرة أرزاقا للمجاهدين في برقة، وخصصت منها لي ولجماعتي الذين معي محمول ثلاثين جملا موقرة من كل شيء من مأكول وملبوس. فعندما وصلت إلى طبرق لقيت في ذلك الموقع أدهم باشا الحلبي، وتركت في طبرق جانبا من الأرزاق للمجاهدين، ولما وصلت إلى معسكر عين منصور المشرف على درنة؛ حيث كان القائد العام أنور بك، سلمت البعثات المصرية من الهلال الأحمر ما خصت به من نقود وأرزاق وحوائج، ولما وصلت إلى معسكر بنغازي الذي كان أميره عزيز بك علي المصري سلمت الباقي للبعثات المصرية التي هناك، وكان منها الدكتور حافظ عفيفي.
أما محمول الثلاثين جملا الذي خصصه الهلال الأحمر ولجنة الإعانة بي أتصرف به كيف شئت فقد وزعته على مشايخ الزوايا السنوسية مثل سيدي العلمي الغماري شيخ زاوية البراعصة، وسيدي محمد الغزالي شيخ زاوية ترت، وسيدي الدردفي شيخ زاوية شحات وغيرهم، وأهديت جميع ما بقي إلى أنور باشا ولم أستأثر لنفسي بشيء. وكذلك كانت لجنة الإعانة خصصت لي مائتي جنيه لنفقتي الخاصة فوزعتها إعانات وهدايا لأجل تطبيب خواطر المجاهدين، وبقيت أنفق على نفسي من صلب مالي الذي كان معي مذ برحت منزلي في جبل لبنان.
ولما رجعت إلى مصر بعد قضاء سبعة أشهر في موطن الجهاد كان قد نفد كل ما معي من النقود، فلم أراجع الجناب الخديوي حسبما وعدته بل أرسلت إلى أهلي بأن يبعثوا لي ما يقوم بأودي؛ لأنني كنت ذاهبا إلى الآستانة لمذاكرة الدولة في قضية طرابلس، وكيف يجب ألا تقطع إمدادها لها بالطرق الممكنة حتى بعد عقد الصلح مع إيطاليا. (4) استطراد آخر
ليس هذا من موضوع شوقي في شيء، ولكنه جاء استطرادا بسبب يعذرني الناس فيه، وهو أن كثيرا من الحساد لا يزالون يتشدقون بأني بقيت في سويسرة عدة سنوات أقبض ثلاثين جنيها في الشهر من الخديوي السابق، ويجعلون هذه القضية مطعنا يحاولون به شفاء إحنة صدورهم. والحال أن الخديوي السابق نفسه يعترف بأنه هو الذي أرادني على قبول هذا المرتب الذي كان يراه ضئيلا بالنسبة إلى نفقاتي في القضية العربية الإسلامية عامة، وأنني أنا مع ذلك اعتذرت له بادئ ذي بدء عن قبول هذا الراتب، وما وطنت النفس على قبوله إلا بما شاهدت من إلحاحه ومن إلحاح صديقي سليمان بك كنعان اللبناني الذي كان يسفر بيني وبين سمو الخديوي السابق، ويبين لي أنه ليس من الطمع في شيء أن يرضى مثلي بمكانه من قضايا عامة معلومة عند كل أحد، وفي هذه الغربة المتمطية بصلبها بقبول مساعدة أمير كبير ذي ثروة طائلة جلس على كرسي إمارة مصر 23 سنة.
وكذلك لا ينسى الخديوي السابق أني لما ودعته في سراي القبة قاصدا موطن الجهاد في برقة اعتذرت عن قبول أي رفد منه رغم ما راودنيه على القبول، ومع معرفتي أنه لا يعيب مجاهدا ذاهبا يقاتل عن قطر متصل بمصر أن يقبل مساعدة من عزيز مصر.
وليس هذا الحديث بذي صلة مع ما نحن بسبيله لولا ما لا يزال الحساد يثرثرون به في هذا الموضوع بكرة وأصيلا، وما يزالون يذيعونه لدى من لا يعرفني في بلادي من أني لا أملك شيئا ولا أقدر أن أعيش أنا وعائلتي من وارداتي الخاصة. وهذا هو أيضا بهتان صريح مخالف للمحسوس يعلمه جميع أهل وطني، فلست أدعي كوني من ذوي الثروة المعدودة، ولكن ليس بصحيح أني لا أقدر أن أعيش أنا وعائلتي من ريع عقاراتي وأملاكي. إنه لمستهجن جدا الخوض في أحاديث كهذه، ولكن تحامل الحساد وتتبعهم العورات يحملان المرء أحيانا على تعقب أكاذيبهم ولو على كره منه، وأعود إلى شوقي فأقول ...
جفوة لا سبب لها
مضت عدة أسابيع على مقامي بمصر قبل أن ذهبت إلى برقة ولم أشاهد شوقي، وقد كنا أخوين ونحن على البعد، وكنت «جلادا لأعداء شوقي»، وكنت أسترخص كل غال - ومن جملة هذا الغالي صداقة مثل اليازجي - في سبيل مرضاته، فما عدا مما بدا؟
الجواب أني لا أعرف سبب تلك الجفوة، ولا موجب تلك النبوة إلى هذه الساعة، أغص شوقي بمكاني من الجناب الخديوي وكثرة ما رأى من احتفال سيده بي؟ أم جاء من ألقى في أذنه أني سأزاحمه في محله من القرب للجناب العالي؟ أم هو رجل له بدوات وغفلات بينما هو حفي بخلانه وفي مع إخوانه إذا هو معرض عنهم متهاون بحقوق المودة التي بينه وبينهم؟ أم هو شاعر لا يتقيد بشيء ولا يريد أن يكون خاضعا لتكاليف الحياة حتى مع أعز أصحابه؟ أم هناك عذر آخر لا أعرفه ولا يهمني أن أعرفه؟
كنت نازلا ضيفا على صديقي المرحوم أحمد بك العريس من أعيان بيروت ومن مأموري المعية الخديوية، وكان منزله في العباسية، فلما وصلت إلى القاهرة جاء إلى الأوتيل الذي نزلت به، وأبى أن يتركني فيه ليلة واحدة وسار بي إلى منزله وأبقيت الرفاق الذين كانوا معي في أحد الفنادق. وكنت أختلف كل يوم إلى إدارة المؤيد فأكتب مقالة افتتاحية، وهكذا كان دأبي مدة الأربعين يوما التي سبقت سفري إلى برقة. وقال لي أحمد بك العريس ذات يوم: إنني قابلت شوقي وقلت له: أفلا تدري أن أخانا الأمير هو هنا؟ قال: نعم. قال العريس: فهل اجتمعت به؟ قال شوقي: كلا لم أشاهده حتى الآن، ومرادي أن أقوم له بحفلة تكريم في منزلي، ولما كان ناظر المعارف غائبا هذه الأيام فقد أرجأت هذه الحفلة إلى ما بعد رجوعه. فقال له العريس: الرجل لا ينتظر منك حفلة تكريم، وليس ما بينكما من الإخاء مما يوجب هذه المواسم، ولكن الأشبه بك والأليق بوفائك أن تذهب وتسلم عليه. فقال له شوقي: سأفعل. إلا أنه مضت عدة أيام ولم يأت لزيارتي.
فأخذت القلم في أحد الأيام وكتبت إلى شوقي:
أحن إلى شوقي وأهوى لقاءه
وأصبو ولكن ما إليه وصول
ويخبرني قلبي بأن فؤاده
كما كان لكن يعتريه ذهول
ووالله ما يممت مصر وفوقها
يدانيه عندي صاحب وخليل
فشوقي إلى شوقي بقدر محبتي
وعندي حساب للعتاب طويل!
فما أجاب شوقي على هذا الخطاب لا بشعر ولا بنثر ولا بفعل، ولكنه بقي يقول لأحمد العريس إنه يريد أن يعمل لي حفلة تكريم، وفي أحد الأيام زارني الأخ خليل بك المطران؛ وهو من العقل وكرم الأخلاق ورعي الذمام بالمقام الذي يندر بين الإخوان، وكان يزيدني حبا له ما كان بيني وبين عمه حبيب باشا المطران من عيون أعيان سورية وبيني وبين أولاده ولا سيما ندره بك المطران من ذمام قديم وود متين، وكنت أعلم ما بين خليل وشوقي من المودة فكاشفته بما في نفسي من أمر شوقي، وقلت له: إنه لا شيء يمكنه أن يكدر صفو ما بيني وبين شوقي من المودة، ولكني أصبحت أستحي من الناس أن يعلموا بأني هنا من شهر وأن شوقي لم يتكرم بزيارتي والقادم يزار. فقال لي الخليل: لا يكن في نفسك شيء من هذه النبوة، فشوقي له من هذا القبيل الشيء الكثير، ولكننا نحن لا ينبغي أن نحمل ذهوله هذا على محمل الهجران.
اجتماع بعد انقطاع
وذهب الخليل وجاءني ثاني يوم، وقال لي لنذهب إلى أوتيل كونتننتال، فسرنا إلى هناك فإذا بشوقي ينتظرنا، فجلسنا نحن الثلاثة ساعتين من الزمن، وفي ذلك المساء كان تمثيل رواية صلاح الدين الأيوبي؛ لأجل ضم ريعها إلى الإعانات الخاصة بجرحى طرابلس الغرب، وكانت أقيمت سوق خيرية للغرض نفسه وأقبل الناس يشترون منها. وكان الشيخ علي يوسف سألني: أتريد في هذه الليلة أن تنشد شيئا من الشعر، فإنه يحتمل أن تتقدم الرواية قصائد تتلى على الجمهور؟ فقلت للشيخ علي: لا أرى نفسي هاتفة هذه الأيام بالشعر. وذلك أني كنت في كل صبيحة أكتب في المؤيد مقالة افتتاحية خمسة أو ستة أعمدة أكتبها قطعة وراء قطعة، ومرتب الحروف يصفها بينما أنا لم أنته منها. فرجحت في هذه المدة كفة النثر وأشالت كفة الشعر، وصرت أخشى أني إذا حاولت الشعر لا أبلغ منه درجة الإجادة، فلما اجتمعنا، الخليل وشوقي وكاتب هذه السطور، قال لنا الخليل: دعاني أن أتلو عليكما القصيدة التي هيأتها لهذه الليلة، فقرأ لنا قصيدة رائية مطلعها:
كم بطل مات ولم يسمر
تحت هلال الرحمة الأحمر
وأتى عليها كلها وهي كسائر شعر الخليل، دقة معنى ورقة شعور وجزالة لفظ وعلو طبقة، وما كان لقب الخليل بشاعر القطرين تجوزا ولا تسامحا. وأبديت له ملاحظة على بيت من تلك القصيدة فأسرع بتغييره. فأما أنا وشوقي فكنا لم ننظم شيئا لتلك الحفلة، وسألنا الخليل عما إذا كنا سنقول شيئا، فقال كل منا: ما هيأت شيئا. إلا أننا بعد أن انصرفنا وجئت أنا إلى مركز الهلال الأحمر وجدت المكان خاليا وقلت لأستفيدن من هذا السكون وأنظم بضعة أبيات بالأقل، فلما بدأت بالنظم انبعث بي الشعر وانثالت علي الأبيات كأنها تنحدر من صبب، فما مضت ساعة إلا وهي في يدي قصيدة تامة. وأصاب شوقي ما أصابني كما حدثني فيما بعد؛ وهو أنه انتبذ موضع مناجاة بعث به الشعر فنظم قصيدة كما نظمت أنا بدون أن تكون سبقت له نية، ولما جئنا ملهى الأوبرا جئنا نحن الثلاثة وكل منا قصيدته في جيبه، وكان الخليل قد علم منا أننا لم نهيئ شيئا، فما راعه إلا وأنا أنشد قصيدتي وأحد الشعراء ينشد من بعدي قصيدة شوقي.
حفلة السوق الخيرية
التي أقيمت لمعاونة مجاهدي طرابلس وقصائد شوقي والمطران والمؤلف.
أما قصيدة المطران فليست تحت يدي لأثبتها في هذا الكتاب، وأما شوقي فقال ما يلي:
جبريل هلل في السماء وكبر
واكتب ثواب المحسنين وسطر
سل للفقير على تكرمه الغنى
واطلب مزيدا في الرخاء لموسر
وادع الذي جعل الهلال شعاره
يفتح على أمم الهلال وينصر
وتول في الهيجاء جند محمد
واقعد بهم في ذلك المستمطر
يا مهرجان البر أنت تحية
لله في ملأ كريم خير
هم زينوك بكل أزهر في الدجى
والله زانك بالقبول الأنور
حسنت وجوهك في العيون وأشرقت
من كل أبلج في الأكارم أزهر
كثرت عليك أكفهم في صوبها
فكأنها قطع الغمام الممطر
لو يعلمون «السوق» ما حسناتها
بيع الحصى في السوق بيع الجوهر
جبريل يعرض والملائك باعة
أين المساوم في الثواب المشتري؟
ومجاهدين هناك عند معسكر
ومن المهابة بين ألف معسكر
موفين للأوطان بين حياضها
لا يسمحون بها وبين الكوثر
عرب على دين الأبوة في الوغى
لا يطعنون القرن ما لم ينذر
ألفوا مصاحبة السيوف وعودوا
أخذ المعاقل بالقنا المتشجر
يمشون من تحت القذائف نحوها
لا يسألون عن السعير الممطر
في أعين الباري وفوق يمينه
جرحى نجلهم كجرحى خيبر
من كل ميمون الضماد كأنما
دم أهل بدر فيه أو دم حيدر
جذلان هينة عليه جراحه
وجراحه في قلب كل غضنفر
ضمدت بأهداب الجفون وطالما
ضمدت بأعراف الجياد الضمر
عواده يتمسحون بردنه
كالوفد مسح بالحطيم الأطهر
وتكاد من نور الإله حياله
تبيض أثناء «الهلال الأحمر» •••
يا بنت «إلهامي» دعاء معظم
لسماء عزك في البرية مكبر
توفيق مصر وأنت أصل في الندى
وفتاكما الفرع الكريم العنصر
أنتم جمال الشرق زين ملوكه
لا زال بيتكم جمال الأعصر
لكم الندى آثاره وحديثه
شغل السميع ونور عين المبصر
النيل فجر مشرعين وعيلما
وتفجرت يمناك خمسة أبحر
أحييت في فضل الملوك وعزهم
ما مات من أم الخليفة جعفر
إن الذي قد ردها وأعادها
في بردتيك أعاد في البحتري
فنظمت ما نثرت يمينك شاكرا
لا يحسن الإحسان ما لم يشكر
إني رأيت على الرجال مظاهرا
فعلمت أن الفضل كل المظهر
وعلمت أن من النساء ذخيرة
غير الثناء لنفسها لم تذخر
لما توليت الهلال رفعته
بين السها شرفا وبين المشتري
ولكم دعوت نساء مصر لصالح
فنهضن فيه يقلن عائشة اؤمري
فكأنهن عقائل من هاشم
وكأنك الزهراء فوق المنبر
وأما قصيدتي فهي هذه:
سلا هل لديهم من حديث لقادم
من الغرب يروي فيه غلة هائم
وهل وردتهم عن كريم مقامه
سمان المعالي في لطاف النسائم
وهل نظروا من نحو برقة موهنا
فلاحت لهم منها بروق الصوارم
تألق في ليلي ظلام وقسطل
فتنشئ سحب الدمع من طرف شائم
مواطن إخوان تملوا من الردى
كئوسا تساقوها بملء الحلاقم
دفاعا عن الأوطان إن دفاعها
لدى كل قوم كان أولى المكارم
تهيبهم فيها العدو مهاجما
فجاء دبيب اللص في ليل قاتم
ولين في إقباله من إهابه
وهل يخدع الإنسان لين الأراقم
فثاروا وما كانت أرانب رومة
من الغرب أكفاء الليوث الضراغم
ونعم سقاة الموت هم كلما بدت
بروق المواضي في رعود الغماغم
وحسبك منهم كل قوم نمتهمو
أرومة قحطان ونبعة هاشم
وكم وقفوا يستنصفون عدوهم
وهزوا من الأملاك جذع المراحم
فلما رأوا عجز الدليل تطلبوا
لدى الصارم البتار صدق التراجم
فلم يك مثل السيف كاليوم قاضيا
ولا العهد مثل الآن أحلام حالم
وما طال نوم السيف إلا تنبهت
عيون الدواهي منه عن جفن نائم
أخلاي سوق للمنايا مقامة
تباع حفافيها غوالي الجماجم
فهل لكمو في سوق بر ورحمة
تنالون فيها باقيات المغانم
غياثا لمظلوم ونصرا لصارخ
وضمدا لمجروح وقوتا لصائم
كفى بالهلال الأحمر اليوم هاديا
لمن حار في ليل من الشك داهم
وأكرم بأم المحسنين التي طمى
جداها كلج العيلم المتلاطم
سليلة «إلهامي» فمن كل جانب
لها نسب نحو البحور الخضارم
وأجدر بقوم أمطرتهم هباتها
بأن يأملوا قرب انفراج المآزم
وحاشا بلادا أنتمو عن يمينها
يفت بأعضاد لها ومعاصم
لقد حوصروا برا وبحرا وأمطروا
بحمر المنايا من سواد الغمائم
وقد طالما أرهفت حد يراعتي
فلما تعالى الخطب عدت لصارمي
أجل إننا من أمة عربية
نكافح عنها عاديات الأعاجم
ولو أنصف الأقوام في حقهم رأوا
مؤاساتهم فرضا على كل آدمي
قال شوقي لأحد أصحابه بعد الانصراف إنه كان في أثناء إنشاد المنشد لقصيدته لا يفكر إلا بي. وقلت أنا لأحد أصحابي: إني كنت متمثلا شوقي من أول إنشادي إلى آخره.
سفر المؤلف إلى حرب طرابلس
وذهبت بعدها إلى برقة وبقيت في الجهاد زهاء ثمانية أشهر ورجعت في رمضان، فعيدت في الإسكندرية وأنا ضيف على الجناب الخديوي في سراي رأس التين. (1) مشاهدته لشوقي بعد رجوعه منها وذلك في سراي رأس التين
وشاهدت شوقي نهار العيد عندما اكتظت السراي بوفود المهنئين، وبعدها لم أشاهد شوقي إلا في الآستانة لأول نشوب الحرب الكبرى.
فسنة إعلان الحرب الكبرى كان الخديوي السابق في الآستانة، كما لا يخفى، فأطلق عليه الرصاص شاب مصري من الوطنيين المتهوسين فجرحه عدة جراحات، وذلك أمام الباب العالي، والحرس الأتراك الذين كانوا بجانب مركبة الخديوي أنحوا على ذلك الشاب المصري بالسيوف فقرطبوه وقتلوه في الحال. وهي قصة ليس موضعها هنا ولكننا أشرنا إليها لمناسبتها مع اجتماعي بشوقي في الآستانة؛ فإنه بعد هذه الحادثة قدم إلى الآستانة عدد كبير من المصريين ليعودوا الجناب الخديوي ويظهروا للدولة اهتمامهم به، وكان من هؤلاء أحمد شوقي شاعره وربيب نعمته. (2) التقاء الأخوين في استانبول في أول الحرب العامة
فبينما أنا مرة في باخرة تسير في البوسفور؛ إذ صادفت أخي شوقي فسررت بهذه المصادفة، وقال لي إنه كان يريد أن يقابلني لأجل مسألة ذات بال. قلت له: وما المسألة؟ فقال لي: أنت تدري هذا الحادث الفظيع الذي وقع مع الخديوي، وتدري أيضا أنه ساء تأثيره في مصر، وإن الذين لا يحبون الخديوي هم أنفسهم امتعضوا من هذا الحادث، وسواء كانت الدولة لا تعلم أسرار هذه الواقعة أو كانت على علم بها فإن الواجب عليها أن تتلافى هذا الأمر جمعا لكلمة الأمة وتفاديا من الفرقة بين الآستانة ومصر. فقلت له: كل هذا عندي مسلم، فماذا تريد أن أصنع لك؟ (3) اقتراح شوقي على المؤلف عيادة السلطان للخديو
قال لي: إن الخديو لا يزال في فراشه يعاني آلام جراحه، وإنه يليق بمولانا السلطان أن يجبر خاطره الكسير بعيادته له في قصره بالشبوقلي، وليس في هذا ما يحط من قدر السلطان، بل فيه ما يستنطق كل الأفواه بالثناء عليه والدعاء له، وما الخديوي إلا أمير من أمرائه، بل هو أكبر أمرائه؛ فزيادة تشريف السلطان للخديو تعود على السلطان نفسه. وأبدى شوقي وأعاد في هذا الأمر، وقال لي: كل من حادثتهم في هذا الموضوع أجابوني أنه ليس لهذه المسألة غيرك، فإن لم تقدر عليها أنت فلن يقدر عليها أحد. فأجبته بكل إيجاز: بعد يومين تعال إلي فأخبرك بما عملت وأنا معك في هذه الفكرة.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى طلعت؛ وكان ناظرا للداخلية فأخبرته بالخبر وقلت له: إني مؤيد لهذه الفكرة التي عرضها شوقي، ولا أرى حلا لهذه المسألة أحسن من هذا. فقال لي طلعت في أول جوابه: أنجر هذا الشيخ الكبير - يعني السلطان - إلى محل بعيد مثل الشبوقلي (لأنه في آخر البوسفور)؟
وقبل أن أجيبه على هذه الجملة قطع علي الكلام، وقال لي: حسن أنت صديق للأمير سعيد حليم الصدر الأعظم، فاذهب واعرض عليه هذا الاقتراح، فإني لا أقدر أن أبت في مسألة عائدة للعائلة الخديوية بدون علمه، ولا يجيء هذا مني، وإنما أنت تقدر أن تقنعه، فإذا اقتنع فأنا موافق كل الموافقة. كن من هذا على ثقة. فذهبت إلى الأمير سعيد حليم في منزله في بني كوى على شاطئ البوسفور فوجدت عنده إبراهيم بك صاحب زاده ناظر العدلية وإسماعيل مشتاق بك رئيس كتاب مجلس الأعيان وأشخاصا آخرين، وكلهم جلوس أمام قصره على رصيف البحر، وكانوا ينتظرون الخبر من الدردنيل عن وصول الدارعتين غوبن وبرسلاو الألمانيتين اللتين طاردهما الأسطول الإنجليزي والأسطول الإفرنسي ببوارج عديدة فاضطرتا أن تقصدا مياه تركيا وعبرتا الدردنيل، فلم يقدر أسطول الحلفاء على العبور وراءهما، ولكن فرنسة وإنجلترة احتجتا على تركيا بإيوائها البارجتين الألمانيتين؛ ولذلك اتفق الأتراك مع الألمان على أن يجيبوا دول الحلفاء بأن تركيا اشترت الدارعتين بدلا من الدردنوت رشادية التي كانت تركيا أوصت عليها في معامل إنجلترة وأنفقت عليها ملايين من الجنيهات، وعندما حان أوان تسليمها للدولة ضبطها الإنجليز قائلين إنهم على باب حرب فقد يحتاجون إليها. فدخلت غوبن وبرسلاو إلى مياه البوسفور ولبس بحريتهما الطرابيش الحمر علامة على أنهم دخلوا في خدمة الدولة العثمانية، وما كان ذلك إلا بالتواطؤ بين تركيا وألمانيا قطعا لحجة الحلفاء.
فساعة ذهابي لمواجهة الصدر الأعظم كانت الساعة التي كانوا ينتظرون فيها وصول غوبن وبرسلاو إلى جناق قلعة، فجلست أنتظر انصراف القوم من حضرة الصدر فطال جلوسهم وتبرمت بطول مكثهم؛ لأنه كان عندي ذلك الكلام المهم الذي أريد أن أفضي به إلى الصدر وهو قضية عيادة السلطان للخديوي. فلما غابت الشمس قلت للأمير سعيد حليم همسا في أذنه: إن لي كلاما خاصا معك. فقام من فوره وتنحى جانبا وسألني عما عندي، فحكيت له الحكاية وأبديت له ضرورة إجابة هذا الرجاء؛ لأن فيه جبرا لخاطر المصريين وسدا لباب الشقاق وإصماتا للقال والقيل وتطييبا لنفس الخديوي الذي جرح أمام الباب العالي وكاد يموت لولا لطف الباري به وتأخر أجله. فقال لي: ولماذا تدخل المصريين في هذا الموضوع؟ قلت له: لأن الرجل هو خديويهم ولا شك في أنهم لا يرضون بالاستخفاف بأمره حتى الذين منهم يكرهونه لا يهون عليهم ما حصل له لأسباب متعددة. فقال لي رحمه الله: إنك أنت تعرف هذا الرجل معرفة جيدة؛ فقولك هذا هو خلاف ضميرك. وبينا كنا نتكلم كنا نمشي غير متباعدين عن الجماعة الذين كانوا جالسين، فلما رأوا حديثنا قد طال انسلوا نجيا ونحن دخلنا حينئذ إلى القصر. فكلمة الأمير سعيد حليم لي: كلامك هذا خلاف ضميرك رددت عليها بشدة، قائلا له: هذه مسألة غير شخصية، وأنا الآن لا أقترح هذا الاقتراح لأجل شخص الخديوي، بل لأجل مقامه ولأجل أنه أمير مصر من قبل السلطان الأعظم، ومن العجب أنك تعاكس هذا الاقتراح وأنت تعلم ما أعلم أنا من ضرورته حوصا لهذا الشق الذي وقع، وبالتالي فالخديوي هو ابن عمك، وكل شرف يناله هو أنت قسيمه فيه سواء كان لك عدوا أو صديقا.
وكان كلامي بشدة وحدة وحضره علي باشا جلال بعد أن دخلنا إلى القصر، واشمأز الصدر الأعظم من هذا الاقتراح ومن إصراري عليه، وبقي يجادل بقوله إن المؤيد جريدة الخديوي تزعم أننا نحن أرسلنا نقتل الخديوي، فإن أرسلنا إليه السلطان يعوده فلا عجب أن يقولوا إنه لما لم يمت عادوا الآن يحاولون استرضاءه. فقلت له وقد يئست منه: والله لا أعلم لماذا أغيظك وأغيظ نفسي في أمر كان الأخلق بك أنت أن تقترحه. ونهضت منصرفا وتركته واجما وظننت بعد أن فصلت من عنده أني لن أتصافى بعدها معه.
ولكن ما مضى أيام حتى صادفته في بيت خليل بك رئيس مجلس النواب أو المبعوثين كما يقولون؛ فأراد خليل بك أن يقدمني للأمير سعيد الصدر الأعظم بصفته رئيسا للمجلس وبصفتي أنا من أعضائه، فضحك الأمير وقال له: أنا أعرفه قبلك بكثير، وهذا هو أرسلان اسم على مسمى، يشير إلى معنى هذا الاسم بالتركية والفارسية وهو الأسد؛ فإن هذه اللفظة هي من جملة ألفاظ دخلت بين العرب من القديم وسموا بها أعلاما، ولو لم يكن سعيد حليم صاحب أخلاق لما كان رضي عني بعد ذلك الجدال العنيف، ولكنه كان عالي الهمة صحيح المبدأ حافظ الذمام، وكان يعلم نبالة مقصدي في ذلك الاقتراح ولم يكن يسيء الظن بي، فتحمل مني ذلك الكلام الذي كله تأنيب ولم يتغير فكره من جهتي، وبقيت بيننا الصداقة مثل ذي قبل لم يشبها شائبة.
ثم نعود إلى اقتراح شوقي، فإنه جاءني بعد يومين يستطلع نتيجة المسعى، فأخبرته بأنني قابلت طلعت واقتنع بكلامي وأسعف في المسألة، ولكنه أرسلني إلى الصدر الأعظم وربط المسألة به، وهذا حتى هذه الساعة يبدي شيئا من الصعوبة. ولم أزد على هذه الجملة، ولا أخبرت شوقي بما حصل بيني وبين الصدر من الجدال والحدة حتى لا أزيد الفتنة بينه وبين الخديوي، ونحن كنا نسعى في رأب الصدع لا في توسيعه، وكنت في جوابي لشوقي آسفا كاسفا؛ إذ كنت أؤمل تحقيق أمله وأملي فخاب أملنا نحن الاثنين. وكان الوقت رمضان فدعوت ثاني يوم المرحوم عبد الحميد بك عمار من أعيان المصريين للإفطار معي في «بك أوغلي»، ورويت له القصة محتجنا منها ما وقع من معارضة الصدر الشديدة، ومكتفيا بالقول إن هذه المسألة لا تزال قيد المذاكرة. فذهب عبد الحميد بك عمار إلى الخديوي وأخبره بالقصة، ولم أعلم كيف كان وقعها عنده.
ودخلنا بعد ذلك في الحرب العامة وانقطع كل اتصال عادي بين الدولة وبين مصر، وأصبحت لا أعلم عن أصحابي بمصر كثيرا ولا قليلا إلى أن مضى على هذا عام أو عامان، فعلمنا أن الإنكليز دفعوا إلى مالطة جما غفيرا وأزعجوا آخرين إلى أوروبا، وكان فيمن أزعج عن بلاده إلى أوروبا أحمد شوقي فانتجع إسبانية وناح على الأندلس، ولكنه خفض هناك في عيشة راضية وبيئة هادية، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد أن انطفأت نار الحرب.
لقاء في باريز بعد الحرب العامة
ولم يسعدني القدر بعد ذلك بلقاء أخي شوقي إلى سنة 1926، وذلك في باريز، حيث كان شوقي جاء يقيظ في أوروبا، وكنت أنا مع زميلي إحسان بك الجابري نتذاكر مع الحكومة الإفرنسية بدعوة منها في القضية السورية، وكنا نازلين في أوتل «ماجستيك»، فما أنا ذات يوم إلا وشوقي قد طلع علي بدون ميعاد ولا سابق علم لي بوجوده في باريز، فدخل على قلبي من السرور برؤيته ما يدخل على الأخ الذي غاب عنه أخوه منذ بضع عشرة سنة ومن لا تسمح له دواعي السياسة أن يراه كلما أراد؛ لأنه من قبل ذلك الحين كانت صدرت الأوامر بمنعي من دخول مصر، وفشل كل سعي في حل هذه العقدة، فكيف يمكنني بعد هذا أن أشاهد شوقي إلا بقدر لا يخطر في الفكر وفي بلاد الغربة، وقد كان لا يؤذن لي بدخول باريز - والآن لا يؤذن لي فيه - إلا بدعوة خاصة من حكومة فرنسة:
هيهات هيهات قد أمست مجاورة
أهل العقيق وأمسينا على سرف
حي يمانون والبطحاء منزلنا
هذا لعمرك شمل غير مؤتلف
فذهبت أرد الزيارة لشوقي في الفندق الذي كان فيه في الحي اللاتيني فلم أجده، وبينما أنا صادر إذا بمقهى جالس فيه شوقي مع محمد أفندي عبد الوهاب وآخرين حسبما تقدم الكلام على هذه النكتة؛ لأن هذا المقهى هو المسمى بقهوة داركور، وكنا نجلس فيها منذ ست وثلاثين سنة ونحن شبان فعدنا نجلس فيها ونحن شيوخ. (1) في مقهى الجامع
وأخذنا مذ ذاك نجتمع في مقهى الجامع؛ حيث كان يوجد رجل أديب باهر الذكاء واسع الرواية فصيح اللهجة اسمه السيد طاهر الصباغ، مكي الأصل تونسي الدار، كان وجوده في ذلك المقهى باعث نشوة وسبب سلوة لكل من ينتاب المحل، وكان يروي كثيرا من شعر شوقي وغيره من الشعراء المفلقين، كما أنه كان يقرأ أكثر مقالاتي ويتتبعها، فكان إذا جئت أنا وشوقي ومحمد عبد الوهاب ومن معنا من الأصحاب وجلسنا للمنادمة وسماع الألحان الشجية على نقرات العود يأخذ السيد طاهر الصباغ الطرب ولا يسعه المكان من الفرح، وكان يتحير كيف يصنع ليوفر أسباب راحتنا وسرورنا، ولكنه في آخر الأمر عتب على أخي شوقي لكونه وعده بنسخة من ديوانه وذهب من باريز ولم ينجز وعده هذا، فلما كاشفني بهذه الموجدة أخبرته عن غرائب شوقي في الذهول، وقلت له: لو عرفت أمره في هذا الشأن لعذرته.
وقد توفي الصباغ إلى رحمة ربه قبل وفاة شوقي بقليل، رحمهما الله تعالى. (2) شوقي الناثر
ولم يكن شوقي شاعرا فذا فحسب، بل كان ناثرا بليغا مترسلا ضليعا متين العبارة سلسها، يقل في الكتاب والمترسلين من يصوغ صياغته إلا أن شعره قتل نثره؛ فبينما هو في الشعر الفذ الذي يجري ولا يجرى معه إذا هو في النثر أحد جماعة يجري معه الناس مثنى وثلاث ورباع، ولا شك أن كفة نظمه رجحت بكفة نثره رجحانا بينا حمل الناس على الظن بضعف منته في صنعة الكتابة، وليس الأمر كذلك، بل كان له نثر رائق وترسل مؤنق وفصول شائقة كانت تخلد في عالم الأدب لو لم تفتك بها قصائده. (3) كلمة المنفلوطي في شوقي والمؤلف
وقد كان السيد المنفلوطي - رحمه الله - يوم ترجم شعراء العصر وكتابه المعدودين، حكم لشوقي بالسبق في ميدان الشعر وجعل لكل واحد من هؤلاء تعريفا كان آية في الإيجاز، ولما وصل إلى كاتب هذه السطور قال: لو لم يكن أكتب كاتب لكان أشعر شاعر، ولكنهما كفتان كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى. ويظهر أنه راجع نفسه فيما بعد أو أن بعض الناس اعترضوا عليه في قوله عن هذا العاجز: لو لم يكن أكتب كاتب لكان أشعر شاعر، فعاد إلى نفس العبارة وأنزلها إلى قوله: لو لم يكن كاتبا فريدا لكان شاعرا مجيدا، فهما كفتان كلما رجحت الواحدة أشالت الأخرى.
ولست أقصد بهذا النقل شيئا من الاعتراض عليه، ولا أنا ممن يسوقه الغرور إلى أن يظن في نفسه أنه أشعر شاعر أو أكتب كاتب، ولا أنه كاتب فريد وشاعر مجيد، وما حفلت في حياتي بشيء من هذه الألقاب، ولا احلولى في صدري ما ينحلني الناس إياه منها؛ كأمير البيان، وما أشبه ذلك، والجواد عينه فراره، والشاعر لقبه شعره، والكاتب سمته بيانه، والإنسان حليته عمله، ولكني ذكرت عبارة المنفلوطي في عرض الكلام عن كفتي النظم والنثر اللتين إن غلبت إحداهما على الأخرى سحقتها في أعين الناس كما جرى لشوقي. (4) مثال من نثر شوقي
ومن أحسن ما رأيت لشوقي في باب النثر مقدمته لشوقياته، الطبعة الأولى، ولا أعلم لماذا حذفوا له تلك المقدمة في الطبعة الثانية، وهو قد برع فيها على الكتاب فضلا عما برع في ديوانه على الشعراء، ولعل الذي علا فيه ذلك اليوم ذلك العلو هو كونه عالج موضوعا كان أدرى به من غيره، وهو موضوع الشعر الذي كانت مهجته مصوغة منه ومحبوكة به، فجاء كلامه في هذا المقام بدعا لا ينظر وفرى فريا يخلد ولا يقلد، انظر إلى قوله:
وكان أبو العلاء يصوغ الحقائق في شعره ويوعي تجارب الحياة في منظومه، ويشرح حالات النفس، ويكاد ينال سريرتها، ومن تأمل قوله من قصيدة:
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وقابل بين هذا البيت وبين قول أبي فراس:
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
ثم انظر إلى الأول كيف شرع سنة الإيثار وبالغ في إظهار رقة النفس للنفس وانعطاف الجنس نحو الجنس، وإلى الثاني كيف وضع مبدأ الأثرة وغالى بالنفس ورأى لها الاختصاص بالمنفعة في هذه الدنيا تعيش فيها جافية ثم تخرج منها غير آسية، علم أن شعراء العرب حكماء لم تعزب عنهم الحقائق الكبرى، ولم يفتهم تقرير المبادئ الاجتماعية العالية، وأنهم أقدر الأمم على تقريبها من الأذهان وإظهارها في أجلى وأجمل صور البيان.
وكان أبو العتاهية ينشئ الشعر عبرة وموعظة وحكمة بالغة موقظة، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يرجع إليه كذلك في الوعظ والإرشاد، والتحذير من الرذائل، والإغراء بالفضائل ...
إلى أن يقول:
اشتغل بالشعر فريق من فحول الشعر جنوا وظلموا قرائحهم النادرة وحرموا الأقوام من بعدهم؛ فمنهم من خرج من فضاء الفكر والخيال ودخل في مضيق اللفظ والصناعة، وبعضهم آثر ظلمات الكلفة والتعقيد على نور الإبانة والسهولة، ووقف آخرون بالقريض عند القول المأثور «القديم على قدمه»، فوصفوا النوق على غير ما عهدها العرب عليه، وأتوا المنازل من غير أبوابها ودخلوا البيداء على سراب. وانغمس فريق في بحار التشابيه حتى تشابهت عليهم اللجج، ثم خرجوا منها بالبلل، وزعمت عصبة أن أحسن الشعر ما كان بواد والحقيقة بواد، فكلما كان بعيدا عن الواقع منحرفا عن المحسوس مجانبا للمحتمل كان أدنى في اعتقادهم إلى الخيال وأجمع للجلال والجمال، حتى نشأ عن ذلك الإغراق الثقيل على النفس والغلو البغيض إلى العقول السليمة.
على أن الكل قد مارسوا الشعر فنا على حدة، واتخذوه حرفة وتعاطوه تجارة إذا شاء الملوك ربحت، وإذا شاءوا خسرت. ثم لم يكفهم ذلك حتى هجوا الشعر وذموه بكل لسان فزعموه مجلبة الشقاء، وقالوا إنه محسوب على الشعراء يفيض من أرزاقهم وينحت من قلوبهم ويعرضهم لإراقة ماء الوجوه. ولقد والله زعموا صدقا وقالوا حقا، وإن هذا لجزاء فئة يتوقعون أرزاقهم من ملوك كرام يخلقهم الله لرواج حرفتهم، فإذا لم يخلقوا كسدت الحرفة وأخطأت الأرزاق، على أنه يستثنى من هؤلاء قليل لا يذكر في جنب الفائدة الضائعة بضياع الشعر مديحا في الملوك والأمراء، وثناء على الرؤساء والكبراء، وإلا فمن دواوينهم ما يخلق أن يكون المثال المحتذى في شعر الأمم كابن الأحنف مرسل الشعر كتبا في الهوى ورسائل، ومتخذه رسلا في الغرام ووسائل، وكابن خفاجة شاعر الطبيعة ومجنون ليلاها وواصف بدائعها وحلاها، وكالبهاء زهير سيد من ضحك في القول وبكى، وأفصح من عتب على الأحبة واشتكى، وحسبك أنه لو اجتمع ألف شاعر يعززهم ألف ناثر على أن يحلوا شعر البها أو يأتوا بنثر في سهولته لانصرفوا عنه وهو كما هو.
ولا أرى بدا من استثناء المتنبي مع علمي أنه المداح الهجاء؛ لأن معجزه لا يزال يرفع الشعر ويعليه ويغري الناس به فيجدده ويحييه، وحسبك أن المشتغلين بالقريض عموما والمطبوعين منهم خصوصا لا يتطلعون إلا إلى غباره ولا يجدون الهدى إلا على مناره، ويتمنى أحدهم لو أتيح له ممدوح كممدوحه ليمدحه مثل مديحه أو لو وقع له كافور مثل كافوره ليهجوه مثل هجائه، فمثل أبي الطيب في تشبه الشعراء به وسعيهم لبلوغ شأوه في المدح أو الهجو كمثل قائد مشهور الأيام معروف بالحزم والإقدام، قد أشربته قلوب الجند وملئت نفوسهم ثقة منه، فلو قذف بهم في مهاوي الهلاك وهم يعلمون لما جبنوا ولا أحجموا، هذا مع اعترافهم بأن المتنبي صاحب اللواء، والسماء التي ما طاولتها في البيان سماء، ولو سلم من الغرور وسلم الناس من لسانه لأجللته إجلال الأنبياء.
والحاصل أن إنزال الشعر منزلة حرفة تقوم بالمدح ولا تقوم بغيره تجزئة يجل عنها ويتبرأ الشعراء منها. إلا أن هناك ملكا كبيرا ما خلقوا إلا ليتغنوا بمدحه ويتفننوا بوصفه ذاهبين فيه كل مذهب، آخذين منه بكل نصيب، وهذا الملك هو الكون؛ فالشاعر من وقف بين الثريا والثرى يقلب إحدى عينيه في الذر ويجعل أخرى في الذرى، يأسر الطير ويطلقه ويكلم الجماد وينطقه ويقف على النبات وقفة الطل، ويمر بالعراء مرور الوبل، فهنالك ينفسح له مجال التخيل ويتسع له مكان القول، ويستفيد من جهته علما لا تحويه الكتب ولا توعيه صدور العلماء، ومن جهة أخرى يجد من الشعر مسليا في الهم ومنجيا من الغم، وشاغلا إذا أمل الفراغ ومؤنسا إذا تملكت الوحشة، ومن جهة ثالثة لا يلبث أن يفتح الله عليه، فإذا الخاطر أسرع، والقول أسهل والقلم أجرى، والمادة أغزر، بحيث لا تمضي السنون حتى تتداول الأيدي مؤلفاته. وإذا مات أكبر الناس من بعده مخلفاته، أولم يكن من الغبن على الشعر والأمة العربية أن يحيا المتنبي مثلا حياته العالية التي بلغ فيها إلى أقصى الشباب ثم يموت عن نحو مائتي صفحة من الشعر تسعة أعشارها لممدوحيه والشعر الباقي هو الحكمة والوصف للناس؟
هنا يسأل سائل: وما بالك تنهى عن خلق وتأتي مثله؟ فأجيب أني قرعت أبواب الشعر وأنا لا أعلم من حقيقته ما أعلمه اليوم، ولا أجد أمامي غير دواوين للموتى لا مظهر للشعر فيها، وقصائد للأحياء يحذون فيها حذو القدماء. والقوم في مصر لا يعرفون من الشعر إلا ما كان مدحا في مقام عال، ولا يرون غير شاعر الخديوي صاحب المقام الأسمى في البلاد. فما زلت أتمنى هذه المنزلة وأسمو إليها على درج الإخلاص في حب صناعتي وإتقانها بقدر الإمكان وصونها عن الابتذال، حتى وفقت بفضل الله إليها. ثم طلبت العلم في أوروبا فوجدت فيها نور السبيل من أول يوم، وعلمت أني مسئول عن تلك الهبة التي يؤتيها الله ولا يؤتيها سواه، وأني لا أؤدي شكرها حتى أشاطر الناس خيراتها التي لا تحد ولا تنفد، وإذ كنت أعتقد أن الأوهام إذا تمكنت من أمة كانت لباغي إبادتها كالأفعوان لا يطاق لقاؤه ويؤخذ من خلف بأطراف البنان، جعلت أبعث بقصائد المديح من أوروبا مملوءة من جديد المعاني وحديث الأساليب بقدر الإمكان إلى أن رفعت إلى الخديوي السابق قصيدتي التي أقول في مطلعها:
خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهن الثناء
والتي غزلها في أول هذا الديوان، وكانت المدائح الخديوية تنشر يومئذ في الجريدة الرسمية وكان يحرر هذه أستاذي الشيخ عبد الكريم سلمان، فدفعت القصيدة إليه وطلبت منه أن يسقط الغزل وينشر المدح، فود الشيخ لو أسقط المديح ونشر الغزل، ثم كانت النتيجة أن القصيدة برمتها لم تنشر، فلما بلغني الخبر لم يزدني علما بأن احتراسي من المفاجأة بالشعر الجديد دفعة واحدة إنما كان في محله، وأن الزلل معي إذا أنا استعجلت.
اجتزأنا بهذا القسم من مقدمة «الشوقيات»؛ لأن فيه ما يدل على غيره، وهو ولا شك قد أجاد هنا ما لم يجد في مكان آخر من نثره؛ لأنه الموضوع الذي هو أملى به وأقوم عليه، وكلما كان الإنسان علامة بأمر كان كلامه فيه أوضح وأبين، وعنه أسلس وأحسن، وقد حاول شوقي أن ينثر وينشر من نثره حتى لا يقال إن الشعر قعد به عن النثر قعودا لا يرضاه لنفسه، فلم يبال الناس نثره ولا تلقوه بالاحتفال اللائق بمثل شوقي، لا لأنه كان ركيكا بحد ذاته ، بل لأنه كان غثا في جانب سمن شعره.
شوقي واليازجي
ولما اطلع العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي على رسالة شوقي المسماة ب «عذراء الهند» كتب عنها فصلا في مجلته «البيان» أتذكر منه أن قال ما معناه: «كيف يرضى إنسان بعد أن يكون في الشعر هو الأول أن يكون في النثر هو الأخير.» ولقد بالغ اليازجي في الغض من نثر شوقي وحدانا ذلك وقتئذ برغم صداقتنا الشخصية مع اليازجي ومدائح اليازجي الكثيرة الأثيرة للعائلة الأرسلانية من قديم الزمان أن نهب للدفاع عن شوقي؛ إذ من أظلم الظلم أن يقال إن شوقي كان المجلى في النظم والسكيت
1
في النثر، بل كان شوقي من الكتاب البلغاء المبرزين لولا أن شعره سبق نثره بكثير؛ لأنه ما أراد إلا أن يكون الشاعر المقدم كما تقدم.
وأنحى اليازجي في مجلته «البيان» على شوقي بنقد شديد في روايته «عذراء الهند» تجاوز فيه الحد وجار عن القصد، وتعقبه في ألفاظ وجمل زعم أنها مما لا تجيزه قواعد العربية؛ وكأنه أراد أن يسقط منزلة شوقي بين الأدباء؛ لأن الأديب لا يصح أن يسمى أديبا إلا إذا استكمل أداته من اللغة والنحو والصرف والبيان، وإلا فإنه يبقى متأخرا في صفوف المتأدبين مهما سمت معانيه وزهت تصوراته وأثر كلامه ونفذت طعناته؛ وذلك أن الناس أجمعوا على أن الفصاحة واللحن لا يجتمعان، وأن من نقص حظه من النحو نقص حظه من الأدب، وليس هذا منحصرا في العرب بل هو عند الإفرنج أيضا؛ فليس عندهم لمنقوص النحو مكانة أدبية تذكر. وقال «أناطول فرانس»، وهو من أعظم أدباء أوروبا: «لا يقول الكاتب قولا سديدا إلا بنحو متين ولغة صحيحة.» وقال بوالو: «أعلى الكتاب كعبا إذا حرم الرسوخ في اللغة فليس بكاتب.» فمهما نبغ شوقي وفاق أقرانه في سعة التخيل ولطف التأثر، فإنه كان يكون منقوص البهاء لو آنس الناس فيه ضعفا من جهة العربية.
هذا في الحقيقة لا نزاع فيه لو كان شوقي ممن يصدق عليه مثل هذا الوصف، ولكن شوقي كان شاعرا كامل الأدوات وكان ريان من العربية الفصحى، وكانت لغته متساوية مع فكرته، فإذا سألت عليه شعاب الفكر جاء بكل لفظ فحل ومعنى بكر، وحاط كلامه من قرنه إلى قدمه بنحو راسخ ولغة تبعد عنها الركاكة فراسخ. فأما أن يجد اليازجي متعلقا لانتقاد ومتسلقا لانتقاص، فإننا لو عرضنا كلام القوم بأسره على علماء النحو وحفظة اللغة لما عز عليهم أن يجدوا في كل قول مقالا، ولما بعد أن يجدوا في كل جملة مأخذا؛ لا سيما إذا كان النحوي أو اللغوي يتقصد إظهار طوله وإثبات إحاطته. (1) علم اليازجي وتعنته
وقد كان اليازجي في عصرنا من أبصر جهابذة اللغة وأفرس فرسان الإنشاء، ولم يكن يؤتى من جهة كهذه، وكان من أمتن من عرفنا تركيبا وأجودهم سبكا، ولكنه كان مولعا بالتعنت متهافتا على التنقص، ضيق العطن لا يتردد في تحجير الواسع مهما اتسع، وكان إذا لم يطلع على مسألة من المسائل نفاها عن العربية، وإن لم يجد في المعاجم المعروفة بين أيدينا لفظا من الألفاظ أسجل بأنه ليس بعربي، ولم يتنبه إلى أن اللغة بحر لا ساحل له، وأن تحجير الواسع في العربية ضرب من العبث، وأنه ما انتقدت عبارة إلا رد عنها بتخريج، وأنه ليطول بنا أن نصف غلوه في هذا المذهب ونحصي الكلمات التي كان يمنعها بحجة أنها لم ترد في المعاجم، ولكننا من قبيل التمثيل نذكر أنه كان يمنع لفظة «احتمى» إلا بمعنى الحمية عن الطعام، فأما احتمى مطاوع حمى فكان يراها خطأ في اللغة، ولو اطلع على قول عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي:
حمت كل واد من تهامة واحتمت
بصم القنا والمرهفات البواتر
لعلم أنه هو الذي أخطأ بتخطئته للوارد من كلام العرب، وكان يمنع أن يقال «نوال» بمعنى «نيل»، ولا يرضى لها تخريجا، ولو قرأ، وأظنه من شعر الحماسة:
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
لعلم أنه لم يكن على صواب فيما ذهب إليه.
وعابني مرة في مجلته باستعمالي «النواقيس» بمعنى الأجراس؛ وذلك لأنه قرأ في كتب اللغة أن الناقوس إنما هو الخشبة التي يضرب عليها القسيس يدعو بها النصارى للصلاة، فتمسك بهذه الخشبة تمسك أعمى في قرنة، كما يقال، ولم يشأ أن يجيز الناقوس للجرس الذي من نحاس وخطأ كل من استعمل ذلك حتى من الكتاب الأولين، واضطررنا أن نرد عليه وأن نفهمه أنه إذا كان يتمسك بكل تحديد نقله علماء اللغة ولا يقبل فيه توسعا، فإنه ينتهي الأمر بأن يقاتل نفسه بسلاحه، فإنه هو يستعمل البيت بمعنى هذا البناء المبني من الحجر أو من الطين، والحال أن العرب عرفت البيت أنه من الوبر، وأنه هو يستعمل الشباك للنافذة التي يكون فيها شباك من حديد، والحال أن كتب اللغة تعرف الشباك بأنه ما شبك من القصب. فإذا كان التمسك بتعريفات المعاجم اللغوية حتما لا مناص منه فاستعمال الشباك إذا كان من حديد واستعمال البيت إذا كان من حجر أو لبن يكون إذن غلطا! والحقيقة أن هذه الألفاظ ربما كانت في الجاهلية موضوعة لتلك المعاني على الصورة التي كانت فيها أيام البداوة، فلما دخل العرب في طور الحضارة والترف استعملوا تلك الألفاظ لما ناسب درجة مدنيتهم. فالبيت الذي كان من شعر صار من حجر، وربما من حجر منحوت وبقي يسمى بيتا؛ لأنهم جعلوه بمعنى المأوى ولأن أصله من المبيت، فسواء بات الإنسان في مأوى من الشعر أو من الحجر فيصح أن يقال لمأواه هذا «بيت». وكذلك الشباك الذي كان من قصب أيام لم يكن الحديد مبذولا بقي يقال له الشباك بعد أن سخر الله الحديد للناطقين بالضاد وألانوا منه القضبان، وكذلك الناقوس كان خشبة في أيام الجاهلية فصار في أيام المدنية نحاسا وبقي يقال له «ناقوس» ونطق به الفصحاء. وقلنا لليازجي: إنك تعيب كتاب هذا الزمان في فصل تنشره تباعا تحت عنوان «لغة الجرائد»، ومن قال لك إن الجريدة يعنى بها هذه الورقة المكتوبة التي تصدر في أوقات معلومة ويقرؤها الناس؛ فالجريدة بهذا المعنى إنما هي من مواضعات المولدين. وإذا بحثت عن تحديد الجريدة في كتب اللغة لم تجد سوى «سعفة النخل اليابسة» أو «الخيل لا رجالة فيها»، فهل أنت تريد أن تقول «لغة سعفات النخل اليابسة» أو «لغة الخيل لا رجالة فيها»؟ وتعقبناه ذلك اليوم في ألفاظ كثيرة وقد ضاع هذا الفصل من بين أوراقنا.
نعم، لو كنا نجاري الشيخ إبراهيم اليازجي فيما كان يحجر فيه من واسع اللغة لما كان في لغات العالم أضيق من العربية، ولكن تحجيره هذا إنما كان في انتقاداته لغيره، فإذا رجعنا إلى مجلته «الطبيب» التي كان ينشئها في بيروت مع الدكتورين بشارة زلزل وخليل سعادة أو إلى مجلته «البيان» التي كان يصدرها في مصر، وطالعنا ما فيها من فصول شائقة لا سيما في المواضيع الطبيعية والفلكية والكيماوية وما أشبه ذلك، فإننا نجد اليازجي وسع على نفسه ما حجر على غيره، واستعمل الألفاظ العربية للمعاني العصرية بأقل ما بينها من ملابسة، وسيأتيك في اعتراضاته على شوقي ما يجزيك في معرفة مذهبه في الانتقاد على غيره. (2) رد المؤلف على اليازجي في الدفاع عن شوقي
ليس تحت يدي الآن العدد الذي فيه انتقاد اليازجي لرواية «عذراء الهند»، ولو كان تحت يدي لأثبت هذا الانتقاد برمته وقابلته بردي أنا عن شوقي. على أن القارئ قد يعلم من الرد أساس الاعتراض؛ فجوابي فيه الأخذ والرد معه، ولهذا ننشره نقلا عن جريدة الأهرام «عددها 6032» المؤرخ في يوم الثلاثاء 25 يناير سنة 1898 وفق 3 رمضان سنة 1315، أي إن هذا الرد مضى عليه أكثر من سبع وثلاثين سنة:
لعل للعذراء عذرا
أجل العلماء عن أن يقال ليس لهم صداقة، وإنما يقال: إن ليس لهم صداقة على العلم، ولا مشايعة على الحكمة، ولا تسامح في الحقائق، وإنهم لا يرعون في الحق خليلا، ولا يرضون من أمانة العلم بدلا قليلا، ولا سيما في هذا العصر الذي إذا انتسب إلى خاصة تغلب عليه كانت الانتقاد، أو اتصف بمزية تفضل سائر المزايا فهي التحقيق.
ولذلك لا ينبغي أن يحمل انتقاد «البيان» رواية «عذراء الهند» للشاعر المفلق أحمد بك شوقي إلا محمل البحث الأدبي الصرف ، وألا يحسب إلا من قبيل توفية النقد حقه والقيام بواجب الخدمة العلمية، ونعم الغرض هذا وحبذا القصد. وبناء على قاعدة البيان وتشبها به، والتشبه بمثله فلاح، أتطفل بإبداء بعض خواطر خطرت لي بين هذه المآخذ التي أخذها البيان على عذراء الهند، بقدر ما طال الفكر ووسع اللحظ، مائلا في بعضها إلى تصويب رأي البيان، وفي البعض الآخر إلى تأييد نص الرواية وتاركا الحكم في ترجيح الآراء إلى أهل الفضل وأرباب الدراية، فإن كنت أصبت المرمى في بعض ما رأيت فقد تصاب الرمايا ولو لم تشتد السواعد، وإن كنت واقعا في الوهم وظهر الحق في جانب سواي، فليس بثقيل الإقرار لمثل شوقي بك، وليس بمغلوب من غلبه الشيخ!
أما اعتراض البيان على الإهداء في مقام تقديم الرواية إلى الجناب الخديوي فهو من التعمية بحيث لم أفهم وجهه جليا، وإنما استدللت على أن المقصود عدم مناسبة إتحاف الجناب العالي برواية موضوعة فيما هي موضوعة فيه، وقد يعتذر ناسج الرواية بأن ليس ثمة ما يمنع تقديم كتاب يتصل بتاريخ مصر القديم إلى عزيز مصر الآن، فلكل من المعترض والمعترض عليه وجهة.
وأما أخذه على «الكاتب وما كتب غراس نعمائك وجنى ظلك ومائك» بأنه لا يصح إلا من تلميذ لأستاذه، ولا يصح من مربوب لولي نعمته، وأنه لا يمكن أن يكون ما كتبه من غراس الأمير وأي علاقة بين النعماء والإنشاء؟
فقد استغربته جدا من البيان على سعة اطلاع المعترض وطول باعه ورسوخه في آداب العرب، وكونه قد طالع ولا شك من هذا المعنى شيئا كثيرا.
وإن مثله لا يخفى عليه أن الكتاب والشعراء طالما تكلموا في معنى أن إنعام الممدوح هو مصدر فصاحة المادح، وأن در القول مستنبط من بحر الجود.
وقالوا أيضا: إن اللهى تفتح اللها، وأظن أنا نستغني في مقام كهذا عن التعزيز بالشواهد المستفيضة في النظم والنثر خصوصا لمن كان يحفظ ديوان المتنبي، وقد شرحه وهو غير خال من هذه المعاني، فكيف لا يجوز - لعمري - لشاعر الخديوي أن يقول لمولاه وولي نعمته: إنني أنا وما أكتب غراس نعمائك، وأي غرابة فيه؟ بل أي غبار عليه؟
وأما قوله: «وجنى ظلك ومائك.» فلا أنكر أنها بالشعر أليق منها بالنثر، لكنها قد تتمشى مع العبارة الأولى ولا لزوم لخرطها فيما لا يجوز والذهاب لأجل توجيه الاعتراض إلى بعيد من قبيل أن الظل لا يكون سببا للجنى، وأن الغراس في الظل لا يثمر وأنت تعلم أنه لا غراس بلا ظل وأن الظل غير مانع من الجنى.
وليس من الضروري في سجعة كهذه استيفاء جميع العناصر التي تخرج الثمر، وذكر الحرارة والرطوبة والكربون والهيدروجين، فضلا عن كون الظل هنا مأخوذا بالمعنى المجازي والعبارة كلها مجازية، والمجاز هو أصل وضع البيان.
وأين نذهب مع ظل الله وظل الأمن وظل العدل وظلال مجردة كثيرة ممتدة في الكلام العربي ليس لما تضاف إليه أدنى حجم؟
وأما غموض قوله: «فإذا وفق ليرفع إليك عملا فقد أسند أفعالك في الفضل إلى أسمائك»، فلا أجادل فيه فإن غموضه واضح، لكني أقول: إن شوقي بك غالب عليه الشعر فيحسب نفسه وهو في النثر أنه في النظم، بل هو يحكي المتنبي أحيانا في عدم وضوح معانيه لأول وهلة فلا يفهم القارئ بعض جمله إلا بعد التأمل بل التعمل.
وأما اعتراض «البيان» على «أحب إخوته الكثيرين إلى الأمم» بأنه من التراكيب التي منعها أهل العربية حسبما نص على ذلك الحريري في درة الغواص، وأن رد الخفاجي عليه لا يسلم من الرد، فأقول فيه: إن الرد على الخفاجي لا يسلم من الرد أيضا، وهو قد أورد في مقام الدفاع عن جواز هذا التركيب ما يستحق النظر وإنه وإن لم يكن هنا مقام استيفاء تعليلات كهذه فلا بأس بإيراد بعضها كقولهم: إن أفعل التفضيل قد يخلع عنه ما امتاز عن الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي.
وكقولهم: إنه قد يكون للدلالة على زيادة مطلقة لا مقيدة نحو قولهم: يوسف أحسن إخوته، وكما قالوا إن أفضل إخوته بمعنى أفضل الإخوة على حد قوله تعالى:
يتلونه حق تلاوته ؛ أي حق التلاوة، وأنشدوا قول عبد الرحمن العتبي:
يا خير إخوانه وأعطفهم
عليهم راضيا وغضبانا
وناهيك أن نحويا كابن خالويه أجاز هذه العبارة، ولا نظن أديبا مثل شوقي بك، قد رأينا ما رأينا له من الآثار الدالة على سعة اطلاعه في العربية يقدم على هذا الاستعمال إلا وهو يرى رأي الذين أجازوه، ويستحيل أن يكون مثله لم يمر بهذه الاعتراضات وردها.
وأخذ البيان على قوله: «وأمتنهم أعلاقا في القلوب.» وذلك بأن الأعلاق جمع علق بالكسر؛ وهو الشيء النفيس، وأن حقها أن تكون علائق، وقد استغربنا وايم الله صدور ذلك عن لغوي ثقة مثل الشيخ، والأعلاق تأتي جمعا لغير العلق بالكسر فتأتي جمعا للعلق بالتحريك.
والعلق يأتي بمعنى البكرة وأداتها.
وبمعنى الحبل المعلق بالبكرة.
وبمعنى الرشاء مطلقا، وأنشد له في لسان العرب: عيونها خزر لصوت الأعلاق.
وأظن أن في هذه الألفاظ كلها من معنى العلاقة والتعليق ما يسوغ لشوقي أن يقرنها بالمتانة في معنى ارتباط القلوب.
وأما كون «أجذبهم بأزمة الرأي العام» من المواضعات الإفرنجية درجت عليها الجرائد في هذه الأيام، وليس كل ما تأتي به يجوز اتباعه، فلنشرح هذه الجملة: أما «جذب الزمام» بنفسه فلا يجادلنا البيان بأنه عربي مبين.
فلم يبق إلا عبارة «الرأي العام» وهي مترجمة عن لغات الإفرنج لشيوع هذه العبارة عندهم وعدم وجود ما يسد مسدها عندنا بالتمام، ولننظر ماذا يوجد فيها من المخل بالفصاحة: أما الرأي فهو الرأي لا ريب فيه.
وأما اتصافه بالعام فهو كاتصاف البلاء مثلا بالعام، فيقال: بلاء عام وبلاء شامل.
ويقال: أمر عمم، ويفسره أهل اللغة بأنه تام عام.
ويقول شاعر الجاهلية:
يا ليت شعري عنك والأمر عمم
ما فعل اليوم أويس بالغنم
فإن كان يقال: أمر عمم، فلماذا لا يقال: رأي عام وأي إثم فيها؟
وقولك بمعناها «أهواء النفوس» لا يؤدي حقيقة المقصود من قولهم «الرأي العام».
ومن العجب أن يعترض على مثلها البيان، وهو الذي يكتب في «اللغة والعصر» ويدعو إلى وجوب الوضع قضاء لحاجة العصر ووفاء بالمعاني الحديثة التي لم تكن عند العرب. على مخالفة رأيه هذا لما عليه جمهور أهل اللغة من أن اللغة سماعية لا قياسية، فكيف يعترض بعدها على «الرأي العام»؟ وليس فيها خروج عن المألوف ولا وضع جديد ولا صوغ ولا نحت.
وأنت لو طالعت الكتب العربية، خصوصا كتب العلم والحكمة، لم تجدها خالية من استعمالات كثيرة تساقطت - والله أعلم - إلى العرب من لغة اليونان والفرس أيام ترجمة كتبهم لعهد العباسيين؛ فالعربي القديم لم يسلم من هذه المواضعات فما ظنك بالعربي الحديث وقد أغارت عليه المعاني الأعجمية من كل جهة حتى اختلط الحابل بالنابل.
حتى إن «البيان» نفسه على نقاء لغته لا يسلم منها حين يقول في العدد الأخير الذي صدر فيه الانتقاد «رزئ العالم الأدبي»، فهي عبارة عصرية محضة مترجمة بالحرف عن الإفرنجية، وليست من أساليب امرئ القيس ولا الأعشى، ولا من تراكيب الإمام علي ولا المخضرمين، بل ليست من المولد، وإنما هي من أوضاع الجرائد السيارة.
ومثلها استعمال «البيان» مثلا «تنازع البقاء» عصرية محضة، وتعابير كثيرة ليس هنا محل سردها.
أما قول شوقي بك: «مدين لنصحها الثمين»، فليس بمعذور فيه عذره في «الرأي العام» التي جرت مجرى الأعلام.
غير أني عجبت جدا من أخي شوقي كيف لامني على مثلها أيام اجتماعنا بباريز،
2
ثم عاد هو إلى استعمالها حال كوني أنا تركتها بالمرة إكراما للعربية ولخاطره، فماذا طرأ عليه حتى صار يأتي الآن ما كان ينهى عنه؟
وأما «باحوا بسر المأمورية»، فلا يمكن لي أن أعد المأمورية مما لا يصح استعماله، والنسبة إلى الأسماء من صفة وموصوف إذا لحقتها التاء تفيد المصدرية فيقال: عجبت من حجرية هذا؛ أي من صلابته.
وقالوا كثيرا: الفاعلية والمفعولية والشاعرية وهلم جرا.
وأما استعمال شوقي بك البرهة بمعنى هنيهة فهو استرسال إلى اصطلاح العامة أو عدم تحقيق.
ومثله الصدفة بمعنى المصادفة؛ فقد غلب استعمال الناس لها وهم لا يعلمون أنها عامية، وأما استعمال «العائلة» بمعنى الأسرة فهو وارد، وتخطئة البيان له مع قوله: كأنها تصحيح قول العامة «عيلة» وكلتاهما لا تأتي بهذا المعنى، إنما يقال عيال الرجل وعيله بالتشديد، فهذا فيه نظر وهو من الحريري في درة الغواص، وقد تعقبوه بما أظهر خطأه، وروي من الحديث «أتخافين العيلة وأنا وليهم.» وفسروه بالعيال، والأرجح أن يكون أطلق على أسرة الرجل العيلة التي هي الفقر لكونهم سبب الفقر كما قيل: قلة العيال أحد اليسارين.
هذا ويجوز أن تكون عائلة بمعنى معولة وليست هذه بأول مرة ورد فيها فاعل بمعنى مفعول؛ فقد قالوا: ساحل بمعنى مسحول، سحله ماء البحر وهلم جرا.
وأما «الهوادس» فالحق فيها مع البيان إلا أن تكون غلطة طبع.
نصل إلى قول شوقي بك في التاريخ المصري: «إن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر، فهي عين تارة وأثر، تموت بحجر وتحيا بحجر.»
أقول: هذه عبارة شبيهة بالشعر لكنها من أبلغ ما قرأت في الكلام العربي وأتأسف أن يكون البيان تعمد مثلها في الانتقاد.
ومعناها ظاهر؛ إذ لا يخفى أن التاريخ المصري القديم مبني على الآثار الحجرية والكتابات الهيروغليفية، وأن معظم معول المؤرخين لأعصر الفراعنة هو على هذه الحجارة لفقدهم القرطاس فيه، فبينما يتقرر عند المؤرخين شيء يظنونه الحقيقة الأخيرة بما يطلعون على كتابة في حجر أو نقش على عمود؛ إذ انكشف لديهم حجر آخر كان مدفونا جاء فيه ما لا ينطبق على الأول أو ما فيه زيادة عليه، فتغيرت تلك الحقيقة وانقلب ذلك التاريخ.
ولهذا كان ينكشف منه كل يوم شيء جديد، وصح أن يقال: إن حجرا من هذه الحجارة يحيي لقديم مصر تاريخا وإن حجرا يميته، ولا أرى هذه الجملة في شيء من الطلاسم والرقى كما قال البيان، وأعتقد أنها لا تشكل على أحد، فأما إن كان أغاظ البيان حذفه إحدى التارتين من قوله: «فهي عين تارة وأثر»، فالخطب يسير ولا بأس به لأجل الإيجاز ورشاقة الجملة مع قيام الدليل على التارة المحذوفة.
وأما اعتراض «ما عساي ناولتك مما فات التفاتي قدره»، فأوافق البيان فيه من جهة التعمية على أن قوله: عساي ناولتك يتضمن معنى لعلي ناولتك، فقد حكى الأزهري عن الليث أن عسى تجري مجرى لعل.
وأما قوله: «مرتين لا متتاليتين ولا متعاقبتين»، فهو غامض أيضا.
وأما «تتلاشى متوارية وتتوارى متلاشية»، فهو جائز.
وأما عبارة «حوار الماء والتيار»، فلم أعلم ماذا سبقها وما هو المراد منها، ولكنها على كل حال مبهمة، وأما جملة «كان الفصل نيلا خفيفا ثقيلا جفيفا بليلا» إلى آخر ما ذكر، فهي بالشعر أليق منها بالنثر.
وأما «فرغت الزجاجات ولم يفرغ من الشراب»، فالمعنى فيه ظاهر وهو أنه لا يفرغ من طلب الشرب. أما قوله: «تركه شيئا ليس بالحي»، فلا أعلم ماذا تقدمه وماذا تأخر عنه؛ لأني لم أظفر بالرواية مجموعة، وما هو منثور منها في الجريدة لم يحفظ عندي، وإنما أقول: إنه إن كان ما بعد «ليس بالحي» قوله: ولا الميت، فهو مقبول وإلا فلا.
وأما «أجهد أذنيه»، فإن كانت بغير معنى أتعب سمعيه فلا تأتي.
غير أن قوله: «أخذ النوم يطمئن بمقاعده من الأجفان» فضلا عن كونه ليس محلا للاعتراض، فهو كلام شعري بديع.
وأما «ارتجال النظر» فهو غريب، ومثله ارتجال النور ولا مسوغ لذلك، فإن كان بعض فحول البلاغة من كتاب الإفرنج وشعرائهم مثل بوسويه وهوجو مثلا قيل عنهم إنهم كانوا يرتجلون الألفاظ لمعانيهم ويسخرون اللغة لمقصودهم، وكان الناس لا يكبرون عليهم هذا الأمر بما بهرهم من فصاحتهم وبلاغتهم فلم يكونوا يأتون ما أتى من هذا القبيل عند وجود المناسبة بين اللفظ والمعنى، وأي مناسبة هنا؟
أما «الفكاك» الذي أخذ على استعماله البيان في قوله: «مانع للفكاك» فيقصد به الحركة والانطلاق من قولهم: كل شيء أطلقته فقد فككته، ويؤيد ذلك تأكيده بقوله: «مفقد للحراك.»
وأما «الشراك» فلا يأتي بمعنى حبائل الصائد، وإنما هي الشرك حسبما قرر البيان.
وأما «غير قادر المشيب»، فلم أفهمه جيدا.
وأما قوله: «ثم تواكل الثلاثة بالباب فلم يزالوا به حتى كسروه»، فأظن أن المقصود توكل بدون ألف، وأن الألف زائدة من غلط الطبع، وأن أديبا راسخا مثل شوقي بك لا يخفى عليه مثل هذا. وغلط الطبع يقع كثيرا حتى في نفس البيان مع كثرة مراجعات الشيخ في تصحيح المسودات، ألا ترى أنه ورد فيه هذه المرة «بحيث كان كل منها ضاربا ومضروبا» بدل كل منهما.
ثم انتقد البيان بعض أبيات الرواية من جهة الوزن واستغرب وقوع الناظم في مثله مع ما هو معروف به من طول الباع في صناعة الشعر، ولا بد من تصويب قول البيان في انتقاده هذا من الوجه العروضي إلا أنه لا ينكر أن مثل ذلك وقع أيضا للشعراء حتى الفحول منهم، وأنه مما لا يقدح في شاعرية شوقي بك لأن الشعر غير الوزن، وكل منا يحفظ «وقل أنا وزان وما أنا شاعر» على أن الظاهر من شوقي بك أنه قليل الاحتفال بهذه الصور الظاهرة، بل نراه قد يتحدى الإفرنج في شعره، فلا يبالي مثلا بأمر القوافي التي يكررها كثيرا بالمعنى الواحد كما لاحظته في همزيته الشهيرة، ولا يعبأ بتجوزات أخرى أعرفها له، وأخشى أن يتمادى به احتقار القيود الشعرية إلى أن ينظم أخيرا بدون قافية نظير شعراء الإنكليز.
وإني لأعذره عند النظم حينما يكون خاليا به شيطان الشعر مستغرقا في التأمل، غائصا في أبحر التخيل من عدم إسفافه إلى تفعيل المنسرح والسريع وتقطيع كل بيت بل كل شطر مما ينظم.
ولكني أنصحه باجتناب هذه الأبحر التي في ركوبها خطر الوقوع وإزباد علماء في العروض مثل الشيخ، والله يعلم أنني ما نظمت عليها شيئا أرويه ولي ندحة في الطويل والكامل وأشباههما عن هذه الأوزان العرجاء، وغنى بركوب تلك الأبحر الواسعة عن هذه الخلج العوجاء.
هذا ما عن لي إيراده من محاكمة هذين الفاضلين؛ لا أقصد به تهضم جانب أحد منهما ولا الاستطالة على أحد؛ فإنني أول من أقر بعجزه، ولي من مودة كل منهما ما يكفل لي تصحيح دعواي هذه.
وبالجملة فلا أبرئ البيان من التشديد في مؤاخذة شوقي بك والتحجير في الواسع، كما لا أبرئ شاعرنا الشهير من النزوع إلى أبعد مذاهب الشعر أحيانا في كتاباته، ومن تسلط التأمل على مخيلته إلى حد الذهول الذي يجعله أن يقع في فرطات منشؤها السهو، وأن يقول مثلا في بائية الحرب:
تنام خطوب الملك إن ظل ساهرا
وإن هو نام استيقظت تتألب
إذ كيف يظل ساهرا والسهر إنما يكون في الليل ولا حاجة هنا للمجاز؛ إذ يمكننا أن نقول: بات ساهرا، فلا جرم أن مثل هذا سهو صريح أدى إليه ذلك الذهول.
3
ومع هذا فلا يحزنن أخي شوقي انتقاد البيان ولا غيره؛ فليس في انتقاده ما يكفر باهر حسناته ويخفض من مقامه المنفرد في الشعر.
وليقل القائل ما شاء، فلن يزال أحمد شوقي بلبل مصر وصناجة العصر (شكيب). (3) أثر المقال في نفس اليازجي
فلما اطلع الشيخ إبراهيم اليازجي على هذا الرد قامت قيامته؛ لأنه كان بلغ به الأمر من الاعتقاد في نفسه معرفة اللغة إلى حد أنه كان لا يطيق لأحد من أبناء عصره عليه اعتراضا أيا كان، وكان لا يتردد في تجهيل أي عالم في اللغة حتى من المتقدمين الذين هم أئمة في هذا الأمر، وكثيرا ما كان يهزأ بهؤلاء الأئمة، وذكر له الشيخ سعيد الشرتوني كتابا لأحد الأدباء المتقدمين ولم يكن هذا المؤلف مشهورا، فقال له الشيخ إبراهيم: إن الكبار ما جاءت عنهم أخبار، فكيف هذا؟ وكان يلتف حول الشيخ ناشئة ومتأدبون يوافقونه على جميع آرائه ولا يجرءون على مجادلته في كثير ولا قليل، بل يتلقون كل ما يذهب إليه بالتسليم المطلق، فانتهى الأمر إلى أنه اعتقد في نفسه العصمة تقريبا. وعلى كل حال ظن أنه أعلم باللغة من أصحابها، وأسبق فيها من فرسانها، واعترض مرة على لفظة «ضوضاء» التي وردت في معلقة الحارث بن حلزة اليشكري، فقال إنها جاءت فيها مؤنثة، وإن حقها أن تكون مذكرة، أي إن أحد أصحاب المعلقات السبع أصبح يخطئ في اللغة، وإن الشيخ إبراهيم اليازجي من أبناء عصرنا يصحح له خطأه! وينسى أن النحو والصرف واللغة كل هذا مبني على كلام العرب وليس كلام العرب مبنيا عليه.
ولا ينكر أن اليازجي كان من علماء اللغة المعدودين ومن كبار الكتاب وأمتنهم تركيبا وأحسنهم نسق عبارة كما قلنا، ولكن كان بين ظنه في نفسه والحقيقة ما بين المشرق والمغرب؛ فإنه كان يخطئ في اللغة كما يخطئ غيره وإن كان خطؤه أقل من خطأ غيره، فلما رأى شابا مثلي في السابعة والعشرين من العمر وقتئذ يجرؤ على مراجعته في قوله وعلى إظهار خطئه تارة وتعنته أخرى؛ داخله من الامتعاض ما حاد به عن رشده، فنشر في مجلته «البيان» ردا شديد اللهجة فيه من بوادر الحدة وألفاظ الوقيعة ما لم يكن يليق بشيخ من أهل العلم مثله فضلا عن عدم مناسبة تلك المطاعن التي خاض فيها للبحث اللغوي المحض الذي كنا بسبيله؛ فقد خرج عن الموضوع وتعرض لأمور هي أشبه بالمهاترة منها بالمناظرة. وتكلم عنا بجمل نفث فيها كل ما كان يحك في صدره من مثل أننا «لم ندس عتبة التحقيق في علم من العلوم»، وأن قصارى أمرنا أن نعمد إلى مقالة إفرنجية ونترجم عنها فتأتي مقالتنا «عربية الحروف كردية الألفاظ»، وأنه هو يعلم أن علماء اللغة لا يقيمون لاعتراضاتنا هذه وزنا، وأنه هو ليس في شيء من الغالب والمغلوب، إلى غير ذلك من آثار العظمة والعنجهية. فلم يظن أحد أن الشيخ يستطار إلى هذا الحد من نقد كتب بأنزه ما يكون من الألفاظ وأحوط ما يكون من الأساليب لحفظ مقامه، وقد قسم رده إلى قسمين؛ أحدهما كان بتوقيعه، ومن جملة ما زعم فيه أننا سعينا لدى الحكومة العثمانية في بيروت بمنع مجلته عن دخول سورية خيفة انتشار ما فيها من الرد علينا، وقد يجوز أن يكون جاء اليازجي من بعض المفسدين خبر كهذا، ولكنه كان بهتا لا أصل له. ومن الرد ما جعله باسم أحد مريديه، واسمه بدران فيما أتذكر، وقد حاول أن يتستر وراء توقيع مريده هذا خجلا من أن يوقع هو على مطاعن شخصية ليس بينها وبين الموضوع الذي كنا فيه أدنى صلة.
وقد عاب الناس عمله هذا حتى أقربهم إليه وأغيرهم عليه، وحسبك أن بشارة باشا تقلا صاحب الأهرام ، وهو واليازجي من بلدة واحدة (كفر شيمه في لبنان) ومن طائفة واحدة هي الروم الكاثوليك، قد كتب إلي أوانئذ أن الناس أنكروا إنكارا شديدا على الشيخ إبراهيم خروجه عن الموضوع ونزوله إلى ميدان المهاترة ونشره مقالة من قلمه بإمضاء غيره.
وصادفت بعد ذلك أمين أفندي أفرام البستاني اللبناني؛ وهو من فحول الكتاب فعرض البحث عن هذه المناقشة بيننا وبين الشيخ إبراهيم، فقال لي: قد توفقت في الشيخ. فتعنت اليازجي في انتقاد شوقي لم يجن له أدنى فائدة، بل جنى عليه، وعجب الناس من أن تغرب عنه مسائل لا يجادل فيها أحد، وعجبوا أكثر من ذلك لبلوغ الحدة منه مبلغا خرج به عن الحدود. (4) رد للمؤلف على اليازجي
والآن أعود فأنقل جوابي لليازجي على رده هذا:
كل ينفق مما عنده
قد ترددنا في جواب «البيان» على ما أتى به في جزئه الأخير مما لا خلاف في كونه ليس بجواب على خطابنا، وكنا نحب الإمساك عن كل كلمة في الرد عليه تاركين الحكم في هذه القضية لأرباب العلم وأهل الذوق السليم؛ ليفتحوا بيننا وبينه بالحق معتقدين أن الحق ليس بضائع عندهم، ولكننا رأينا السكوت مطلقا عن جميع ما أورده قد يوهم بعض من لا تحقيق عنده أن قوله كان الفصل وأن الرجل قد ألزم وأفحم وأنه إنما يغرف من يم.
فاخترنا نشر هذه السطور تعزيزا لبعض ما حاول دفعه ودفعا لما اعترض به علينا جديدا، فأما سائر ما أتى به مما هو خارج عن موضوع المناظرة فلو شئنا لكان للأقلام مجال طويل في رده إليه وعكسه عليه، ولكن ذلك ليس من شأننا فنقول: أما «الكاتب وما كتب غراس نعمائك.» فقد أصبحنا في غنى عن تأييدها بما نتركه لمحفوظ القراء من هذا المعنى الذي لما لم يسع صاحب الرد هذه المرة إلا التسليم بوروده، عاد يقول: «لعلنا رأيناه مرة.» وما رأيناه إلا مرارا، بل لقد سمعنا فيه المثل، وناهيك بما أصبح مضربا للأمثال يكون مطروقا.
فأما قوله: كان يجب عليك أن تميز بين المادح وقصص المؤرخ، ويا ليت شعري هل كانت تلك الرواية خطبة أو قصيدة عدد فيها المؤلف المناقب الخديوية، حتى يقال إن نعمة الممدوح كانت على الكاتب عبارة المدح والشكر.
فجوابه، أن قول صاحب الرواية «الكاتب وما كتب» هكذا على إطلاقه لا يفيد «بما كتب» هذه الرواية وحدها.
وقد «كتب» غيرها كثيرا وأسال من المداد جما مستمدا من كتابته بنعمة مولاه الخديوي التي هو غذي درها وغارق في أبحر آلاء هو ناظم درها.
وهو الذي ملأ الآفاق بالمدائح الخديوية وسير أوابد الشعر في هذا البيت الكريم، وحسبك أن صفته الملازمة له أنه شاعر الخديوي وقد امتلأ حوض العزيز من نظمه.
ولا نعلم بعد هذا من أين جاء الشيخ هذا الشرط الذي قاله، وهو أنه يجب أن يكون كل ما يكتبه الكاتب خطبة أو قصيدة يعدد فيها مناقب سيد له منعم عليه حتى يجوز له التحدث بنعمة ذلك السيد، فإذا خرج من ذلك العرض مرق من فضل مولاه عليه وانقطعت مادة إمداده له فصار محظورا عليه التحدث بنعمته بين الناس وانقطع ما «بين النعماء والإنشاء» كما هو مقتضى كلامه.
وأما «جنى ظلك ومائك» فبعد أن قلنا له إن الظل هنا مجازي لم يبق محل لإظهار معارفنا في علم النبات والتشاغل بالظل والجنى وما يتعلق بهما.
فأما قوله: إننا أضفنا الظل إلى الغراس لا للمهدى إليه فمن يرجع إلى عبارتنا الأولى علم مقصودنا وقاس درجة هذه الدعوى من الصحة، كما أن قوله: أننا جعلنا الحرارة عنصرا، فحسبنا لتفنيده إعادة عبارتنا بالحرف، وهي هذه: «ليس من الضروري في سجعة كهذه استيفاء جميع العناصر التي تخرج الثمر وذكر الحرارة والرطوبة والكربون والهيدروجين.» نعرضها على جميع علماء العربية، هل يستفاد منها أن الحرارة مجعولة فيها عنصرا من العناصر؟ وهل يقول ذلك أحد؟ إلا إذا شاء تحريف الكلم عن مواضعه.
وأما تركيب «زيد أفضل إخوته» فالله يعلم أننا لم نكن ممن يستعمل هذا التركيب وإنما قصدنا بالدفاع عنه أن مسألة خلافية كهذه، قد حصل فيها من الأخذ والرد ما لا يمكن أن يكون غاب عن أديب راسخ مثل صاحب عذراء الهند، وأن شوقي بك لم يعدل إلى مثل هذا التركيب إلا وهو يرى رأي الذين أجازوه ولم يحجروا فيه، وذلك مثل ابن خالويه وهو يحفظ منه قول العتبى، وقول صاحب البيان: أن ليس هذا مقصود ابن خالويه لا يسلم به بلا دليل. والخفاجي قد نقل ذلك عنه وهو ممن يعلم ما ينقل ويفهم ماذا يقول.
ولما كان اعتراض البيان على هذه العبارة مأخوذا كغيره عن درة الغواص وهي بين الأيدي، وكان الخفاجي قد تعقبه هناك فمن شاء مقابلة الأخذ بالرد فعليه بمراجعة ذلك في محله ولا حاجة بنا إلى إضاعة الوقت في نقله ومنه يعلم أدلة الفريقين.
وأما «الأعلاق» فلا ينس البيان أنه منعها في البداية قولا واحدا بمعنى العلاقات، فقال ما نصه: «يريد بالأعلاق العلائق وهي لا تأتي بهذا المعنى إنما الأعلاق جمع علق بالكسر وهو الشيء النفيس.» فمقتضى كلامه الذي لا يحتمل أدنى مغالطة أن الأعلاق هي النفائس منحصرة في هذا المعنى بدليل قوله: «إنما» فقلنا له: بل الأعلاق تأتي بغير معنى النفائس فتأتي جمعا للعلق محركة وهذا يأتي بمعنى البكرة والحبل المعلق بالبكرة، وبمعنى الرشاء مطلقا، وأنشدناه هذا الشطر من اللسان:
عيونها خزر لصوت الأعلاق
دليلا على عدم انحصار الأعلاق في معنى النفائس كما ذهب إليه، فظاهر أن صوت الأعلاق في هذا الشطر لم يقصد به صوت الأشياء النفيسة.
ثم قلنا في هذه الأدوات وهي البكرة والحبل من معنى التعليق والعلاقة ما يسدد ارتباطها بالقلوب؛ وذلك لأن المجاز يقع لأول ملابسة، وهنا الملابسة شديدة، فكان من الشيخ أنه طوى كشحا على كلامنا هذا ومال إلى التهكم بتأويل الأعلاق بالحبال والبكرات وأخذ يترحم على عشاق العرب الذين لم يسبقونا إلى هذا المعنى بزعمه، ولا ذكروه في أغزالهم الرقيقة، وقال: «وإذن لكان لهم ما يصطادون به المحبوب قسرا إذا سمع صرير تلك البكرة فخزرت عيناه دهشا.» إلى آخر ما ذكر.
ومقتضاه أنه يلزم تفسير اللفظ بمعناه الحقيقي ونفى المجاز من اللغة العربية حال كون المجاز هو فصاحتها وبيانها، وعليه فصار يلزم من الآن فصاعدا إذا أردنا تفسير
فأذاقها الله لباس الجوع
أن نتخيل للجوع ثيابا ونتصور تلك الثياب في الأفواه وقد أنحت عليها الألسنة تلوكها.
وإذا قيل: حمي الوطيس، امتنع أن نفهم منه سوى مجرد حمي التنور، وإذا قيل: جناح الذل، تبادر إلى الذهن جناح ذو قوادم وخواف فيه من الريش طائل وشكير، وإذا قيل عن رجل: إنه بحر العلم، وجب أن تلتطم بين جوانحه الأمواج وتمر فوق رأسه السفن، وإذا قال البيان في نفس عبارته التي تهكمنا بها «يصطادون المحبوب»، بمعنى يجتذبونه تعين أن يكون المحبوب غزالا قد صيد بشرك نصب له، أو سهم شك فؤاده فأخذ وسلخ وشوي على النار كما يفعل بالصيد! وإلا فالمحبوب لا يصاد في الحقيقة، وهكذا نمضي في تفسير العربي كله على هذا النمط، وناهيك ما يتسع لدينا حينئذ من مجال الهزوء لا بأعلاق القلوب فقط بل بأكثر معاني هذه اللغة الشريفة، مع أن الكلام كما لا يخفى، على واسع علم المعترض، منه حقيقة ومجاز، والحقيقة هي اللفظ الدال على ما وضع له في الأصل، والمجاز هو ما أريد به غير المعنى الموضوع في الأصل وهو من جاز؛ أي انتقل كأنما يريدون به الانتقال من مقصد إلى آخر.
فإذا قيل: زيد أسد، حال كون زيد إنسانا والأسد حيوان كأنه قد فصل المجاز من الإنسانية إلى الأسدية لوصلة بينهما هي الشجاعة.
أو قيل: زيد بحر، فالوصلة هي الكرم وهذا هو أهم أبواب البيان، بل قال بعضهم: إنه علم البيان بأجمعه.
ومن العجب أن المسمى بالبيان اليوم يوجب تفسير كل لفظ بمعناه الأصلي متخيرا صرير البكر وذعر المحبوب من ذلك الصرير المنكر مما لا محل له؛ إذ الملابسة بين الحبال والقلوب في معنى الارتباط تدرك بأدنى تأمل.
وأما ترحمه على عشاق العرب الذين لم يسبقونا إلى هذا المعنى، فرحم الله من لم يتركوا معنى إلا وقد سبقونا إليه.
وهل لنا من عاشق أرق غزلا وأفصح لهجة من مجنون ليلى فهو الذي يقول:
فشب بنو ليلى وشب بنو ابنها
وأعلاق ليلى في فؤادي كما هيا
ومجنون ليلى هذا حجة وقد استشهدوا بكلامه في كتب النحو، وقال الشريف الرضي: وهو الذي يجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه.
ومن حذر لا أسأل الركب عنكم
وأعلاق وجدي باقيات كما هيا
وأظن أننا أتينا من هذه النصوص بما فيه مقنع ولم يبق جدال في كون «أمتنهم أعلاقا في القلوب» جائزة سائغة وأن الأعلاق تأتي بمعنى العلائق أيضا، إلا إذا كان المعترض أعلم بلغة مضر من مجنون ليلى والشريف الموسوي وحينئذ لا كلام لنا!
نصل إلى «الرأي العام» وقد أوردنا رأينا فيها ولا نزال نقول: إن قول الشيخ «أهواء النفوس» لا يؤدي حقيقة معناها وإنه حيث كان لا يوجد فيها شيء يخالف القواعد، فلا بأس بالتسامح فيها وتهوينا للأمر قسناها على الأمر العام، وقلنا: قالوا أمر عمم وفسروه بأنه عام.
فأجابنا بأننا خلطنا بين العمم والعام فإن نكن خلطنا فقد خلط لسان العرب، والأصح أن ابن منظور كان يعلم ماذا يقول وهو الذي فسر أمر عمم بقوله: أي عام تام، فلم نعلم ما وجه الخلط بينهما؟
ثم إنه هذه المرة لم يتعرض «للعائلة» وخصص نفيه بالعيلة، ورد قول الخفاجي بجوازها بحجة أن كل مستند الخفاجي هو الحديث «أتخافين العيلة وأنا وليهم.»
فقال: إن الذي فسره بالعيال هو ابن الأثير وحده، وإن قول ابن الأثير لا يسلم به حتى نعلم قرائن هذا الحديث. فقد كان صاحب البيان في غنى عن تخطئة مثل ابن الأثير في علم الحديث والرجل من أكابر المحدثين وكتابه «النهاية في غريب الحديث» أشهر من أن يذكر، وهب أن صاحب البيان قد طالع في حواشي الكتب بعض الأحاديث فهو علم لا بد فيه من الأسانيد ولا يصح تلقيه بلا رواية، فتعرض المعترض لجرح قول ابن الأثير في هذا المعنى واقع بغير محله كما لا يخفى.
على أن الخفاجي لم يقتصر في تأييد تلك اللفظة على إيراد هذا الحديث وحده، بل قال: لعلهم أخذوها من قوله: عاله عيلة إذا قام برزقه، أو لعلها أطلقت على أسرة لكونهم سبب العيلة؛ أي الفقر؛ أي من باب تسمية الشيء بما يئول إليه، وفي توجيهه هذا ما لا يخفى من الوجاهة ولا يؤاخذني قارئ بأنني استعملت «العيلة» في كلامي بمعنى الأسرة؛ لأنها من الألفاظ التي وقع فيها المراء والتي أغناني الله عنها بأفصح منها.
فإن قيل: فلماذا تحريت الدفاع عن استعمالها مع أنها مما لا ترضاه لنفسك؟
أجبت: على المنتقد الذي ينصب نفسه «لإرشاد الخاصة» إذا شاء الانتقاد أن يرينا ورى زنده، ولا يعمد إلى ما قد نسج عليه العناكب من المآخذ التي صارت إلى صغار الطلبة فضلا عن خاصة الكتاب، فإظهار الطول فيما لا مزية فيه يحدو المرء إلى المقابلة بالمثل خصوصا في علم العربية الذي لا عبث فيه أكثر من التحجير في الواسع، والقطع بعدم جواز هذا وعدم ورود ذاك ظنا بأن اللغة قد انتهت عند الذي طالعناه.
وأما قول شوقي بك في التاريخ المصري: «إن الحقيقة معه لا يستقر بها خبر، فهي عين تارة وأثر، تموت بحجر وتحيا بحجر.» فقد كان قول البيان فيه هكذا بالحرف: «انظر ماذا أراد بقوله تموت بحجر وماذا يفهم بالحجر هنا؟ وهل هذا إلا ضرب من الرقى وشكل من أشكال الحروف؟»
فلما أوضحنا لك أن العبارة ليست ضربا من الرقى ولا شكلا مما ذكر ضرب عن الجملة صفحا وجاء يجادلنا في توجيه المعنى من جهة التاريخ المصري محاولا أن يوقعنا في التناقض حال كون كلامنا هناك نيرا.
وملخصه أن حقائق التاريخ المصري غير ثابتة لاختلاف ما ينكشف كل يوم من الآثار الحجرية التي قد يناقض منها تال سابقا، ثم يأتي ما يؤيد الذي كان قد نقض فهي لذلك بين موت وحياة مما لا يحتاج فهمه إلى إمعان.
هذا وقد بقيت هناك اعتراضات منها ما سكت البيان عنه علامة التسليم به مثل ما أوردناه على «المأمورية» وقوله: «أخذ النوم يطمئن بمقاعده من الأجفان.» ومنها ما لم يجاوبنا عليه بغير التهكم والازدراء، وهو سبيل سهل لمن أراد سلوكه لكنه ليس سبيل المناظرة، ولا يغني صاحبه من الحجة شيئا.
إلا أنه أخذ علينا قولنا: «يمكن لي» في محل «يمكنني» بحجة أن هذا الفعل لا يتعدى باللام.
وفي الجواب لا نقول له: إن اللام تأتي لمجرد التوكيد ولتقوية المعنى دون العامل، كما قالوا: «ملكا أجار لمسلم ومعاهد.» وربما نستغني عن أن نقول له إن اللام تأتي للاختصاص كما في قولهم: «شكرت له» في مكان «شكرته» وكما قرأت في أحد التواريخ الكبيرة «بايعوا له» والأصل «بايعوه».
ولو شئنا لقلنا له إنه لما كانت الأفعال التي تعلقها بمفعولها ما بين الوضوح والخفاء قد تتعدى باللام كما نص على ذلك الفخر الرازي وكان يمكن اعتبار فعل «أمكن» من هذا القبيل فلا حرج في مجيئه متعديا باللام.
ولكننا نقول: إن «يمكن لي» بمعنى «يتيسر لي» وذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل مرادف له، فإن الأفعال قد يتضمن بعضها معنى بعض، ألا ترى أنه لما قال الكوفيون بتضمين الحروف بعضها معنى بعض أنكر عليهم البصريون ذلك، وقالوا إن التضمين للأفعال لا للحروف وأولوا شربت بماء البحر بمعنى رويت، «فأمكن لي» متضمنة معنى تيسر لي أو تهيأ لي، كما أن لفظة «ممكنة» في قول عنترة: ... ... ... ...
والشاة ممكنة لمن هو مرتمي
هي بمعنى متيسرة، وبعد هذا كله فهب أن الأولى أن يقال «يمكنني» فما على الشيخ إلا أن يقيسها ببعض تجاوزاته، كقوله مثلا: «زحف عليه» بدل «زحف إليه»، وكقوله: «ينيف عن كذا» محل «ينيف على كذا»، وكقوله: «كما أشار» والواجب «كما أشار إليه» وهلم جرا.
ولكن نحب أن يخبرنا الشيخ ما معنى «الصحافة» في قوله في تلك الجملة التي اعترض بها على ما يمكن لي «غلمان الصحافة»؟ فقد لاح لنا أنه يقصد بها الكتابة في الصحف أو صنعة تحرير الجرائد كما مشى على ذلك بعض المعاصرين.
ومن كان يرد في كلامه مثل «الصحافة» بهذا المعنى، ومثل: «العالم الأدبي» فأي حق له في تخطئة «الرأي العام» وادعاء تخليص الكلام من المواضعات الجديدة.
ثم همز بنا لأجل همزة «أشكل» الواردة في الأهرام بالضم من غلط مرتب الحروف ونسي أننا لسنا نظيره في المطبعة، وأن بيننا وبينه أبحرا فلا يتيسر لنا تصحيح المسودات بذاتنا كما يتهيأ له رد المرتب ما شاء من المرات. والظاهر أن الشيخ لا يسلم بغلط الطبع إلا إذا وقع في كلامه.
وأما تهديده إيانا بالإسراع في إيراد أغلاط «آخر بني سراج» فلا مانع من أن نكون وقعنا في الغلط في ابن سراج وفي غير ابن سراج؛ لأنه ليس أحد بمعصوم من الخطأ، ولكن سبحان الذي أوقعنا ولم يستثن غيرنا، وإن شاء أسرعنا إليه من قوله بمثل ما أوعد به من قولنا.
على أننا لا نفر من وجه الحق، ونحن نقر بكل ما يرد علينا منه، وكان الأولى بمن يضع نفسه في منازل أهل التحقيق أن يعترف بالخطأ، وقد أورد له النص والشاهد وأن يحتذي مثال السعد التفتازاني حينما ناظر السيد وأقر له وهو أحدث منه سنا، فإنه ما على الجواد ألا يكبو ولا هفوة العالم مسقطة له من رتبة فضله خصوصا إذا عرف خطأه وتذكر قول القائل:
أيذهب يوم واحد أن أسأته
بصالح أيامي وحسن بلائيا
بقي علينا شيء ليس من باب المناظرة في اللغة، ولكنه من باب الحقيقة؛ وهو أن صاحب البيان اتهمنا بالسعي في منع الجزء الأخير منه توهم أن فيه ردا علينا، ففضلا عن كوننا علمنا من مصر في نفس البريد الذي ورد فيه ذلك الجزء أن ليس فيه شيء علينا وأصبحنا في أمن من ذلك الخطر يعلم الله وأولياء الأمور أننا براء من هذه التهمة.
هذا وأما الشخصيات فلا شغل لنا بها، والله المسئول أن يبصرنا ذنوبنا، ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا. ا.ه. (5) المؤلف يرثي اليازجي
وكانت هذه المناقشة سببا لانقطاع ما بيننا من ود قديم موروث، ومات اليازجي - عفا الله عنه - وليست بيني وبينه صلة، وإنما رثيته عند وفاته رعيا لذمام أبيه الشيخ نصيف اليازجي ؛ شاعر سورية في وقته الذي لو اجتمع ما قاله في الأرسلانيين من الشعر لكان ديوانا مستقلا، وتذكرا لما كان بيني وبينه من ود سابق، وانحناء أمام حادث الموت الذي تذهب عنده الأحقاد، وقد قلت في رثائه:
قصار كل فتى مستكمل الخطر
أن ينحني لقضاء الله والقدر
وأن يقابل صرف الدهر كيف جرى
بالخلق في عبرات العين والعبر
وأن يرى غيره مع عينه شرعا
فليس بينهما فرق سوى الصور
فما أرى ناعيا حيا بمفرده
إلا نعى لو عقلنا سائر البشر
إلى أن أقول:
كفى بريب المنايا واعظا وجزى
رشدا لمن كان من دنيا على غرر
تخالف الناس في الأهواء حين حيوا
وجمع الموت منهم كل منتثر
وقد يلج ببعض كيد شانئه
ولو درى لصفا صفوا بلا كدر
وقد يحاول في أعدائه ظفرا
وأنه بين ناب الموت والظفر
كم وترت قوس ضغن كف ذي ترة
فأذهب الموت عزم الوتر والوتر
والدمع يغسل ما بالقلب من وضر
كما يزول غبار الأرض بالمطر
لو أنصف اليازجي دمع لكان له
كعلمه بحر دمع غير منحصر
أو لو درت نار إبراهيم مصرعه
لأصبحت من جوى لفاحة الشرر
أودى الردى حينما أودى بمهجته
بأكتب الوقت من بدو ومن حضر
بذي الضياء تكاد العمي تبصره
وذي البيان الذي يشفى من الحصر
من بعد ما خمدت ريح البيان غدت
له به دولة وضاحة الغرر
عبارة لا ترى في رصفها قلقا
كالعدل لم يشك من طول ولا قصر
لا تلتقي موضعا فيها له بدل
كأنما جاءت المعنى على قدر
بكت له اللغة الفصحى وحق له
بكاء كل كلام جاء من مضر
يا راحلا شكت الأقلام غربته
وليس بعدك منها غير منكسر
نهجت في بلغاء الأرض واردة
بالحق لولاك لم تسفر ولم تنر
إليك حقك لا ظلم ولا سرف
لا ينكر الشمس إلا فاقد البصر
وإن يؤاخذك نقاد ببادرة
فليس يرجم إلا مثمر الشجر
وقد يعاب الذي في البدر من كلف
وليس يسلب معنى الحسن في القمر
إليك مني تحيات برقتها
كسحر لفظك أو كالنفح في السحر
فاذهب عليك سلام الله من رجل
ماضي الحشاشة لكن خالد الأثر
فهذا ما كان بيني وبين الشيخ اليازجي من الوحشة بعد الولاء، ومن القطيعة بعد الاتصال؛ بسبب شوقي.
عود إلى شوقي
وبعد أن قفل شوقي إلى مصر ورد عنه كلام في جريدة الشورى للكاتب الوطني المجاهد السيد محمد علي الطاهر، وذلك بمناسبة اجتماعنا في المقهى العربي في باريس.
فجاء شوقي وزار الأستاذ حافظ بك عوض صاحب جريدة كوكب الشرق، وألقى إليه كلاما جاء بعده في كوكب الشرق عدده المؤرخ 13 جمادى الأولى سنة 1345 وفق 18 نوفمبر سنة 1926 المقال الذي يلي:
أحمد شوقي بك بين الأمير والأستاذ
زارنا بالأمس سعادة أمير الشعراء شوقي بك، فانتهزنا هذه الفرصة لنرى رأيه فيما ورد عنه في «كوكب» أمس منقولا عن جريدة الشورى الغراء، وما كدنا نتم السؤال حتى تبسم ضاحكا، ثم قال: أنا شاكر لهم أن يضعوني بين بحاثتين، سعادة الأمير شكيب وسعادة الأستاذ زكي باشا، على أني لا يفوتني أن أتقبل مداعبات الأمير على العين والرأس، فأقل حق الصداقة علينا أن نفتح صدورنا لدعابة الصديق القديم، وأنا سعيد للفرصة التي مهدتموها لي لأشكر الأمير، فهو أول من دعاني لزيارة المطعم التونسي وقهوته مع حضرات أعضاء الوفد السوري المحترمين بباريس.
كان يومنا هناك أبهج من أن ينسى بفضل ما بذله أصحاب المطعم من همة جديرة بالثناء خصوصا الأديب الفاضل طاهر أفندي الصباغ، وهو راوية من رواتي كان ينشد شعري الحاضرين.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فقد علمت وأنا هناك من أعيان التونسيين أنه على أثر إشاعة كانت قد شاعت عن عزمي على زيارة تونس في الصيف الماضي، استعد إخواننا التونسيون للقائي استعدادا أعده فوق قدري، حتى بلغ من أحد سراتهم الأدباء أن هيأ لي منزلا فخما أثثه كله بأثاث جديد.
وأنا لا يسعني إلا أن أحيي هذه الروح الشرقية الكريمة، وأتمنى توثيق عراها بين أمم الشرق على الدوام.
وأخص بشكري الأمة التونسية مثال النهضة والرقي في شمال أفريقيا. •••
فبعد ذلك نشرت في «كوكب الشرق» في العدد المؤرخ في 4 جمادى الآخرة سنة 1345 وفق 9 ديسمبر سنة 1926 مقالة هي هذه:
مداعبة بين شوقي والمؤلف من دعابة إلى أخرى
حيث إن أمير الشعراء قد فتح صدره لدعابة صديقه القديم هذا، فلنترك الآن الأستاذ العلامة أحمد زكي باشا ولنعد إلى أميرنا أحمد شوقي بك نجاذبه بقية الحبل.
يقول شوقي بك إني أنا الذي بدأ بدعوته إلى المطعم التونسي وقهوته مع أعضاء الوفد السوري المحترمين ويشكر هذا الداعي.
وأنا أتباهى بهذه الدعوة وأشكر لمجيبيها حسن التلبية فقد كنت أول من دعا وكان هو أول من لبى. وكان يوما مشرقا سرورا وأنسا وكما قال أبهج من أن ينسى لا بل كان كيوم دارة جلجل. ويعلم الله أن ملاقاة أخي شوقي بغية تقصد ومنهل يورد، وإني لأحج إليها من بلد إلى بلد، فكيف وهي على طرف الثمام! وإني لأحن إلى لقاء هذا الأخ الحميم ولو في رمضان بعد العصر، فكيف على كسكس وشكشوكة وما شاكلها من الطعام!
ولست بأقل شكرا منه للأديب الفاضل السيد طاهر الصباغ الذي رأينا من حفاوته ونحافة ذوقه وسرعة لحظه وشدة حفظه، ما يعد نادرا في بابه. ويقول الأخ الأكبر - وشوقي بحسب تاريخ ولادته أكبر مني بسنة - إن طاهر أفندي، المومأ إليه، راوية من رواة شعره، وإنه كان ينشد شعره الحاضرين، وأقول كلنا رواة لشعر شوقي ننشده الحاضرين ونزهو به على الغابرين، ونقول: كم ترك الأولون للآخرين! ولعمري إن الدهر من رواة شعر شوقي، أفيكون الصباغ أصعب من الدهر؟!
قال أبو الطيب:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
ومن يا ترى يصح أن يخلف المتنبي اليوم؟ أولها أحمد وآخرها أحمد!
أفلم يسألني سائل منذ عشرين سنة - تراني لا أزال متمسكا بالتواريخ - عن رأيي في أشعر شعراء العصر فأجبته - وجوابي منشور في مجلة سركيس وقد تكرر نشره في المؤيد - بأن المفلقين منهم كثيرون، وذكرت الكاظمي والرصافي والمطران وغيرهم، ولكني قلت إن البارودي وشوقي وحافظ إبراهيم هم الثلاثة السابقون في الحلبة، وما زلت أقول إنهم ثالوث الشعر الأقدس، وذلك كما كان أبو تمام والمتنبي وأبو عبادة البحتري في الماضي لات الشعر وعزاه ومناته، وهكذا لقبهم صاحب المثل السائر، وشبهت البارودي بحبيب؛ لما بينهما من التناسب في علو النفس وجزالة اللفظ وتدفع القول، حتى كأنه العارض المنصب وشبهت أحمد شوقي بأحمد بن الحسين الكندي؛ لما بينهما من التناسب في دقة المعاني وكثرة الحكم والجري مجرى الأمثال، ورأيت في حافظ كثيرا مما في البحتري من حسن الصنعة وعذوبة الألفاظ وطلاوة النسج وملكة الانسجام.
فلا عجب أن روى الدهر لشوقي كما روى للمتنبي، وكم من أبيات لشوقي يستشهد بها الكتاب بل العوام وهم لا يعلمون أصلها. ومن وجوه شبه أحمد شوقي بالمتنبي أن أبا الطيب استشهد الناس بشعره في عصره، ودارت أمثاله وأبياته اليتائم على عذبات الألسن ورءوس الأقلام شرقا وغربا وهو بعد في الحياة، وأن شوقي له شعر كثير لا يأخذه الإحصاء يستشهد به الخاص والعام، ويدور على الألسن والأقلام، وهو يعد في الحياة لا بل في الشباب إن جاز لنا أن نقول هذا.
إلا أني سمعت السيد طاهر الصباغ يروي لحافظ مثلما يروي لشوقي وربما أكثر فلا ينبغي أن أغفل ذلك؛ لأن التحري واجب في الرواية حتى عن الرواية.
ولكن قد بالغ شوقي في الاعتماد على ذاكرة صاحبنا طاهر الصباغ وفي الاعتقاد بإحاطته بشعره إلى أن ذهل عن إهدائه إياه ديوانه «الشوقيات» بعد أن وعده به وقال له: إني كتبت اسمك على النسخة. وهو عقد عجل شوقي فسخه لذهابه أن بين صدغي الصباغ من ديوانه نسخة.
وذهب شوقي إلى «فيشي» وقد ظن الصباغ أنه «فايش» في وعده بالكتاب، وبقيت أنا وحدي عرضة للعتاب كأنني أنا وشوقي متكافلان متضامنان ليسمح لنا «الوحيد» بالتكافل والتضامن، فقد صارتا من الاستعمالات الضرورية ولو لم يرد في كتب اللغة تضامن فلان وفلان، ولا ورد من الكفالة إلا قولهم فلان مكافل لفلان؛ «بمعنى معاهد» ولا غرو فبين الأدباء رحم وذمام، ولا سيما إذا كانوا إخوانا من قديم الزمان. فصرت أسمع غمزة بعد غمزة وكثرت الحروف التي فيها همزة، وخشيت أن يتذكر صاحبنا الآية الكريمة في الشعراء وهي التي فيها
يتبعهم الغاوون
إلى آخر ما وصفهم تعالى به مما ينتهي بالألف والنون.
وإن شوقي سيدهم وحامل لوائهم يوم القيامة، فكنت أؤكد للأديب الصباغ، وهو عربي قح مولده الحجاز، أن لا بد لذلك الوعد من الإنجاز وأن عليه أن ينتظر وصول شوقي بك إلى مصر، فالأمور بخواتيمها، والقصائد بقوافيها، والنسخة الموعود بها آتية لا ريب فيها.
كنا في العود الذي وعدنا به ولم نسمعه، فصرنا في النسخة التي انتظرها الصباغ ولم يرها، ولا شك عندي أن العود تعطل كما قال الأخ، وأن النسخة أهديت إلى أناس كانوا مستعجلين إلا أني لست بتارك حقي في هذا العود إن شاء الله في كرمة بن هانئ نفسها، فقد كان أمير الشعراء وعد بليلة طرب من أجلي بأثناء ذهابي إلى حرب طرابلس الغرب «15 عاما» والبدوي أخذ ثأره بعد أربعين سنة، وقال إنه بكر، أما السيد طاهر الصباغ فإنه بدوي أكثر مني، فإن لم يعجل إليه بالنسخة فلا تغني بعد ذلك المكتبة بأسرها.
أما ما رواه بعضهم من وجود الشرب والرقص في ذلك المقهى العربي بباريس فلا نصيب له من الصحة، بل مشرب الزائرين قهوة البن وهي التي قال فيها عبد الغني النابلسي - رضي الله عنه:
قهوة البن حلال
ما نهى الناهون عنها
كيف تدعى بحرام
وأنا أشرب منها
والشاي بأنواعه لا سيما الأخضر وهو ما أدخله إلى المغرب السادة السنوسية - رضي الله عنهم وكفى بهم قدوة. وليس هناك سكر ولا رقص ولا في المقهى مكان للرقص، وإنما قد تنشد أحيانا بعض الأبيات المرققة للقلوب وبعض الأزجال المقبولة، وليس في ذلك نكير، ولعمري إن مقهى بدون قهوة ولا شاي أشبه بقلب بلا وجد أو «بغراموفون» في نجد.
شكيب أرسلان
لوزان في 30 نوفمبر 1926
الوداع الأخير
ومذ ذلك الوقت لم يتيسر لي الاجتماع بأخي شوقي؛ لأني كما لا يخفى لا أقدر أن أدخل مصر، ولأن شوقي لم يأت في هذه السنين الأخيرة إلى سويسرة، وبقيت أرعاه ويرعاني عن بعد وأصحبه فؤادي كيفما جال وابتهج بنفثاته مهما قال، إلى أن أتاح الدهر لي أن أنظره النظرة الأخيرة التي لم أنظره بعدها وا حسرتاه، وهي أني في منصرفي من الحج سنة 1347 مررت على السويس؛ حيث بعد لأي سمحت لي الحكومة المصرية بالإقامة بضعة أيام أشاهد فيها سيدتي الوالدة التي كان أولاد عمي الأمير أمين مصطفى أرسلان وشقيقته أتوا بها إلى السويس لمشاهدتي، فأقمت في تلك البلدة أربعة أيام أقبل فيها علي الإخوان من مصر: الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا والمرحوم أحمد زكي باشا وحافظ بك عوض وعبد الله بك البشري ونسيم أفندي صيبعة وأسعد أفندي داغر والحاج أديب أفندي خير والسيد محمد علي الطاهر صاحب الشورى وأحمد حلمي باشا مدير البنك العربي في فلسطين، وغيرهم من إخواني وخلاني، وأقبل أيضا أحمد بك شوقي وسررت بلقاء الجميع سرور من بقي عشرات من السنين في بلاد الغرب محروما لقاء إخوانه الذين كان يذوب شوقا إلى لقائهم، لا سيما أخي شوقي الذي بيني وبينه من الإخاء والذمام ما لا يكاد يوجد بين اثنين، ومما أتذكره أني قلت له يومئذ: لا أقدر أن أدعوك إلى سورية؛ لأني لا أقدر أن أطأها بقدمي ولا إلى فلسطين ولا إلى مصر التي لا أدخلها إلا بعد اللتيا والتي، فأنا أدعوك إلى سويسرة؛ حيث يمكنك أن تقضي الصيف ونشاهدك مليا.
فقضى عندي سحابة يومه ثم ركب سيارته عائدا إلى مصر وودعته في السويس الوداع الذي كنت أرجو بعده اللقاء فكان هو الوداع الأخير، وذلك أن لقاءنا هذا كان في سنة 1347 وأن شوقي - رحمه الله - لقي ربه في 14 جمادى الآخرة سنة 1351 فيكون بين وداعي الأخير له ووفاته نحو من أربع سنوات، قد كنت أمني النفس في أثنائها باللقيان لأنه ما دام الإنسان حيا ولو على بعد لم ينقطع الأمل من مشاهدته، فأما إذا فات فهي الحسرة الكبرى.
وما صبابة مشتاق على أمل
إلى اللقاء كمشتاق بلا أمل (1) قصيدة المؤلف في مهرجان شوقي
وكانت مصر قد قررت الاحتفال بعيد الخمسين سنة من حياة شوقي الأدبية، وهو ما اصطلح عليه الناس من تسميته يوبيلا
Jubillée
تقليدا للإفرنج الذين يحتفلون بمرور الخمسين عاما على حياة سياسية أو أدبية أو عسكرية أو إكليريكية للوزير أو الكاتب أو القائد أو الأسقف منهم. فالشرقيون أصبحوا يقلدونهم في هذا الأمر كما قلدوهم في كل شيء، ولا شك في أنه إن كانت هذه بدعة فإنها بدعة حسنة، وقد صادف ورود الخبر بتأليف لجنة يوبيل شوقي كوني على أوفاز إلى أميركا لحضور المؤتمر العربي الذي قررت الجالية السورية عقده في «دتروت مشيجن» وأرسل حزب سورية الجديدة فدعاني إليه، فسرت من سويسرة إلى إنجلترة وركبت الباخرة من «سوث همتن» وذلك في آخر سنة 1926 وفكرت في أنه لا مناص لي من إرسال قصيدة تتلى في عرس شوقي الأدبي، فنظمت وأنا في الباخرة بين أوروبا وأميركا القصيدة التالية، وعند وصولي إلى نيويورك أسرعت بإرسالها إلى مصر حتى تدرك مهرجان شوقي، فكان الأمر كذلك وتلاها في الحفل الأستاذ خليل بك المطران المعروف بشاعر القطرين، وهي هذه:
إلى الأخ القديم أحمد شوقي بك
ناد القريحة ما استطعت نداءها
إن الحقوق لتقتضيك أداءها
مهما ينل منها الجمود فإن من
إعجاز أحمد ما يفجر ماءها
مهما تراكمت الغيوم بأفقها
فاليوم عندك ما يعيد جلاءها
لا تعتذر عنها بكر نوائب
سدت عليها نهجها وسواءها
فأهم ما همت السحاب إذا مرت
هوج العواصف درها وسخاءها
والحك يستوري الزناد وإنما
تربى الصوارم بالصقال مضاءها
والرمح يكسب بالثقاف متانة
والخيل يظهر عدوها خيلاءها
حاشا القرائح أن تضن بودقها
ما دام شوقي كافلا أنواءها
الشاعر الفذ الذي كلماته
ضمن النبوغ على الزمان بقاءها
أنست فصاحته أوائل وائل
وغدت هوازن مع ثقيف فداءها
في كل كائنة يزف قصيدة
تؤتي جميع الكائنات بهاءها
غدت المعاني كلها ملكا له
فأصاب منها كل بكر شاءها
وكسا اللسان اليعربي مطارفا
هيهات ينتظر الزمان فناءها
ستخلد الأوطان من تكريمه
ذكرى تطبق أرضها وسماءها
لو أنصفت لغة الأعارب قدره
صلت عليه صباحها ومساءها
من كل موضوع أصاب شواكلا
بلغت بمقتلها الصدور شفاءها
يبكي «شكسبير» على أمثالها
ويبيت «غوته» حاسدا علياءها
ولو أن آلهة الفصاحة عندهم
أدركن شوقي خففت غلواءها
صناجة الشرق الذي نبراته
تجلو المشارق عندها غماءها
في كل حرف من حروف يراعه
وتر يثير سرورها وبكاءها
ما حل بالإسلام بأس ملمة
إلا ورجع شعره أصداءها
يبدي فظاعتها ويوسع هولها
وصفا ويذكر داءها ودواءها
كانت قصائده لبعث بلاده
صورا أراد من البلى إحياءها
وأرى الليالي لا تعزز أمة
إن لم يكن سواسها شعراءها
كم أثبت التاريخ في صفحاته
أمما غدا إنشادها إنشاءها
ضلت لعمري في الحياة قبيلة
لم تصطحب أفعالها أسماءها
والعرب لا تبدأ بجمع جموعها
إلا سمعت نشيدها وحداءها
أكرم بأحمد شاعرا وافى لنا
في روح أحمد حاملا سيماءها
أتلو قصائده فتملأ مهجتي
فرحا يزيل همومها وعناءها
وأظل مفتخرا بها فكأن لي
دون الأنام ثناءها وسناءها
نخلت له نفسي مودة وامق
وفى عهاد عهودها إنماءها
تعزو إلى لخم متانة أصلها
وتمز من ماء السماء صفاءها
1
لا ترتجي منها التمائم ثلمة
كلا ولا توهي الهنات بناءها
ناشدت شعري أن يفي بمودتي
وأراه يعجز أن يجيء كفاءها
قد صار عهدي بالقريض كأنه
دمن تقاضتها الرياح عفاءها
أدعو فلا يأتي الذي أرضى به
والشعر أن تجد النفوس رضاءها
والشعر ما رسم الضمائر ناثلا
منها الكنائن نافجا أحناءها
والشعر ما ترك المعاني مثلا
فتكاد تلمس بالأكف هباءها
وهناك نفس مرة ما تأتلي
تملي علي من العلى أهواءها
إن لم تجدني في العجاجة أولا
نكرت علي ثلاثها وثناءها
وفرت يا شوقي السباق على الورى
برياسة بات السباق وراءها
تتقطع الأعناق عن غاياتها
حتى الأماني لا تحوم حذاءها
تالله أعطيت الرياسة حقها
وعقدت حبوتها ونلت حباءها
وبذذت أهل العبقرية كلهم
وبززت جنة عبقر أشياءها
لما رأيتك قد نزحت قليبها
ألقيت عني دلوها ورشاءها
فاسعد بعرش إمارة الشعر التي
ألقت إليك لواءها وولاءها
وتهن وابق لأمة عربية
لا زلت قرة عينها وضياءها (2) أبيات للمؤلف أيضا
ولما توفي الأستاذ فقيد الإسلام الشيخ عبد العزيز جاويش رثاه شوقي - رحم الله الراثي والمرثي - بقصيدة من قصائده التي كانت تشرق وتغرب ويعجب بها كل عربي ومستعرب، فإذا بأحد الأدباء ينتقد تلك المرثية انتقاد متعنت، وإذا بأديب آخر ينافح عن شوقي. فأملى علي هذا الجدال في تلك القصيدة القطعة الآتية المنشورة في عدد 28 ذي الحجة سنة 48 من جريدة الشورى وهي:
بييتات كانت ضالة فوجدت
كنت في أثناء سفري إلى الحجاز أقرأ على ظهر الباخرة مجلات وجرائد، فبينما أنا أقرأ إذ مر بي انتقاد لأحد الأدباء يخطئ به «شوقي» في أبيات من رثائه لفقيد الإسلام المرحوم الشيخ جاويش، ثم اطلعت على رد لأحد الفضلاء الناخعين يدافع به عن شوقي ويبين صحة قوله. فأما القصيدة فهي كسائر شعر شوقي الذي لا يدري أيه أحسن، بل كلما قرأ الإنسان منه شيئا ظنه هو سيد شعره، فإذا انتقل إلى غيره ظن هذا هو السيد، وهكذا إلى أن ينتهي من شعره وهو لا يعلم أوله خير أم آخره. ولا جدال في أن مرثية أمير الشعراء للأستاذ جاويش نور الله ضريحه كانت من عيون قصائده، ولما انتهيت منها كتبت على حاشية مكتوب ما يأتي بقلم رصاص على البديهة:
تفوق شوقي بأشعاره
جميعا فكل يتيم فريد
وما دمت تجتاز أرجاءها
تعود بكل طريف جديد
توالي الهتاف لدى كل بيت
ألا إن ذلك بيت القصيد
إذا هو أبكى فزاد المعاد
وإن هو غنى فأنس الوجود
ولكن قصائد شوقي اللواتي
لهن سجل بلوح الخلود
فداء «لمرثية» قالها «بعبد العزيز» العزيز الشهيد
أعار الرثاء جلال الفقيد
فأصبح هذا لهذا نديد
وقد كان من قبل هذا مبينا
بشأو محال عليه المزيد
تكاد لإحراز أقوال شوقي
تكون المنايا أماني الفقيد
وأتذكر أني حررت كلمات أيضا أبين فيها محاسن تلك المرثية، ثم بعد أن وصلت إلى الحجاز غاصت هذه الأبيات وهاتيك الكلمات في لجج أوراقي الزاخرة؛ فلم تقدر يدي أن تصل إليها وظننتها ذهبت أصلا، وبينما أنا أفرز أوراقي في هذه الأيام إذ عثرت على الأبيات المرقومة بقلم رصاص، وترددت ساعة في نشرها قائلا لنفسي إن النظم والنثر بعد مضي مناسبته أشبه باللحم البائت أو الخبر الغاب الذي تذهب طراوته، ولكن فكرة النشر بعد تساؤل النفسين قد غلبت بحجة أن كلاما يتعلق بشوقي لا يزال غضا طريا وأن مناسبة شوقي لا تخلق ديباجتها أبدا.
أما الكلمات التي حررتها في محاسن تلك المرثية التي كل من المرثي (نضر الله وجهه) والراثي (أطال الله عمره) كانا من أعز الناس علي وأحبهم إلي من بين جميع البشر فبقيت ضالة لما تظفر يدي بها.
وأتذكر أني أشرت إلى نكات بيت فيها لا سيما ذلك البيت الذي وصف الموت والنقل والدفن منذ وجد الخلق وشطره الثاني: ... ... ... ...
قيام بتلك الصحاري قعود
وأما البيت الذي فيه وصف أجساد الموتى، وشطره الثاني: ... ... ... ...
وكم من قروح وكم من صديد
فلم أحبه على ما فيه من صحة، وقد ذكرت عنه أنه يليق بأن يتلى على مائدة رهبان في دير، فإن من عادة هؤلاء إذا جلسوا إلى طعام أن يجعلوا أحدهم يقرأ عليهم من الزهديات والمحزنات وذكرى الموت وأمامه جمجمة. •••
ومما لا يجوز أن أغفله من تاريخ علاقاتي مع شوقي أنه في سنة 1328 سألني سليم أفندي سركيس عن رأيي في شعراء العصر لينشر هذا الرأي في مجلته، فلم أجد بدا من إجابته بمقال نشره في مجلة سركيس، ثم أعاد نشره بعد ذلك بسنوات في جريدة المؤيد، وقد كان سبب إعادة هذا الفصل في المؤيد أنه بينما كنت في مصر قاصدا الجهاد في طرابلس الغرب ألقى علي أحد الأدباء في المؤيد سؤالا يستنطقني فيه عما أراه من طبقات الشعراء المعاصرين، فاستعفيت تلك النوبة من الجواب حتى لا أقع في مشكل المفاضلة بينهم وأنا على سفر إلى برقة وعندي من الهموم بمسألة طرابلس ما يشغلني عن الشعراء والحكم أيهم أشعر. نعم أجبت السائل بكليمات في المؤيد قلت له فيها: لماذا هذا السؤال؟ أفزامر الحي لا يطرب؟
وكان مرادي بذلك من طرف خفي أنه ما دام شوقي في مصر، فلماذا يسألون عن أشعر الشعراء.
إلا أن سركيس قام ونشر في المؤيد جملة أشار فيها إلى مقالتي الأولى التي كان قد أثبتها في مجلته وأعاد نشرها في المؤيد، وهي هذه ...
رأي المؤلف في أشعر الشعراء
كلام عن المتنبي ووجه الشبه بينه وبين شوقي
حضرة صاحب مجلة سركيس
سألتموني رأيي في الشعراء؛ فأشعر الشعراء عندي هو محمود سامي ثم شوقي ثم حافظ، وهؤلاء الثلاثة في هذا العصر هم السابقون في حلبة الشعر الفائقون في إجادته، بل هم أشبه بالثلاثة الماضين أبي تمام الشعر ومتنبيه وأبي عبادته، بل هم اليوم لات الشعر وعزاه ومناته، والذين رجحت لهم على غيرهم بيناته، وأحب أن أشبه البارودي بأبي تمام في علو نفسه وقوة ملكته ومتانة أسلوبه، وأن أشبه شوقيا بالمتنبي في دقة معانيه وسمو حكمه وكثرة جوامع كلمه، كما أن حافظا يشبه البحتري في سلاسة لفظه وحسن سبكه وتأثيره في النفس، وهو وإن لم يعل علو شوقي في بعض أبياته، فإن عامة شعره أطلى من عامة شعر شوقي، وغاية ما يقال فيهما أن جيد شوقي أحسن من جيده وأن هذا أعلى وذاك أطلى.
وأما كون أسلوب شوقي ركيكا فهو غير صحيح، وهذا القول في حق شوقي هو أشبه بالقول الآخر في حق حافظ بأنه صانع ماهر وأن حيلته أكثر من شعره، وعندي ألف شاهد لولا خوف الإطالة لأوردتها على متانة أسلوب شوقي وتسنمه غارب العربية، كما أن لي بقدرها على قدرة حافظ الحقيقية وأنه شاعر مطبوع الفصاحة فيه سجية لا تلهوق، وأن مثل حافظ في الشعراء قليل. نعم إن شعر شوقي ليس طبقة واحدة حتى لا يخاله القارئ نسجا واحدا، وهو يذهب مذاهب غريبة أحيانا وربما أتى في كلامه بالتعقيد، وهذا من وجوه الشبه بينه وبين المتنبي الذي كان كأنه يعمد إلى الإغراب في بعض المواضع فيأتي بالغث كما يأتي بالسمين.
وإنما استحق أبو الطيب هذه الشهرة مع هذه الهنات؛ لأنه كان متى أراد بذ الأولين والآخرين، وأنه متى علا لم يزاحمه أحد بمنكب، وأن الذي يحفظ من كلامه لا يحفظ من كلام شاعر سواه حتى صار شاعر العامة فضلا عن الخاصة. وهذا ما أراه في شوقي اليوم فإن عيون شعره لا يقدر على مثلها حافظ ولا غيره، وقد يحلق في سماء الخيال أحيانا حتى يفوق البارودي نفسه، وهو عندي حامل اللواء وأبو الجميع.
ولا يمكننا أن نسلم بركاكة أسلوب شوقي إلا على مذهب من يرى المذاهب الجديدة في الشعر ولا يريد الشعر إلا كاظميا، ومذهب من يرى في موافقة ذوق العصر مفارقة المناهج العربية، وهذا الرأي ليس بجديد بل هو قبل صاحب المنار. وقد كان بعضهم يعيب على المتنبي نفسه الحيد عن جادة العرب في شعرهم وفي مقدمة ابن خلدون أن المتنبي والمعري لم ينسجا على أساليب العرب، ولكن لا يمكننا أن نقول إن هذا هو الرأي كله، وأنه جف القلم بعد هذا القول، بل لكل رأي ولكل وجهة.
وأحسن ما قيل في شوقي إنه في الشعر كأبي مسلم في القواد أقام دولة وأقعد دولة، فإنه نسج على منوال جديد وانتهج خطة حديثة تلائم روح الوقت الحاضر لكن مع الوفاء بحق اللغة والأمانة مع العربية، ولولا متانة لغة شوقي لما عد شاعرا أصلا؛ لأن نقاوة اللغة هي الشرط الأول للشاعر والكاتب، والمعاني وحدها لا تكفي، ولا ينهض بركاكة اللفظ علو المعنى، وهذا أمر اتفق عليه العرب والعجم.
ومما أعجبني جدا في نعت شوقي أن شعره لوح الصبي في مكتبه وسبحة الناسك في صومعته وكأس الشارب ودمعة الباكي ... إلخ، فكل هذا القول في شعره حق؛ لأنك تجد شعره بستانا فيه من كل الرياحين أو على رأي أهل العصر معرضا فيه من كل البضائع.
ومما يطيب سماعه عن شوقي وهو يتعلق بالأخلاق لكنه من رشح إناء الفضل قول القائل: إنه صفت نفسه فلم يستشعر في نفسه عيبا يحتاج إلى ستره بتنقص غيره، وعلت همته فوقف بين حساده وقفة رابط الجأش يناضلهم بسكوته وإغضائه. ولعمري إنها عبارة شعرية لو نظمت لكانت من أحسن الشعر، وأحسن ما فيها مطابقتها الواقع، فلا ينكر أحد هذه الحال على شوقي وأنه لا يقابل حساده والطاعنين عليه إلا بالسكوت، وهو أحيانا أقتل من الكلام. على أنه في الواقع غير ساكت فإذا لم يجاوب منتقده رأسا جاوبه من جهة ثانية بقصائده إلى الجمهور، فترى بإزاء كل «همزة من تلك الهمزات وحرف من هاتيك الحروف» كل قصيدة يقام لها ويقعد وكل بيت أذن الله أن يرفع ويشيد.
أما القول بأن محمود سامي هو مقلد، شأنه معارضة الأولين، وهيهات أن يلحق واحدا منهم فهو شبيه بالقولين الأولين في الظلم، وإنما اختار المعارضة في بعض المظان ليعلم الناس شأوه مع من تقدمه. وليست المعارضة بشأن جديد بل كانت عند الماضين وقد استحسنوها ولم يحسبوها تقليدا ولا عدوها نسخة محررة ولا صورة مطبقة، وإنما كان ينظم الواحد قصيدة ترن في الآفاق فيعارضه شاعر آخر برنانة أخرى من البحر والقافية كما يجاري الفارس فارسا في مضمار. وهذه قصيدة أبي نواس الرائية في الخصيب عارضها ذلك الأندلسي قبل محمود سامي، وكل منهما أجاد، ولم يقل أحد إن الأندلسي مقلد لا مزية له وإنه إنما صور صورة كانت أمامه، فمحمود سامي قد عارض وفاق من تقدمه وقال في غير معارضة، فأتى بالشعر الفحل الذي يعيى على الأوائل فضلا عن الأواخر. وكل ذي مسكة يقدر أن يميز بين التقليد والتوليد، ولا يجب أن يؤخذ من كلامي هذا في تفضيل الثالوث الشعري الاستخفاف بقدر الباقين، فإن الذين فضلوا حبيبا والمتنبي والبحتري لم يحصروا الشعر فيهم، ولا ازدروا سائر الشعراء، ولكن لسان حالهم يقول:
محاسن أصناف المغنين جمة
وما قصبات السبق إلا لمعبد
ولا بد في الميادين من مجل ومصل وتال ومرتاح إلى السكيت، وإني أرى الكاظمي وصبري وناصف والمطران وسائر من ورد ذكرهم من الشعراء أشبه بالناشئ والنامي والزاهي والمعري وأمثالهم، فليست شاعرية أبي تمام والمتنبي والبحتري بنافية براعة هؤلاء بل لهؤلاء مواطن لا يلحقهم فيها أولئك.
بقي شيء استحسنته من كلام فاتح الباب، وهو أن الشهرة لا تصح أن تكون بحال من الأحوال ميزانا للفضل ولن يجري الفضل والذكر في ميدان واحد؛ لأن في الناس من يغتصب الشهرة ويلصقها بنفسه، بينما الآخر قد قنع من الأدب بلذة نفسه فلا يترنم بقصائده في النوادي، ولا يبتاع من الصحف الألقاب، ولا يستخدم الكتاب لإطرائه، ولا يتمم نقصه بالغض من مقام غيره. وهذه كلها جمل منحوتة من معدن الحقيقة وفلذات منقطعة من كبد الصواب، فإن الشهرة مزلقة ولا يصح اتخاذها معيارا، وقد يقبع في كسور الخمول من لو اطلعت على حقيقته لأجللته وأحللته أعلى مقام،
1
ولا أريد من ذلك الطعن في حب الشهرة وتضعيف هذا المشرب، وهو مبعث الهمم ومثار كوامن الفضائل ومظهر درر القرائح من أصداف الأدمغة، ولكن أريد أن تكون درجة الشهرة هي درجة الفضل فكم في الزوايا من خبايا، كذلك لم أعزز رأيي في الشعراء بالشواهد من أقوالهم، ولعلي أرجع إلى البحث وأختار من دواوينهم على مهل، فقد وجدت الشواهد التي أوردها غيري غير وافية وقد أهمل ما هو أحسن منها، وإنما استحسنت ما أطيل من شواهد شعر الكاظمي؛ لأنه كان غنى صوتا واحدا في وادي النيل فلم نتحقق فضله على طوله، فإذا به بعد هذه الأصوات كلها مغن على أصول. والله تعالى ذو الفضل العظيم
يزيد في الخلق ما يشاء .
2
قد كان كلامي هذا في شوقي منذ خمس وعشرين سنة، وفي هذه المدة كان قد انطوى البارودي فأصبح شوقي نسيج وحده لا يجد الناس عنه عوضا ولا يبتغون به بدلا، وأصبح آثر في النفوس من كل شاعر سواه، ولم ينحصر المجد في نفسه بل تناول وطنه مصر فصارت تزهو به على غيرها، ولما كان لها المكان الأول في الشرق وكان خليقا بها أن تكون ذات المركز الأول في كل فن جاء شوقي فحقق لها مكانها الأول في الشعر برغم أن كلا من الشام والعراق واليمن والسودان وتونس الخضراء والمغرب فيها الشعراء المفلقون الذين لا يشق لهم غبار، وقد صدق شيخ الأدباء في هذا العصر مصطفى صادق الرافعي في قوله: إن اسم «شوقي» «كان في الأدب كالشمس من المشرق متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع، ومتى ذكر في بلد من بلاد العالم العربي اتسع معنى اسمه فدل على مصر كلها، كأنما قيل النيل أو الهرم أو القاهرة.»
وقال الرافعي في مكان آخر: «انفلت شوقي من تاريخ الأدب لمصر وحدها كانفلات المطرة من سحابها السائر في الجو، فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي في الشعر، وهي لم تذكر قديما في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعية ملفقة، ولم يستفض لها ذكر بنابغة ولا عبقري وكانت المستجدية من تاريخ الحواضر في العالم.»
ولست متفقا كل الاتفاق في هذا القطع مع أبي السامي؛ فالبلد الذي نبغ فيه مثل ابن الفارض والبهاء زهير وظافر الحداد والأبوصيري صاحب البردة الشريفة في القديم ومحمود سامي البارودي ومحمود صفوت وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد محرم وإسماعيل صبري وغيرهم في الحديث لا يقال إنه منقوص الحظ من الشعر، وإن كان لا ينبغ في مصر أمثال بشار وأبي العتاهية وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري ممن أنجبتهم الشام والعراق، على أن الرافعي مصطفى صادق، صادق في قوله: إن جميع شعراء مصر في القديم والحديث «لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر ووضعه شوقي وحده.» وما أحسن قوله كذلك: «ولم يترك شاعر في مصر قديما وحديثا ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه، وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده فساوى الممتازين من شعراء دهره وارتفع عليهم بأمور كثيرة هي رزق تاريخه من القوة المدبرة التي لا حيلة لأحد أن يأخذ منها ما لا تعطيه أو يزيد ما تنقص أو ينقص ما تزيد. وقد حاولوا إسقاط شوقي مرارا فأراهم غباره
3
ومضى متقدما ورجع من رجع منهم ليغسل عينيه ويرى بهما أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر وما هو بمنزلة شاعر وشعره.» إلى أن قال: «ثم تولاه الخديوي عباس باشا وجعله شاعره، وتركه يقول:
شاعر العزيز وما
بالقليل ذا اللقب
وإذا أنت فسرت لقب شاعر الأمير هذا بالأمير نفسه في ذلك العهد خرج لك من التفسير شاعر مرهف معان بأسباب كثيرة، ليكون أداة سياسية في الشعب المصري تعمل لإحياء التاريخ في النفس المصرية وتبصيرها بعظمتها وإقحامها في معارك زمنها وتهيئتها للمدافعة.» وأحسن من قوله هذا قوله الآخر: «إن السياسة التي ارتاض بها شوقي ولابسها من أول عهده واتجه شعره في مذاهبها من الوطنية المصرية إلى النزعة الفرعونية إلى الجامعة الإسلامية، كانت سبب نبوغه ومادة مجده الشعري، وكانت هي بعينها مادة نقائصه فقد أبلته بحب نفسه وحب الثناء عليها وتسخير الناس في ذلك بما وسعته قوته إلى غيرة أشد من غيرة الحسناء تقشعر كل شعرة منها إذا جاءها الحسن بثانية، وهي غيرة وإن كانت مذمومة في صلته بالأدباء الذين لذعوه بالجمر، ونحن منهم، غير أنها ممدوحة في موضعها من طبيعته هو؛ إذ جعلته كالجواد العتيق الكريم ينافس حتى ظله، فعارض المتقدمين بشعره كأنهم معه، ونافس المعاصرين ليجعلهم كأنهم ليسوا معه، ونافس ذاته أيضا ليجعل شوقي أشعر من شوقي.»
شكيب أرسلان
قبيل وفاة شوقي
هذا ولما اجتمعت بشوقي في السويس آتيا من القاهرة إليها لزيارتي، وكانت وا أسفاه الملاقاة الأخيرة بيننا لحظت عليه آثار الضعف بادية، وكأنما كان أكبر من سنه بعشر سنوات على الأقل، وعجبت من أن تنال الشيخوخة منه هذا النيل وبين الإخوان الذين كانوا قد اجتمعوا هناك من هم أعلى سنا بكثير، ولم يتقوس لهم ظهر، ولم يتغضن لهم جبين، ولم يأخذ منهم الدهر ما أخذ من شوقي، فشعرت في نفسي بالخوف على صحته ورأيته قد سبق سنه بمسافة طويلة. فبعد أن تفارقنا كنت لا أزال أترقب أخبار صحته وأتمنى لو يأتي إلى سويسرة فأشاهده، وما زلت أتحسر على تلك الفرقة وأنشد قول العباس بن الأحنف:
سبحان رب العلا ما كان أغفلني
عما رمتني به الأيام والزمن
من لم يذق فرقة الأحباب ثم يرى
آثارهم بعدهم لم يدر ما الحزن (1) خبر وفاته
وبينما أنا في أحد أيام أكتوبر سنة 1932 ميلادية أقرأ جريدة الطان، إذ وقعت عيني على خبر وفاة كبير الشعراء في مصر، ووقع في اسم «شوقي» خطأ فهلعت لهذا الخبر واضطربت أعصابي، وقلت لا يكون هذا الفقيد غير شوقي، وثاني يوم تحققنا الخبر وكان يوما له هوله، ولما جاءت جريدة «الجهاد» علمت منها أن أمير الشعراء فصل من هذه الدنيا إلى رحمة ربه في منتصف الساعة الرابعة من صباح الجمعة 14 جمادى الآخرة سنة 1351 وفق 14 أكتوبر سنة 1932، وقد أبنه الأستاذ البليغ توفيق دياب بعبارات متناسبة مع علو مقامه في الأدب، لكني استنشقت منها رائحة مؤاخذة بعضهم للفقيد في السياسة، فإنه يقول: «إن الذي سيهم الوارثين لآثار شوقي من عشاق الأدب في الأمم العربية هو نفاسة ما ترك من كنوز عبقريته وذخائر أدبه فهذه هي الباقية، أما ما عداها مما كان لشوقي أو عليه في أيام العمر الفانية فقد انقضى أمره بانقضاء الأجل، فليقل من يشاء في دنيويات شوقي ما يشاء، ولكن للأدب دولة عالية العروش سينادي منادي الخلود من فوق منارتها العليا: لقد مات أمير الشعراء غير منازع. لقد مات شوقي. فليبكه المصريون وليبكه العرب في كل بلد عربي أو يقطنه عربي ويبكه المسلمون في أنحاء المعمور؛ فقد كان شوقي شاعر العربية وشاعر الإسلام، وكان أثمن درة في تاج الأدب.»
وكان حافظ رحمه الله قد قضى نحبه قبل ذلك بأشهر ورثاه شوقي رثاء موجع القلب وكأنما كان ينعى نفسه، ولم يكن حافظ في حياته شديد الخلطة بشوقي، بل ربما غلبت المنافسة على العلاقات بينهما، إلا أن حافظا بايع شوقي في يوم عيده، وإذا كان حافظ إبراهيم وهو طريد شوقي في الشعر والمزاحم له بالمنكب، ومن الناس من يفضله على شوقي، قد بايع لخصمه فلا مشاحة أنها قد تقطعت عن منافسة شوقي أنفاس النظراء وأنه قد انتهت إليه رئاسة الشعراء. (2) قصيدة المؤلف في رثاء شوقي
ولما تحققت خبر شوقي رثيته بالقصيدة التالية:
قد أعجز الشعراء طول حياته
واليوم يعجزهم بندب مماته
هيهات يوجد في البرية منهم
كفؤ ليرثيه بمثل لغاته
كان الأمير لجيشهم مستنة
فرسانهم في الظل من راياته
ما عاب أهل العبقرية أنهم
قد قصروا في الخب عن غاياته
هذا أمير الشعر غير مدافع
في الشرق أجمع منذ فتق لهاته
لو كان وحي بعد وحي «محمد»
لانشق ذاك الوحي عن آياته
السحر في نفثاته والزهر في
نفحاته والدهر بعض رواته
رقت لنغمته القلوب فكيفما
غنى بها رقصت على نبراته
تغدو المعاني وهي شمس مقادة
فيقودها قود الغلام لشاته
وإذا أراد الصخرة الصماء من
أغراضه رقت نظير سحاته
ما رام شارد حكمة في نظمه
إلا أصاب صميمها بحصاته
جلى الإله له الأمور كأنما
يلقي عليها الشمس من نظراته
فكسا الطبيعة من نسيج بيانه
حللا خلت من غير طرز دواته
فترى الطبيعة قبل نظرته لها
غير الطبيعة وهي في مرآته
والحسن يشرق في العيون بذاته
وهنا يضيء بذاته وصفاته
من كل بيت في رفيع عماده
تتقاصر الأقدام عن عتباته
كالدر في لمعاته والبدر في
قسماته والصبح في نسماته
ولقد رويت الشعر عن آحاده
وألفت للسباق في حلباته
وقضيت فيه صبوتي وصبابتي
وقطفت منه خير نواراته
وأثرت في البيداء بزل فحوله
وأطرت في الآفاق شهب بزاته
فرأيت شوقي لم يدع في عصره
قرنا يهز قناته لقناته
الفرد في أمداحه ونواحه
والفذ في أمثاله وعظاته
وإذا تعرض للغرام فهل درت
لغة الغرام نظير شوقياته؟
ما في الهيام كوجده وحنينه
أو في النسيب كظبيه ومهاته
وإذا تحدث بالربيع وروضه
أنساك بالتحبير وشي نباته
أو بات يبعث بالشراب أضاف من
كاساته حببا إلى كاساته
أو خاض في ذكرى العذيب تشابهت
أعطاف مستمعيه مع باناته
أو سل في وصف الوقائع صارما
خلت العدى سالت على شفراته
قد بذ آلهة القريض بأسرهم
ومحا عبادة لاته ومناته
نحت القوافي السائرات أوابدا
ماذا يفيد النحت من أثلاته
ولكم مررت بحاسدين لفضله
رغم القلى يروون من أبياته
لا ند يعدله وكم من مجلس
أشعار شوقي الند في سمراته
يتمثل العصر الحديث بشعره
حق التمثل من جميع جهاته
ولرب بيت يستقل بجملة
تغني عن التاريخ في صفحاته
لم يفتتن من عصره بمساوئ
كلا ولم يغمطه من حسناته
قد لازم الإنصاف في أحكامه
لا فرق بين صحابه وعداته
وإذا سألت عن الجهاد فإنه
منذ الحداثة كان في سرواته
كالسيف في أوضائه ومضائه
والليث في وثباته وثباته
ما حل بالإسلام حيف مصيبة
إلا وكان بها لسان شكاته
يحمي حقائقه ويوضح سبله
ويقيل طول الوقت من عثراته
يلقي على غمرات كل ملمة
قولا يزيل أجاجها بفراته
ويظل يرسلها قصائد شردا
غررا تشق الفجر عن ليلاته
كانت قصائده هي الصوت الذي
سرى عن الإسلام ثقل سباته
بعثت به روح الحياة كأنها
هي صور إسرافيل في زعقاته
قد كان أدرى الناس بالداء الذي
قد حط هذا الشرق عن صهواته
داء هو الأخلاق في اضمحلالها
فلذا يرى الأخلاق رأس وصاته
وفى عن الشرق القديم نضاله
من يوم نشأته ليوم وفاته
قد ذاد عنه بقلبه وبلبه
شأن الأبي يذود عن تركاته
ماض يحذره استلاب تراثه
منه ويحفزه لأخذ تراته
أعلى منار الشرق في أوصافه
وأجاد وصف الغرب في آفاته
أوحى إلى الشرقي بالطرق التي
يمشي النجاء بها لأجل نجاته
أملى مكافحة الذئاب عواديا
في الواد قد حلوا مكان رعاته
الجائسين ببره وببحره
والجائشين بنجده ووطاته
والغاصبين لزرعه ولضرعه
والآكلين لتمره بنواته
أشعاره تحيى وتحيي أمة
تجد الحياة الحق في كلماته
يا راحلا ملأ الزمان بدائعا
من قبل أن نزل القضا بسكاته
أتركت بعدك شاعرا ترضى بأن
ترعى جياد الفكر في تلعاته؟
يبكي بك الإسلام خير جنوده
أبدا ويرثي الشرق رب حماته
وكأن وادي النيل من أحزانه
يلقي على الشطين من زفراته
ونوادب العربية الفصحى لها
ندب عليك يذيب في رناته
انظر إلى الإخوان كيف تركتهم
من كل مضطجع على جمراته
انظر لحال أخ فداك بروحه
لوكان يحيي الميت عزم فداته
قد كنت طول العمر قرة عينه
والآن تجري السخن من عبراته
مضت السنون الأربعون ونحن في
هذا الإخاء نمز من قهواته
أرعاك عن بعد وترعاني على
عهد نهز الرطب من عذباته
قد كنت أطمع أن ترى لي راثيا
يا من غدوت اليوم بين رثاته
كنا نخاف رداك قبل وقوعه
فلنا الأمان اليوم من دهشاته
تبا لعيش قد يكون مساؤه
ترحا وكان سروره بغداته
والمرء إن ينظر لما يبلى به
لا فرق بين بقائه وفواته
فالميت وهو يذوب في حشراته
كالحي وهو يذوب في حسراته
نرجو لك الدار التي عمارها
هم كل من صنع الجميل لذاته
يضفي عليك الله من آلائه
والله لا تحصى ضروب هباته
قد كنت في الدنيا هزارا صادحا
يشجي ويسلي الناس في نغماته
فاليوم كن بجلال ربك ساجعا
والطائر المحكي في جناته
من الذي راض شوقي وحافظا في الشعر
الوسيلة الأدبية ومأخذها من القلوب بما تضمنته من شعر محمود سامي (1) مراسلات المؤلف مع محمود سامي
يقول الأستاذ الرافعي: «إن الكتاب الأول الذي راض خيال شوقي وصقل طبعه وصحح نشأته الأدبية هو بعينه الذي كانت منه بصيرة حافظ وذكرناه في مقالنا عنه؛ أي كتاب الوسيلة الأدبية للمرصفي. وليس السر في هذا الكتاب ما فيه من فنون البلاغة ومختارات الشعر والكتابة، فهذا كله كان في مصر قديما ولم يغن شيئا ولم يخرج لها شاعرا كشوقي، ولكن السر ما في الكتاب من شعر البارودي؛ لأنه معاصر والمعاصرة اقتداء ومتابعة على صواب إن كان الصواب، وعلى خطأ إن كان الخطأ. وقد تصرمت القرون الكثيرة والشعراء يتناقلون ديوان المتنبي وغيره ثم لا يجيئون إلا بشعر الصناعة والتكلف، ولا يخلد الجيل منهم إلا لما رأى في عصره ولا يستفتح غير الباب الذي فتح له. إلى أن كان البارودي وكان جاهلا بفنون العربية وعلوم البلاغة لا يحسن منها شيئا، وجهله هذا هو كل العلم الذي حول الشعر من بعد، فيا لها عجيبة من الحكمة، وهي دليل على أن أعمال الناس ليست إلا خضوعا لقوانين نافذة على الناس. وأكب البارودي على ما أطاقه وهو الحفظ من شعر الفحول؛ إذ لا يحتاج الحفظ إلى غير القراءة ثم المعاناة والمزاولة، وكانت فيه سليقة فخرجت مخرج مثلها في شعراء الجاهلية والصدر الأول من الحفظ والرواية، وجاءت بذلك الشعر الجزل الذي نقله المرصفي بإلهام من الله تعالى ليخرج به للعربية حافظ وشوقي وغيرهما. فكل ما في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الأديب الناشئ فتبعثه هذه الروح على التمييز وصحة الاقتداء، فإذا هو على ميزة وبصيرة، وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما في قوة نفسه ما دام فيه ذكاء وطبع، وبهذا ابتدأ شوقي وحافظ من موضع واحد وانتهى كلاهما إلى طريقة غير طريقة الآخر، والطريقتان معا غير طريقة البارودي.» ا.ه.
قلت: والظاهر أن الوسيلة الأدبية للمرصفي بما فيها من شعر البارودي، قد أنشأت أكثر من شوقي وحافظ، وبعثت الشعر العالي من مرقده وأحيت للأدب العربي دولة جديدة بعد أن كان الناس يظنون أن الشعر هو عبارة عن النكتة، وكان جهادى الشاعر من المتأخرين أن يضمن كل بيت نكتة من أدب أو تاريخ أو مثل سائر أو تورية أو استخدام بديعي أو طباق أو مقابلة أو لف ونشر أو جناس لفظي أو معنوي أو غير ذلك مما استقصاه علماء البديع.
فأما أسلوب الجاهلية والمخضرمين والطبقة التي جاءت بعدهم ممن عاشوا في أوائل الدور العباسي ولم يكن طرأ الوهن على ملكاتهم، فقد كان محفوظا في الكتب حفظ النفائس في الخزائن، وكان يرى الناس بدعا أن ينسجوا على منواله ولا يزالون يرون أن البيت إذا خلا من النكتة فلا يعد شعرا ولو كان منحوتا من أحسن مقاطع البلاغة.
وبقي الأمر كذلك حتى نبغ البارودي بانطباعه على شعر الأولين وإرساله تلك القصائد التي عارض فيها آياتهم الكبر فلم يقصر عنهم، وصار الناظر في شعرهم وشعره لا يفرق بين النسجين. وسواء عرف البارودي شيئا من قواعد النحو والصرف أو لم يعرف فقد كان المثل الأعلى في نقاء اللغة وبداعة الأسلوب ومتانة التركيب، وكنت إذا قرأت شعره ملك عليك مشاعرك وهزك هزة لا تجدها إلا في شعر الفحول المفلقين مثل زهير وعنترة والأعشى والنابغة الذبياني وبشار وأبي تمام ومن في ضربهم، كأنما قميصه زر على واحد من هؤلاء.
فالذين اهتدوا من ناشئة العصر إلى الوسيلة الأدبية للمرصفي وجدوا فيها ضالتهم التي طالما نشدوها فلم يجدوها إلا في شعر محمود سامي. رأوا نسبة معاصريه له نسبة البغاث إلى الباز، ولا أعلم هل كانت الوسيلة الأدبية هي التي بعثت الشعر في شوقي وحافظ أم كانت لهما وسائل غيرها؛ لأني لم أشاهد حافظا في حياتي وعندما كنت أذاكر شوقي وأنشده من شعر محمود سامي لم يقل لي شيئا يتعلق بكونه إنما نسج على طرازه أو إن شعر محمود سامي هو الذي أرهف قريحته. وقصارى ما لحظته من شوقي هو إجلال البارودي كشاعر، وما عرفت أن محمود سامي كان صيقل حافظ وشوقي في الشعر إلا من رواية الرافعي هذه، وهذا القول جدير بأن يكون صحيحا لأني أعرف ذلك من نفسي، فقد كان اطلاعنا على شعر محمود سامي بواسطة الأستاذ الإمام حجة الإسلام الشيخ محمد عبده يوم كان منفيا في بيروت، وكنا نلازمه استفادة من واسع علمه واستفاضة من عارض فضله، فهو الذي عرفنا بالوسيلة الأدبية للشيخ حسين المرصفي، وكنا أنا وأخي نسيب - رحمه الله - نصبو من صبانا إلى طريقة الأولين في الشعر ونؤثر شعر الجاهلية والمخضرمين والبطن الأول من المولدين على شعر أهل الأعصر الأخيرة مهما حلت نكاتهم وكثرت الأنواع البديعية في أشعارهم، ولم نكن نجهل علم البديع ولا كان يفوتنا شيء مما في خزانة ابن حجة ولكن ذلك كله كان عندنا لعبا ولهوا بالقياس إلى المعلقات السبع وشعر النابغة والأعشى، ثم شعر الأخطل وجرير والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة ثم شعر أبي العتاهية وأبي نواس وبشار ومسلم بن الوليد ومروان بن أبي حفصة وأبي تمام والبحتري وطبقتهم. وكان المتنبي كله لا يروقنا إلا من جهة الأمثال والحكم، وكنا نرى شعره في الأحايين نازلا عما يجب أن يكون، فلما قرأنا شعر محمود سامي سكرنا بأدبه، ورقصنا على قصبه، وبعث لنا نشأة روحية لم نعهدها في أنفسنا من قبل أن عرفناه، وعلمنا أن في المعاصرين من قدر أن يضارع الأولين وأن يسامي بنفسه أنفاسهم.
وكنا من قبل محمود سامي نظن الأولين غاية لا تدرك، وأنهم إذا قرن بهم المتأخرون أو المعاصرون كان أولئك هم السماء وهؤلاء هم الأرض. وبقي فينا هذا الاعتقاد إلى أن ظفرنا بشعر محمود سامي وحفظنا جميع قصائده التي في الوسيلة الأدبية، فلم نكن لشدة إعجابنا بها نخرم منها بيتا واحدا، وكان حفظنا لها من أعمل عوامل الشعر فينا، بل كنا نشعر إذ ذاك بحاسة طرب تهتز لها جوارحنا كلما روينا شعر البارودي في أنفسنا أو أمام الناس. وكما قال كارليل عن شكسبير: «إننا نحن معاشر الإنجليز نرى شكسبير أثمن لنا من الهند.» فقد كنت أقول في نفسي إن محمود سامي هو بذاته مملكة عربية. وكان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بمكانه من رئاسة الدولة الفكرية يذهب إلى ما يقوي فينا هذه العقيدة؛ ولذلك كنت أنا أراني خريجا في الشعر لمحمود سامي البارودي، وإلى هذا أشرت في أول قصيدة أجبته بها يوم بدأ بمراسلتي من منفاه في سيلان، فقال لي:
أشدت بذكري بادئا ومعقبا
وأمسكت لم أهمس ولم أتكلم
وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ
حباني به لكن تهيبت مقدمي
فأما وقد حق الجزاء فلم أكن
لأنطق إلا بالثناء المنمنم
وكيف أذود الشكر عن مستقره
وأنكر ضوء الشمس بعد توسم
وأنت الذي نوهت باسمي ورشتني
بقول سرى عني قناع التوهم
لك السبق دوني في الفضيلة فاشتمل
بحلتها فالفضل للمتقدم
ودونكها يا ابن الكرام حبيرة
من النظم سداها بمدح العلا فمي
فأجبته بقصيدة أقول له فيها:
لك الله من عان بشكر منمنم
لتقدير حق من علاك محتم
وشهم أبي النفس أضحى يرى يدا
تذكر فضل أو جميل لمنعم
رأى كرما مني تذكر قوله
فدل على أعلى خلال وأكرم
ولو كان يدري فاضل قدر نفسه
رأى ذكره فرضا على كل مسلم
أيعجب من تنويه مثلي بمثله
لعمري الذي قد شق في شعره فمي
ومهما يكن من أعجم فبفضله
يرى ثقفيا في الورى كل أعجم
إذا أمطر الغيث الرياض بوابل
فأي يد للطائر المترنم
إذا ما تصبت بالعميد صباحة
بوجه فما فضل العميد المتيم
وهل ينكر الإحسان إلا لآمة
وينكر حسنا غير من طرفه عمي
وهل في شهود الشمس أدنى مزية
وقد جاء ضوء الشمس لم يتكتم
رويدك لا تكثر لدهرك تهمة
ولا تيأسن من أهله بالتوهم
فما زال من يدري الجميل ولم يكن
لتأخذه في الحق لومة لوم
وأنت الذي لو أنصف الدهر لم يكن
لغيرك في العلياء صدر التقدم
جمعت العلا من تلدها وطريفها
فجاءت كعقد في ثناك منظم
غدت خطتي إما يراع ومخذم
وإنك قطب في يراع ومخذم
ولم أر كفا مثل كفك أحسنت
إلى المجد إرعاف المداد مع الدم
جمعتها جمع القدير بكفه
إلى محتد سام إلى المجد ينتمي
ولو كان يرقى المرء ما يستحقه
إذن لبلغت النيرات بسلم
وأنت الذي يا ابن الكرام أعدتها
لأفصح من عهد النواسي ومسلم
وأنشرت ميت الشعر بعد مصيره
لأعظم نثرا من رفات وأعظم
وأشهد ما في الناس من متأخر
يدانيك فيه لا ولا متقدم
ولو شعراء الدهر تعرض جملة
بمنجدهم من كل حي ومتهم
لأبصرت شخص البحتري معك بحترا
وخلق أبي تمام غير متمم
لك الآبدات الآنسات التي نأت
وأنست عكاظ الشعر بل كل موسم
لكم أسهرت جفن الرواة وخالفت
حظوظك منها شرد غير نوم
شغفت بها طفلا فأروي بديعها
ولم أرو من وجدي بها نار مضرم
ولا عجب أني أحن صبابة
فيسري الهوى بالقول للمتكلم
أفي كل يوم فيك وجد كأنه
طوى جانحا مني على نار ميسم
أحمل ريح الهند كل تحية
فكم من صبا منها عليك مسلم
وقد طالما حدثت نفسي وعاقني
ترددها ما بين أقدم وأحجم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
وبالروضة الزهرا ألية مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر القنا
وخوضي في حوض من الدم مفعم
أقل بقلبي في المواقف هيبة
وأهون من ذاك المقام المعظم
وهب أنني باز قد انقض أشهب
فهل يطمع البازي بلقيان ضيغم
ولكن لي من عفو مولاي ساترا
فها أنذا منه به بت أحتمي
أمحمود سامي إن يك الدهر خائنا
وطال عليك الزجر طائر أشأم
فما زالت الأيام بؤسي وأنعما
وحظ الشقا بالمكث حظ التنعم
ولولا الصدى ما طاب ورد ولا حلا
لك الشهد إلا من مرارة علقم
عسى تعتب الأقدار والهم ينجلي
وينصاح صبح السعد في جنح مظلم
وأهديك في ذاك المقام تهانئا
حبيرة مسد في ثناك وملحم
فأنت ترى من كل حرف من حروف قصيدتي هذه حالتي النفسية التي تتلخص في هذه الجملة: إن البارودي هو إمامي في الشعر. ولا أنكر أنني قبل أن قرأت شعر البارودي بدلالة الشيخ محمد عبده كان سبق لي نظم غير قليل، وكان اطلع عليه الشيخ محمد عبده نفسه، فقال لي في اجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، وقد عرفوه بي: أنت ستكون من أحسن الشعراء. وكذلك قال العلامة الشيخ إبراهيم الأحدب الذي كان الصدر المقدم في الأدب وقد قرأ لي أبياتا في إحدى الجرائد، وأنا بعد في المدرسة: إن هذا الولد سيكون شاعرا. إذن لم يكن نظمي للشعر موقوفا على حفظي لشعر البارودي ولكن هزني من شعر هذا الرجل ما لم يهزني شعر شاعر من أول وآخر، فكنت أرى منتهى السعادة في أن تكون لي معه مراسلة وأن أمت إليه بصلة، كما كنت أحن إلى مثل هذه العلاقة مع السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده بما أسمع عنهما وأقرأ لهما إلى أن ظفرت بذلك، وجميع الشبان المتأدبين كما لا يخفى لهم ولوع شديد، بل هوس بتقليد كبار علماء عصرهم، ووجد مبرح للاتصال بهم والأخذ عنهم، وهو ما قد عبرت عنه من جهة محمود سامي في قولي:
أفي كل يوم فيك وجد كأنه
طوى جانحا مني على نار ميسم
أحمل ريح الهند كل تحية
فكم من صبا منها عليك مسلم
وكنت كثيرا ما أحدث نفسي بنشدان وسيلة أتحكك بها بهذا الشاعر الكبير فأحصل منها على جواب منه فأكون سعيدا، ولكنني كنت أتهيب الإقدام وأخشى أن تتزلزل مني الأقدام فأعود فأنكص عن إجراء فكرتي هذه، وإلى هذا أشرت بقولي بعد أن بدأ هو بالمراسلة:
وقد طالما حدثت نفسي وعاقني
ترددها ما بين أقدم وأحجم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
وبالروضة الزهرا ألية مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر القنا
وخوضي في حوض من الدم مفعم
أقل بقلبي في المواقف هيبة
وأهون من ذاك المقام المعظم
ولكن كما كان الإقدام على ذاك المقام أشق من خوض المعارك واقتحام المهالك، كان الشوق أيضا إلى صاحب تلك القصائد التي كنت أتلوها كل يوم من بعد تلاوة كتاب الله وأترنم بها في نجواي، وأجعلها نقل أسماري وغبوق ليلي وصبوح نهاري من نوع البرحاء التي لا تدافع ومن نمط النزعات التي لا تنازع، فعدت إلى طريقة ثانية أبلغ بها مرامي وأروي أوامي؛ وهي أن أستشهد بشعر البارودي في مقالاتي التي كنت أنشرها إذ ذاك في جريدة الأهرام، فاستشهدت له إحدى المرار ببيتين بدون تصريح باسمه، وهما قوله:
فيا قلب صبرا إن أضر بك الهوى
فكل فراق أو تلاق له حد
فقد يشعب الإلفان أدناهما الهوى
ويلتئم الضدان أقصاهما الحقد
واستشهدت مرة أخرى ببيت له عن أهل كريت، وذلك مع التصريح باسمه، ومع نعته بلقب «أمير الشعراء»، وقد كانوا ثاروا على الدولة:
قوم أبى الشيطان إلا خسرهم
فتسللوا من طاعة السلطان
ولما كان من التجاذب بين الأرواح مهما تباعدت الأماكن، وتراخت المساكن ما لا يقل عن انتقال الأصوات بتموجات الهواء ونفوذ الكهرباء، كان حنيني هذا إلى معرفة محمود سامي قد لاقي مثله إلي، وقد كان يقرأ مقالاتي في الأهرام فيشعر لكاتبها بعاطفة لا يعرف لها سببا خاصا، وما زال كذلك حتى رآني أستشهد بشعره أولا وثانيا فعلم أن ما به من جهتي هو بي من جهته، وأن بين الروحين رسائل من غير كتب ووسائل بلا أسلاك، فعندها جاءني منه الأبيات التي يبتدئ فيها بقوله:
أشدت بذكري بادئا ومعقبا
وأمسكت لم أهمس ولم أتكلم
وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ
حباني به لكن تهيبت مقدمي
ثم بعد أن أجبته على أبياته هذه بالقصيدة التي تقدمت جاءني منه هذا الكتاب الذي أنا أنقله الآن بحروفه:
عن كندى في 28 ذي القعدة سنة 1315:
تقبل يا شكيب ثناء حر
أمين الغيب محمود السلوك
سرت نزوات ودك في عروقي
مسير الكهرباءة في السلوك
سيدي الأمير
لولا حنين النفس، وهو علاقة الحب، لصبرت على المكاتبة هنيهة مخافة الإملال، ولكني راجعت النفس فأبت علي زاعمة أن الإغباب يكون في الزيارة لا في الكتابة، وبعد، فقد تلقيت اليوم ما تفضلتم به علي بيد ترعد فرحا وفؤاد يهتز مرحا، وما عساي أن أقول في نظم لو وصفته لقلت سحرا، ونثر لو وردت شرعته لكان بحرا، إنها وايم الله منة لا يقوم بها الشكر ولا يتدرج إلى معروفها النكر، كيف لا وقد أضاءت علي غيابة الوحشة، وسرت عني ضبابة الحسرة، فالحمد لله الذي صدق ظني، وحقق أملي، فإني منذ طالعت آثار قلمكم في جريدة الأهرام شعرت بميل في النفس إليكم ونزاع منها إلى التعارف بكم، ثم لم ألبث أن رأيت بها تعريضا خفيا سمعت منه هاتفا روحانيا يدعوني إليكم، فحدثت نفسي بمد أسلاك المراسلة لتبادل كهرباءة المودة معكم، ولكني راعيت الحال فأمسكت على مضض حتى سمعت هاتفا آخر يدعوني باسمي صراحا فلم أتمالك أن لبيت دعوته، فتم الأمل بتعارف الأرواح قبل تقارب الأشباح، هذا ما كنت أجده في نفسي أذكره لكم على سبيل الغرابة، وسأكتب بعد هذا إن شاء الله، فاقبلوا تحية فؤادي وخالص ودادي ودمتم.
الداعي محمود سامي
إن هذه الحالة التي وقعت بيني وبين محمود سامي هي تصداق الحديث: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.»
وبالجملة فبينما أنا كنت أروي قصائده ولا أروي ظمأ فؤادي إلا بالتعارف معه، كان هو يشعر بميل خاص إلى كاتب تلك المقالات في الأهرام قبل أن يعرفه بل بمجرد التجاذب الروحي والتعارف الغيبي وبسائق تلاؤم الأشكال الذي قرر الحكماء أنه منشأ الحب بين الخلق، ثم إنه رآني أستشهد بشعره ولكن بغير تصريح باسمه فكاد يجاذبني حبل المراسلة إلا أنه توقف قليلا ثم رآني أصرح باسمه وأقول إنه أمير الشعراء فلم يملك نفسه بعد ذلك عن البديئة بالخطاب والإسراف في الثناء فأرسل إلي بتلك الأبيات الميمية، وإلى هذا المعنى الأخير أشار بقوله:
فأما وقد حق الجزاء فلم أكن
لأنطق إلا بالثناء المنمنم
ويوم وصفت محمود سامي بقولي: إنه «أمير الشعراء» لم يكن شوقي قد طارت شهرته إلى أن صار يزاحمه على هذا الاسم، ولا كنت أنا أجمجم عن شوقي أني أعد محمود سامي أبا الشعراء في وقته، ولا كان قد جاء الدور الذي أصبح شوقي يرى نفسه فيه الجواد المبر على الجميع، والفذ الذي تأخذه النخوة على نظرائه، ولا يرى فيه أحدا من أكفائه، بل كنت، ما دام البارودي حيا، أول من بايعه بالإمامة، ولم يضع أحدا أمامه إلى أن مضى لسبيله، فكان من جملة ما رثيته به قولي:
كان الأوائل في الأنظار معجزة
حتى أتى فثأى من جد من قدما
لو كان في الزمن الماضي وعاصره
حكيم كندة لم يزعم بما زعما
لو كان أدرك عصرا قد تقدمه
عي حبيب عن الإنشاد معتصما
فانعوا لنا الشعر والآداب قاطبة
معه وقولوا لشوقي إنه يتما
ولكن من يدري فقد يكون شوقي غص برئاسة البارودي من ذلك العهد، وقد تكون الفترة التي ظهرت لي منه عندما جئت إلى مصر قاصدا طرابلس الغرب، وما رأيت من تدلله ولحظت من تسحبه أثرا من آثار المقالة التي أجبت فيها سليم سركيس عمن أراهم أشعر الشعراء في هذا العصر، وأسجلت فيها أن الأول فيهم هو محمود سامي والثاني هو شوقي والثالث هو حافظ إبراهيم، فجاءت مقالتي هذه قرعا على كبده رحمه الله. ولعل الأخ شاعر القطرين خليل مطران يدري من هذا الأمر ما لا أدريه أنا؛ لأنه قد كان بينه وبين شوقي من الخلطة والمودة والتبذل في الحديث ما لم يكن بين اثنين، وكيف كان الأمر فقد صدق مصطفى صادق الرافعي في قوله: إن شوقي أصبح بعد أن صار شاعر الأمير كالجواد العتيق ينافس حتى ظله. وقد صدق الرافعي أيضا في قوله: إن طريقة شوقي في الشعر لم تكن طريقة البارودي؛ لأن شوقي كان يضعف عن طريقة البارودي ولم تكن تتهيأ في أسبابه وخاصة في أول عهده. وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان فلكل من هذين طريقة خاصة به، والغالب على البارودي هو علو النفس والجزالة، والغالب على شوقي هو الرقة والحكمة والتأثير في النفس.
أماثيل من شعر شوقي
وقد حان الآن أن نذكر أماثيل مما يعجبنا من شعر شوقي، وقد سبق للأدباء حتى في حياته أن تكلموا في هذا الموضوع وأشاروا إلى المختار من شعره والأثير من قوله، واتفق الجميع على أن القصيدة التي أولها:
خدعوها بقولهم حسناء ... ... ... ...
هي من عيون قصائده التي رزق فيها من التوفيق ما لم يقع فيه جدال مع أنها مما نظمه في أول شبابه. وقد نشر الأديب الضليع أنطون بك الجميل رسالة بعد وفاة أمير الشعراء ضمنها ما رآه الأحسن في نظره، وهو لا يخرج عما كان يؤثره له الناس في حياته ويأثرونه دائما عنه. وسأنقل أنا أيضا من جملة الناس ما يعجبني من شعر شوقي غير ذاهب مذهب الإطالة في التحليل ولا مقتصر على مجرد السرد بدون تذييل؛ فأقول: ينقسم شعر شوقي إلى ثلاثة أقسام: أحدها الشعر الشخصي، وهو ما اصطلح الإفرنج على تسميته بالشعر المطرب
Lyrique
والشعر التاريخي أو شعر الوقائع، وهو ما يقولون له
épique
والشعر الروائي وهو القصص المنظوم شعرا، ولشوقي عدة روايات منظومة لم أكن اطلعت عليها إلا بعد وفاته. فالشعر الشخصي هو الجانب الأوفر من شعر شوقي، وإذا أراد الناقد أن يعتام جيده لا ينتهي منه إلا بديوان كبير؛ لأن شعر شوقي نسج واحد لا يكاد ينزل، ولو وضع كلامه في أتفه المواضيع، فالغثاثة وشوقي على طرفي نقيض.
من أحسن ما يعجبني من شعره الشخصي ما افتتح به ديوانه المطبوع أول مرة، وذلك تحت عنوان «إلى مولانا أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني أيده الله»:
سلام الله لا أرضى سلامي
فكل تحية دون المقام
وعين من رسول الله ترعى
وتحرس حامل الأمر الجسام
وتنجد مقلة في الله يقظى
وتخلفها على أمم نيام
تقلب في ليال من خطوب
تركن المسلمين بلا سلام
ومن عجب قيامك في الليالي
وأنت الشمس في نظر الأنام
أحب خليفة الرحمن جهدي
وحب الله في حب الإمام
وأجعل عصره عنوان شعري
وحسن العقد يظهر في النظام
فإن تفت الموانع منه حظي
فليس بفائت حظ الكلام
وقد يرعى الغمام الأرض أذنا
وأين الأرض من سمع الغمام
وبعد أن قدم هذه التحية إلى الخليفة عاد فشفعها بتقدمة إلى الخديوي فقال:
إلى ابن محمد أهدي كتابي
وقد يهدى القليل إلى الكريم
وما أهدي له إلا فؤادي
وما بين الفؤاد من الصميم
وغرس طفولتي وجنى شبابي
وما أوعيت من وحي قديم
وما حاولت من عصر عظيم
من الآداب للوطن العظيم
وكان محمد أوفى وأرعى
لهذا الدر من راعي اليتيم
فكنه يا ابن توفيق فإني
فخيم الظن في الجاه الفخيم
وإن الشعر ريحان الموالي
وراحة كل ذي ذوق سليم
وما شرب الملوك ولا استعادوا
كهذي الكأس من هذا النديم
والبيت الأخير هو بيت القصيد، وفي قوله: وكان محمد أرعى لهذا الدر من راعي اليتيم، تورية لطيفة ولكنه استعمل لفظة «فخيم» ولا يوجد في العربي «فخيم»، وإنما هو «الفخم» وقد انسابت هذه اللفظة إلى كلام شوقي من كلام الدواوين ومن المعلوم أن لغة الدواوين في القرون الأخيرة كانت عليها مسحة تركية.
ومن شعره الذي شرق وغرب وذهب كل مذهب، ولم يبق أحد إلا رواه قوله:
خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهن الثناء
وهي أبيات معدودات أحسن فيها غاية الإحسان، ولا سيما عند قوله:
نظرة فابتسامة فسلام
فكلام فموعد فلقاء
ففراق يكون فيه دواء
أو فراق يكون منه الداء
فلو قال أحد إنه ما قيل في هذا العصر شعر أشعر من هذا في الغزل ما أبعد. وله أبيات لو لم أقرأها في ديوانه لظننت أنها من شعر أبي العتاهية الذي استولى على الأمد في نظم الزهد بالسهل الممتنع الذي يقرأ منه الإنسان ويعيد ولا يمل ولا تخلق طلاوته ولا تذهب حلاوته. قيل لأبي نواس وقد عظم أبا العتاهية كثيرا: لأنت أشعر منه. فأجاب: ما رأيته قط إلا ظننت أنه سماء وأنا أرض. وأبو العتاهية هذا نسيج وحده في الممتنع السهل والمهلهل الجزل لو نسبت إليه هذه الأبيات الخفيفة اللطيفة التالية لكانت به جديرة وهي:
كم لنا من عجيبة
طي هذي البسيطة
أمم قد تغيرت
وبلاد تولت
وبحار تحولت
من مكان لبقعة
تم نابت جزيرة
عندها عن جزيرة
أيها الأرض خبري
عن شباب البسيطة
دول قد تصرمت
دولة إثر دولة
وقرون تلاحقت
وعصور تقضت
ذهب الدهر كله
بين يوم وليلة
نعم على هذا الشعر مسحة عصرية جيولوجية لا توجد في شعر أبي العتاهية، ومن شعر شوقي في إنكار رفع الصوت أمام الجنائز:
أرى زمرا مشيعة
وأسمع أيما صوت
ولو عقلوا لما فعلوا
جلال الموت في الموت
ومن قوله في الرضى بما قسم الله:
أعاذلتي في اختيار الرضى
ولائمتي في اعتقاد القدر
تجيء النفوس الرضى مرة
إذا هي لم تنتفع بالضجر
ومن حكم شوقي السائرة وأبياته النادرة ما قاله في مداراة العدو، وما ذهب إليه من أن أشد الناس على العدو آخذهم له بالحيلة فهو يقول:
قد أتعب الأعداء من داراهمو
فأقم عدوك بالليان وأقعد
إن الأراقم لا يطاق لقاؤها
وتنال من خلف بأطراف اليد
ومن حكمه:
إن الوفاء سياج أخلاق الفتى
من حازه حاز المحامد أجمعا
كم من لبيب كان يرجى نفعه
لكن أبى عدم الوفا أن ينفعا
ومن لطائفه:
رمينا بإبليس من حالق
ولم نرم بالتاجر الفاسق
وكم في الحوانيت شيخ أحق
بقطع اليمين من السارق
ومن أقواله المأثورة:
جهول الناس للنصحاء قال
وعند أخي النهى لهمو ملال
عليك النصح إن صادفت أهلا
وليس عليك في النصح الجدال
وقد كرر هذا المعنى في مكان آخر، فقال:
لك نصحي وما عليك جدالي
آفة النصح أن يكون جدالا
وكرره ثالث مرة فقال:
آفة النصح أن يكون جدالا
وأذى النصح أن يكون جهارا
وقد ذهب السيد مصطفي صادق الرافعي إلى أن شوقي أخذ هذا من قول ابن الرومي:
وفي النصح خير من نصيح موادع
ولا خير فيه من نصيح مواثب
ولا حاجة إلى الإبعاد كل هذا، فأقرب إليك من قول ابن الرومي المثل المشهور: لا تبالغ في النصيحة فتهجم بك على الفضيحة.
ومن حكم شوقي:
كم ساهر خائف والدهر في سنة
وراقد آمن والدهر في سهر
فلا تبيتن محتالا ولا ضجرا
إن التدابير لا تغني عن القدر
ومن مرقصات شعر شوقي القصيدة المشهورة في وصف ليلة راقصة بسراي عابدين مطلعها:
حف كأسها الحبب
فهي فضة ذهب
ومما يعجبني فيها:
أشرقت نوافذه
فهي منظر عجب
واستنار رفرفه
والسجوف والحجب
تعجب العيون له
كيف تسكن الشهب
أقبلت شموس ضحى
ما لهن منتقب
الظلام رايتها
وهي جيشه اللجب
في هوادج عجلا
بالجياد تنسحب
فقد كان هذا قبل اختراع السيارات الكهربائية ثم قال:
قام دونها سبب
واستحثها سبب
فهي تارة مهل
وهي تارة خبب
يرتمي بهن حمى
لا يجوزه رغب
بابه لداخله
جنة هي الأرب
قامت السراة به
والمعية النجب
وانبرى النساء له
عجمهن والعرب
العفاف زينتها
والجمال والحسب
أنجم مطالعها
عابدين والرحب
إلى أن يقول:
الليوث ماثلة
والظباء تنسرب
الحرير ملبسها
واللجين والذهب
والقصور مسرحها
لا الرمال والعشب
يستفزها نغم
لا صدى ولا لجب
يستعاد مرقصه
تارة ويقتضب
فالقدود بان ربى
بيد أنها تثب
يلعب العناق بها
وهو مشفق حدب
فهي آنة صعد
وهي آنة صبب
وهي ها هنا وهنا
تلتقي وتصطحب
مثلما التقت أسل
أو تعانقت قضب
الرءوس مائلة
في الصدور تحتجب
والنهود هامدة
والخدود تلتهب
والخصور واهية
بالبنان تنجذب
إلى أن يقول:
هكذا الكرام كرا
م وإن همو طربوا
ليلة علت وغلت
ليت فجرها كذب
يكفل الأمير لنا
أن تعيدها الحقب
وله في وصف متنزه الخديوي:
متنزه العباس للمجتلي
آمنت بالله وجناته
العيش فيه ليس في غيره
يا طالب العيش ولذاته
قصور عز باذخات الذرى
يودها كسرى مشيداته
دارت على البحر سلاليمه
فبتن أطواقا للباته
من عمل الإنس سوى أنها
تنسي سليمان وجناته
إلى أن يقول:
ومن ظباء في كناساتها
تهيج للعاشق لوعاته
يرتعن والآساد في ألفة
من عدل حلمي ومساواته
وله في وصف الشروق والغروب وهو في سفينة:
ويا للمصور آثارها
بكل بحار وفي كل بيد
وإزراؤها كل جم السنا
وإزواؤها كل عال مشيد
من النار لكن أطرافها
تدور بياقوتة لن تبيد
من النار لكن لألاءها
إلهية زينت للعبيد
هي الشمس كانت كما شاءها
ممات القديم حياة الجديد
ترد المياه إلى حدها
وتبقي جبال الصفا والحديد
وتطلع بالعيش أو بالردى
على الزرع فائمة والحصيد
وتسعى لذا الناس مهما سعت
بخير الوعود وشر الوعيد
وقد تتجلى إذا أقبلت
بنعمى الشقي وبؤس السعيد
وقد تتولى إذا أدبرت
وليست بمأمونة أن تعود
فما للغروب يهيج الأسى
وكان الشروق لنا أي عيد
كذا المرء ساعة ميلاده
وساعة يدعو الحمام العنيد
وليس بجار ولا واقع
سوى الحق مما قضاه المريد
على هذه الأبيات الأخيرة مسحة من شعر المعري الذي يختلط الشعر فيه بالفلسفة، وله وصف طلوع البدر وهو في السفينة أيضا:
وزهت لناظرها السماء وقر ما
في البحر من عبب ومن تيار
وأهل لله السراة وأزلفوا
لك في الكمال تحية الإكبار
وتأملوك فكل جارحة لهم
عين تسامر نورها وتساري
والبدر منك على العوالم يجتلي
بشر الوجوه وزحمة الأبصار
انظر إلى قوله «زحمة الأبصار» هنا كم فيه من البلاغة إذا تأملت تطلع الناس إلى البدر في الليلة البلجاء.
ثم يقول:
متقدم في النور محجوب به
موف على الآفاق بالأسفار
يا درة الغواص أخرج ظافرا
يمناه يجلوها على النظار
متهللا في الماء أبدى نصفه
يسمو بها والنصف كاس عار
وافى بك الأفق السماء فأسفرت
عن قفل ماس في سوار نضار
ونهضت يزهو الكون منك بمنظر
ضاح ويحمل منك تاج فخار
الماء والآفاق حولك فضة
والشهب دينار لدى دينار
والفلك مشرقة الجوانب في الدجى
يبدو لها ذيل من الأنوار
وكأنها والموج منتظم وقد
أوفيت ثم دنوت كالمحتار
وقد استعمل شوقي لفظة «المحتار» ولا يوجد فعل مطاوعة من «حار» ولكن استعمل ذلك بعض الأعلام متابعة للعامة، وقال الشيخ عبد الغني النابلسي:
حكم حارت البرية فيها
وجدير بأنها تحتار
وسمى فقيه عصره السيد محمد بن عابدين حاشيته على الدر المختار باسم «رد المحتار» ولم يسلم من الاعتراض.
وله في البحر المتوسط الأبيض:
أي الممالك أيها
في الدهر ما رفعت شراعك
يا أبيض الآثار والص
فحات ضيع من أضاعك
إن البيان وإن حس
ن العقل ما زالا متاعك
يشير بذلك إلى أن الأمم التي عاشت على ضفاف هذا البحر هي التي فرطت إلى حوض المدنية مثل مصر وفينيقية واليونان ورومة، وأنها هي التي اشتهرت بذلاقة اللسان وسداد المنطق ثم يقول:
أبدا تذكرنا الذي
ن جلوا على الدنيا شعاعك
وبنوا منارك عاليا
متلاليا وبنوا قلاعك
وتحكموا بك في الوجو
د تحكما كان ابتداعك
أي إن البحر المتوسط هو الذي سهل الفتوحات للذين ملكوا على شواطئه، وله في وصف سويسرا:
ناجيت من أهوى وناجاني بها
بين الرياض وبين ماء سويسرا
حيث الجبال صغارها وكبارها
من كل أبيض في الفضاء وأخضرا
تخذ الغمام بها بيوتا فانجلت
مشبوبة الأجرام شائبة الذرى
والصخر عال قام يحكي قاعدا
وأناف مكشوف الجوانب منذرا
بين الكواكب والسحاب ترى له
أذنا من الحجر الأصم ومشفرا
والسفح من أي الجهات أتيته
ألفيته درجا يموج مدورا
نثر الفضاء عليه عقد نجومه
فبدا زبرجده بهن مجوهرا
إلى أن يقول:
والماء من فوق الديار وتحتها
وخلالها يجري ومن حول القرى
متصوبا متصعدا متمهلا
متسرعا متسلسلا متعثرا
والأرض جسر حيث درت ومعبر
يصلان جسرا في المياه ومعبرا
والفلك في ظل البيوت مواخرا
تطوي البحائر نحوها والأنهرا
إن هذا الأسلوب في وصف الطبيعة هو الذي جرى عليه الشعراء من قديم الزمان؛ يأتون بالتشابيه المرقصة والكنايات المطربة في نظم كأنه يمشي الخبب، وشعر كأنه يتحدر من صبب، فتعرف القافية قبل أن تصل إليها، وتستدل على اللفظة بما حواليها، وتظن نفسك على ضفة نهر مطرد يتدفق، أو أمام غمام منسجم يتبجس، وقد تكثر المترادفات في مثل هذا الوصف فلا تزعج، وتتوالى المتجانسات فتعجب وتبهج، وكأن الموصوف يخلع على الوصف حلاه، وكأن الشاعر يأخذ من الطبيعة لفظه كما يأخذ معناه.
وقلما قرأت شعرا من الزهريات أو الطرديات أو غير ذلك مما وصفوا به الطبيعة إلا رأيته مسحوبا هذا السحب مسكوبا هذا السكب، كأن لكل مقام لغة تناسبه ولكل موضوع أسلوبا خاصا لا يجيد فيه من يجانبه. وأما لفظة «البحائر» التي أتى بها شوقي هنا بمعنى الأبحرة أو البحيرات فليست من اللغة، وإنما البحيرة هي الناقة التي شقت أذنها من فعل بحر بمعنى شق، قال الله تعالى:
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة
وقال أبو إسحق النحوي: أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحيرة أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها؛ أي شقوها وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبيح، ولا تحلأ عن ماء ترده ولا تمنع عن مرعى، وإذا لقيها المعيي المنقطع به لم يركبها. قالوا وجمع البحيرة على بحر وهو جمع غريب في المؤنث إلا أن يكون قد حمل على المذكر نحو نذير ونذر. وليس لهذه اللفظة وجه هنا إلا أن يقال إن البحار جمع بحيرة وهذه فعيلة من فعل بحر أي شق. وقد قيل إن البحر إنما سمي بحرا لأنه شق في الأرض، فهل يصل تسامح علماء اللغة إلى إجازة هذا القياس؟ إنهم إن أجازوا مثله فقد فتحوا بابا يتعذر سده. ثم يقول شوقي من هذه القصيدة:
وخرجت من بين الجسور لعلني
أستقبل العرف الحبيب إذا سرى
آوي إلى الشجرات وهي تهزني
وقد اطمأن الطير فيها بالكرى
ويشوق مني الماء في لمعانه
فأميل أنظر فيه أطمع أن أرى
وهنالك ازدهت السماء وكان أن
آنست نورا ما أجل وأبهرا
فسريت في لألائه وإذا به
بدرى تسايره الكواكب معشرا
حلم أعارتني العناية سمعها
فيه فما استتممت حتى فسرا
فرأيت صفوي جهرة وأخذت أن
سى يقظة ومناي لبت حضرا
ثم يذكر شروق الشمس، فيقول:
تبدو هنالك للوجود وليدة
تهنا بها الدنيا ويغتبط الثرى
وتضيء أثناء الفضاء بغرة
لاحت برأس الطود تاجا أزهرا
فسمت فكانت نصف طار ما بدا
حتى أناف فلاح طارا أكبرا
لا أعلم ماذا يريد بقوله «طار» إلا أن يكون يريد الإطار بالألف، فأطار الألف لضرورة الوزن وليس هذا بجائز؛ لأنه لم يرد إطار بمعنى طار في فصيح اللغة.
ثم يقول:
سالت به الآفاق لكن عسجدا
وتفشت الأشباح لكن جوهرا
واهتز فالدنيا به مهتزة
وأنار فانكشف الوجود منورا
حتى إذا بلغ السمو كماله
أذنت لداعي النقص تهوي القهقرى
فدنت لناظرها ودان عنانها
وتبدل المستعظم المستصغرا
واصفر أبيض كل شيء حولها
واحمر برقعها وكان الأصفرا
وسما إليها الطود يأخذها وقد
جعلت أعاليه شريطا أحمرا
مسته فاشتعلت بها جنباته
وبدت ذراه الشم تحمل مجمرا
فكأنما مدت به نيرانها
شركا لتصطاد النهار المدبرا
حرقته واحترقت به فتوليا
وأتى طلولهما الظلام فعسكرا
فشروقها الأمل الحبيب لمن رأى
وغروبها الأجل البغيض لمن درى
خطبان قاما بالفناء على الصفا
ما كان بينهما الصفاء ليعمرا
تتغير الأشياء مهما عاودا
والله عز وجل لن يتغيرا
ثم إنه يصف جبل الساليف الذي فوق جنيف فيقول:
أنهارنا تحت السليف وفوقه
ولدى جوانبه وما بين الذرى
مشيا وركابا وزحلقة على
عجل هنالك كهربائي السرا
هنا محل نظر؛ فإنه إذا أراد مشيا وركابا وزحلقة على أنها مصادر وبلا تشديد لفظة ركاب لم يستقم الوزن، وإذا كان يشدد ركاب بمعنى جمع راكب أو كانت غلطة مطبعية وأصلها ركبان فهي في قلق زائد في هذا المحل؛ لأنها تكون جمع اسم فاعل بين مصدرين المشي والزحلقة، وربما قاسها شوقي على كذب كذابا بالتشديد، ولكن ليس القياس في اللغة بالمذهب الراجح. والركاب بالتشديد هو الكابوس وليس هذا هو المراد هنا. وقد حاولت أن أجعلها مشيا وتركابا وزحلقة ... إلخ، ولكني لم أجد مساغا لتكثير المصدر من كل فعل إلا إذا أخذنا القياس، فأما متون اللغة فإنك تجد فيها أفعالا تأتي مصادرها على تفعال فيقولون مثلا سكب الماء والدمع سكبا وتسكابا وهتن الغيث هتنا وهتونا وتهتانا، وعليه قلت من قصيدة في هذه الأيام الأخيرة:
نار تأجج في قلبي فهل لكما
أن تطفئاها بتسكاب وتهتان
ولكن هذا غير مطرد وإن كان المتنبي قال:
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني
ظهور جري فلي فيهن تصهال
فإنك لا تجد تصهال في كتب اللغة، وإنما قاسها المتنبي على غيرها، والقياس في اللغة مذهب ضعيف. وقد نظرت في كتاب سيبويه، فرأيته يقول: «هذا باب ما تكثر فيه المصدر من فعلت فتلحق الزوائد وتبنيه بناء آخر، كما أنك قلت في فعلت فعلت «بالتشديد» حين كثرت الفعل وذلك قولك في الهدر التهدار، وفي اللعب التلعاب، وفي الصفق التصفاق، وفي الرد الترداد، وفي الجولان التجوال والتقتال والتسيار، وليس من هذا مصدر فعلت «بالتشديد» ولكن لما أردت التكثير بنيت المصدر على هذا كما بنيت فعلت على فعلت - الثانية بالتشديد.» ا.ه. قلت ولا يستقاد من هذا أنه يجوز اطراد مصدر تفعال من كل الأفعال؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان جامعوا اللغة قالوا هتن يهتن هتونا وتهتانا، ولم يقولوا ركب يركب ركوبا وتركابا. ولنترك ركابا هذه على حالها ونكمل وصف شوقي لجبل السليف، فيقول:
في مركب مستأنس سالت به
قضب الحديد تعرجا وتحدرا
ينساب ما بين الصخور تمهلا
ويخف بين الهوتين تخطرا
ولو جاء شوقي جنيف كما دعوته يوم تلاقينا في السويس لرأى الآن شيئا أعجب وأغرب، وهو أنهم وضعوا من حذاء السليف إلى رأس الجبل مركبة سلكية كهربائية، يقال لها «تلفريك» يظنها الرائي طيارة طائرة في الجو، ويقطع فيها الراكب هذه المسافة من ذيل الجبل إلى رأسه في ثماني دقائق بسرعة برقية، وهذه المركبة من بعيد تلوح كالزنبيل معلقا في الهواء، ثم قال:
لما نزلنا عنه في أم الذرى
قمنا على فرع السليف لننظرا
أرض تموج بها المناظر جمة
وعوالم نعم الكتاب لمن قرا
قد صغر البعد الوجود لنا فيا
لله ما أحلى الوجود مصغرا
ولشوقي قصيدة عن رومة فيها أبيات جديرة بأن تحفظ:
وجرت ها هنا أمور كبار
واصل الدهر بعدها جريانه
راح دين وجاء دين وولى
ملك قوم وحل ملك مكانه
والذي حصل المجدون إهرا
ق دماء خليقة بالصيانه
ليت شعري إلام يقتتل النا
س على ذي الدنية الفتانه
بلد كان للنصارى قتادا
صار ملك القسوس عرش الديانه
وشعوب يمحون آية عيسى
ثم يعلون في البرية شانه
ويهينون صاحب الروح ميتا
ويعزون بعده أكفانه
عالم قلب وأحلام خلق
تتبارى غباوة وفطانه
رومة الزهو في الشرائع والحك
مة في الحكم والهوى والمجانه
والتناهي فما تعدى عزيزا
فيك عز ولا مهينا مهانه
يصبح الناس فيك مولى وعبدا
ويرى عبدك الورى غلمانه
أين ملك في الشرق والغرب عال
تحسد الشمس في الضحى سلطانه
وله على قبر نابليون أبيات منها:
مرمر أضجع في مسنونه
حجر الأرض وضرغام العرين
هل درى المرمر ماذا تحته
من قوى نفس ومن خلق متين
ينمحي الميت ويبلى رمسه
ويغول الربع ما غال القطين
حصنوا ما شئتم موتاكم
هل وراء الموت من حصن حصين؟
ليس في قبر وإن نال السهى
ما يزيد الميت وزنا ويزين
فانزل التاريخ قبرا أو فنم
في الثرى غفلا كبعض الهامدين
وله في توت عنخ آمون قصيدة يقول فيها:
ملوك الدهر بالوادي أقاموا
على وادي الملوك محجبينا
فرب مصفد منهم وكانت
تساق له الملوك مصفدينا
تقيد في التراب بغير قيد
وحل على جوانبه رهينا
تعالى الله كان السحر فيهم
أليسوا للحجارة منطقينا
ويخاطب اللورد كارنارفون الذي اهتدى سنة 1922 إلى ما اهتدى إليه من الكنوز تحت مدفن رعمسيس السادس، فقال:
أبوتنا وأعظمهم تراث
نحاذر أن يئول لآخرينا
ونأبى أن يحل عليه ضيم
ويذهب نهبة للناهبينا
سكت فحام حولك كل ظن
ولو صرحت لم تثر الظنونا
يقول الناس في سر وجهر
وما لك حيلة في المرجفينا
أمن سرق الخليفة وهو حي
يعف عن الملوك مكفنينا؟!
يريد أن يقول إن الناس اتهموا اللورد الذي كشف الكنوز بأنه استأثر لنفسه بها، والحال أنها حق مصر ، وقد حامت الظنون حول هذه القصة، وقال الناس: أفالذين سرقوا الخليفة وهو حي لا يسرقون كنوز الملوك وهم أموات؟! إشارة إلى أن الإنجليز نقلوا الخليفة وحيد الدين من قصره في الآستانة إلى مالطة بعد أن انتهت حرب اليونان وتركيا واتسق الأمر لحكومة أنقرة، والسبب في فرار الخليفة حينئذ ما بلغه عن نية حكومة أنقرة محاكمته والحكم عليه بالقتل بحجة أنه خان الوطن.
وكان السلطان وحيد الدين في بدء احتلال الإنجليز للآستانة بعد الحرب العامة، قد اعتقد أن الإنجليز يقدرون على كل شيء فأطاعهم خوفا لا خيانة ولم يشأ أن يذهب إلى الأناضول وينضم إلى رجال الحركة الوطنية اعتقادا بأنه إن خرج من الآستانة لن يعود ملك آل عثمان إليها أبدا، وأن الإنجليز وغيرهم من الأجانب يريدون فرصة لإعادة القسطنطينية إلى الروم، وقد كانت في أوروبا - ولا سيما في إنجلترة - حركة شديدة لهذا الغرض فتضافرت الأسباب كلها لبقاء السلطان في الآستانة حتى لا تخرج هذه العاصمة المنقطعة النظير من يد الإسلام، ولما كان الإنجليز هم المحتلين وهم أصحاب الكلمة العليا بعد الحرب الكبرى لم يجد وحيد الدين بدا من مطاوعتهم، فانتهز أعداؤه الفرصة لاتهامه بالخيانة وبالخروج عن رأي أمته، ولما كان بين الأتراك حركة قديمة ترمي إلى ثل العرش العثماني وتأسيس حكومة جمهورية، وهذه الحركة لا يقدر أصحابها على التظاهر بها خوفا من الشعب التركي المتمسك بآل عثمان، فقد استغل هذه المرة رجال تلك الحركة طاعة وحيد الدين لإنجلترة الناشئة عن الخوف، وجعلوها من باب الخيانة ونشروها بين الشعب التركي وفي الآفاق، وبنوا عليها فيما بعد إسقاط سلطنة آل عثمان وإسقاط الخليفة والخلافة، مع أن مجلس أنقرة الكبير كان قد قرر أن الحركة التركية الاستقلالية إنما كان المقصد منها إنقاذ الخليفة الذي هو أسير بين أيدي الإنجليز، وقد اضطر السلطان الخليفة وحيد الدين أن يفر من الآستانة حتى لا يصلب على جسر الخليج، فقصد مالطة على باخرة إنكليزية ثم جاء منها إلى الحجاز، وبعد أن أقام أياما في مكة وأياما في الطائف ذهب إلى أوروبا وأقام في سان ريمو من إيطاليا، ولم يعش بعد سقوطه مدة طويلة، وعندما مات كان يعاني من جهة أمر معيشته مع حاشيته أزمة شديدة، وكانت عليه ديون لأصحاب الدكاكين الذين كانوا يبيعونه بالنسيئة ويصبرون عليه، فلما مات قاموا يطالبون بحساباتهم وطلبوا تأخير نقل الجثة من سان ريمو، حتى يكونوا استأدوا أموالهم فبقيت الجثة في سان ريمو أسبوعين أو ثلاثة رهنا، حتى يأتي من آل عثمان من يؤدي الحسابات التي كانت على السلطان المتوفى! وفي ذلك الوقت قال لي سمو الخديوي السابق: إن هذا عار على الإسلام وكان من الواجب أن يتبرع ذوو الحمية من المسلمين بالمبلغ الباقي على السلطان المرحوم حتى يتيسر نقل جثمانه إلى الشام لدفنه فيها كما أوصى بذلك. فقلت له: ومن أولى منك بهذا الأمر؟ فذكر لي محذورا سياسيا يمنعه من التظاهر بهذه القضية، وأشار بأن أكتب إلى سمو الأمير عمر طوسون الذي هو المفزع للإسلام عند كل حادثة، فكتبت إلى الأمير المشار إليه ولا شك أنه لم يكن ليتأخر عن الواجب، ولكن في أثناء ذلك جاء الخليفة عبد المجيد ابن عم السلطان وحيد الدين من بلدة نيس التي يقيم بها، وأدى المبلغ الباقي لأصحاب الحسابات، وهكذا تمكن من شحن جثة السلطان إلى دمشق؛ حيث دفنت في التكية السليمانية.
ومن هنا يعلم القارئ أن السلطان وحيد الدين كان خالي الوفاض، وأنه لو كان خائنا لأمته كما يتشدق بعض الناس الذين يهرفون بما لا يعرفون، وكان خادما لأغراض إنجلترة كما يزعمون لكانت إنجلترة تقوم بنفقاته وتكفي أهله تلك الإهانة التي وقعت بإبقاء جثته رهينة مدة ثلاثة أسابيع على حسابات دكاكين سان ريمو.
ومما تحققته والحال تؤيده أنه لما برح السلطان وحيد الدين الآستانة، وكان الذي في يده من المال نزرا لا يكفيه أن يعيش سلطانا، بل لا يكفيه أن يعيش كسائر الناس مدة طويلة مكفيا قوت يومه، أشار عليه بعض أعوانه بقوله: إنك تقدر أن تأخذ بعض قطع من جواهر التاج المحفوظة في خزانة سراي طوبقبو، والتي فيها من النفائس ما يقوم بعدة ملايين من الجنيهات، وأنت معذور في ذلك حتى تتمكن من معيشتك في الغربة بالمقدار الضروري. فقال له السلطان وحيد الدين: «ابن بويله خرسزلق ياپمم.» أي لست أنا من يرتكب هذه السرقة، وهذه الرواية مؤيدة بواقع الحال؛ إذ لو شاء السلطان وقتئذ أن يأخذ شيئا من تلك النفائس ما كان أحد يقدر أن يمنعه، ولكنه أبى لنفسه أن يلوثها بفعلة كهذه؛ «والحر حر ولو مسه الضر.» وكل يذكر أن إحدى نسائه جاءت إلى مصر وبلغ منها الفقر مبلغا أن قذفت بنفسها في النيل لتخلص من هذه الحياة، وأن أناسا أدركوها فانتشلوها ووضعت في المستشفى.
ومن قصائد شوقي البديعة ما خاطب به أم الخديوي السابق التي كان يقال لها أم المحسنين بعد نهضتها تلك في حرب طرابلس الغرب:
ارفعي الستر وحيي بالجبين
وأرينا فلق الصبح المبين
وقفي الهودج فينا ساعة
نقتبس من نور أم المحسنين
واتركي فضل زماميه لنا
نتناوب نحن والروح الأمين
قد سقينا بمحياك الحيا
ولقينا حول يمناك اليمين
ثم يقول:
يا مثالا للعقيلات العلا
وكمالا لنساء العالمين
جارة الإسلام في محنته
علمي الجارات مما تعلمين
ذكريهن فروقا وصفي
طلعة الخيل عليها والسفين
ووليا للطواغيت بها
كان يدعى بأمير المؤمنين
يقول لها وهي راجعة من الآستانة إلى مصر لتتحدث عن حال الآستانة، وهنا تكلم في السلطان وحيد الدين بما كان وقتئذ شائعا ورائجا من أنه خان أمته ومالأ الإنجليز عليها، وما أشبه ذلك من الأقاويل التي كان يذيعها الكماليون وكانت تنشر في الخلق، وتجد هوى في نفوسهم لشدة ما عانى أهل مصر وأهل الشرق أجمع من ظلم الإنجليز، وما وقر في قلوب الناس من بغضهم.
وحقيقة الحال هي ما ذكرناه من كون السلطان محمد السادس إنما غلب عليه الخوف واعتقاد أنه إن خالف الإنجليز لم ينفعه نصير في العالم، وقد يخرجونه من الآستانة ويعيدونها إلى الأروام. ومن كان في ذلك الوقت يعتقد أن الإنجليز سيبرحون الآستانة أو أن الحركة الوطنية في الأناضول ستئول إلى نجاح؟ بل رجال تلك الحركة أنفسهم كانوا يقولون إنهم لا يريدون أن يسلموا تركيا بثمن بخس؛ أي إنهم لا يأملون الفوز لكنهم يريدون ألا تذهب بلادهم رخيصة، وهناك أمور نحب أن تبقى مطوية على غرها وأسماء أشخاص هم على رأس تركيا اليوم كانوا قطعوا الأمل من استقلالها إلى حد أنهم أجمعوا على وجوب جعلها تحت انتداب إحدى الدول العظام، لكنهم اختلفوا في الدولة التي يجب أن تكون منتدبة عليها؛ فبعضهم أشار بإنجلترة والآخرون أشاروا بأميركا، وتوجد وثائق خطية تثبت كون هؤلاء الذين يديرون تركيا اليوم لا غيرهم قد وصل بهم اليأس إلى أن أشاروا بجعل تركيا تحت انتداب إحدى الدول العظام، وهي تلك المملكة التي كانت بالأمس إحدى الدول السبع العظام اللواتي إليها الحل والعقد في العالم، فلا نعلم بعد هذا وجه التشدق والتنطق في حق السلطان وحيد الدين وتخصيصه باليأس دون سواه وقد كانوا بأجمعهم يائسين.
يرى القارئ أننا في التعليق على قصائد شوقي التاريخية لم نستنكف أن نعرج على التاريخ ولو بصورة مجملة أو بإشارات خفيفة؛ وذلك لأن الشعر التاريخي يحتاج أحيانا إلى تفسير يقويه ويجلي بداعة نكته. ومع هذا فلو شئنا أن نتوسع في هذه المواضع التي طرقها شوقي في شعره لاستهدف لنا غرض لا ينتهي وعرضت تفاصيل لا تنقضي، ونحن كل ما أردناه إنما هو الإتيان بالمختار والسائر على ألسن الناس من شعر شوقي، وما نراه نحن من شعره منيفا على غيره، فإن للناس أذواقا مختلفة وقد يرى الواحد ما لا يرى الآخر، وفي عرض هذه الشواهد قد تعن لنا ملاحظة فنبديها على غير اطراد، وبدون أن نتخذ ذلك قاعدة، وبدون أن نخوض في نحو ولغة وبيان وبديع وعروض إلا ما عرض اتفاقا، فليس ما علقناه على هذه الشواهد من شعر أمير الشعراء شرحا ولا تفسيرا؛ إذ لو توخينا ذلك لطال بنا الأمر وخرجنا عن الخطة التي ترسمناها في عملنا هذا الذي هو عبارة عن عهد بين صديقين وذمة بين أخوين.
وإني لأخجل من نفسي إذا رأيتني قصرت فيما يجب علي نحو شوقي بعد وفاته، وإني لأتخيل شوقي - وهو الذي يقول كما جاء في جريدة كوكب الشرق: إني أحد أصحابه الثلاثة الذين لا يعز أحدا عليهم - قد نظر إلي من برزخه وأطل علي من نافذة الغيب وحدق بي بعيونه تلك التي كان يقول فيها صديقنا الشيخ علي الليثي: «محاجر مسك ركبت فوق زئبق.» وقال لي: أهكذا ضمنتني يا أخي بعد وفاتي؟ وإنه في تلك الساعة قد ينشدني قول أبي العتاهية:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر ليلة
فإن بكاء الباكيات قليل
فأبدأ أجيبه قائلا: لو نسي عهدك الأولون والآخرون لما خفرت لك عهدا ولا مذقت لك ودا، وإنك في الغيب عندي لكما في المشهد، وأنت تعلم أنها صداقة أربعين سنة تساقينا كئوسها صفوا بدون قذى وتبادلنا رياحينها عفوا بدون أذى.
فإن أظمأ عهدك النسيان فلي مدامع ترويه، وإن شطت بشعرك النوى فإن الدهر كله يرويه، وإنه وإن بكاك الناس حبا بالأدب ورحمة للسان العرب، فإني لأبكيك بصفتين: صفة الأديب البر بلغته الغيور على صناعته، وصفة الأخ الضنين بأخوته الحريص على مروءته، فأنا في مقدمة من لك من الإخوان والأتراب الذين يبكون فضلك ويذكرون عهدك إلى أن يواروا في التراب.
نقلنا هذه الشواهد من الطبعة الأولى من الشوقيات وهي التي فيها المقدمة التي بقلم شوقي، ومن الطبعة الثانية التي مقدمتها، وأظن تفسيرها، بقلم الدكتور محمد حسين هيكل، وكما أهداني شوقي الطبعة الأولى بخط يده فقد أهداني الطبعة الثانية أيضا بخط يده وكتب عليها هذه العبارة:
إلى مولاي وصديقي الكريم الأمير شكيب أرسلان.
المخلص شوقي
30 أبريل سنة 1926
فسلاما يا أخي ومولاي ونور عيوني وتحية طيبة، والله أسأل أن يجعلنا أخوين في عالم الغيب كما كنا في عالم الشهادة، ولا يجعلها بيننا آخر معهد.
ومن رقيق شعر شوقي:
لا السر يطويه ولا الإغضاء
ليل عداد نجومه رقباء
داجى عباب اليم فوضى فلكه
ما للهموم وما لها إرساء
أغزالة الإشراق أنت من الدجى
ومن السهاد لو التفت شفاء
رفقا بجفن كلما أبكيته
سال العقيق به وقام الماء
ما مد أهدابا ليصطاد الكرى
إلا وطيفك في الكرى العنقاء
كان القرير وكنت زهو عروشه
فخلون منك ونابت الأقذاء
وخسرتهن لياليا نهل الصبا
مما أفضن وعلت الأهواء
وله من قصيدة إلى الجناب الخديوي:
وشمس تعالت أن تنار وأن ترى
وأن تدعي شرقا وأن تدعي غربا
وما جلت الأضواء عنها وإنما
بهرن بها من حيث كن لها حجبا
أغرن بها الدنيا هوى فتغيرت
وما زالت الدنيا لضراتها حربا
رمى بي القوافي من رمى السحر قبلها
بموسى وأعيى بابن مريم الطبا
فأسمعت عباس الندى كل آيه
من الشكر لم تترك لذي منطق ريبا
فتى الملك ما هذا السمو ببيته
تركت السهى حيران في بابه صبا
لك العرش والتاجان والمطرف الذي
تسير على التيجان تسحبه سحبا
وملك عريق في الوجود ودولة
أظل بها آباؤك العجم والعربا
ولما أتيت القيصرين ويوسفا
وأسكار والمختار في قومه الندبا
تخذت إليهم عالي الذكر مركبا
وجم الثنا زادا وشم العلى صحبا
وقيل ابن رب النيل فافترت القرى
وناجى الثرى نعليك يستوهب الخصبا
وطالت عروش المالكين تشرفا
فلو خيرت لاخترن أذيالك القشبا
ولكن عرشا تحته النيل جاريا
أحق بها والمهد أولى بمن ربى
ومن شعره في الخديوي:
صحوت واستدركتني شيمتي الأدب
وبت تذكرني اللذات والطرب
وما رشادي إلا لمع بارقة
يرام فيه ويقضي للعلا أرب
دعت فأسمع داعيها ولو سكتت
دعوت أسمعها والحر ينتدب
وهكذا أنا في همي وفي هممي
إن الرجال إذا ما حاولوا دأبوا
ولي همامة نفس حيث أجعلها
لا حيث تجعلها الأحداث والنوب
كل من يقرأ هذه الأبيات يلحظ أن شوقي أراد به معارضة محمود سامي في قصيدته البائية التي يقول فيها:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب
وغيري باللذات يلهى ويعجب
وما كنت ممن تأسر الخمر لبه
ويملك سمعيه اليراع المثقب
ولكن أخو هم إذا ما ترجحت
به سورة نحو العلا راح يدأب
نفى النوم عن عينيه نفس أبية
لها بين أطراف الأسنة مطلب
بعيد مناط الهم فالغرب مشرق
إذ ما رمى عينيه والشرق مغرب
له غدوات يتبع الوحش ظلها
وتغدو على آثارها الطير تنعب
همامة نفس صغرت كل مأرب
فكلفت الأيام ما ليس يوهب
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها
فلا عزني خال ولا ضمني أب
ولا حملت درعي كميت طمرة
ولا دار في كفي سنان مذرب
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئ فيما يحاول مذهب
فلست لأمر لم يحن متوقعا
ولست على شيء مضى أتعتب
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة
لدي يدا أغضى لها حين يغضب
وإني إذا ما الشك أظلم ليله
وأمست به الأحلام حيرى تشعب
صدعت حفافي طرتيه بكوكب
من الرأي لا يخفى عليه المغيب
ونقع من الهيجاء خضت عبابه
ولا عاصم إلا الصفيح المشطب
تظل به حمر المنايا وسودها
حواسر في ألوانها تتقلب
وقد عارض محمود سامي بقصيدته هذه قصيدة الشريف الرضي التي أولها:
لغير العلا مني القلى والتجنب
ولولا العلا ما كنت في الحب أرغب
ومع جلالة قدر الشريف الرضي وعلو كعبه في الشعر وفحولة لغته التي ينزع بها عرق الهاشمية الكريم ومجدها الصميم، لا يقدر أحد أن يقول إن البارودي قصر عن الرضي في شيء بل ربما أناف عليه، ولمثل قصيدة البارودي هذه وأشباهها صرحت بأنه سيد الشعراء في وقته وقلت في رثائه:
كان الأوائل في الأنظار معجزة
حتى أتى فثأى من جد من قدما
ولا شك أن شوقي لا يرقى في الجزالة وعلو النفس إلى هذه السماء، ولكن له أسلوب آخر كما تقدم الكلام عليه طابعه السلاسة ومزيته الرقة، وانظر الآن إلى قوله:
أوشكت أتلف أقلامي وتتلفني
وما أنلت بني مصر الذي طلبوا
همو رأوا أن تظل القضب مغمدة
فلن تذيب سوى إغمادها القضب
رضيت لو أن نفسي بالرضى انتفعت
وكم غضبت فما أدناني الغضب
نالت منابر وادي النيل حصتها
مني ومن قبل نال اللهو والطرب
وملعب كمعاني الحلم لو صدقت
وكالأماني لولا أنها كذب
تدفق الدهر باللذات فيه فلا
عنها انصراف ولا من دونها حجب
وجاملت عصبة يحيا الوفاء بهم
فهم جمال الليالي أو هم الشهب
باتوا الفراقد لألاء وما سفروا
عليه والبان أعطافا وما شربوا
وأسعدت مشرفات من مكامنها
حمر المناقير في لباتها ذهب
مستأنسات قريرات بأخبية
من سندس الروض لم يمدد بها طنب
ما بين حام يهاب الجار ساحته
وناشئ يزدهيه الطوق والزغب
وغادة من بنات الأيك ساهية
ما تستفيق وأخرى همها اللعب
قريرة العين بالدنيا مروعة
بالأسر تضحك أحيانا وتنتحب
وتبرح الفرع نحو الفرع جاذبة
بالغصن فالفرع نحو الفرع منجذب
وهنا أراد شوقي أيضا أن يعارض محمود سامي فيما بقي من قصيدته البائية التي أوردنا ما أوردنا منها، وفي قصيدة رائية يتكلم بها عن الحمام.
وإليك ما قال محمود سامي في قصيدته البائية هذه مما تعلم منه أن شوقيا أراد أن يجري مجراه، ولكنه جرى ضمن أسلوبه وعلى شاكلة لغته، قال محمود سامي:
كذلك دأبي في المراس وإنني
لأمرح في غي التصابي وألعب
وفتيان لهو قد دعوت وللكرى
خباء بأهداب الجفون مطنب
ما مررت في حياتي بجملة أعلى في درجة البلاغة وأبدع في التصوير من قوله «وللكرى خباء بأهداب الجفون مطنب.» وكيف لا يكون شاعر الأولين والآخرين من يغزي هذا الغزي؟ ثم يقول:
إلى مربع يجري النسيم خلاله
بنشر الخزامى والندى يتصبب
فلم يمض أن جاءوا ملبين دعوتي
سراعا كما وافى على الماء ربرب
بخيل كآرام الصريم وراءها
ضواري سلوق عاطل وملبب
من اللاء لا يأكلن زادا سوى الذي
يضرسنه والصيد أشهى وأعذب
نرى كل محمر الحماليق فاغر
إلى الوحش لا يألو ولا يتنصب
يكاد يفوت البرق شدا إذا انبرت
له بنت ماء أو تعرض ثعلب
فملن إلى واد كأن تلاعه
من العصب موشي الحبائك مذهب
تراح به الآمال بعد كلالها
ويصبو إليه ذو الحجا وهو أشيب
فبينا نرود الأرض بالعين إذ رأى
ربيئتنا سربا فقال ألا اركبوا
فقمنا إلى خيل كأن متونها
من الضمر خوط الضيمران المشذب
فلما انتهينا حيث أخبر أطلقت
بزاة وجالت في المقاود أكلب
فما كان إلا لفتة الجيد أن غلت
قدور وفار اللحم وانفض مأرب
وقلنا لساقينا أدرها فإنما
قصارى بني الأيام أن يتشعبوا
فقام إلى راقود خمر كأنه
إذا استقبلته العين أسود مغضب
يمج سلافا في إناء كأنه
إذا ما استقلته الأنامل كوكب
فلم نأل أن دارت بنا الأرض دورة
وحتى رأينا الأفق ينأى ويقرب
إلى أن تولى اليوم إلا أقله
وقد كادت الشمس المنيرة تغرب
فرحنا نجر الذيل تيها لمنزل
به لأخي اللذات واللهو ملعب
مسارح سكير ومربض فاتك
ومخدع أكواب به الخمر تسكب
فلما رآنا صاحب الدار أشرقت
أساريره زهوا وجاء يرحب
وقال: انزلوا يا بارك الله فيكمو
فعندي لكم ما تشتهون وأطيب
فما زال حتى استل منه سبيكة
من الخمر تطفو في الإناء وترسب
فيا حسن ذاك اليوم لو كان باقيا
ويا طيب هذا الليل لو دام طيب
لا جرم أن هذه هي الفصاحة التي تأخذ بمجامع اللب، وتفك أغلال القلب، والتي من أجلها قال مصطفى صادق الرافعي، إن شعر محمود سامي هو الذي بعث الشعر في الناس وأنجب لمصر مثل حافظ وشوقي.
فأما ما عارض به شوقي محمود سامي من وصف الحمام فهو يشير إلى رائية محمود سامي التي عارض بها أبا نواس عندما مدح الخصيب أمير مصر، قال أبو نواس:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
فقال محمود سامي:
أبى الشوق إلا أن يحن ضمير
وكل مشوق بالحنين جدير
وهل يستطيع المرء كتمان لوعة
ينم عليها مدمع وزفير
خضعت لأحكام الهوى ولطالما
أبيت فلم يحكم علي أمير
أفل شباة الليث وهو مناجز
وأرهب لحظ الريم وهو غرير
ويجزع قلبي للصدور وإنني
لدى البأس إن طاش الكمي صبور
وما كل من خاف العيون يراعة
ولا كل من خاض الحتوف جسور
إلى أن يقول:
ويا رب حي قد صبحت بغارة
تكاد لها شم الجبال تمور
وقد كان أبو نواس خرج من بغداد قاصدا مصر ليمدح أبا نصر الخصيب بن عبد الحميد صاحب ديوان الخراج بها، فأنشده القصيدة وذكر المنازل التي مر عليها في طريقه، وهي من أزكى ما أثمر الشعر العربي ومن مشهور أبياتها:
تقول التي من بيتها خف محملي
عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر
جرت فجرى من جريهن غدير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلدة فيها الخصيب أمير
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
فأي فتى بعد الخصيب تزور
فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
ومنها:
فمن كان أمسى جاهلا بمقالتي
فإن أمير المؤمنين خبير
وما زلت توليه النصيحة يافعا
إلى أن بدا في العارضين قتير
إذا غاله أمر فإما كفيته
وإما عليه بالكفي تشير
ثم يقول:
زها بالخصيب السيف والرمح في الورى
وفي السلم يزهو منبر وسرير
جواد إذا الأيدي قبضن على الندى
ومن دون عورات النساء غيور
فإني جدير أن بلغتك للغنى
وأنت لما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله
وإلا فإني عاذر وشكور
ويقال إن أبا نواس لما عاد إلى بغداد مدح الخليفة فقال له: وأي شيء تقول فينا وقد قلت في بعض نوابنا:
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
فأي فتى بعد الخصيب تزور
فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وأنشد:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ منا بمدحة
لغيرك إنسانا فأنت الذي تعنى
هكذا روى ابن خلكان في وفيات الأعيان وقد روى ابن خلكان أيضا معارضة لهذه القصيدة النواسية لأبي عمرو بن محمد بن دراج القسطلي الأندلسي كاتب المنصور بن أبي عامر وشاعره، وهذه المعارضة هي من غرر الشعر ومن أبدع أمثلة الأدب العربي، قال ابن دراج:
ألم تعلمي أن الثواء هو التوى
وأن بيوت العاجزين قبور
تخوفني طول السفار وإنه
لتقبيل كف العامري سفير
دعيني أرد ماء المفاوز آجنا
إلى حيث ماء المكرمات نمير
فإن خطيرات المهالك ضمن
لراكبها أن الجزاء خطير
ومنها في وصف وداعه لزوجته وولده الصغير:
ولما تدانت للوداع وقد هفا
بصبري منها أنة وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى
وفي المهد مبغوم النداء صغير
عيي بمرجوع الخطاب ولحظه
بموقع أهواء النفوس خبير
تبوأ ممنوع القلوب ومهدت
له أذرع محفوفة ونحور
فكل مفداة الترائب مرضع
وكل محياة المحاسن ظير
عصيت شفيع النفس فيه وقادني
رواح لتدآب السرى وبكور
وطار جناح البين بي وهفت بها
جوانح من ذعر الفراق تطير
لئن ودعت مني غيورا فإنني
على عزمتي من شجوها لغيور
ولو شاهدتني والهواجر تلتظي
علي ورقراق السراب يمور
أسلط حر الهاجرات إذا سطا
على حر وجهي والأصيل هجير
وأستنشق النكباء وهي لواقح
وأستوطئ الرمضاء وهي تفور
وللموت في عين الجبان تلون
وللذعر في سمع الجريء صفير
لبان لها أني من البين جازع
وأني على مض الخطوب صبور
أمير على غول التناتف ماله
إذا ريع إلا المشرفي وزير
ولو بصرت بي والسرى جل عزمتي
وجرسي لجنان الفلاة سمير
وأعتسف الموماة في غسق الدجى
وللأسد في غيل الغياض زئير
وقد حومت زهر النجوم كأنها
كواكب في خضر الحدائق حور
وقد خيلت طرق المجرة أنها
على مفرق الليل البهيم قتير
وثاقب عزمي والظلام مروع
وقد غض أجفان النجوم فتور
إذن أيقنت أن المنى طوع همتي
وأني بعطف العامري جدير
وأحسن ما في هذه القصيدة قوله في علو الهمة:
دعيني أرد ماء المفاوز آجنا
إلى حيث ماء المكرمات نمير
فإن خطيرات المهالك ضمن
لراكبها أن الجزاء خطير
وقوله في وصف الطفل وقد فارقه أبوه وهو في سريره، وكلنا قد عرف لوعة هذا الفراق:
عيي بمرجوع الخطاب ولحظه
بموقع أهواء النفوس خبير ... إلخ
ومما استولى فيه على الأمد وصفه مشاق السفر وقطع الفيافي في حر الهواجر وذلك عند قوله:
ولو شاهدتني والهواجر تلتظي
علي ورقراق السراب يمور ... إلخ.
فقصيدة ابن دراج القسطلي تصح أن تكون ضرة لقصيدة أبي نواس وإن كان في شعر ابن دراج شيء من الصنعة، وكان شعر أبي نواس أقرب إلى الطبيعة، وكل منهما في نظري ليست أبرع ولا آنق ولا ألعب بالألباب من قصيدة البارودي التي فيها من النسيب واللهو والشراب ووصف الحمائم إلى الفخر إلى الحماسة ما ليس وراءه لمتطلع.
ولمحمود سامي جولة أخرى في وصف الحمام في القصيدة التي بعث بها إلي من سيلان؛ إذ فيها يقول:
وترنمت فوق الأراك حمامة
تصف الهوى بلسان صب مولع
تدعو الهديل وما رأته وتلك من
شيم الحمائم بدعة لم تسمع
ريا المسالك حيث أمت صادفت
ما تشتهي من مجثم أو مرتع
فإذا علت سكنت مظلة أيكة
وإذا هوت وردت قرارة منبع
أملت علي قصيدة فجعلتها
لشكيب تحفة صادق لم يدع
فأنت ترى إذا أنعمت النظر في أبيات محمود سامي التي يصف بها الحمام، ثم كررت بنظرك على أبيات شوقي من عند قوله:
وأسعدت مشرفات من مكامنها
حمر المناقير في لباتها ذهب
إن شوقي أراد أن يعارض شيخ الشعراء في وقته، وإن كلا منهما قد بلغ شأو الإجادة ضمن دائرة ديباجته.
وهذه القصيدة البائية لشوقي هي من عيون قصائده، وهي التي فيها يقول:
والصدق أرفع ما اهتز الملوك له
وخير ما عود ابنا في الحياة أب
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أليس هذا هو البيت الذي سار مسير القمر، وصار حديث السمر، وأصبح مثلا مضروبا يستشهد به كل يوم، ويدور على ألسن العوام فضلا عن الخواص، فلو لم يكن لشوقي غيره لأخلده، ومن أرق أغزال شوقي:
لي الله ما أغرى الغرام بمهجتي
وأهدي لأقمار المنازل مقلتي
بدور أتاني من مطالعها الهوى
فما أوقعتني فيه حتى استسرت
فبت يريني الوهم في الجو سلما
ومن لي في سكنى السماء بحيلتي
خليلي مالي بالديار موكلا
أروح لإتلافي وأغدو لفتنتي
طرقت فتاة الغرب والليل مقبل
طروق ابن آوى من حذار ورقبة
فقالت عجوز يا أخا الشوق إنها
تخاف أباها فأتها بعد هجعة
سيسأل عنها الساهرون على الحمى
ويسمع عنها نسوة في المدينة
فقلت هبيها مريما أنا يوسف
تعالى ضميري أن يهم بريبة
أبت لي الدنايا عزة عربية
ودين يرى الفحشاء شر ذريعة
فلا رحم الرحمن بعد كثير
محبا ولا صلى على غير عزة
وأيضا:
يود من الأرواح ما لا توده
ويفتك فيها مسرفا وهي جنده
نمير تواليه المحاسن وردا
وتنهل منه النفس لو راق ورده
مروع بإلمام النسيم مروع
بماض خفيف ينزع اللب حده
إذا استله في أنسه أو نفاره
فكل فؤاد في البرية غمده
وإن هز أعطافا فما مركز القنا
بأشقى من الأكباد فيهن قده
خذوه بنفسي إنه هو قاتلي
ولا تقتلوه إنني أنا عبده
ولا تسألوه ما ذنوبي واسألوا
قبول متابي قبل ذنب أعده
ولا تذكروني عنده بشفاعة
فإن شفيع الواجد الصب وجده
فإن يك فيما يزعم الناس قد سلا
فما بال قلبي عنده لا يرده
لجافي الذي لم يعرف السهد جفنه
ولم تدر تقليب المضاجع كبده
وقاطعني من كنت أرجو وفاءه
وأين أخو الود الذي دام وده (1) دفع اعتراض
ربما يعترض بعض القراء على سردي هذه الأماثيل من شعر شوقي من دون أن أعلق عليها ما يعن لي فيها، وما أجد من محل اعتراض أو من مكان إعجاب، والجواب أني لو شئت أن أردف كل بيت بما يبدو لي فيه لاستغرق ذلك أجلادا، والحال أننا من البدء ما قصدنا شرح شعر شوقي ولا التعليق عليه بما يبدو لنا في كل بيت منه، وإنما هي رسالة توخينا فيها تجديد ذكرى شاعر كبير وتسجيل علاقاتنا مع أخ قديم إنجازا لوعد قطعناه على نفسنا يوم فجعنا به، والإخاء إخاء في الحياة وبعد الممات، وعلى اللاحق أن يحفظ عهد السابق، وأراني قد أشفقت على عهد شوقي أن ينسى، وتخيلت روحه من وراء الغيب تنشدني:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر ليلة
فإن بكاء الباكيات قليل
ولما كانت ذكرى شاعر كبير لا بد من أن تسدى وتلحم بالشعر، فقد أوردنا ما أوردناه من الشواهد لا على سبيل شرح ولا على نية تفسير، ولكن إن خطرت في بالنا جملة أرسلناها عفوا أو عدت ملاحظة يروق الأدباء قيدها لم نجمجم بها، وسنتبع هذه الطريقة إلى الآخر.
رأي للمؤلف
فأما أسلوب التحليل الذي درج عليه بعض أدباء هذه الحقبة الأخيرة من هذا العصر يذهبون فيه مذاهب الإفرنج لا في المعنى فقط بل باللفظ تقريبا، ويورد الواحد منهم البيت فيأخذ بتشريحه من وجهه ومن قفاه ومن أسفله ومن أعلاه، ويشير إلى ما هنا من عاطفة جريئة، وما هناك من ابتسامة بريئة، ويستعمل في الوصف تلك الألفاظ الأوروبية التي ليس فيها من العربي إلا الحروف، بحيث إن كثيرا من العرب لا يفهمون منها قليلا ولا كثيرا فلسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير. وإننا لا نحب أن نخلط العربي بالأعجمي ولا أن نخاطب العرب إلا بما يعقلون ويشعرون وما تسيغه أذواقهم، فإن لكل أمة أدبا ولكل قوم مشربا، وإن الخلط بين شعبان ورمضان إظهارا لسعة العلم وتزيدا بما ليس من مقتضى الواقع ليس بطريقتنا، وإننا نؤثر على ذلك أن نكتب مثل هذه الفصول التحليلية بلغة أوروبية رأسا كما يفعل المستشرقون الأوروبيون إذا أخذوا كتابا عربيا فشرعوا في تحليله، نعم نؤثر الكتابة بلغة أوروبية في هذا الموضوع على أن نباشر هذا التحليل بجمل أوروبية في حروف عربية يمشي فيها القارئ مرحلة وكأنه واقف مكانه لعدم ألفته بهذه الألفاظ المترجمة وبهذه الأعلام التي هي غريبة عن قومه.
فالذي يحمل نفسه على قراءة هذه التحليلات التي نحاول أن نجري فيها مجرى كتاب الأوروبيين تراه أبدا يشرب ولا يرتوي. ومن الناس من يظن عدم عقله لها ناشئا عن مجرد جهله والحقيقة ليست كذلك بل إنها من باب وضع الشيء في غير محله، لا بأس في الأحايين في أن يورد الكاتب في تحليله لبيت من شاعر عربي معنى قد توارد عليه مع شاعر أجنبي أو ملاحظة ظهر فيها شيء من الموافقات أو المفارقات بين أدبنا وأدبهم، فأما اتخاذ هذا الأسلوب دأبا وديدنا كلما أردنا أن نصف بيتا لطرفة بن العبد أو قصيدة للأعشى لزمنا أن نفحم فيها فيكتور هوغو وألفرد ديموسيه ولامارتين وغوته وشكسبير، وأن نكثر على قراء العرب من سرد أعلام لا يعلمون عنها شيئا تقريبا، فهذا تنطع بالفارغ وتحذلق غير سائغ والأولى بنا أن نراعي قبل كل شيء الذوق العربي، وأن نستشهد بأدباء العرب ونعلم أنه كما كان العربي يعاف طعام الأمم الأجنبية وشرابهم، فإنه لا يتسوغ بالسهولة أشعارهم وآدابهم، وليس الشعر والأدب ميكانيكيات ومواد، يستوي فيها العربي والعجمي، وقد فات الناس أن الشعر هو شيء والعلم شيء آخر، فلو فكروا مليا في هذا الأمر لأراحوا أنفسهم مما يعانونه هم ويعانيه قراؤهم معهم. (2) عود إلى غرر شوقي
ومن غزل شوقي - عفا الله عنه:
عرضوا الأمان على الخواطر
واستعرضوا السمر الخواطر
فوقفت أحذرهم ويأ
بى القلب إلا أن يخاطر
يا قلب شأنك والهوى
هذي الغصون وأنت طائر
إن التي صادتك تر
عى بالقلوب لها النواظر
يا ثغرها أنا فيك كال
غواص أحلم بالجواهر
يا لحظها من أمها
أم من أبوها في الجآذر
يا خصرها لي منك في
ليل الهوى وهم مسامر
يا ردفها بالله كن
بعريض جاهك لي مؤازر
يا شعرها لا تسع في
هتكي فشأن الليل ساتر
يا قدها حتام تغدو
عادلا وتروح جائر
مولاي عبدك ما غوى
لكنها خطرات شاعر
عفوا فلست بأول
في ذا المقام ولا بآخر
ومن مرقص أشعار شوقي قصيدة في الخديوي منها:
نفدي المسافر والسفر
والأقربين من النفر
وركابهم لما مشى
وقطارهم لما صفر
ومسيرهم بين السلا
مة والكرامة والظفر
وقدومهم إسكندري
ة والإياب المنتظر
وطلوعهم والصبح في
ها بالحجول وبالغرر
قل للعباد هو الهلا
ل وللبلاد هو المطر
في ذمة الآيات رح
لته وفي حفظ السور
ملك أبوه محمد
لا غرو أن يقفو الأثر
من في السراة سواك تج
لوه المنازل كالقمر
وتحله في ثغرها
يوما، ويوما في البصر
ولقد أقول إذا بلغ
ت بلثم راحتك الوطر
يا روض هل لك في الشذى
يا بحر هل لك في الدرر
ومن قصائده فيه:
بصوتك حاججنا الممالك والعصرا
وقلنا فباتت مصر في مجدها مصرا
ومنها:
سندعو بني الدنيا إلى النيل دعوة
تلون منها الجاه والنائل الغمرا
وملكا كما تهوى الأحاديث عاليا
كأن الخديوي فيه قيصر أو كسرى
فتمرح في أيامه النفس حرة
تناولها قشبا وتلبسها خضرا (3) استطراد ورأي في المديح
ولقائل أن يقول: ما هذه إلا أمداح فارغة، ومنازع قديمة أشبه بمنازع الشعراء الذين كانوا ينتجعون الملوك طمعا في الجائزة، وقد كان الأليق أن يضع براعته؛ حيث يضع الناس عقيدتهم لا حيث يرجو هو منزلة سامية ونعمة هامية، فإن هذه محاولات شخصية لا تفيد وطنا ولا تؤيد قوما إلى غير ذلك مما طالما أخذوه على شوقي وعلى غيره من شعراء الملوك، ولقد قدمنا في هذا الباب ما فيه مقنع؛ وهو أن شعراءنا لم يفارقوا الطريقة القديمة التي معناها أن الشاعر يجود على الملك بنفائس أدبه ليجود عليه الملك بنفائس نشبه أو ليحله محل القرب والتقديم ويبلغ به آمالا ويرفه حالا. وسواء كانت هذه الطريقة قديمة أو حديثة فالشاعر في هذا الموطن لا يفترق عن غيره من البشر الذين كل منهم يرتاد لمعيشته وينتجع لسد مفاقره، وما زالت أعمال الناس أجمع شباكا تلقى في بحر الوجود ليصطاد بها الإنسان ما يقسم له حظه، وإن القول هو من جملة الشباك التي تنال بها الحظوظ، وقد قال أبو بكر الخوارزمي: لا صيد أعظم من إنسان ولا شبكة أصيد من لسان، وشتان بين من اقتنص وحشيا بحبالته وبين من اقتنص إنسيا بمقالته.
ولعمري لا غضاضة على من حاول مثل هذا الاقتناص إذا لم يشب ذلك بالسعاية والوشاية والإضرار بالناس وجعل الباطل حقا والحق باطلا، فما نهى الله الإنسان عن الكدح لأجل معيشته، ولكنه نهى عن إتيانه هذا الباب عن طريق الباطل وبالوسائل غير المشروعة.
وأيضا فإن الشاعر لا يزال يلتمس موضعا يشحذ فيه غرار قريحته ومجالا يركض فيه جواد ملكته، فلا يجد لذلك خيرا من خطاب الملوك الذين إن لم يستحق الواحد منهم كل هذه المدائح بمحاسن خلاله وجلائل أعماله، فقد استحقها بالمقام الذي يشغله على رأس الأمة، فتعظيم الملك هو تعظيم الأمة التي هو ملك عليها، وتعزيز المقام إنما يكون بتعزيز المقيم.
ولقد ذكرنا فيما تقدم أن استيلاء الأجانب على أكثر بلاد الإسلام واستئثارهم بالأمر والنهي والقطع والوصل وتركهم ملوك المسلمين عبارة عن أشباح ماثلة حمل كثيرا من مفكري الإسلام، إشفاقا على ملكهم وضنا بدولهم، أن يتقربوا من ملوكهم وأمرائهم الذين يرون فيهم رمز السلطان القديم وبقية الاستقلال السابق، وأن يشيدوا بذكرهم ويهتفوا بمبايعتهم في وجه الأجانب، وإنهم لما فاتهم الفعل فزعوا إلى القول يذكرون به أقوامهم، وكأنهم يقولون لهم إن هذا هو سلطانكم الشرعي الذي يجب أن تجتمعوا حوله وتستردوا به الحقوق المغصوبة، وأن الحق حق لا يذهب باعتداء الأجانب ولا بما يطرأ من الغير، فهم يحاولون إحياء فكرة الاستقلال في صدور الأمة وتلقينها أن ما هي عليه من الخنوع للأجنبي إنما هي حالة مؤقتة، وأن الأمر لا بد أن يعود إلى نصابه. وبالجملة فهذا ضرب من ضروب الدفاع عن الوطن، ولون من ألوان الاحتجاج على احتلال الغريب للبلاد. (4) من معارضات شوقي
ولشوقي قصيدة في الخديوي يعارض فيها قصيدة البحتري الرائية في المتوكل على الله العباسي، قال شوقي:
أشكو هواك لمن يلوم فيعذر
وأجادل العذال فيك وأكثر
وأبيت أجتنب الرقيب وأتقي
وأخاف ألسنة الوشاة وأحذر
وأصون ذكر هواك عن هذا الورى
وأجل سرك أن يذاع وأكبر
وأردد الزفرات فيك وأشتكي
وأعلل القلب الشقي وأصبر
الله في صب قضى إنسانه
سهرا عليك ومن بحبك يسهر
وجوانح بليت وما بلي الأسى
وحشى تموج به الضلوع وتظهر
فشوقي عندما كان يقول هذه القصيدة الرائية كان كأنه ينظر إلى قول أبي عبادة:
أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر
وألام في كمد عليك وأعذر
وأراك خنت على النوى من لم يخن
عهد الهوى وهجرت من لا يهجر
وطلبت منك مودة لم أعطها
إن المعنى طالب لا يظفر
هل دين علوة يستطاع فيقتضى
أو ظلم علوة يستفيق فيقصر
ثم تخلص شوقي من النسيب إلى المديح اقتضابا على طريقة البحتري، فإنه بينما كان ينسب ويقول: وحشى تموج به الضلوع ويظهر، إذا به خاطب الممدوح فقال:
هجر الكرام إليك يا ابن محمد
ورحابك الدنيا التي لا تهجر
تهتز من كرم وترتجل الندى
وتنيل من فوق الظنون وتغمر
وتعيد عهد الجود بالنعم التي
يحيا الزمان ببعضها والأعصر
ثم يقول:
وكذا الأصيل إذا سما لخليقة
شرعت مناسبه وسن العنصر
لولا دماء في العروق كريمة
ما عف كسرى أو تواضع قيصر
ثم يقول:
وأعدت للنيل العلوم وعهدها
والعلم تاج للبلاد ومظهر
ما جل عيب أو تناهت سوأة
إلا وعيب أخي الجهالة أكبر
وإذا الفتى لم يحله عرفانه
فالحسن أول شائن والمنظر
أيدت أعلام الإمارة بعد ما
طوت الخطوب وأقسمت لا تنشر
وكذلك البحتري بينما يقول:
وإني وإن جانفت بعض بطانتي
وتوهم الواشون أني مقصر
ليشوقني سحر العيون المجتلى
ويروقني ورد الخدود الأحمر
إذا به انتقل إلى المديح اقتضابا فقال:
الله مكن للخليفة جعفر
ملكا يحسنه الخليفة جعفر
نعمى من الله اصطفاه بفضلها
والله يرزق من يشاء ويقدر
فاسلم أمير المؤمنين ولا تزل
تعطي الزيادة في البقاء وتشكر
عمت فواضلك البرية فالتقى
فيها المقل على الغنى والمكثر
وكان شوقي يهنئ الخديوي بعيد مولده، فقال:
شرفا جمادى نلت بالعباس ما
لا ترتجيه من البدور الأشهر
أو كلما جددت للدنيا سنا
ذكرت ولاد السعد فيما تذكر
في المهد يرعاه الرجاء ويرتجي
وتعد آمال البلاد وتذخر
وتطول أعناق السراة بربها
طورا ويدركها الخشوع فتقصر
يوم هو الأعياد إلا أنه
حسب الزمان به يتيه ويفخر
والبحتري كان يهنئ المتوكل بعيد الفطر، فهو يقول:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم
وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بيوم الفطر عينا إنه
يوم أغر من الزمان مشهر
ووصف البحتري موكب الخليفة وكان هذا من الأوصاف التي لا تزال تعد من غرر الشعر، وتحصى من منتخبات الشعراء، قال:
أظهرت عز الملك فيه بجحفل
لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الحبال تسير فيه وقد غدت
عددا يسير بها العديد الأكثر
فالخيل تصهل والفوارس تدعي
والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميد بثقلها
والجو معتكر الجوانب أغبر
والشمس ماتعة توقد بالضحى
طورا ويطفئها العجاج الأكدر
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت
تلك الدجى وانجاب ذاك العثير
وافتن فيك الناظرون فأصبع
يومي إليك بها وعين تنظر
يجدون رؤيتك التي فازوا بها
من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبي فهللوا
لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لابسا
نور الهدى يبدو عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع
لله لا يزهى ولا يتكبر
فلو ان مشتاقا تكلف غير ما
في وسعه لسعى إليك المنبر
أيدت من فصل الخطاب بحكمة
تنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبي مذكرا
بالله تنذر تارة وتبشر
ومواعظ شفت الصدور من الذي
يعتادها وشفاؤها متعذر
صلوا وراء الآخذين بعصمة
من ربهم وبذمة لا تخفر
فاسلم بمغفرة الإله فلم يزل
يهب الذنوب لمن يشاء ويغفر
فعارض شوقي أبا عبادة البحتري في وصف الموكب، فقال:
باكرت دار الملك فيه بموكب
قام السراة به وحف العسكر
راعت روائعه النهار جلالة
فالشمس تجفل والضحى تستأخر
كسي الخميس به جمالك رونقا
وأعير غرتك اللواء الأحمر
فالأرض مائجة المذاهب بالقنا
والأفق حال بالسيوف مجوهر
والخيل تعجب بالكماة وتنثني
وتشير تيها بالوجوه وتخطر
ومن السلامة في ركابك هاتف
ومن الدعاء مهلل ومكبر
من قرأ القصيدتين البحترية والشوقية لم يتردد في أن يقول إن القديم طبع والجديد تطبع، وأن الأول توليد وأن الآخر تقليد، ولكن لو تأمل المتأمل وكان بصيرا بشعر الجاهلية والمخضرمين والمولدين لعلم أن البحتري والمتنبي وأبا تمام وأولئك الفحول لم ينطبعوا إلا على غرار من تقدمهم، فإن القراءة تستقر في الذهن وإن القوالب ترسخ في الطبع فتهتف بمثلها سليقة الشاعر، وقد يكون لا يتذكرها ولا يتعمد محاكاتها ولا يحسب أنها من محفوظه فيظن من لا بصيرة له أن هذا الشاعر قد سرق من ذلك الشاعر الذي تقدمه، وهو في هذا الحكم ظالم متعسف أو جاهل لا يعرف؛ لأنه ليس كل من جاء في كلامه شيء متوارد مع كلام آخر يجب أن نعده سارقا، وقد كنت أروي مرة قصيدة محمود سامي التي سبق إيرادنا منها، وهي التي يعارض فيها رائية أبي نواس في الخصيب، وذلك أمام رجل من الأدباء رواة الشعر الجيد، فلما وصلت إلى قول محمود سامي:
ولي شيمة تأبى الدنايا وعزمة
تفل شباة الخطب وهو عسير
معودة ألا تكف عنانها
عن الجد إلا أن تتم أمور
قال لي ذلك الأديب: إن هذا لمن قوله:
معودة ألا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قتيل
فقلت له: إذا كنت تلتزم هذا المذهب فلا يبقى شاعر إلا وهو سارق ولا يلبث فوق الغربال لا متنبي ولا بحتري ولا غيرهما، فإن هذه المشابهات قد وجدناها بين كلامهم وكلام الجاهليين والمتقدمين في مواضع كثيرة، وماذا تقول في قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
ثم قول طرفة بن العبد:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
فالبيتان بيت واحد لا يختلفان إلا في لفظتي «تجمل» و«تجلد» وكلتاهما بمعنى واحد والحال أن الشاعرين كل منهما فحل لا يحتاج أن يستعير من الآخر وكلاهما بحر لا تنزحه الدلاء.
ولشوقي من جيد الغزل أبيات تخلص منها إلى مديح الخديوي، وهي هذه:
دع عنك ما صاغ الوشاة وزخرفوا
واسمع لحسنك إنه بي أعرف
أيكون عندك في يديك وجوده
ويكون للعذال فيه تصرف
ماذا أقول وكيف وصفي مهجة
فعلت بها عيناك ما لا يوصف
يا من حوى روحي وضن بنظرة
لا أنت ذو بخل ولا أنا مسرف
ما بت فيك معاديا طيب الكرى
إلا وأنت على عدوي أعطف
رفعت لناظرك المحاسن دولة
القول فيها ما يقول المرهف
وحبتك من بين الملاح بوجنة
كالنار لا تلوي على ما تتلف
أما عذولي في هواك فطاعني
لم يلق ما ألقى فكيف يعنف
أنا لا أميل إلى الملامة فهي من
بدع الهوى ولكل شرع زخرف
حاشا المروءة منذ سن خلالها
عباس حلمي في الكرام ليقتفوا
ومن الغزل الذي تخلص به إلى المديح قوله:
حلو الوعود متى وفاك
أتراك منجزها تراك
من كل لفظ لو قبلت
لأجله قبلت فاك
يروي الحلاوة عن ثنايا
ك العذاب وعن لماك
رخصت به الدنيا فكي
ف إذا أنالته يداك
ظلما أقول جنى الهوى
لم يجن إلا مقلتاك
غدتا منية من رأي
ت ورحت منية من رآك
والنفس تهلك مرة
والنفس يشفيها الهلاك
من علم الأجفان في
أهدابها مد الشباك
وتصيد الآساد بال
آجام تسلبها الحراك
يا قاسي القلب اتئد
وأقل صدك في جفاك
ماذا انتفاعي فيك بالر
حماء من باك وشاك
نفس قضت في الحب من
أولى برحمتها سواك
عباس عش للآل عش
للملك عش لبني ولاك
قابلت بالتاج الهلا
ل وجزت بالعرش السماك
ونهضت تبعث من ثنا
ئك للنجوم ومن سناك
ومن القصائد المرقصة ما قاله في المرحوم الخديوي مهنئا له بعيد الأضحى:
لك مصر يجري تحت عرشك نيلها
ولك البلاد عريضها وطويلها
ومنها:
يسمو بك الآباء أو تسمو بهم
في دولة علياء أنت سليلها
فمحمد في الترك كان عليها
يعتز معشرها به وقبيلها
ولئن غدا للعرب بيتك كعبة
يسعى لها فأبوك إسماعيلها
وإذا تسابقت الفوارس تصطلي
نار الوغى فأبو أبيك خليلها
مولاي مصرك لا تزال عزيزة
بين الممالك زاهرا بك جيلها
ألقت مفاتحها إليك فأصبحت
يزن الزمان كنوزها ويكيلها
دانت لأمرك في الأمور عظائم
ما زال مأمونا عليك سبيلها
وتهيأت لعلاك مملكة سما
نحو السهى بك وازدهى إكليلها
واخضر من غرس المحامد ريعها
وابيض من صفو الموارد نيلها
فالأرض مشرقة بنور عزيزها
يتلو ضحاها في الشروق أصيلها
والنيل منفجر العيون خلالها
تحليه من نعمى يديك سيولها
سعت الوفود إلى رحابك سعيها
للبيت شوقا والرجاء دليلها
وكأنما علمت بمقصدك القرى
فغدا يصفق زرعها ونخيلها
حسدت أهاليها عليك فلو مشت
لسعت إليك حزونها وسهولها
حتى إذا بلغت حماك أظلها
لك من ظلال المكرمات ظليلها
فرأيتها مثلا ببابك عاليا
تكبيرها متواصلا تهليلها
وتجلت الذات الموفقة التي
ملك القلوب جمالها وجميلها
يا مكرم الشعراء كم من آية
لي فيك ليس لشاعر تبديلها
ألبستني حلل القلوب فنلت شأ
وا في القوافي لم ينله فحولها
وإليكها عذراء لا يرجى لها
وصل ولا باع الشيوخ يطولها
تهتز أعطاف الملوك لمثلها
لو كان يوجد في القريض مثيلها
أما وقد رفعت إليك فإنها
جرت على هام السماك ذيولها
من تأمل في شعر شوقي في اقتباله لا يجده نازلا عن شعره بعد اكتهاله، بل تجد الشاعرية فيه أقوى وأظهر في مبدأ أمره وريعان شبابه، وتأمل في هذه القصيدة فهي من المرقص المطرب المؤنق المعجب، وما أنس لا أنس أني عندما قرأتها ترنح لها عطفي طربا وقلت: قد نال شوقي شأو القوافي وبذ الفحول. وقد مضى على هذه القصيدة أربع وأربعون سنة وما برحت أتذكر وقعها في نفسي كأن ذلك من حوادث أمس. ولا جرم أن الذكرى التي تمضي عليها هذه المدة الطويلة ولا تزال غضة طرية لا تكون إلا على أثر وقع عظيم في النفس.
وله مهنئا الخديوي بالوسام العثماني المرصع:
لمن الباب عاليا ومؤمل
يمثل الدهر في ثراه المقبل
ومنها:
ولمن راية هنالك وافى
ظلها النصر ثم لم يتحول
يمنع الدين أن يميل وتحمي
ركنه الشامخ الذرى أن يزلزل
ومنها:
يا مليكي عباس صدرك صدر
في المعالي وذا المرصع أول
هو مثل السماء صفوا ورحبا
وهي ذي أنجم العلا تتنزل
عرف المالكون قدرك لكن
ما رآه فيك الخليفة أفضل
فتهنأ علياء وافتك منه
يذكر النجم من حباها فيخجل
ووساما مرصعا ما رأينا
قبله جوهرا إلى البحر يحمل
وبمناسبة قوله: «جوهرا إلى البحر يحمل.» تذكرت بيتا انتقدته على الشاعر الأديب الشيخ خليل اليازجي، فقد كان نظم رواية اسمها «المروءة والوفاء» وجعلها تقدمة لأخيه الأستاذ الكبير اللغوي الشهير الشيخ إبراهيم اليازجي، ولكنه استهل التقدمة بهذا البيت:
لما رأيتك مثل بحر زاخر
ألقيت بين يديك بعض جواهري
وكنت أنا لذلك العهد في المدرسة لم أتجاوز الرابعة عشرة من العمر، ولكني كنت بدأت بالنظم وكانت جرائد بيروت تنشر من شعري، وهذا مصدق وهذا مكذب، ومن الناس من يقول: لا يمكن أن ناشئا في هذه السن الحديثة يفري هذا الفري، وما زالت الشبهة تعترض حتى كثر النظم وتواترت الأدلة فزالت الريبة وانقلعت الشبهة ولم يمض مدة ثلاث سنوات حتى كان لي ديوان اسمه «الباكورة» جعلته تقدمة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكان إذ ذاك في بيروت وجعلت قصيدة التقدمة من ذلك البحر وتلك القافية.
وهذا نصها وكانت بعنوان:
إهداء الباكورة
لحضرة العالم العامل الفيلسوف الكامل واسطة عقد الحكماء ودرة تاج البلغاء.
الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده المصري أيده الله تعالى:
لو هاج مثل الفضل خاطر شاعر
ألقيت بين يدي سواك بواكري
أو لو وجدت بمثل فضلك عادلا
كان الكمال إذا سلوتك عاذري
لكن سطوت على القريض بأسره
وغدوت أعذب منهل للخاطر
فزهوت بين مدارك ومشاهد
وسموت بين بصائر وبواصر
أو كيف لا تسمو ومثلك من حوى
بأعز نفس كل خلق باهر
علم على عمل على قلم غدا
في الخطب يهزأ بالحسام الباتر
وفضائل تستنطق الأفواه من
كل البرية بالثناء العاطر
علامة العلماء والبحر الذي
لا ينتهي مثل البحار لآخر
يا أيها العلم الذي أوصافه
أضحت رياض قرائح وضمائر
شهد الزمان لنا بأنك فرده
من كل باد في الأنام وحاضر
يا أوحد العصر الذي عقدت على
تقديمه في الفضل خير خناصر
لا غرو أن أهدي إليك رقائقي
وأنا رقيق فضائل ومآثر
ليس القريض سوى تأثر خاطر
مما به للمرء قرة ناظر
تمسي المحاسن وهي فيه بواعث
للشعر بين مسبب ومباشر
غرر على الأيام لولاها لما
لاحت وجوه الدهر غير بواسر
لم تبرح الشعراء صرعى نشوة
برحيقها من سالف ومعاصر
فإذا انجلت في مثل ذاتك مرة
كنت الأحق بكل مقول شاعر
يا من غدا بعوارف ومعارف
يزري على لجج العباب الزاخر
أهديك بعضا من عقيق قريحتي
يا بحر لكن لا أقول جواهري
أبيات إحسان وليس جميعها
من كل بيت بالمحاسن عامر
قد جادها صوب الصبا وبنشرها
نم الصبا عن كل عرف ذافر
درجت معي أطوار عمر واصل
ما جاش من يوم بليل ساهر
قد باكرتني قبل صادق فجره
مذ كنت من أعوامه في العاشر
أوحت إلى قلبي الهوى فشعرت إذ
غصن الصبابة لا يميل لهاصر
فمضيت بين كمائل ومفاخر
ومشيت بين خمائل وأزاهر
ما قلت ذا فخرا ولا عجبا وما
من معجب في نظمها أو فاخر
لكن لترفق غير مأمور بها
فلكم خطت طورا لنيل الحاضر
إن تأتني عفوا فكم هذبتها
من سخف لفظ أو روي ناثر
مكنتها بعد النزاع وكم حكت
قلق القداح بدت بكفي ياسر
حتى أتت من بعد تربيتي لها
حسبي وإن لم تغد ملء محاجري
عوضت ما خسرته من حسن بما
رفعت إليك فلم أكن بالخاسر
فكن الوصي على يتامى ناظم
وبنات فكر في ثناك قواصر
أهديتها لا كي تليق وطالما
قبل الكبير هدية من صاغر
هي دون ما يهدى إليك وإنما
مثلي على ما فاق ليس بقادر (5) عود إلى شوقي
وقد كنت يوم نظمت هذه القصيدة في السادسة عشرة من العمر.
ونعود إلى شوقي فنرى في هذه القصيدة اللامية ما يدل على أنه لم يمدح الخديو مجانا، وأنه ما أصاب تلك النعماء الوارفة إلا بما سير من المدائح في الجناب الخديوي، وأنه حام فورد، وغنى فأطرب، ورقح معيشته بفيض قريحته، وكان إذا أغضى الخديو على خلته، بفتح الخاء، ولم يجدها قذى عينيه لم يهمل أن استرعاه النظر إليها على طريقة المتنبي، ففي هذه القصيدة يقول شوقي:
يا عزيز الزمان سمعا لناء
قد دعاكم على النوى وتوكل
أتجد الأيام في هدم بيتي
ونداكم بكل بيت موكل
أي عذر للدهر عندي وركني
أنت مهما تكلف الدهر يفعل
نظرة نظرة وعذرا لعبد
عهده فيك منعما ليس يسأل
ومن قصائد شوقي الخديوية قصيدة يقول فيها:
أيها المنكر الغرام علينا
حسبك الله قد جحدت الجمالا
آية الحسن للقلوب تجلت
كيف لا تعشق العيون امتثالا
لك نصحي وما عليك جدالي
آفة النصح أن يكون جدالا
هب من العقل أنني أنا أسلو
ما من العقل أن تروم محالا
إن نجد من مثال لقمان جيشا
ما غلبت الأهواء والأميالا
سيعيب علماء اللغة قوله: «الأميال» فالأميال هي جمع ميل بكسر الميم لا جمع ميل بفتحها؛ وذلك لأن المصادر على فعل بالفتح لا تجمع على أفعال؛ ولذلك تجد الكتاب عدلوا إلى لفظة «ميول» تخلصا من هذا المحظور. وما وجدت في الكلام العربي القديم لفظة «ميول» ولكن القياس يوجبها.
ومن هذه القصيدة قوله:
ليت شعري هل يبتلى مصر بالأج
يال أم يبتلى بها الأجيالا
هيكل تعقل الممالك فيه
وتضحى معالما ورجالا
قوضت كل بنية وهو باق
تبصر الدهر دونه أطلالا
يا ابن توفيق أي أصليك نسلو
جدك الجود أم أباك النوالا
أم عليا ومصر لولا علي
لم تذق نعمة ولا استقلالا
ويظهر أنه لما نظم هذه القصيدة كان الممدوح في المقيم المقعد مع بعض الأحزاب في مصر، فإنه يقول:
أنت روح ومصر جسم وهل تر
جو لجسم من غير روح مآلا
والذي بالبلاد غيرك داء
صيرته بنو البلاد عضالا
وإذا عاكس الزمان بلادا
جعل الأهل حربها والنكالا
نام قومي عن المعالي ورامو
ها فكان النصيب منها خيالا
حسبوا العيش غيبة واضطغانا
وسكونا إلى المنى واحتمالا
وإذا كانت النفوس صغارا
علقت بالصغائر الآمالا
وله في الخديوي قصيدة ميمية من بحر السريع أراه يعارض بها محمود سامي في قصيدة من البحر والقافية، ومطلع قصيدة شوقي:
هل تيم البان فؤاد الحمام
فناح فاستبكى جفون الغمام
ومنها:
يا خير من سن خلال الوفا
وخير من زكى وصلى وصام
يهزك الإسلام مهما دعا
مؤيدا منك بعضب حسام
أنت لهذا الدين ما يشتهي
ظل له ضاف وركن جسام
مولاي ذا شهر الصيام انقضى
أحياكم الله إلى كل عام
فأما قصيدة محمود سامي فليست في ديوانه المطبوع؛ لأن الجزء الثاني انتهى بحرف اللام، ولم أعلم أنهم طبعوا جزءا ثالثا، وإنما يجد الإنسان هذه القصيدة في «الوسيلة الأدبية» للمرصفي، وهي ليست تحت يدي في هذه الساعة ، ولا أزال أتذكر من قصيدة البارودي هذه بيتين في منتهى البداعة:
يا ليتني في السلك حرف سرى
أو ريشة بين خوافي الحمام
حتى أوافي مصر في ليلة
أقضي بها في الله حق الذمام
ولشوقي في الجناب الخديوي:
أمغتنم الفرصات بشراك بالغنم
فما دانت الأوطان إلا لذي هم
وقل لدخيل في المعالي يريدها
بلا بدل أملت صيدا ولم ترم
ومنها ما رمى به شوقي أبعد شأو المرتمي في الفخر والبأو، وقد جاز هنا الحد الذي اقتنع به في قصيدته الدالية التي سبق الاستشهاد ببعض أبياتها:
فلا حكمتي دعوى ولا منطقي هوى
ولا مبدئي لؤم ولا قلمي وغد
فإنه في هذه القصيدة الميمية يقول:
إذا أنا لم تكفل لي الخلد حكمتي
ولم ألتمسه في بياني وفي علمي
فلا استرجعت بي الضاد بنيان مجدها
ولا لقيت بي العصر في البذخ الجم
البذخ محركة هو المجد، ثم يقول:
ولا جاز شعري النيرات ولا اعتلى
لسدة عباس الفتى العلم النجم
جعل شعره فوق النيرات ومع هذا فهي من دون سدة الممدوح، ثم يقول:
ومهلا رويدا في الكمالات والحجى
فما أعطي الناس النبوة بالحلم
وخف لعباد الله أن يتوهموا
فرب يقين للعقول من الوهم
تحاول من دنياك ما أنت عارف
وتصحب أحوال الزمان على علم
وتظهر في عز من الصدق باهر
إذا التمست أعداؤك العز في الإثم
يداري أناس بالجراءة طيشهم
ويتعب قراء العواقب بالحزم
ثم يقول:
وعرشيكما ما خنتما الحق مرة
ولا حدتما عن حكمة الله في الحكم
ولكن تهيج الحاسدين علاكما
وهيهات يبقى الفرقدان بلا خصم
ولا شك أنه يشير إلى ما كان يقع بين الممدوح وبين الأحزاب في مصر من التضاد والتشاد، وأي بلاد لا تصاب بمثل هذه الفتن؟ وشوقي على كل حال شاعر الأمير لا يفتأ ينضح عنه بشعره، وربما كان لسانه أرد عن ممدوحه من جيش، وأمضى من سيف، فإن يكن الخديو قد أغرق شوقي بالإنعام والإحسان فقد أثنى شوقي عليه ثناء حسان على غسان؛ ففاز كل منهما بطلبته، فلم يكن شوقي إذن على مذهب محمود سامي الذي يقول:
الشعر زين المرء ما لم يكن
وسيلة للمدح والذام
قد طالما عز به معشر
وربما أزرى بأقوام
فاجعله إما شئت في حكمة
أو عظة أو حسب نام
واهتف به من قبل تسريحه
فالسهم منسوب إلى الرامي
نعم لم يكن محمود سامي لينظم إلا في الغزل والنسيب والفخر والحماسة ووصف الوقائع والحكم والمواعظ والرثاء والإخوانيات والزهديات والطرديات، وغير ذلك من مقامات الشعر المختلفة حاشا المديح؛ فقد كان يتجنبه ما أمكن، وإذا مدح فإنما يمتدح من كان من أقرانه أو إخوانه، ولم أجد له مديحا لكبير إلا الخديو إسماعيل يوم جلس على أريكة مصر، وكان ذلك سنة 1279؛ أي أيام كان محمود سامي في ريعان شبابه، ورأيت له في ديوانه أبياتا امتدح بها الخديو السابق بعد رجوعه من سرنديب، وكذلك قصيدة في تهنئة الخديو توفيق بالجلوس على الأريكة الخديوية سنة 1297 فشعر البارودي في المديح لا يكاد يذكر وهو في جانب ديوانه ثمد في جانب بحر، وقد وصف البارودي الشعر في إحدى قصائده فقال:
للشعر في الدهر حكم لا يغيره
ما بالحوادث من نقص وتغيير
يسمو بقوم ويهوي آخرون به
كالدهر يجري بميسور ومعسور
له أوابد لا تنفك سائرة
في الأرض ما بين إدلاج وتهجير
من كل عائرة تستن في طلق
يغتال بالبهر أنفاس المحاضير
تجري مع الشمس في تيار كهربة
على إطار من الأضواء مسعور
تطارد البرق إن مرت وتتركه
في جوشن من حبيك المزن مزرور
صحائف لم تزل تتلى بألسنة
للدهر في كل ناد منه معمور
يزهى بها كل سام في أرومته
ويتقي اليأس منها كل مغمور
فكم بها رسخت أركان مملكة
وكم بها خمدت أنفاس مغرور
والشعر ديوان أخلاق يلوح به
ما خطه الفكر من بحث وتنقير
كم شاد مجدا وكم أودى بمنقبة
رفعا وخفضا بمرجو ومحذور
أبقى زهير به ما شاده هرم
من الفخار حديثا جد مأثور
وفل جرول غرب الزبرقان به
فباء منه بصدع غير مجبور
أخزى جرير به حي النمير فما
عادوا بغير حديث منه مشهور
لولا أبو الطيب المأثور منطقه
ما سار في الدهر يوما ذكر كافور
فأنت ترى أن البارودي وإن لم يكن مداحا بنفسه، ولم يقع منه مديح إلا في الندرة وغير مكتسب مالا ولا جاها كان في غنى عنهما؛ فإنه يعترف بكون الشعر يرفع ويضع، ويسم ويصم، ويخلد المآثر ويقيد المآثم، ويقول كم وطد الشعر أركان ملك وذلل أعراف مجد، ولين أعطاف سعد وقرب غايات جد، وأخرت كلمة منه قوما، وهزت عرشا، وحسبك أنه وقع زلزال عظيم بمصر في أيام كافور الإخشيدي فدخل أحد الشعراء على كافور والناس تفر من كل حدب إلى الصحراء، فأنشده قصيدة قال له فيها:
ما زلزلت مصر من خوف يراد بها
لكنها رقصت من عدله طربا
فكان لذلك من حسن حظ الوقع على كافور ما أجازه لأجله بصلة ولا كالصلات، وقيل إن المتنبي لم ينتجع كافورا إلا بعد سماعه بهذا الخبر. فالبارودي وإن لم يذهب هو هذا المذهب، ولا كان له فيه مأرب لم يقدر أن ينكر مكان الشعر من الاجتماع ولا تأثيره في الاتضاع والارتفاع، ولا تخليده للذكر، ولا تسجيله للفتكة البكر. ونعود إلى شوقي فنقول: من جملة قصائده في الخديو قصيدة يقول في مطلعها:
صريع جفنيك ينفي عنهما التهما
فما رميت ولكن القضاء رمى
الله في روح صب يغشيان بها
موارد الحتف لم ينقل لها قدما
ومنه خطابا للممدوح:
وابغ الأحاديث واستعصم برايتها
سيان قدت خميسا أم ملكت فما
إن الزمان لعال في مقالته
فلن يعظم حيا أو يرى عظما
أعطيت مصرا من العرفان حصتها
ومن كمصر مكانا لامرئ علما
شاد الزمان وأبناء الزمان لها
فلم يزيدوا إلى أهرامها هرما
يخلد العلم للبلدان منزلة
في العالمين وتحيي الحكمة الأمما
إن من وجوه الشبه بين شوقي والمتنبي أنك لا تكاد تقرأ قصيدة لكل منهما مهما ضربت في واد من أودية قولهما إلا وجدت بها حكما جارية مجرى الأمثال، ومن انطوى على شيء فاض على لسانه في كل موقف.
ولشوقي في الخديوي تهنئة شهر الصيام وإهداء السلطان عبد الحميد له قصر ببك في الآستانة، وهي قصيدة استهلها بقوله:
الله في الخلق من صب ومن عان
تفنى القلوب ويبقى قلبك الجاني
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
ومنها:
أمن هجرت إلى الأوطان رؤيتها
فرحت أشوق مشتاق لأوطان
تعهدين حنيني في الزمان لها
وسكبي الدمع من تذكارها قاني
وغبطي الطير آتية أصيح به
ليت الكريم الذي أعطاك أعطاني
مري عصي الكرى يغشى مجاملة
وسامحي في عناق الطيف أجفاني
لئن ضننت فما لي ما أضن به
على الفناء سوى آثار وجداني
ومنطق يرث التاريخ جوهره
عن الزمان وعن عباسه الثاني
ومنها:
وإن حلمي لتستكفي البلاد به
كالعين تمت معانيها بإنسان
لما بدا الشهر واستقبلت غرته
لاح الهلال ولاح البدر في آن
وقمت تسطع بالأنوار من أفق
بالمسلمين وبالإسلام مزدان
كأنك البدر في غايات رفعته
لو كان للبدر كرسي وتاجان
فاهنأ مكانك واهنأ ما يلوح به
لرب يلدز من آثار إحسان
أهدى الخليفة ما أهدى يبشرنا
أن الوداد بآساس وأركان
قصرا على اللج لولا أن مهديه
عبد الحميد لقلنا القصر نعماني
يشير إلى الخورنق والسدير من قصور النعمان بن المنذر، ثم يقول:
يبيت من عزة البوسفور صاحبه
على مكان من الدنيا وإمكان
إذا الأكارم سنوا للندى سبلا
سننت أجملها يا فرع عثمان
يظل يسجع في الإسلام شاعركم
كأن أيامه أيام حسان
ويشتهي الدولة العليا معززة
من الوئام بأنصار وأعوان
لا يجهل شوقي مكان شعره من الخليفة والخديو واحتياج العروش إلى الشعراء يحمون حوزة الملك بأقلامهم احتياجهم إلى القواد يحمونها بسيوفهم، أفلا تراه يقول في أبيات سبقت:
وابغ الأحاديث واستعصم برايتها
سيان قدت خميسا أم ملكت فما
كأنه يقول للخديو: إنك وقد ملكت فمي فقد قدت جحفلا جرارا، ثم يقول إنه قائم في جانب الخلافة مقام حسان بن ثابت في جانب الرسالة. فشوقي يشعر بغناء الشعر في جانب الملك، وكأنه يخشى أن يغفل ممدوحه عن هذه الحقيقة فهو يذكره بها، وله من قصيدة في الخديوي تتضمن أبياتا رشيقة في وصف استقباله وقد عاد من الإسكندرية إلى مصر:
حتى نرى الدر وقد زينت
وزين الميدان والسلمان
وازدحم الباب وساحاته
وسدة الركن وماج المكان
وقامت الراية خفاقة
للمجتلي من بعد طول اكتنان
حمراء فوق الحصن ممدودة
تومي إلى القصر بشبه البنان
قد بشر الناقوس بالمسلم ال
عادل من قبل أن يشير الأذان (6) شعر شوقي في الرثاء
ولنختم بهذا الذي أوردناه باب المديح من الشوقيات، ولنأت ببعض الأمثلة من المراثي، وأولها مرثية شوقي للمرحوم الخديو توفيق، التي تتضمن أيضا تهنئة الخديو السابق على توليه منصب أبيه قال:
بين ماضي الأسى وآتي الهناء
قام عذر النعاة والبشراء
نبأ معذر نفى بعضه بع
ضا فكان السفيه في الأنباء
سر من حيث ساء كل مصاف
ساء من حيث سر كل مراء
ما نظرنا محمدا في فتاه
أن غفرنا الضراء للسراء
هابنا الدهر فيه حيا وميتا
فأتانا من دائنا بالدواء
وعزاء البلاد أن يخلد المل
ك ويحيا الآباء في الأبناء
ومنها خطابا للمرحوم:
يا أميري أبا أميري المفدى
من لشعري بذاك بالإصغاء
أسهرتني المنون فيك ونامت
لا خلت عينها من الأقذاء
وأطارت عن المضاجع قلبي
أسكن الله جنبها كل داء
ومنها:
جاء والعصر فخره ببنيه
وفخار المصري بالقدماء
فبنى في البلاد للعلم دورا
تتباهى بالفتية النجباء
وأبى أن يقال عن مصر والأه
رام فيها تضن بالبناء
وأبى الدهر سرعة فيه إلا
أن يتم ابنه نظام البناء
يا مليكي عباس هنئتها عل
ياء جاءت تمشي على استحياء
هو ذا الدهر عند بابك ألقى
عذره فاعف لا يعد للرياء
وتجلد لأجل مصر فلولا
ك لما هم قلبها بالعزاء
واحمل السيف والبس التاج وارق ال
عرش وانهض بالدولة العلياء
وزد الملك من شبابك حسنا
وأنر عصره بذاك الذكاء
ثم يقول:
وتعزز برب يلدز حامي
حوزة الدين قدوة الخلفاء
إن عبد الحميد سيف نضته
آل عثمان هاشمي المضاء
صدق الوعد مصر فيك ومازا
ل حفيا بآلك الكرماء
وهنا الدليل من أدلة لا تحصى على استمساك شوقي من الأول إلى الآخر بالجامعة الإسلامية، تجد هذه الروح فائضة من شعره منبثة في جميع جوارحه بحيث قد قيل بحق إنه شاعر الإسلام والمسلمين، وقد مضى إلى ربه وهذه الخدمة التي لم يتخلف عنها دقيقة واحدة من عمره؛ نور يسعى بين يديه.
ومن مراثي شوقي الشهيرة قصيدته في إسماعيل باشا الخديو الأسبق، وهي التي يقول فيها:
حلم مده الكرى لك مدا
وسدى ترتجى لحلمك ردا
وحياة ما غادرت لك في الأح
ياء قبلا ولم تذر لك بعدا
ومنها:
يا أجل الكرام جاها ووجها
وأبر الورى حفيدا وجدا
وكبير الحياة في العصر والعا
لي فيه فما أرى لك ندا
أين كسرى وأين قيصر مما
نلت بالمجد أو بلغت مجدا
ومنها:
وغزاة في البيض والسود تبغي
مصر فيها مجددا مستردا
وبريد لها تسيل به القض
ب وثان بالبرق أجرى وأهدى
وخطوط بها التنائي تدان
وبخار به الأقاليم تندى
ثم يقول:
فتركت السرير مضطرب الأح
وال من نأى ربه ليس يهدا
لم تكن من جنى عليه ولكن
عودته الأيام أن يستبدا
منعت مصر أن تتوج مصر
وأبى النيل أن يجرر وردا
وفيها يصف وفد الملوك يوم فتح ترعة السويس:
نهضت مصر بالزمان نزيلا
وبأهليه يوم ذلك وفدا
خطروا بين زاخرين ولاقوا
ثالثا من نداك أحلى وأندى
بين فلك يجري وآخر راس
ولواء يحدو وآخر يحدى
وملوك «صيد» يراح بهم في
واسع الريف والصعيد ويغدى
صور لم تكن حقا وحلم
فجع الصبح فيه لما تبدى
يظهر أن شوقي هو ممن يجيز استعمال «تبدى» بمعنى بدا أي ظهر؛ إذ لا يخفى وقوع الاختلاف فيه، ومن الناس من يذهب إلى أن تبدى لا تفيد إلا معنى الدخول في البداوة، ثم يقول:
وقناطير يجفل الحصر عنها
كل يوم تعدها مصر عدا
وملكت السودان في الطول والعر
ض وفي شأنه المعظم عبدا
نلت بالمال والدما منه أرضا
بجبال الياقوت والدر تفدى
ثم نظمته ممالك كانت
نار تنظيمها سلاما وبردا
ثم يشير إلى الواقعة التي وقعت بين مصر والحبشة وإلى تمحيص الجيش المصري فيها فيقول:
ليت لم تغش بعده في حماها
حبش المكر والخديعة أسدا
سلبوا مصر أي جيش كريم
كان للمجد والفخار أعدا
أنت أنشأته فلم تر مصر
جحفلا بعده ولم تر جندا
وتوليته بعطفك والبر
وللمكرمات لم تأل جهدا
فهوى جيشك العظيم ومالت
راية كان حقها أن تسدا
ونفضت اليدين يأسا على الرغ
م كأن لم تجد من الصبر بدا
وإذا لم يكن من الله عون
فاطراح الآمال بالنفس أبدى
يا لعصر رآك في العز لا ير
سل دمعا ولا يبلل خدا
أين ود عهدت منه وعطف
وولاء مؤكد كان أبدى
وملوك له أتتك وسادا
ت حداها إليك وفدا فوفدا
أبت الناس فيك للناس إلا
أن يجاروا الزمان وصلا وصدا
فرأيت الحميم أول جاف
ووجدت الولي في البؤس ضدا
ورجالا لولاك لم يعرفوا العي
ش أبوا أن يقدموا لك حمدا
نعم هذا حال الناس مع الزمان يدورون حيث دار، ثم يقول:
بان مجد البلاد إذ بنت والصف
و وكان الرجاء حيا فأودى
فبكى البائسون منك حساما
طالما قد هامه الخطب قدا
إن تأكيد المفعول المطلق يصح في الحقيقة لا في المجاز كما هي القاعدة؛ أي يقال: سال السحاب سيلا؛ لأنه حقيقي، ولا يجوز أن يقال: سال كرم حاتم سيلا؛ لأنه مجاز، غير أني لا أرى هذه القاعدة مرعية عند الشعراء من القديم.
ثم يقول:
عد إلى مصرك الوفية وانزل
في ثراها واسكن من المهد لحدا
لا تقل أعرضت بلادي وصدت
مصر خير هوى وأكرم عهدا
وقبيح بالدار أن تعرف البغض
وبالمهد أن يباشر حقدا
غفرت مصر ما مضى لعلي
وبنيه وللحفيد المفدى
فشوقي كان لا ينسى «الحفيد المفدى» كيفما انقلب؛ إذ هو شاعره، والذي يريد شوقي أن يدير الكلام كله عليه وإن انحرف عنه يمنة أو يسرة فلكي يرجعه إليه.
ومن أحسن ما نظم شوقي في الرثاء قوله عند وفاة والده علي بك شوقي:
سألوني لم لم أرث أبي
ورثاء الأب دين أي دين
أيها اللوام ما أظلمكم
أين لي العقل الذي يسعد أين
يا أبي ما أنت في ذا أول
كل نفس للمنايا فرض عين
هلكت قبلك ناس وقرى
ونعى الناعون خير الثقلين
غاية المرء وإن طال المدى
آخذ يأخذه بالأصغرين
وطبيب يتولى عاجزا
نافضا من طبه خفي حنين
أنا من مات ومن مات أنا
لقي الموت كلانا مرتين
نحن كنا مهجة في بدن
ثم صرنا مهجة في بدنين
ثم عدنا مهجة في بدن
ثم نلقى جثة في كفنين
وهذا من أعلى الفلسفة، وقد يقال إن هذا معروف ليس فيه معنى مبتكر، والجواب على ذلك أن أفصح الكلام هو ما تضمن المعنى المعروف لا المعنى الغامض ولكن العبرة في القوالب. وأنى نجد هذه الحقائق في مثل هذه الرقائق. وبعد أن ذكر كيف كان هو وأبوه واحدا، ثم صارا اثنين عاد فقال إن هذين الاثنين سيصيران إلى واحد هو ابنه علي:
ثم نحيا في علي بعدنا
وبه نبعث أولى البعثتين
انظر الكون وقل في وصفه
كل هذا أصله من أبوين
وهذا أيضا من أعلى الفلسفة، ومما جاء في كتاب الله، قال تعالى:
ومن كل شيء خلقنا زوجين ، وقال تعالى:
وأنبتت من كل زوج بهيج ، وقال تعالى:
وأنه خلق الزوجين ، وقال تعالى:
وخلقناكم أزواجا ، وقال تعالى:
والذي خلق الأزواج ... وغير ذلك من الآي العظام في هذا المعنى، وقد فسر العلامة الرياضي الفريد الغازي مختار باشا - رحمه الله - في كتابه «سرائر القرآن» هذه الآيات وغيرها بقوله: إن جميع الكون مبني على الزوجية، فالعالم الحيواني كله أزواج كما هو ظاهر والعالم النباتي أيضا لا يختلف عن العالم الحيواني في الزوجية، والجمادات فيها القوتان السلبية والإيجابية من الكهربائية أي فيها الزوج كالحيوانات والنباتات، فالكون كله أب وأم، ثم قال شوقي:
ما أبي إلا أخ فارقته
وده الصدق وود الناس مين
طالما قمنا إلى مائدة
كانت الكسرة فيها كسرتين
وشربنا من إناء واحد
وغسلنا بعد ذا فيه اليدين
وتمشينا يدي في يده
من رآنا قال عنا أخوين
نظر الدهر إلينا نظرة
سوت الشر فكانت نظرتين
يا أبي، والموت كأس مرة
لا تذوق النفس منها مرتين
كيف كانت ساعة قضيتها
كل صعب قبلها أو بعد هين
أشربت الموت فيها جرعة
أم شربت الموت فيها جرعتين
كأن شوقي يسأل أباه - رحمهما الله - كيف تجرع تلك الكأس؟ هل تجرعها نفسا واحدا أم تجرعها أنفاسا؟ فقد صار الآن يدري ما دراه أبوه، وكل حي فهو داريها في يوم من الأيام، ثم قال:
لا تخف بعدك حزنا أو بكا
جمدت مني ومنك اليوم عين
أي جمدت عين أبيه بالموت وجمدت عينه بكونه أصبح لا يبكي لمصيبة بعد موت أبيه؛ إذ المصائب كلها تهون بعد هذا المصاب. وهذا معنى طرقه الشعراء، فليس بجديد ولي أنا في رثاء صديقي محمود سامي باشا:
هانت بمصرعك الأرزاء أجمعها
فليس يعظم من رزء ولو عظما
وقد كررته في قصيدة حديثة؛ هي رثاء لصديقي الحاج عبد السلام بنونة عميد بلاد الريف بالمغرب:
يقل بعدك مدفونا فجعت به
أن استطار على ضعفي لحدثان
ثم يقول شوقي:
ليت شعري هل لنا أن نلتقي
مرة أم ذا افتراق الملوين
وإذا مت وأودعت الثرى
أنلقى حفرة أم حفرتين
لعمري هذا هو المشكل الذي أعيى على الثقلين عرفانه ولم يضئ من طريق العقل برهانه، وإنما هو مما أوحى به الدين وحيا لا يخالف العقل، بل هو يؤيده، وقد قال أحد السادة الصوفية: ما رأته العيون ينسب إلى العلم، وما رأته القلوب ينسب إلى اليقين. وهذا مما تراه القلوب لا العيون.
ثم يتساءل شوقي: هل بعد هذه الدنيا اجتماع حتى يجتمع بأبيه؟ وهل هذه هي الحفرة الأخيرة أم يعود فيلد مرة أخرى ويستقبل حفرة ثانية وهلم جرا. وقد ذهب الناس من كبير وصغير ودرج الخلائق من أول وأخير وهم في حسرة أن يعرفوا من طريق الفكر هذا السر في هذه الحياة الدنيا قبل أن يموتوا فماتوا والحسرة في قلوبهم، ثم يرثي جدته:
خلقنا للحياة وللممات
ومن هذين كل الحادثات
ومن يولد يعش ويمت كأن لم
يمر خياله بالكائنات
هي الدنيا قتال نحن فيه
مقاصد للحسام وللقناة
وكل الناس مدفوع إليه
كما دفع الجبان إلى الثبات
نروع ما نروع ثم نرمى
بسهم من يد المقدور آت
ومراد الشاعر هنا أن الإنسان يروع طول حياته ويقضيها كلها في آلام وأهوال، ثم ينتهي منها إلى أعظم البلاء الذي هو الموت.
ولي في هذا المعنى في رثائي للمرحوم أحمد باشا تيمور، وهو توارد خواطر:
لعمرك ما بالعيش إرب لعاقل
توغل في علم الحقيقة خاطره
تسلسل آلام وترداد محنة
تراوحه في كربها وتباكره
وخيبة آمال وفقد أعزة
وبعد طوال السجن فالموت آخره
ثم أهنئ الفقيد بأنه جاز هذه الدنيا إلى حياة لا يروع فيها دائما باستقبال الموت، فأقول:
ليهنك يا تيمور أنك جزتها
إلى ملأ لا يعرف الموت زائره
وفارقت دارا لا يزال قطينها
يفكر في الهول الذي هو غامره
فإن تك عقبى الدار قسمة فاضل
فأقصى أمانيك الذي أنت صائره
ثم يقول شوقي لجدته:
تبناك الملوك وكنت منهم
بمنزلة البنين أو البنات
يظلون المناقب منك شتى
ويؤون التقى والصالحات
وما ملكوك في سوق ولكن
لدى ظل القنا والمرهفات
أي إنها لم تكن أمة اشتراها النخاس في سوق، ولكن كانت من جملة السبي في الحرب ثم يفصل ذلك:
عنت لهم بمورة بنت عشر
وسيف الموت في هام الكماة
فكنت لهم وللرحمن صيدا
وواسطة لعقد المسلمات
تبعت محمدا من بعد عيسى
لخيرك في سنيك الأوليات
وتحرير الخبر أنها كانت من جملة سبي حرب المورة فهي رومية الجنس، نشأت في الإسلام وهي بنت عشر سنوات، ولم يشأ شوقي أن يجعل للمتنبي وحده حصة الفخر بجدته، ويجعل لجدته حق الفخر به، فالمتنبي يقول في رثاء المرحومة جدته:
ولو لم تكوني بيت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما
أي إنها تقدر أن تفتخر بنسب ابنها، ولكن لو فرضنا أنها لم تكن بنت أب كريم لكان يجزيها في مقام الفخر كونها جدة أبي الطيب.
وهنا شوقي يقول:
ولو لم تظهري في العرب إلا
لأحمد كنت خير الوالدات
تجاوزت الولائد فاخرات
إلى فخر القبائل واللغات
وأحكم من تحكم في يراع
وأبلغ من تبلغ من دواة
وأبرأ من تبرأ من عداء
وأنزه من تنزه عن شنات
وأصون صائن لأخيه عرضا
وأحفظ حافظ عهد اللدات
وأقتل قاتل للدهر جرءا
وأصبر صابر للغاشيات
والحاصل أنه أفضى بجميع ما عنده من حسن الظن بنفسه رحمه الله، فلولا قليل لبلغ من الفخر مبلغ ابن سناء الملك، ولكن الذي حفزه إلى ركوب هذا المركب في رثاء جدته هو أن والده الروحي أبا الطيب قد ركب هذا المركب من قبل في مثل هذا المقام ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده.
ولما كنا في باريس أنا وشوقي لأول معارفتنا وكلانا في الثالثة والعشرين من العمر، كان يذكر لي دائما محبة عبد الرحمن باشا رشدي له، ويطلعني على كتب من هذا الوزير إليه، ولما كنا نمرح ونعبث ويقول كل منا للآخر كل شيء يخطر بباله، قال لي مرة: إنه يحب عبد الرحمن باشا رشدي مثل والده، وإنه متى مات سيبادر برثائه فكانت نكتة ضحكنا لها كثيرا، وقلت له: ما أحسن وفاءك! وقد حصل ذلك فعلا؛ فإن عبد الرحمن باشا رشدي بعد هذا الكلام بسنوات قد مضى إلى رحمة ربه، وقد أنجز شوقي وعده برثائه، وقال فيه ما يدل على شدة تعلقه به فقال:
يقولون رشدي مات قلت صدقتمو
ومات صوابي يوم ذاك وآمالي
وركني الذي للنائبات أعده
وذخري في الماضي وعوني على الحال
أرشدي لقد عشت الذي عشت سيدا
ولم تك عبد الجاه والأمر والمال
ولم تأل كتب العلم درسا ومطلبا
ولم تك عنها في الثمانين بالسالي
وكنت تحل الفضل أسمى محلة
وتنزل أهل الفضل في المنزل العالي
ولم تتخير ألف خل وصاحب
ولكن من تختاره الواحد الغالي
فشوقي في رثاء عبد الرحمن رشدي لم ينس أن يمدح نفسه أيضا، ثم يقول:
حببتك والدنيا تحبك كلها
وزدتك حبا عندما كثر القالي
وقست بك الأعيان حيا وميتا
فوالله ما جاء القياس بأمثال
ولو أن إنسانا من الموت يفتدى
فديتك بالنفس النفيسة والآل
ورثى فقيدي العلم الوزير على باشا مبارك والطبيب سالم باشا سالم، فقال:
ما لذا الدهر ماله والدعائم
أعلي بالأمس واليوم سالم؟
نقص الله مصر من طرفيها
بالفقيدين من طبيب وعالم
الذي كان مظهر العلم فيها
والذي كان طبها والمراهم
وإذا قدر الإله شقاء
لبلاد أصاب فيها الأعاظم
وله رثاء في غاية السلاسة للمرحوم سليمان باشا أباظة قال فيه:
من ظن بعدك أن يقول رثاء
فليرث من هذا الورى من شاء
ومنها:
أأبا محمد اتئد في ذا النوى
وارفق بآلك وارحم الأبناء
واستبق عزهم بطهراء التي
كانوا النجوم بها وكنت سماء
أدجى بها ليل الخطوب وطالما
ملئت منازلها سنى وسناء
وإذا سليمان استقل محلة
كانت بساطا للندى ورخاء
لا شك أن شوقي عندما لفظ اسم سليمان خطر بباله سليمان بن داود، فتذكر معه بساط الريح والريح الرخاء، فجاء بهما في البيت، وحولهما إلى معنى آخر، وهكذا هو الشعر كثرة شجون وانتقال أفكار، وأحسن الناس شعرا أسرعهم انتقالا، ثم يقول:
سارت جنازة كل فضل في الورى
لما ركبت الآلة الحدباء
وتيتم الأيتام أول مرة
ورمى الزمان بصرفه الفقراء
ولقد عهدتك لا تضيع راجيا
واليوم ضاع الكل فيك رجاء
وعلمت أنك من تود ومن يفي
فقف الغداة لو استطعت وفاء
أبنيه كونوا للعدى من بعده
كيدا وكونوا للولي عزاء
وكان سليمان باشا أباظة من أفاضل مصر لائقا بهذا الرثاء، وقد تعرفت إليه بواسطة أستاذنا الشيخ محمد عبده، وسمرنا عنده ليلة في سنة 1890، فرأيت كثيرا من نبله، وسمعت جزيلا من فضله، ولشوقي رثاء رثى به سليم بك تقلا مؤسس جريدة الأهرام، فقال:
ضن الزمان به وكان كريما
واعتل بعد أن استقام سليما
فقدت يداه منه أسمر حاليا
لدنا كما تهوى الأمور قويما
بكت القلوب عليه قبل عيونها
فجرين حبات وسلن صميما
أمودع الأوطان تارك عهدها
حكما وآدابا به وعلوما
ماذا رحيلك إنها كانت ترى
لك أن تدوم لمجدها فيدوما
لله أهرام الزمان وما جلا
فيها لسان الصدق منك كريما
أودعتها لمح الهدى وبدائها
لو كن للجوزاء كن نجوما
فارحل حبيبا ما يطاق رحيله
واقدم مرجى ما يطاق قدوما
واستحفظ الأهرام قومك إنهم
سم الأعادي حادثا وقديما
وله رثاء لعلي حيدر باشا يكن:
قلت لما لقيت حيدر يوما
هكذا هكذا الدم العلوي
هكذا البر والندى والأيادي
والمعالي والسؤدد اليكني
أنت لو كان في الغنى لك ثان
لم يبغض إلى الفقير الغني
شرفت بالوزير أسرة مجد
مثل ما شرفت بحاتم طي
كان ركنا لبيتهم وعمادا
فتولى فانهد ركن قوي
وأصيبت وزارة وبلاد
لعلي فيها المقام العلي
ثم عزى فيها ولده صفر بك، فقال:
العزاء العزاء يا صفر الخي
ر فأنت الفتى اللبيب التقي
حكم الله في أبيك وحكم الله
في الخلق سابق مقضي
كلنا من بكى أباه وكل
بعد حين مودع مبكي
ورثى المرحوم أمين باشا فكري، وكان أمين باشا صديقا للمرحوم إسماعيل باشا صبري فقال يرثي الأول ويعزي الثاني:
يا أقرب الناس من أمين
وأفقد الناس للثمين
خطبك هذا أجل خطب
فخذ له الصبر باليمين
أسليك فيه ولي فؤاد
يذوب للميت والحزين
فقم بنا نندب المعالي
فجرحها اليوم في الوتين
أمثل فكري أبا حسين
يموت في نضرة السنين
والناس في حاجة إليه
والقطر يرجوه للشئون
مؤمل الكل في شباب
ومرتجى الأهل والبنين
كذلك الموت كل يوم
يبدي فنونا من الجنون
فلو علمت المنون شخصا
لقلت لا عقل للمنون
وكان إسماعيل باشا صبري، كما لا يخفى، من كبار الشعراء ومن حسنات مصر الكبرى، وقد رثى صديقه أمين باشا فكري بقصيدة، أثبتها شوقي في ديوانه تعظيما لمقام الراثي والمرثي، فها أنذا أيضا أقفو أثر شوقي فأنشر رثاء شوقي ورثاء صبري وأعززهما بثالث هو رثائي لأمين باشا، فقد كان صديقي وكان من شبان مصر المشار إليهم بالبنان، والذين يجدر بمصر وبغيرها من بلاد العرب أن ترثيهم وتبكيهم على طول الزمان، قال إسماعيل باشا صبري:
وهبتك يا دهر من تطلب
أبعد أمين أخ يصحب
طويت المودة في شخصه
فأي وداد امرئ أخطب
وأي بديل له أرتضي
وأي شمائله أندب
أمين اتئد في النوى وارعني
فبيني وبينك ما يوجب
أتذكر إذ أنت مني النياط
من القلب أو أنت لي أقرب
وإذ نحن هذا لهذا أخ
وهذا لذا ابن وهذا أب
ومن قال عنا من الناظرين
نديمي جذيمة لا يكذب
حسبت بأنك لي خالد
فكان الذي لم أكن أحسب
كم تتوارد الخواطر بين الشعراء فإني عندما قرأت هذا البيت تذكرت قولي منذ شهر من الزمن لا غير في رثاء صديقي الحاج عبد السلام بنونة:
قد كنت آمل أن نحيى معاصرة
مديد عمر وألقاه ويلقاني
أدعو له في جناني كلما انفردت
نفسي بنجوى وأرعاه ويرعاني
فخيب البين ما قد كنت آمله
وكم أرتني الليالي ضد حسباني
ثم يقول إسماعيل صبري:
أفي ذا الشباب وهذا الإهاب
يموت الفتى الطاهر الطيب
عجيب من الموت أفعاله
وعتبي على فعله أعجب
بذا حكم الله في خلقه
لكل امرئ أجل يكتب
وجدت الحياة طريق الممات
وكل إلى حتفه يسرب
ويعثر فيه الفتى بالشباب
ويدلف بالعلة الأشيب
ويتعب بالزاد فيه الفقير
وأهل الغنى بالغنى أتعب
ويشقى أخو الجهل في جهله
ويخرج بالعالم المذهب
موارد مشروعة للحياة
فأي مواردها الأعذب
أتعلم عين الردى من تصيب
وتدري يد الموت من تضرب
ألما تكامل نور الأمين
وتاه به الشرق والمغرب
وأوفى المكارم ما أملت
وأعطى الفضائل ما تطلب
طواه الردى علما فانطوى
به أمل مقبل نرقب
فيا نائيا والهوى ما نأى
وذكراه في البال لا تغرب
هنيئا لدار تيممتها
لقد زارها الملك الأطيب
ومنها:
حسبت على رحمات الرحيم
وجادك رضوانه الصيب
ولا زالت السحب منهلة
وأنت لأذيالها تسحب
وروتك منا دموع تسيل
تخامرها مهج تسكب
وأما رثاء كاتب هذه السطور للمرحوم أمين باشا فكري، فهو هذا:
بقية مجد ودعت يوم ودعا
وآمال عز آن أن تتقطعا
ولم تنعه الأيام إلا وأدمجت
من الشرق شطرا في منيته معا
لقد جاءنا نوء الزمان مصائبا
يلوح لنا أن مزنها ليس مقلعا
وسبحان من ساق الردى بوجوهه
فلقى لعمري الجمع والفرد مصرعا
إذا شن جيش النحس في القوم غارة
فما أجدر الأرزاء أن تتنوعا
وقد وقع مصاب أمين باشا فكري في أيام كانت كلها مصائب سياسية على مصر؛ من جملتها استيلاء الإنجليز على السودان:
وما كنت حتى اليوم أحسب دهرنا
إذا ساء لا يرتاد للعذر موضعا
ألم يكفه ما غال من كل غاية
وأفسد من معنى وعطل مرجعا
وضيق أرجاء الرجاء فسدها
وراخى مجالات المراثي وأوسعا
كذا فليجل الخطب وليفدح الأسى
وتنقلب العليا بمارن أجدعا
حلفت فلا تمري النوادب عبرتي
على فائت ولينع دهرك من نعى
فهيهات ما إن أستثار لفاجع
إذا كان من أودى الأمين المشيعا
أحبتنا إن قيل في الصبر رجلة
فإني فتى أبغي أنوح وأجزعا
تركت لكم فضل التصبر صبرة
وقلت لطرفي اليوم لا تأل مدمعا
وشعشع كئوس الدمع بالدم ساقيا
فكل شراب زينه أن يشعشعا
واعتدها نحو الأمين خيانة
إذا أنا لم أستف ذا الكأس مترعا
فما كان ودي للأعزة ضائعا
ولا كان قلبي من أخي الود بلقعا
حملت له بين الضلوع أمانة
لو احتملتها الشم مالت تصدعا
وأصفيته مني إخاء لو انه
أعار الليالي صفوه رقن مشرعا
وما زلت أرعاه على البعد صاحبا
وقبلي نجوم الأفق مثلي من رعى
فإن يك هذا الترب غرب بدره
فلا زهرت تلك الكواكب مطلعا
ولا لمعت تلك البروق وقد خبت
بروق أمان كن بالأمس لمعا
قضى اليوم من راع البرية رزؤه
وليس يراع الناس إلا لأروعا
ولم يأت فيه الموت مصرع واحد
ولكنه كان المصارع أجمعا
أصاب الحجى والعلم والحزم والمضا
وصدق المبادي والذمام الممنعا
وما بقيت في المكرمات سجية
ولا خطة إلا ثوت معه مضجعا
فلو نفعت عند المنون شفاعة
كفته فريدات الخصال مشفعا
ودافع عن حوبائه طيب الثنا
وخلده لو أن في الخلد مطمعا
ولكن داعي الموت لا يقبل الرشى
ولم يلق أسرى منه نفسا وأرفعا
مصاب له الأقطار إذ شاع زلزلت
فلا ركن للعلياء إلا تزعزعا
أذل إباء الدمع من كل جامد
فلم يبق عاص منه حتى تطوعا
ولم أر في الأرزاء أبعد غارة
ولا من قلوب الخلق أقرب موقعا
عشية ما في الناس مالك عبرة
ولا زفرات الصدر إلا تصنعا
عشية لم تبق الفجيعة مسكة
ولا حزم للمحزون إلا مضيعا
عشية وارى الناس شمسا وأظلمت
لها الشمس حتى لا ترد بيوشعا
فكم من يد أضحت تدق بأختها
وكم شفة باتت تجاور إصبعا
فإن يك وادي النيل أشعر فقده
فلا جبل في الشام إلا تضعضعا
كريم به لفظ الكريم مقصر
إذا قيل عن قوم كرام توسعا
توخى طريق الخير محضا كأنه
من المهد حتى اللحد جاء لينفعا
له خلق سهل ونفس أبية
وحسن خلال دونها الروض ممرعا
وأقلام صدق راجع في ولائها
لأكتب من أوتي الكتاب وأبرعا
فمن بعد عبد الله كان مؤملا
بأن لم يغب ذا الأصل إلا وفرعا
هذه ثلاث مراث في أمين باشا فكري لثلاثة أصحاب من أعز الناس عليه وأعزهم له. ولو فسح المقام لاستوفيت له ثلاثين مرثية وكان بها قمنا، وقد تأملت الآن كيف كنا أربعة أصحاب، كل يحب إخوانه الآخرين ويجلهم، فقد كنت أحب أمين باشا وأجله، وكانت بيننا مراسلة بعد مراسلة مع أبيه عبد الله باشا فكري الأديب المشهور، وكنت أحب إسماعيل باشا صبري وأجله إجلالي لأخيه أمين باشا. ولما كان صبري محافظا للإسكندرية وقدمها من أبناء عمي الأمير عارف أرسلان احتفى به إسماعيل باشا جد الاحتفاء، فلما عاد ابن عمي إلى سورية رغب إلي في أن أرسل قصيدة بإمضائه إلى إسماعيل باشا شكرا له على حفاوته، فنظمت قصيدة سيقرؤها قراء ديواني الذي تحت الطبع. وكنت أحب شوقي وأجله وأقدسه كما يدل عليه كتابي هذا، وكان شوقي يحب صبري وفكري ويجلهما كما ترى من شعره. فهؤلاء ثلاثة إخوان في نسق قد طوتهم المنون من دوني، وبقيت في حياة موحشة بفقد أصحابي، مقفرة من أنس أترابي أتسلى عنهم بالآثار والذكريات، وأرسل وراءهم الحسرات والزفرات الكبريات، قائلا: لا حياة بعد صدع ذلك الشمل، وبي منهم فوق الرمل ما بهم في الرمل، كما قال أبو الطيب من قبل.
ولما أصاب إسماعيل باشا صبري حادث في القطار الحديدي بعث شوقي إليه بهذه الأبيات التي يصح أن تكون من جملة مختاراته:
أتتني الصحف عنك مخبرات
بحادثة ولا كالحادثات
بخطبك في القطار أبا حسين
وليس من الخطوب الهينات
أصيب المجد يوم أصبت فيه
ولم تخل الفضيلة من شكاة
وساء الناس أن كبت المعالي
وأزعجهم عثار المكرمات
ولست بناس الآداب لما
تراءت ربها متلهفات
وكان الشعر أجزعها فؤادا
وأحرصها لديك على حياة
هجرت القول أياما قصارا
فكانت فترة للمعجزات
فما أبدع قوله: فكانت فترة للمعجزات. (7) شعره العائلي
ولشوقي من الشعر العائلي لا سيما في خطاب أولاده ما يرويه الناس ويستلطفونه، وإني لأختار منه قوله لولده علي بك يوم ولادته:
رزقت صاحب عهدي
وتم لي النسل بعدي
هم يحسدوني عليه
ويغبطوني بسعدي
ولا أراني ونجلي
سنلتقي عند مجد
وسوف يعلم بيتي
أني أنا النسل وحدي
فيا علي لا تلمني
فما احتقارك قصدي
وأنت مني كروحي
وأنت من أنت عندي
فإن أساءك قولي
كذب أباك بوعد
قيل لنابليون الأول: نريد أن نكتب تاريخ عائلتك، وقد تحيرنا من أين نبدأ؟ فقال: ابدءوا بي، فإني أنا عائلتي. وشوقي يريد أن يقول إن ولده لن يبلغ عبقريته؛ فلذلك سيكون شوقي وحده هو نسل شوقي وليس في ذلك تصغير لابنه؛ أي لا غضاضة على ابنه إن قصر عن شأو أبيه فليس كأبيه كثير من الخلق، فشوقي يعرف من نفسه أنه سينفرد وأن ابنه لن يدركه، وهذا يشير إلى المعنى الذي قلته أنا من رثاء شوقي:
هذا أمير الشعر غير مدافع
في الشرق أجمع منذ فتق لهاته
ما عاب أهل العبقرية أنهم
قد قصروا في الجري عن غاياته
ومثله قولي في الإفرنج يوم هزمهم صلاح الدين في وقعة حطين:
لم يجبنوا ساعة وإن فشلوا
وإنما الليث دونه النمر
وكان لي صاحب لا بأس به، وكان تام الرجولية فارسا مغوارا قاريا للضيف، وإنما كان له أب أعلى منه بدرجات؛ فكان الناس يرونه صغيرا في جانب أبيه ويقولون لي: ولد النجيب لا ينجب، فكان يقول لي: إني والله لم أكن مقصرا في وغى، ولا في ندى، ولا ممن يجد الناس فيه منتقدا، ولكن أبي فضحني وأظهر قصوري ولو كنت ابن رجل آخر لكان أظهر لنجابتي، فإنما الناس تصغر وتكبر بالقياس. (8) الحكايات في شعر شوقي
ولم يجتزئ شوقي من الشعر بالأمداح والمراثي والأمثال الحكمية والمراسلات الإخوانية، بل هام في جميع أودية الخيال، وضرب في عالم الإنشاد في كل منكب، وأبى إلا أن يكون شاعرا كامل الأدوات مستوفيا الشروط، قابضا على ناصية الفصاحة في كل موضوع، فنظم شعرا كثيرا من الحكايات على نسق لافونتين، ونظم على ألسن الطير والحيوانات والحشرات. وله في الجزء الأول من الشوقيات أربعون أو خمسون صفحة ملأى بهذه الخرافات، جعل كلامه فيها مناسبا لموضوعها، فهو كما يعلو في المقامات العالية ويختار لها فخم الكلام وشريف اللفظ يسف في المقامات الساذجة ويلبسها القوالب الخفيفة السهلة اللائقة بها؛ فتراه مثلا يقول في حكايته عن الخفاش ومليكة الفراش:
مرت على الخفاش
مليكة الفراش
تطير بالجموع
سعيا إلى الشموع
فعطفت ومالت
واستضحكت فقالت:
أزريت بالغرام
يا عاشق الظلام
صف لي الصديق الأسودا
الخامل المجردا
قالت سألت فيه
أصدق واصفيه
هو الصديق الوافي
الكامل الأوصاف
جواره أمان
وسره كتمان
وطرفه كليل
إذا هفا الخليل
يحنو على العشاق
يسمح للمشتاق
وجملة المقال
هو الحبيب الغالي
فقالت الحمقاء
وقولها استهزاء
أين أبو المسك الخصي
ذو الثمن المسترخص
من صاحب الأمير
الظاهر المنير
إن عد فيمن أعرف
أسمو به وأشرف
وإن سئلت عنه
وعن مكاني منه
أفاخر الأترابا
وأنثني إعجابا
فقال يا مليكه
وربة الأريكه
إن من الغرور
ملامة المغرور
فأعطني قفاك
وامضي إلى الهلاك
فتركته ساخره
وذهبت مفاخره
وبعد ساعة مضت
من الزمان فانقضت
مرت على الخفاش
مليكة الفراش
ناقصة الأعضاء
تشكو من الفناء
فجاءها منهمكا
يضحكه منها البكا
قال ألم أقل لك
هلكت أو لم تهلك
رب صديق عبد
أبيض وجه الود
يفديك كالرئيس
بالنفس والنفيس
وصاحب كالنور
في الحسن والظهور
معتكر الفؤاد
مضيع الوداد
حباله أشراك
وقربه هلاك
نعم كم من شخص حسن الوجه سيئ الفعل، هذا الذي يريد شوقي أن يستفصه من هذه الحكاية، كما أراد أن يستخرج من هذه الحكايات كلها العبر التي استخرجها أمثاله من الشعراء أو من الكتاب الذين تكلموا على ألسن الحيوان والطير، ورموا مرامي حكيمة بعيدة من هذه الحكايات الصغيرة، وهم مثل صاحب كليلة ودمنة وغيره.
ومن أقوال شوقي في هذا الباب حكاية عن الأسد عندما استوزر الحمار:
لليث ملك القفار
وما تضم الصحاري
سعت إليه الرعايا
يوما بكل انكسار
قالت تعيش وتبقى
يا دامي الأظفار
مات الوزير فمن ذا
يسوس أمر الضواري
قال الحمار وزيري
قضى بهذا اختياري
فاستضحكت ثم قالت
ماذا رأى في الحمار
وخلفته وطارت
بمضحك الأخبار
حتى إذا الشهر ولى
كليلة أو نهار
لم يشعر الليث إلا
وملكه في دمار
القرد عند اليمين
والكلب عند اليسار
والقط بين يديه
يلهو بعظمة فار
فقال من في جدودي
مثلي عديم الوقار
أين اقتداري وبطشي
وهيبتي واعتباري
فجاءه القرد سرا
وقال بعد اعتذار
يا عالي الجاه فينا
كن عالي الأنظار
رأي الرعية فيكم
من رأيكم في الحمار
وقال في القبرة وابنها:
رأيت في بعض الرياض قبره
تطير ابنها بأعلى الشجره
وهي تقول يا جمال العش
لا تعتمد على الجناح الهش
وقف على عود بجنب عود
وافعل كما أفعل في الصعود
فانتقلت من فنن إلى فنن
وجعلت لكل نقلة ثمن
كي يستريح الفرخ في الأثناء
فلا يمل ثقل الهواء
لكنه قد خالف الإشارة
لما أراد يظهر الشطاره
وطار في الفضاء حتى ارتفعا
فخانه جناحه فوقعا
فانكسرت في الحال ركبتاه
ولم ينل من العلا مناه
ولو تأنى نال ما تمنى
وعاش طول عمره مهنا
لكل شيء في الحياة وقته
وغاية المستعجلين فوته
وقال في الثعلب وهو في السفينة:
أبو الحصين جال في السفينه
فعرف السمين والسمينه
يقول إن حاله استحالا
وأن ما كان قديما زالا
لكون ما حل من المصائب
من غضب الله على الثعالب
ويغلظ الأيمان للديوك
لما عسى يبقى من الشكوك
بأنهم إن نزلوا في الأرض
يرون منه كل شيء يرضي
قيل فلما تركوا السفينه
مشى مع السمين والسمينه
حتى إذا ما نصفوا الطريقا
لم يبق منهم حوله رفيقا
وقال إذ قالوا عديم الدين
لا عجب أن حنثت يميني
فإنما نحن بنو الدهاء
نعمل في الشدة للرخاء
ومن تخاف أن يبيع دينه
تكفيك منه صحبة السفينه
وخلاصة القول أن شوقي لم يهمل هذا الباب أيضا، وأنه دنا من اللفظ إلى الغاية التي تدركها الأطفال ويحفظها الجهال ولكل مقام مقال. وكان مثله في هذا بشار فقد حدث ابن مهرويه عن أبيه قال: قلت لبشار يا أبا معاذ، إنك لتأتي بالأمر المتفارق، فمرة تثير بشعرك العجاج فتقول:
إذا ما ضربنا ضربة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة
ذرى منبر صلى علينا وسلما
ثم تقول:
رباب ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات
وديك حسن الصوت
فقال بشار: «إنما أكلم كل إنسان على قدر معرفته؛ فأنت وعلية الناس يستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جارية تربي دجاجا وتجمع بيضهن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض، وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كله، فإذا أنشدتها في النمط الأول ما فهمته ولا انتفعت بها.»
قلنا: وهذه قضية لا جدال فيها؛ فالثوب ينبغي أن يفصل على قدر القامة، والقول يجب أن يتناسب مع الحالة، وقد أورد أبو العلاء المعري قصة بشار هذه في عرض الكلام على قصيدة المتنبي السخيفة في ضبة وهي التي أولها:
ما أنصف القوم ضبة
وأمه الطرطبة
فقال: إن أبا الطيب اجتاز يوما بالطف فنزل بأصدقاء له، وصادف هناك ولدا اسمه ضبة يغدر بكل أحد، وسارت الخيل إلى هذا العبد واستركبوه فلزمه السير معهم، فدخل هذا العبد الحصن وامتنع به وأقاموا عليه وليس سلاحه لهم إلا شتمهم من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمي أبا الطيب بشتمه، وأراد القوم أن يجيبه أبو الطيب بمثل ألفاظه القبيحة، وسألوه ذلك فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضا لم يفهم، ولم يعمل فيه عمل التصريح، فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو، فقال تلك الأبيات: ما أنصف القوم ضبة ... إلخ.
وروى المعري عن ابن جني أنه قال: ورأيته - أي رأى المتنبي - وقد قرأت عليه هذه القصيدة وهو ينكر إنشادها.
قلت: وهذا دليل على أن المتنبي كان خجل من نفسه وندم على إرسال تلك الكلمة المشئومة التي صارت السبب في قتله وحرمان الناس من ذلك اللسان وذلك الجنان اللذين بخل بمثلهما الزمان، فأما المعري فلشدة إعجابه بالمتنبي وما اشتهر من حبه له، فقد حاول أن يتمحل له عذرا، وأن يدمج هذه القصيدة تحت حكم «لكل مقام مقال» وهذا التشبيه محال، ثم حاول من جهة أخرى عذرا ثانيا؛ وهو أن يجعل هذه القصيدة على ألسن أولئك الجماعة الذين كان يشتمهم ضبة، وهو أيضا عذر ضعيف أرق من خيط باطل؛ إذ المتنبي يعلم أنه مهما قال فقوله لا بد أن يسير، وأن الكلمة الفاردة من مثله تحفظ وتبقى وتعلق في الأذهان، فكيف المنظوم الذي تسير به الركبان. والحقيقة أنها كانت سويعة نحس غفل فيها المتنبي عن نفسه وغاب عن حسه؛ فأرسل هاتيك الأبيات وهو يظن أنها لن تتجاوز ذلك المكان، وأنه إنما يشفي بها غليل جماعته، أو أنه يضحكهم على ضبة، ونسي أنه بهذا العمل قد وضع نفسه في صف ذلك السفيه الذي وصفوا ما وصفوا من سفاهته وحمقه، ومن ذا يعض الكلب إذا الكلب عضه؟ فكانت من أبي الطيب هذه النبوة القبيحة سببا في إتلافه ومصيبة الأدب العربي بفقد رجل كان من أرجح أدباء الدنيا ميزانا وأقواهم برهانا وأذلفهم لسانا. ومن هذه القصة يجب أن تؤخذ العبرة اللازمة والعظة التي لا يجوز أن تفارق الخاطر، وهي أن الرجل الكبير يجب أن يبقى كبيرا في جميع أطواره، وأن يعلم أن كل ما يقوله سيسير ويحفظ عليه، وأنه سيبقى وينسب إليه. والقول لقائله كالولد لناجله. ومن أحسن مزايا شوقي أنه لم يتلوث بشيء من هذه القاذورات، وأن أدب النفس كان أثيره، فنزه عن المرافثة قليل نظمه وكثيره، فلا أثار بقوله حفائظ ولا هاج أحقادا وقد مضت جميع معاركه الأدبية على سلامة. (9) شعر الملاحم
وقد آن لنا الآن أن نصف من شعر شوقي القسم الذي هو فيه الشاعر الفرد والأسد الورد، وهو شعر الملاحم
épique
أو الشعر التاريخي الذي بذ فيه الأولين والآخرين، وسما وحلق في عيون جميع الناظرين، وإني برغم عصبيتي لصديقي محمود سامي باشا البارودي أقول إنه قد فاته هذا الغرض، ولم يقيض له الله هذه الفتوحات التي قيضها لشوقي، والتي ضارع فيها شعراء الإفرنج، وكفر عن سيئاته في المديح ومبالغاته إن كان لا بد أن يحسب ذلك عليه من السيئات.
وقد فرط شوقي إلى هذا الحوض من أول مرة وتنبه له في مقتبل عمره؛ ففي سنة 1894 أي بعد اجتماعنا في باريز بسنتين لا غير كانت له تلك الهمزية التي قالها عن وادي النيل وأنشدها في مؤتمر المستشرقين المنعقد في جنيف، وهي التي يقول فيها:
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء
ضرب البحر ذو العباب حوالي
ها سماء قد أكبرتها السماء
ورأى المارقون من شرك الأر
ض شباكا تمدها الدأماء
وجبالا موائجا في جبال
تتدجى كأنها الظلماء
ودويا كما تأهبت الخي
ل وهاجت حماتها الهيجاء
هذا البيت الأخير ينظر إلى قول المتنبي عن بحيرة طبرية:
والموج مثل الفحول مزبدة
تهدر فيها وما بها قطم
كأنها والرياح تضربها
جيشا وغى هازم ومنهزم
ثم يقول:
لجة عند لجة عند أخرى
كهضاب ماجت بها البيداء
وسفين طورا تلوح وحينا
يتولى أشباحهن الخفاء
نازلات في سيرها صاعدات
كالهوادي يهزهن الحداء
هذا من الوصف الذي يصح أن يكون مثلا في الإبداع وصحة التصوير، فتأمل عندما تكون في عرض البحر الخضم تنظر السفين عن بعد تارة تلوح لك أشرعتها من بعيد، وطورا تحدق فلا تراها من سعة اليم وارتفاع أمواج الخضم، وتأمل أيضا تشبيهه للسفن في صعودها ونزولها على ظهر الموج التي تتقاذفها بالإبل السائرة في البيداء، فراكب السفينة كراكب البعير لا يفتأ يشعر بنفسه صاعدا نازلا، ثم يقول وهو من أبدع ما قيل:
رب إن شئت فالفضاء مضيق
وإذا شئت فالمضيق فضاء
فاجعل البحر عصمة وابعث الرح
مة فيها الرياح والأنواء
أنت أنس لنا إذا بعد الأن
س وأنت الحياة والإحياء
يتولى البحار مهما ادلهمت
منك في كل جانب لألاء
وإذا ما علت فذاك قيام
وإذا ما رغت فذاك دعاء
فإذا راعها جلالك خرت
هيبة فهي والبساط سواء
والعريض الطويل منها كتاب
لك فيه تحية وثناء
لا تظهر عبقرية شوقي ظهورا باهرا مثلما تظهر في هذا النوع من الشعر، فلو قلت إن كل ما قاله شوقي في باب المديح وباب الرثاء وباب الحكايات لا يوازي هذه الأبيات لم أكن مبالغا، فكأن شوقي كلما علا الموضوع علا هو معه فلما رأى أمامه جلالة هذا الخلق العظيم وتأمل جلالة خالقه تعالى ارتفع به البيان إلى الدرجات العلا، وتعلق بسدرة المنتهى التي تليق بوصف تلك الجلالة. وأما الكتاب الذي يتكلم عنه وهو عبارة عن العريض الطويل من هذا الخلق العظيم الذي هو البحر، فإن لي حكاية هي من هذا الموضوع بسبيل.
كنت أيام الحرب مبعوثا لسورية في الآستانة دار الخلافة العثمانية تولاها الله برحمته، وكانت بيني وبين عبد الحق حامد بك الذي يقال له أديب الأتراك الأعظم مودة أكيدة ولم تنحصر في لحمة الأدب، بل تجاوزت إلى لحمة النسب؛ لأن أديب الأتراك الأعظم عربي الأصل ينتمي إلى عبد الحق السنباطي، وقد جاء سلفه إلى استانبول فاستتركوا، وكانت لي معه - فسح الله في أجله لأنه لا يزال حيا - مجالس نتناشد فيها الأشعار ونتناقل الآثار، وفي ذات يوم صادفته ذاهبا إلى إسماعيل حقي بك، من أدباء الترك كان واليا لبيروت يوم انتهت الحرب، وهو من مريدي عبد الحق حامد، فأخذ بيدي، وقال لي: تعال معي حتى نقرأ عليك شيئا من آثاري الجديدة. فمضيت معه حتى وافينا منزل إسماعيل حقي، وما استقر بنا الجلوس حتى بدأ إسماعيل حقي يتلو علينا رواية «طارق» التي منها ما هو نظم، ومنها ما هو نثر، وكل ذلك بالتركي، فوصلنا إلى مكان يسميه عبد الحق حامد «مناجاة» وهو أن طارقا يولي وجهه شطر السماء ويناجي ربه بأقوال يضرع بها إليه، ولست متذكرا منها الآن إلا قوله: يا رب ألم تقل لنا كذا وكذا في كتبك المنزلة؟ ألم تقل كذا وكذا بلسان الطبيعة التي هي أيضا من كتبك المنزلة؟ إلى آخر ما يقول، فلما وصل إلى هذه الجملة وهي أن الطبيعة هي من الكتب المنزلة، قلت أنا فورا: وربما كانت أقدمها، فاهتز لذلك عبد الحق حامد وقال لإسماعيل حقي: «أمان أمان بوني يازيكز.» أي بالله عليك اكتب هذه. وبقي يردد هذه النكتة وهي أن الطبيعة هي أقدم الكتب الإلهية، وبعد ذلك بمدة وجدت رسالة طارق مطبوعة وفي حاشية الفصل الذي اسمه «مناجاة» مكتوبة هذه الجملة: «وربما كانت هي أقدم الكتب المنزلة.» وبجانبها يقول: «هذه الجملة هي من الأمير شكيب أرسلان.» فقضيت العجب من أمانة هذا الشاعر الكبير الذي أبى أن ينسب هذا المعنى لنفسه وأصر على نسبته إلي بالصراحة بينما كثير من الشعراء والأدباء ينتحلون أقوالا لم يكونوا هم قائليها ويتبنون معاني قد يكون نجلها غيرهم، ولكن عبد الحق حامد أغنى من أن يسرق.
والشاهد هنا أن الخواطر تواردت وأن شوقي يرى البحر كتابا من كتب الله له فيه تعالى تحية وثناء، وأن عبد الحق حامد الذي هو في الترك كشوقي في العرب يرى في الطبيعة كتابا إلهيا أنزله الله ليقرأه عباده، وأن هذا العاجز يرى هذا الكتاب أقدم الكتب الإلهية؛ لأن الله خلق الطبيعة قبل أن بعث الأنبياء وأنزل عليهم الوحي، ثم يقول شوقي:
يا زمان البخار لولاك لم تف
جع بنعمى زمانها الوجناء
فقديما عن وخدها ضاق وجه ال
أرض وانقاد بالشراع الماء
وانتهت إمرة البحار إلى الشر
ق وقام الوجود فيما يشاء
وبنينا فلم يخل لبان
وعلونا فلم يجزنا علاء
وملكنا فالمالكون عبيد
والبرايا بأسرها أسراء
قل لبان بنى فشاد فغالى
لم يجز مصر في الزمان بناء
ليس في الممكنات أن تنقل الأج
بال شما وأن تنال السماء
أجفل الجن عن عزائم فرعو
ن ودانت لبأسها الآباء
يريد أن يقول إن الأولين كلما رأوا عجبا عدوه من صنعة الجن، وأن فرعون مع ذلك جاء بالأهرام التي لم ينسبها أحد إلى الجن، وهي أعجب وأصعب من كل ما نسب إلى الجن من بناء البشر، ثم يقول:
وقبور تحط فيها الليالي
ويوارى الإصباح والإمساء
تشفق الشمس والكواكب منها
والجديدان والبلى والفناء
فاعذر الحاسدين فيها إذا لا
موا فصعب على الحسود الثناء
زعموا أنها دعائم شيدت
بيد البغي ملؤها ظلماء
دمر الناس والرعية في تش
ييدها والخلائق الأسراء
أين كان القضاء والعدل والحك
مة والرأي والنهى والذكاء
وبنو الشمس من أعزة مصر
والعلوم التي بها يستضاء
فادعى ما ادعى أصاغر آثي
نا ودعواهم خنى وافتراء
يريد أن يقول إن يونان التي زعمت كون هذه الأهرام بنيت بالظلم والقسر على أيدي العبيد، وأنفقت عليها أموال الرعية إنما قالت ذلك حسدا ونفاسة لعجزهم عن مثلها، وإن قولها فحش وافتراء، ثم أثنى على الفراعنة الذين شيدوا تلك الأبنية الخالدة على الدهر تتحدى الزمان وتبارز الحدثان، وقال: إن تلك الدولة قد انتقلت إلى أناس خالفوا سنن من قبلهم وهم ملوك الرعاة فساموا مصر العذاب، فتراه يقول في هؤلاء:
وإذا مصر شاة خير لراعي الس
وء تؤذى في نسلها وتساء
قد أذل الرجال فهي عبيد
ونفوس الرجال فهي إماء
ولقوم نواله ورضاهم
ولأقوام القلى والجفاء
ففريق ممتعون بمصر
وفريق في أرضهم غرباء
إن ملكت النفوس فابغ رضاها
فلها ثورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأس
ر فكيف الخلائق العقلاء
يعني براعي السوء أحد الملوك الرعاة الذين يقال لهم الهكسوس، والذين شوقي يقول فيهم:
أعلنت أمرها الذئاب وكانوا
في ثياب الرعاة من قبل جاءوا
وبعد أن وصف هذه الدولة بما وصفها به من استعباد مصر التفت فنصح الإنجليز الذين يحتلونها اليوم مستبدين، فقال لهم: إن كنتم ترون أنفسكم قد تغلبتم على أهل مصر فلا ينبغي أن تأمنوا انتقاضهم بعد خضوعهم لكم بالقوة، فإن للنفوس ثورة ومضاء، وإن الوحش تتحرك لتتفلت من القيود فكيف لا تتحرك البشر لتحطيم القيود؟ وليس لي اعتراض هنا إلا على قوله يسكن الوحش للوثوب من الأسر ... إلخ، فإن السكون والوثوب لا يقترنان ولو أنه قال ينزع الوحش للوثوب من الأسر لكان أقعد.
ثم أتى شوقي على تاريخ رمسيس وسيزوستريس وأشاد بذكرهما إشادة تجدر بعظمة مصر في تلك الأعصر الخوالي، وما زال إلى أن وصل إلى قمبيز ملك الفرس الذي استولى على مصر وجعل أعزة أهلها أذلة، ووصف ما حل بملوك مصر، فقال:
بنت فرعون بالسلاسل تمشي
أزعج الدهر عريها والحفاء
فكأن لم ينهض بهودجها الده
ر ولا سار خلفها الأمراء
أعطيت جرة وقيل إليك الن
هر قومي كما تقوم النساء
فمشت تظهر الإباء وتحمي الد
مع أن تسترقه الضراء
والأعادي شواخص وأبوها
بيد الخطب صخرة صماء
فأرادوا لينظروا دمع فرعو
ن وفرعون دمعه العنقاء
فأروه الصديق في ثوب فقر
يسأل الجمع والسؤال بلاء
فبكى رحمة وما كان من يب
كي ولكن ما أراد الوفاء
يريد أن يقول إن فرعون لم تبدر له دمعة لما رأى ابنته تحمل الجرة وتذهب إلى النهر لتستقي كإحدى الإماء، ولكنه لما رأى أحد أصدقائه يسأل الناس من فقره أجهش ولم يملك دمعه، وما كان سريع الدمعة ولكن الوفاء غلب عليه.
ثم ذكر كيف أن الإسكندر غلب على مصر وأزال منها حكم الفرس فقال:
طلبة للعباد كانت لإسكن
در في نيلها اليد البيضاء
شاد إسكندر لمصر بناء
لم تشده الملوك والأمراء
بلدا يرحل الأنام إليه
ويحج الطلاب والحكماء
والجواري في البحر يظهرن عز ال
ملك والبحر صولة وثراء
والرعايا في نعمة ولبطلي
موس في الأرض دولة علياء
يقول إن مصر في عهد البطالسة صارت دار علم وحكمة، واستراحت فيها الرعايا وغلظ أمرها، وكان لها أسطول حربي وأسطول آخر تجاري عبر عنهما بقوله: «والبحر صولة وثراء.» ثم ذكر خراب دولة البطالسة بمجيء كليوباترة، فقال:
ضيعت قيصر البرية أنثى
يا لربي مما تجر النساء
فتنت منه كهف روما المرجى
والحسام الذي به الاتقاء
فأتاها من ليس تملكه أن
ثى ولا تسترقه هيفاء
أشار كيف لعبت كليوباترة بقلب قيصر، ثم بقلب أنطونيوس حتى جاءها أوكتافيوس الذي لم يؤثر فيه جمالها، فغلب عليها وانتحرت بأن وضعت حية على صدرها وهو ما أشار إليه بقوله:
سلبتها الحياة فاعجب لرقطا
ء أراحت منها الورى رقطاء
ثم جاء هنا بالمقطع الذي هو بيت القصيد، والذي لم أزل أبحث في شعر المعاصرين فلا أجد ما يدانيه، ولو كان شوقي لم يقل غيره لكان كافيا لمجده وأجره، ولجزاه دنيا وآخرة، تأمل في هذا المفصل المدهش في جلالة معناه وجزالة مبناه، قال:
رب شقت العباد أزمان لا كت
ب بها يهتدى ولا أنبياء
ذهبوا في الهوى مذاهب شتى
جمعتها الحقيقة الزهراء
فإذا لقبوا قويا إلها
فله بالقوى إليك انتهاء
وإذا آثروا جمالا بتنزي
ه فإن الجمال منك حباء
وإذا أنشئوا التماثيل غرا
فإليك الرموز والإيماء
وإذا قدروا الكواكب أربا
با فمنك السنا ومنك السناء
وإذا ألهوا النبات فمن آ
ثار نعماك حسنه والنماء
وإذا يمموا الجبال سجودا
فالمراد الجلالة الشماء
وإذا تعبد الملوك فإن ال
ملك فضل تحبو به من تشاء
وإذا تعبد البحار مع الأس
ماك والعاصفات والأنواء
وسباع السماء والأرض والأر
حام والأمهات والآباء
لعلاك المذكرات عبيد
خضع والمؤنثات إماء
أراد شوقي أن يسرد تاريخ ديانات أهل مصر، فقال: إنهم قبل أن تنزل الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن تحيروا في العبادة وذهبوا مذاهب شتى يجمعها حقيقة واحدة هي الاعتقاد بالله، ولكنهم نشدوه من طرق مختلفة؛ فهذا يعبد القوي وذاك يعبد الجميل وذلك ينحت التماثيل، ومنهم من عبدوا الكواكب، ومنهم من قدسوا الأشجار، ومنهم من انحنوا للجبال، ومنهم من ألهوا الملوك، ومنهم من سجدوا للبحار والأسماك والعواصف والطير والوحش وغير ذلك، وكل المراد المقصود المنشود هو الحقيقة الإلهية. كأنما شوقي يعتذر عن تنوع عباداتهم هذه وتسفل بعضها حتى صارت إلى الحيوانات بجهل الناس هناك الطريق القويم لعدم وجود الدليل، فكانت عقول الخلق في طفوليتها وكانوا يخشون ويرجون ويفزعون ويضرعون، ولا ينزل عليهم وحي يعرفون أنه الحق فيعولوا عليه، وما زالوا في هذه الحيرة حتى جاءت الرسل فأنارت الطريق وحصحص الحق. وقد قدم شوقي هذا الاعتذار عن تخبط البشر في عقائدهم بقوله: يا رب إننا عشقناك وهمنا وراءك في كل مكان فلا عجب أن كنا ضللنا السبل:
رب هذي عقولنا في صباها
نالها الخوف واستباها الرجاء
فعشقناك قبل أن تأتي الرس
ل وقامت بحبك الأعضاء
واتخذنا الأسماء شتى فلما
جاء موسى انتهت لك الأسماء
ثم ذكر كيف أن فرعون ربى موسى، واعتمد على وفائه فخانه موسى لأجل ربه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقال:
ظن فرعون أن موسى له وا
ف وعند الكرام يرجى الوفاء
لم يكن في حسابه يوم ربى
أن سيأتي ضد الجزاء الجزاء
فرأى الله أن يعق ولله
تفي لا لغيره الأنبياء
مصر موسى عند انتماء وموسى
مصر إن كان نسبة وانتماء
فبه فخرها المؤيد مهما
هز بالسيد الكليم اللواء
فقد خرجنا هنا بالمصريين من عهد الرموز والتماثيل والعبادات المتنوعة والآلهة أشكالا وألوانا إلى عبادة الواحد الأحد الذي دل عليه موسى عليه السلام، فوضع أساس الشريعة الإلهية، ثم تلاه عيسى - عليه السلام - أيضا فوصف شوقي مولد عيسى - عليه السلام - بما لا أظن عيسويا على وجه الأرض قال أحسن منه ولا مثله، ألا ترى أنه ليس فيمن ينطق بالضاد من مسلم ومسيحي تقريبا من يجهل هذه الأبيات:
ولد الرفق يوم مولد عيسى
والمروءات والهدى والحياء
وازدهى الكون بالوليد وضاءت
بسناه من الثرى الأرجاء
وسرت آية المسيح كما يس
ري من الفجر في الوجود الضياء
تملأ الأرض والعوالم نورا
فالثرى مائج بها وضاء
لا وعيد لا صولة لا انتقام
لا حسام لا غزوة لا دماء
ملك جاور التراب فلما
مل نابت عن التراب السماء
وأطاعته في الإله شيوخ
خشع خضع له ضعفاء
أذعن الناس والملوك إلى ما
رسموا والعقول والعقلاء
فلهم وقفة على كل أرض
وعلى كل شاطئ إرساء
دخلوا ثيبة فأحسن لقيا
هم رجال بثيبة حكماء
فهموا السر حين ذاقوا وسهل
أن ينال الحقائق الفهماء
فإذا الهيكل المقدس دير
وإذا الدير رونق وبهاء
وإذا ثيبة لعيسى ومنفي
س ونيل الثراء والبطحاء
إنما الأرض والفضاء لربي
وملوك الحقيقة الأنبياء
لهم الحب خالصا من رعايا
هم وكل الهوى لهم والولاء
إنما ينكر الديانات قوم
هم بما ينكرونه أشقياء
بعد أن ذكر مجيء موسى بالشريعة الإلهية جاء الدور إلى عيسى فقال إنه بمولده ولد الرفق والحياء والمروءة وانتشر النور في الأرض، وكانت شريعة ليس فيها شيء غير اللين والعطف واللطف وتحمل الأذى وحب الأعداء والعفو عن الذنب وعدم مقابلة الشر بالشر، وقد عاش عيسى - عليه السلام - ما عاش إلى أن رفعه ربه إلى السماء، فناب عنه في الأرض الحواريون وهم قوم ضعفاء مساكين صيادو سمك أطاعوه فصاروا بطاعتهم له سادة الأرض، وخضعت لهم الملوك والقياصرة فضربوا في البلاد وقطعوا البحار ونزلوا بكل شاطئ، وجاء أحدهم «مرقص» فدخل ثيبة إحدى عواصم مصر فتلقاه أهلها وكانوا حكماء فذاقوا الكلام الذي جاء به مرقص واتبعوا ذلك النور الذي معه، وليس بعجب أن يفهم الحكمة الحكماء فردوا هياكلهم كنائس وصارت مصر لعيسى، وحقيقة الأمر أن ملوك العالم هم الأنبياء فالناس تطيعهم من دون الملوك؛ لأن طاعة الأنبياء تخالط القلب وطاعة الملوك لا تخالط إلا الجسم، والأنبياء لهم الباطن والملوك لهم الظاهر، وما أنكر الأديان قوم إلا شقوا بما أنكروه، ثم قال:
هرمت دولة القياصر والدو
لات كالناس داؤهن الفناء
ليس تغني عنها البلاد ولا ما
ل الأقاليم إن أتاها النداء
نال روما ما نال من قبل آثي
نا وسيمته ثيبة العصماء
سنة الله في الممالك من قب
ل ومن بعد ما لنعمى بقاء
أراد شوقي هنا أن يذكر هرم الدولة الرومانية وأن الدول تهرم كما يهرم الرجال حسبما قال ابن خلدون، وأنها لا يغني عنها كثرة الملك والمال إذا أتاها أمر ربها
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، فرومة نالها ما نال من قبلها آثينا عاصمة يونان وثيبة عاصمة مصر، ولم تكن دولة تبقى إلى الأبد، ولما هرمت الدولة الرومانية انتشرت في نواحيها الضلالة ففتك بها الجهل، وتشعبت المذاهب، وأخذ الناس يقتتلون على العقائد، وعادوا إلى مثل الوثنية الأولى، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، فرأى الله أن لا بد من القوة لإقامتهم على الحق، وأنه لا بأس بالسيف إذا لم ينجع الوعظ ولم تغن النذر، وقد يقطع الطبيب عضوا من الجسم لسلامة سائر الأعضاء، فقال شوقي وقد جعل هذه الحالة توطئة لظهور محمد عليه الصلاة والسلام:
وتولى على النفوس هوى الأو
ثان حتى انتهت له الأهواء
فرأى الله أن تطهر بالسي
ف وأن تغسل الخطايا الدماء
وكذاك النفوس وهي مراض
بعض أعضائها لبعض فداء
لم يعاد الله العبيد ولكن
شقيت بالغباوة الأغبياء
وإذا جلت الذنوب وهالت
فمن العدل أن يهول الجزاء
أشرق النور في العوالم لما
بشرتها بأحمد الأنبياء
باليتيم الأمي والبشر المو
حى إليه العلوم والأسماء
فهو يقول: إن الله لا يريد لعباده إلا الخير ولكن بعض عباده أصروا على المعاصي ومردوا على النفاق. وإذا كانت الذنوب عظيمة وأعظمها هو الشرك فمن العدل أن تقمع بالسيف؛ إذ لا حيلة فيمن كانت قلوبهم غلفا وآذانهم صما؛ ولذلك أرسل الله الرسول العربي اليتيم الأمي الذي أنزل عليه الفرقان فمحا الشرك وشدخ يافوخ الكفر، وقد كنت أحب أن يستعمل شوقي محل قوله: فمن العدل أن يهول الجزاء، قوله: فمن العدل أن يجل الجزاء؛ لأن جزاء تلك الذنوب التي عددها لم يكن قاسيا هائلا بالنسبة إليها. وكان ينبغي لشوقي أن يذكر مبدأ الرسالة المحمدية بالنصح، والقول الحسن، ودعوة الناس إلى الحق مدة مديدة من الزمن ليس فيها بأس ولا شدة ولا شيء يختلف عن دعوة عيسى لقومه، إلى أن أصر المشركون على عنادهم وحاولوا قتل الرسول الأمين لأجل بلاغه المبين، فهاجر إلى قوم نصروه وآزروه حتى لا تموت الدعوة ولا تذهب الحقيقة ضحية أهواء ذوي السلطة وأنصار الضلالة، فلم يقع الجزاء إلا بعد أن انقطع الرجاء وما كان إلا جزاء وفاقا.
ثم قال:
قوة الله إن تولت ضعيفا
تعبت في مراسه الأقوياء
أشرف المرسلين آيته النط
ق مبينا وقومه الفصحاء
لم يفه بالنوابغ الغر حتى
سبق الخلق نحوه البلغاء
وأتته العقول منقادة اللب
ولبى الأعوان والنصراء
جاء للناس والسرائر فوضى
لم يؤلف شتاتهن لواء
وحمى الله مستباح وشرع الله
والحق والصواب وراء
فلجبريل جيئة ورواح
وهبوط إلى الثرى وارتقاء
يحسب الأفق في جناحيه نورا
سكنته النجوم والجوزاء
تلك آي الفرقان أرسلها الله
ضياء يهدي بها من يشاء
نسخت سنة النبيين والرس
ل كما ينسخ الضياء الضياء
وحماها غر كرام أشدا
ء على الخصم بينهم رحماء
قال: إن الله إذا تولى ضعيفا لم تقدر على مقاومته الأقوياء، ومن ينصره الله فلا غالب له، وهو يشير إلى قوله تعالى:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين
وقال: إن محمدا هو أشرف المرسلين، وإن الله بعث كل رسول بآية، وإن آية محمد - عليه السلام - كانت النطق المبين؛ لأنه بعث في قوم فصحاء، لسانهم أفصح الألسنة، وقرائحهم أصفى القرائح، فهم أقرب أن يتأثروا بالفصاحة من كل قبيل؛ ولذلك لم يفه الرسول بتلك الكلمات النوابغ حتى أقبل البلغاء عليه قبل غيرهم وانقادوا له، وقد كان الناس أوانئذ في شقاق بعيد وفي ارتكاب محارم؛ يئدون بناتهم ولا يعلمون حلالا ولا حراما، وكان يتسلط قويهم على ضعيفهم ويجعلون الحق دبر آذانهم؛ فنزل جبريل على محمد
صلى الله عليه وسلم
بالشريعة التي ألفت بين قلوبهم وجعلتهم إخوانا وطهرت خلائقهم من تلك الآثام التي كانوا منغمسين فيها، ونقلتهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، وذلك كله بآيات القرآن الذي نسخ ما قبله لا نسخ ضياء لظلام بل نسخ ضياء لضياء؛ لأن شريعة موسى كانت حقا فجاءت شريعة عيسى فأكملتها ولأن شريعة عيسى كانت حقا فطرأت عليها طوارئ فجاءت شريعة محمد فقومتها وأعادتها إلى أصلها.
قال: وقد تولى حماية هذه الشريعة الجديدة صحابة للرسول كرام
أشداء على الكفار رحماء بينهم
ثم قال:
أمة ينتهي البيان إليها
وتئول العلوم والعلماء
كلما حثت الركاب لأرض
جاور الرشد أهلها والذكاء
وعلا الحق بينهم وسما الفض
ل ونالت حقوقها الضعفاء
تحمل النجم والوسيلة والمي
زان من دينها إلى من تشاء
وتنيل الوجود منه نظاما
هو طيب الوجود وهو الدواء
يرجع الناس والعصور إلى ما
سن والجاحدون والأعداء
فيه ما تشتهي العزائم إن هم
ذووها وتشتهي الأذكياء
فلمن حاول النعيم نعيم
ولمن آثر الشقاء شقاء
أيرى العجم من بني الظل والما
ء عجيبا أن تنجب البيداء
وتثير الخيام آساد هيجا
ء تراها آسادها الهيجاء
ما أنافت على السواعد حتى ال
أرض طرا في أسرها والفضاء
تشهد الصين والبحار وبغدا
د ومصر والغرب والحمراء
يقول: إن الأمة العربية أمة ينتهي إليها البيان، وتجد فيها العلوم صدورا منشرحة فهي تقبل عليها بطبيعتها، وتقيم وزنا للعلماء حيث كانوا، فكانت كلما استولت على قطر اهتز العلم فيها وربا، ونشأ فيه العلماء الفحول، وعلت راية الحق، ونال كل إنسان ما يستحقه بعمله واضمحلت الطبقات، وارتفعت الفروق، وعلم الناس أنهم شرع في نظر الشرع، وأن أكرمهم عند الله أتقاهم، وأن الملك والسوقة سواء، وأن جبلة الأيهم إذا لطم الأعرابي يقاد منه في الحال، وأن الحد الشرعي يقام على الجميع من دون مراعاة وعلى ابن الخليفة، وأن الرسول يهتف قائلا: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لأمرت بقطع يدها.» وأن عمر يقول: «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى القرابة، وليعمل لما عند الله، فإن من قصر به عمله لا يسرع به نسبه.» وأن الرسول كان يقيد من نفسه، وأن عمر كان يقيد من نفسه، وأن عليا كان يساوي اليهودي في القضاء؛ فكانوا يصدعون لمبادئ القرآن ويطبقونها على الكبير والصغير، وصادف أن الدولة الفارسية والدولة الرومانية كانتا قد أسرع إليهما الفساد وضاعت فيهما الحقوق وعلا القوي فوق الضعيف ، فما ظهر الإسلام حتى انهارت الأولى لديه انهيارا تاما وتقلصت الثانية أمامه تقلصا أورث الإسلام ثلثي ممالكها، فالعرب حملوا العدل الذي في دينهم إلى الأمم التي استولوا عليها، وأثاروا فيها حب العمران والسعي في مناكب الأرض، وصار هذا الدين نظاما للوجود يرجع الناس إليه في أمور الدنيا والعقبى، ولم يكن بدين آخرة فحسب، بل كان ناظما للدنيا والأخرى معا؛ أحل الله فيه الطيبات ويسر ما تشتهي نفوس الأذكياء، وإنما حرم الإسراف والخيلاء والإثم والاعتداء والمشي في الأرض مرحا، فهو دين بر بمن بره، صارم على من عقه، ثم قال:
ولم يكن عجبا أن أبناء الصحراء يفوقون أبناء الظل والماء ويبتزون منهم ممالكهم، فطالما كانت الصحارى مواطن الآساد، فما ثارت هذه الآساد من بادية العرب حتى رأينا الأقطار تنتظم في ملكهم من الصين شرقا إلى المغرب والأندلس غربا، ثم قال:
من كعمرو البلاد والضاد مما
شاد فيها والملة الغراء
شاد للمسلمين ركنا جساما
ضافي الظل دأبه الإيواء
طالما قامت الخلافة فيه
فاطمأنت وقامت الخلفاء
فابك عمرا إن كنت منصف عمرو
إن عمرا لنير وضاء
جاد للمسلمين بالنيل والني
ل لمن يقتنيه أفريقاء
فهي تعلو شأنا إذا حرر الني
ل وفي رقه لها إزراء
لم يكن لشوقي بد من ذكر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو فاتح وادي النيل للإسلام وممتعه بتلك النعم الجسام. قال شوقي: إن العروبة والإسلام كانا في مصر من غرس يدي عمرو، وإنه جعل من مصر ركنا للملة الإسلامية تأوي إليه وتدر خيراتها عليه، فإذا مست المجاعة أهل المدينة - دار الخلافة وقتئذ - أغاثها عمرو بالأرزاق المتصلة من وادي النيل، قال: ففضل عمرو على الإسلام لا حد له؛ لأنه ملك المسلمين النيل والنيل هو إفريقيا، وكفى بذلك وصفا لعظمة العمل الذي قام به عمرو بن العاص.
ويظهر أن شوقي استطال تاريخ مصر في الإسلام فلم يشأ أن يعرج منه إلا بالحادثات الكبر وطوى دور الأمويين في مصر ودور بني العباس، فلم يقل شيئا عن آل طولون ولم يعرج على الفاطميين، مع أنه كانت لهم دولة زاهرة لمعت ردحا من الدهر، ولعله تجانف عن ذكرهم بحيدهم عن طريق السنة والجماعة. وبالجملة فقد قفز شوقي من زمن عمرو بن العاص طفرة واحدة إلى زمن صلاح الدين الأيوبي، فقال:
واذكر الغر آل أيوب وامدح
فمن المدح للرجال جزاء
هم حماة الإسلام والنفر البي
ض الملوك الأعزة الصلحاء
كل يوم بالصالحية حصن
وببلبيس قلعة شماء
وبمصر للعلم دار وللضي
فان نار عظيمة حمراء
ولأعداء آل أيوب قتل
ولأسراهم قرى وثواء
يعرف الدين من صلاح ويدري
من هو المسجدان والإسراء
إنه حصنه الذي كان حصنا
وحماه الذي به الاحتماء
أشار إلى ما كان عليه بنو أيوب من الحمية وعزة النفس الإسلامية والصلاح والجهاد، وأنهم كانوا يبنون الحصون ويشيدون دور العلم، ويقرون الضيوف ويوقدون نار الوغى للأعداء ونار القرى للقصاد، ويكرمون أسراهم شأن الأبطال الكرماء، وأن الدين الإسلامي يعرف مقام صلاح الدين من حمايته، وأن الحرم الثلاثة تعرف خدمته العظيمة. أشار بقوله المسجدان إلى مكة والمدينة وبقوله الإسراء إلى القدس الشريف، وقال إنه كان حصنا للقدس وحمى لذلك الحمى، ثم أتي على ذكر الحرب الصليبية لأنها من الملاحم الكبرى فقال:
يوم سار الصليب والحاملوه
ومشى الغرب قومه والنساء
بنفوس تجول فيها الأماني
وقلوب تثور فيها الدماء
يضمرون الدمار للحق والنا
س ودين الذين بالحق جاءوا
ويهدون بالتلاوة والصل
بان ما شاد بالقنا البناء
فتلقتهم عزائم صدق
نص للدين بينهن خباء
مزقت جمعهم على كل أرض
مثلما مزق الظلام الضياء
وسبت أمرد الملوك فردت
ه وما فيه للرعايا رجاء
ولو ان المليك هيب أذاه
لم يخلصه من أذاها الفداء
هكذا المسلمون والعرب الخا
لون لا ما تقوله الأعداء
فبهم في الزمان نلنا الليالي
وبهم في الورى لنا أنباء
ليس للذل حيلة في نفوس
يستوي الموت عندها والبقاء
من أحسن مزايا شوقي رسوخه في اللغة؛ فهو يقول: «قومه والنساء» وذلك لأن القوم هم جماعة الرجال خاصة؛ لأنهم يقومون بعظائم الأمور.
وقد قابل القوم بالنساء كأنه يقول : ومشى الغرب رجاله والنساء وقد كانوا في حرب الصليب جاءوا بالفعل رجالا ونساء.
أما النساء فمنهن من كن قد جئن مع أزواجهن، ومنهن من كن قد استجلبن للرفث، وكان هذا الجيش من النساء كثيرا في جيش الإفرنج، وقد وصفهن العماد الأصفهاني الكاتب في الفتح القدسي بأسجاعه المعهودة وجناساته المعروفة وصفا يلذ المجان، ولكنه ينبئ بحقيقة تاريخية تدل على أن هذا الأمر قديم العهد في جيوش الإفرنج.
ثم إن شوقي يشير كيف جاء الصليبيون بنفوس ملأى بالأماني، وصدور مفعمة بالأحقاد يريدون أن يقضوا على الإسلام ويخنقوا كل من دان به، وأن يهدموا الحق وأن يدمروا من جاء بالحق.
وقال: إنهم لما هاجموا بلاد الإسلام تلقتهم من المسلمين عزائم صادقة نهض بها الدين فنثرت جموعهم على كل أرض، وأسرت في بعض هذه الحروب لويس التاسع ملك فرنسا الذي يقال له القديس لويس، وانقطع أمل قومه منه، ولكنه فدى نفسه بالمال بعد مدة من أسره، ولو كان المسلمون خافوا عاقبة إطلاقه ما قبلوا منه الفدية، ولكنهم كانوا أوثق بأنفسهم وأعظم اتكالا على الله من أن يخافوا عاقبة تسريح ملك من ملوك أوروبا.
قال: وكان هكذا المسلمون من العز والمنعة، وعطف على قوله: «المسلمون» بقوله: «والعرب الخالون» من باب التخصيص على حد
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وأنهم لم يكونوا كما يصورهم الإفرنج للناس، وأننا بهم سدنا في العالم زمنا طويلا، وورثنا ما ورثناه من تاريخ مجيد، وقال: إذا استوى عند أمة الموت والحياة فلا حيلة فيها للعدو، وهو من قبيل:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولا بد لي هنا من الوقوف بعض الشيء، بل من الاعتراض على شوقي - رحمه الله - فقد قصر المسافة بين زحف الصليبيين وبين تلقي المسلمين لهم بعزائم الصدق، والحال أن بين العهدين حقبة يصح أن تسمى دهرا؛ وذلك أن أول وقعة أصلتها الجموع الصليبية الجيش الإسلامي كانت واقعة نيقية في الأناضول التي وقعت بين الصليبيين والترك، وفاز بها الصليبيون واسترجعوا نيقية وتاريخها 26 يونيو سنة 1097، ومنذ ذاك اليوم إلى واقعة «حطين» التي قضت على دول الصليبيين في الشرق تسعون سنة كان فيها الصليبيون يسرحون ويمرحون في ظل فوضى الإسلام ومشاقة بنيه بعضهم لبعض، فإنه ما رأى الراءون ولا روى الراوون ولا يمكن أن يتصور العقل مهما كان واسعا ولا الخيال مهما كان خصبا درجة الفوضى التي كانت عليها الدول الإسلامية وقتما زحف الصليبيون إلى الشرق، ففي كل بلدة أمير ثائر على سلطانه، وفي كل قصبة شيخ ثائر على أميره، وفي كل قطر دولة تناوئ أختها، وفي كل مملكة وزراء يمدون أيديهم في الخفاء إلى أعداء دولتهم، والفاطميون في مصر حرب على العباسيين في بغداد والسلاجقة حرب بعضهم على بعض بين فرع ألب أرسلان أصحاب فارس وفرع قطولش أصحاب قونية والأناضول وجميع السلاجقة أعداء للدانشمنديين أصحاب شرقي الأناضول. وهذا كله سهل لا يعد شيئا بالقياس إلى فوضى سورية التي كان كل من فيها تقريبا يريد أن يكون مستقلا.
فالشام في يد دقاق السلجوقي، وحلب في يد رضوان أخيه، وهما يقتتلان برغم أنهما أخوان، وحماة في يد أمير، وحمص في يد أمير آخر، وطرابلس لها أمراء، وفلسطين يتقاسمها الفاطميون والسلاجقة، ولا يقيم العامل في عمله أكثر من أشهر معدودة حتى يثور على دولته طمعا في الاستقلال. ولا يوجد قائد حصن إلا وهو يأبى أن تكون فوق يده يد، وقد جاء الصليبيون فارتكبوا من الذبح والفتك والقتل العام وحصد الرءوس بلا استثناء واستئصال الأهالي المسالمين كالمحاربين وإتلاف النساء والأطفال والشيوخ والأسرى والتجاوز على الأعراض وإنزال المعرات ببيوت الصون والستر ما لا رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على بال، وأسالوا من الدماء في أنطاكية ومعرة النعمان وحارم وتل باشر وعزاز والرها وسروج وشيزر وحماة واللاذقية وطرابلس وبيروت ويافا وعسقلان وعكا ما لا تصف هوله الألفاظ ولا تبلغ كنهه العبارات. والطامة الكبرى في القدس؛ حيث تعترف تواريخهم نفسها بأن الخيل غاصت في الدماء إلى صدورها، وتواريخ العرب تقول إن الذين ذبحهم الصليبيون في المسجد الأقصى كانوا سبعين ألفا بينهم النساء والأطفال.
وكل هذا لم يكن كافيا في نظر المسلمين مدة تسعين سنة أن يتحدوا في وجه العدو، وأن يتركوا الشقاق والعداء فيما بينهم، ويتخلصوا من هذه المجازر المستمرة التي كان الإفرنج يرتكبونها فيهم ويفتنونهم - لا في كل عام بل في كل يوم - مرة أو مرتين وهم لا يدكرون، بل كانوا يمدون أيديهم لمعاهدة الإفرنج، وقد يجتمعون معهم على إخوانهم وجيرانهم ويكون الإفرنج قد قفلوا من بلدة للمسلمين فتحوها واستأصلوا جميع من فيها فيأتي إليهم أمير من أمراء المسلمين وهم غائصون في دماء المسلمين يعاهدهم ويمشي معهم على أمير آخر من قومه كأنه لم يفعل شيئا.
ولما فتح الصليبيون أنطاكية وذبحوا تلك الألوف المؤلفة من مسلمي أنطاكية وما يجاورها كانت الدولة الفاطمية ترسل وفدا من القاهرة لتهنئة الصليبيين بهذا الفتح العظيم وتعرض عليهم الحلف، وكان الصليبيون قد ظفروا بالمسلمين في إحدى الوقائع يوم كان الوفد الفاطمي ضيوفا عندهم، فأرسل أمراء الصليبيين إلى الوفد الفاطمي ثلاثمائة رأس من رءوس قتلى المسلمين ينفحون الوفد بها ويكرمونه بمشاهدتها، كما لو قدموا لهم شيئا من الفاكهة مثلا، وكان الفاطميون يظهرون سرورهم بذلك الفوز الصليبي، وكان الأمراء بنو عمار أصحاب طرابلس ينصحون الخدمة للصليبيين ولولاهم لانكسر بودوين الأول عندما كان في شمالي سورية، ومن أمثال هذه النوادر أشياء لا تدخل تحت الإحصاء قد استقصيتها كلها من كتب العرب وكتب الإفرنج معا ومحصتها تمحيصا لا يدع مكانا لعارض شك ينقدح في صحتها.
ولم تكن هذه الحوادث عبارة عن فلتات جاءت على خلاف القياس أو وقعت في الأحايين من غير انتباه، بل استمرت هذه الفوضى الإسلامية بشكل لا يمكن عقل عاقل أن يدرك مداه مدة ستين إلى سبعين سنة، وما كفى تمزيق المسلمين بعضهم لبعض حتى نجمت منهم فرقة الإسماعيلية الحشاشين وتمالئوا مع الإفرنج، وصار هؤلاء كلما خشوا عادية أمير مسلم يرون فيه خطرا عليهم أو يبدو لهم منه أنه يسعى في جمع شمل الإسلام رموه بهؤلاء الحشاشين فذهب هؤلاء واغتالوه، وقد يكونون في هذه المؤامرة في اتفاق مع أناس من ملوك المسلمين؛ وذلك كما اغتيل مودود قائد الجيش السلجوقي الذي جاء لاستنقاذ مسلمي سورية فخاف طغطكين أمير دمشق من مغبة الأمر، وأرسل من اغتاله في الجامع الأموي وهو يصلي، وكان ذلك بتواطؤ بين طغطكين والصليبيين، وكما اغتيل برسق صاحب حلب والموصل وهو يصلي في جامع الموصل وكان من كبار المجاهدين. وكثيرا ما جاءت جيوش جرارة من آل سلجوق مجتمعة من فارس والعراق والجزيرة؛ لأجل استخلاص سورية من أيدي الإفرنج فلم تكن تصل هذه الجيوش إلى سورية حتى تجد كثيرا من أمراء المسلمين في سورية قد انحازوا إلى الإفرنج ووقفوا صفا واحدا معهم في وجه تلك الجيوش الآتية لاستنقاذهم وقاتلوها أشد قتال، ثم ترجع هذه الجيوش إلى بلادها وتترك المسلمين في سورية بإزاء الإفرنج فيعود الإفرنج ويكرون على المسلمين وينقضون العهد الذي كانوا عاهدوهم إياه ويذبحون الرجال والنساء والأطفال ثم لا تجد المسلمين يتوبون ولا يذكرون، ولا تجد مع ذلك أمراء الإسلام في سورية مستفيدين أي عبرة من نكث الإفرنج المتكرر، ولا متناهين عن غيهم وغرامهم بالشقاق وقتال بعضهم بعضا.
وإني لأجد هذا الشقاق في كل أمة، ولا يخلو منه مكان وقد وقع بين الصليبيين أنفسهم، ولكن إن كان الشقاق عاما فلا شك في أن تسعة أعشاره هي عند المسلمين والعشر الواحد عند سائر الأمم بأجمعها، وإن فسح لي الوقت لأكتبن كتابا وأسميه «الفوضى الإسلامية وما جنته على المسلمين، والوحدة الإسلامية وما جنته للمسلمين» وحسبك أن الصليبيين بعد فتحهم للقدس رجع أكثر المقاتلة منهم إلى بلادهم، قيل إنه رجع منهم عشرون ألف مقاتل فلم يبق في القدس إلا عدة مئات لا غير؛ أي كان بيت المقدس بقي بلا حامية وكانوا أوانئذ لو جمعوا جميع جند الصليبيين في سورية لما زادوا على أربعة أو خمسة آلاف، وهم مع ذلك أشتات في كل بلدة منهم شرذمة يسيرة، ومع هذا فإن فوضى المسلمين قد كلفت للصليبيين البقاء والاطمئنان ولم تحدثهم أنفسهم بأن يتحدوا على هذه الشراذم المشتتة ويخلصوا بلادهم من العبودية لها.
وما زال هذا الأمر على هذه الصفة التي ليس لها مثال في التاريخ حتى ظهر عماد الدين زنكي وهو عامل من عمال السلاجقة، فكان أول واضع لأساس الوحدة السورية في وجه الصليبيين بعد أن أدب ملوك الطوائف من المسلمين، وتلاه ابنه نور الدين العادل الشهير الذي وطد تلك الوحدة فتمكن من الإيقاع بالصليبيين، وأراهم أن في السويداء رجالا، ثم تلاه صلاح الدين يوسف فكان ما كان مما لا يحتاج إلى بيان.
وقد حذف شوقي هذا القسم المؤلم المخجل المدمي للقلوب من تاريخ الإسلام في قصيدته هذه وطوى هاتيك الحقبة التاعسة التي وصمت الإسلام بالعار وأدهشت الإفرنج أنفسهم مما رأوا من تخاذل المسلمين، وجاء رأسا ينوه بعزائم صلاح الدين ورهطه التي بدلت الأرض غير الأرض ورأى فيها الإفرنج من الإسلام غير الإسلام الذي عرفوه من قبل.
ولراقم هذه السطور قصيدة في صلاح الدين هي من شعر الملاحم نظمتها؛ إذ أنا في طبرية سنة 1902 ومطلعها:
أحسن ما فيه يسرح النظر
واد بحيث الأردن ينفجر
وقد كانت مجلة المقتطف نشرتها في حينها ثم أعادت جريدة الفتح نشرها في العام الماضي، وهي ستظهر في ديواني الذي هو الآن تحت الطبع؛ فلذلك لا أجد داعيا لإعادتها هنا برمتها ولكني أذكر منها بعض أبيات:
أسس عيسى هنا شريعته
وقوم موسى توراتهم فسروا
وفي حروب الصليب قد رفعت
رايات دين الذي نمت مضر
وقبل أن دخلت في تاريخ صلاح الدين وجدت فرضا ذكر المقدمة التي مهدت له طريق الوحدة الإسلامية بإزاء الإفرنج بدلا من تلك الفوضى وهي دولة آل زنكي عماد الدين بن آق سنقر، ثم ولده نور الدين العادل المشهور بالعدل والزهد وحب الجهاد فقلت فيه:
فاتحة النصر في ولاية نور الد
ين ملك بالعدل يأتزر
تقر عين النبي سيرته
ويرتضي مثل هديه عمر
مجاهد ماهد بغرته
زال البلا واستحالت الغير
ثم ذكرت تربية نور الدين لصلاح الدين، وكيف أصلح صلاح الدين يوسف أحوال المملكة المصرية، فقلت:
أصلح شعث الأمور فانقلبت
بيوسف مصر وهي تفتخر
وأما يوم حطين فقلت فيه:
يا يوم حطين كم حططت من ال
إفرنج شأنا ما كان ينكسر
عدوا على الشرق بالجيوش فلم
يعص عليه بدو ولا حضر
وكل جيش أراد صدهمو
عادوا به وهو للقنا جزر
ومنها في وصف الواقعة:
الشرق والغرب بعد طول وغى
تبارزا والبراز مختصر
ثلاثة والنزال بينهما
نزال من بعد يومه العصر
فمن هنا آل أحمد دلف
والذكر يتلى في الصف والسور
ومن هنا معشر المسيح مشى
والصلبوت الشهير والصور
كأنما قومنا وقد وثبوا
زعازع للغصون تهتصر
كأنما قومنا وقد ثبتوا
شم حصون لها القنا جدر
كم من بغى طيره بأجنحة
إذ قصرت عن ضميره الضمر
ذاق العدى من سلاف طعنهم
خمرا بغير العنقود تعتصر
ثم ذكرت كيف دارت الدائرة عليهم وفر منهم كونت طرابلس مع خيله، ووقع جيشهم كله في الأسر:
لما رأوا الأمر غير ما حسبوا
والناس من فوق صبرهم صبروا
ولوا ظبى يوسف ظهورهمو
تأخذ منها فوق الذي تذر
وأدبر القمص مع فوارسه
ما غره مثل غيره الغرر
والهيكليون مع قساورهم
لم يبق إلا هياكل دثر
لم يجبنوا ساعة وإن فشلوا
وإنما الليث دونه النمر
أوثق بالأسر كل جيشهم
وأصبح الملك ضمن من أسروا
قاصمة الظهر للفرنج غدت
وقعة قرني حطين مذ ظهروا
بها جدود الإسلام قد صعدت
من بعد ما كان أهله عثروا
حظ ابن أيوب أن يفوز بها
والله في خلقه له أثر
وحظ قوم بغوا الجهاد فلم
يشغلهمو عن جهادهم وطر
ومنها في كيفية استحياء صلاح الدين للإفرنج بعد أن صاروا جميعا في قبضة يده قيل كان عددهم ذلك اليوم ثلاثين ألف مقاتل وقيل خمسين ألفا:
أبى عليه الإباء مصرعهم
وعفوه والخلائق الزهر
أراد أن يشهدوا بأعينهم
عفة أهل الإسلام إذ قدروا
إن ذويه الأعلون فضلهمو
في الحرب والسلم ليس ينحصر
وإنه في السلام غالبهم
وغالب والحروب تستعر
عومل بالأسر موقن بردى
وجل ملكا مع العمى العور
ومنها في كيفية قتله للبرنس أرناط أمير الكرك وهو من أمراء فرنسا، يقال له
reinaud de chatillon
وكان هذا الأمير من أخبث أمراء الإفرنج خلقا وأسوئهم عهدا وأكثرهم نكاية بالمسلمين، ومرارا أراد صلاح الدين أن يصمد إليه في الكرك ويريح الإسلام منه فكان يستشفع لديه ويتعهد بإصلاح نفسه، وكان صلاح الدين - رحمه الله - يصفح عنه لما هو معروف به من سعة الصدر والميل إلى العفو، ولكن أرناط كان غدارا لا حيلة فيه.
وأخيرا قبض أرناط على قافلة من الحجاج قاصدة إلى الحجاز فألقى بهم في سجن قلعة الكرك ونهبهم وجردهم من كل ما معهم، وقال لهم: ادعوا محمدكم يخلصكم. ووصل خبر هذه الواقعة إلى صلاح الدين، وكان وقتئذ في الديار الجزرية يفتقد ملكه هناك، فأنحى الناس على السلطان صلاح الدين باللائمة، وقالوا له: إنك ما زلت تعفو عن هذا الرجل الذي لا يستحق العفو، فتأمل الآن ماذا صنع بعد عفوك. وكان صلاح الدين ذلك اليوم مريضا قد اشتدت به العلة، وما زالوا به حتى أقسم لهم بأنه إذا وقع أرناط في يده ليقتلنه بيده، فكان وقوع أرناط في يوم حطين مع ملك القدس وسائر أمراء الإفرنج، وجلس السلطان بعد انتهاء الواقعة وجلس أمامه الأمراء الإفرنج ومن شدة الحر جيء بماء مثلوج فشرب منه السلطان وأعوانه وشرب أمراء الصليبيين، ولما وصل الدور إلى أرناط قال السلطان للساقي: أنت سقيته أما أنا فلم أسقه. قال القاضي بهاء الدين بن شداد صاحب سيرة صلاح الدين المسماة بالمحاسن اليوسفية - وكان ملازما للسلطان يقيد كل ما يراه ويسمعه: إن صلاح الدين كان على جميل عادة العرب لا يجوز قتل من نزل وأكل من الزاد وشرب من الماء، فأراد أن يقول إن الساقي هو الذي سقى أرناط من نفسه.
ففهم الناس من هذا أن السلطان لا يريد أن يعفو هذه المرة عن برنس الكرك بعد أن نذر بقتله، ثم قام السلطان وانتهر أرناط وضربه بالسيف فرماه وأجهز عليه الأعوان وعندما رماه في الأرض قال له: أنا أقتص منك لمحمد. فأخذ ملك الإفرنج يرتجف ظنا بأن السلطان قاتله في تلك الساعة كما قتل أرناط، فقال له صلاح الدين: ليسكن روعك فإن الملوك لا يقتل بعضهم بعضا، وإنما نذرت قتل هذا الرجل لكثرة ما أفحش من النكاية بالمسلمين، وكل مرة كنت أصفح عنه وهو يعود إلى غدره، ثم إنه قذف علنا نبينا
صلى الله عليه وسلم ، فلهذه الأمور قد استثنيته من العفو.
ولقد أوردت هذه الحادثة في الأبيات الآتية:
عفوا به عمهم وأخرج من
بنكثه السهل ضاق والوعر
وفى بأرناط نذره بيد
إذ طالما لم تحك به النذر
وقال إذ تله بصارمه
ها أنذا للنبي أنتصر
أزوج تحت التهليل مهجته
مخضوبة صارما هو الذكر
فأصبح الملك وهو مرتجف
يملؤه بعد ما رأى الذعر
أبصر جسم البرنس منعفرا
فقال إثر البرنس أقتفر
فأفرخ الروع منه ساعة إذ
أبلغ أن لن يصيبه ضرر
ومنها في ذكر حب صلاح الدين للعفو وشدة تحرجه من سفك الدماء حتى عابه بعض المؤرخين، وقالوا: إنه بعفوه عن الإفرنج وتركه إياهم بعد حطين وبعد فتح القدس مكتفيا بتجريدهم من السلاح، قد جر على الإسلام مصيبة عظيمة؛ فإنهم ذهبوا إلى صور واعتصموا بها ولما توافر جمعهم زحفوا منها وقاتلوه أشد قتال:
إن عيب بالحلم والوفا رجل
فإنه خير ما هفا البشر
وقلت عن شدة تعظيم الإفرنج إلى الآن لقدر صلاح الدين بسبب هذه الأخلاق العالية:
وكان من حرمة العدو له
أن ذكره في بلادهم عطر
وذكرت زيارة الإمبراطور غليوم الثاني عاهل ألمانيا لضريح ص لاح الدين في دمشق وما أظهره من الخشوع في ذلك المقام:
تغدو عظام الملوك واقفة
ببابه وهو أعظم نخر
وينحني حاسرا بتربته
رأس بأعلى التيجان معتجر
وقد ذكر هذه الزيارة شوقي بعد وقوعها بقليل؛ أي سنة 1898، فقال تحت عنوان تحية غليوم الثاني لصلاح الدين في القبر:
عظيم الناس من يبكي العظاما
ويندبهم ولو كانوا عظاما
وأكرم من غمام عند محل
فتى يحيي بمدحته الكراما
وما عذر المقصر عن جزاء
وما يجزيهمو إلا كلاما
فهل من مبلغ غليوم عني
مقالا مرضيا ذاك المقاما
رعاك الله من ملك همام
تعهد في الثرى ملكا هماما
أرى النسيان أظمأه فلما
وقفت بقبره كنت الغماما
تقرب عهده للناس حتى
تركت الجيل في التاريخ عاما
أتدري أي سلطان تحيي
وأي مملك تهدي السلاما
دعوت أجل أهل الأرض حربا
وأشرفهم إذا سكنوا سلاما
وقفت به تذكره ملوكا
تعود أن يلاقوه قياما
وكم جمعتهمو حرب فكانوا
حدائدها وكان هو الحساما
كلام للبرية داميات
وأنت اليوم من ضمد الكلاما
فلما قلت ما قد قلت عنه
وأسمعت الممالك والأناما
تساءلت البرية وهي كلمى
أحبا كان ذاك أم انتقاما؟
وأنت أجل أن تزري بميت
وأنت أبر أن تؤذي عظاما
فلو كان الدوام نصيب ملك
لنال بحد صارمه الدواما
وقد ترجمت من عهد غير بعيد هذه الأبيات لجلالة الإمبراطور غليوم الثاني، وذكرت له من شوقي في العالم العربي، وأنه كان أشعر شعرائنا، فارتاح جدا لهذه الأبيات وترحم على قائلها، وأما البيت الأخير فقد وقع بيني وبين شوقي توارد خواطر على معناه؛ لأني لما زرت مقام سيدنا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في حمص كتبت هذين البيتين على الجدار:
مغيبك سيف الله في غمدك الثرى
دليل بأن الله لا شك واحد
فلو أن فردا خلدته فتوحه
لما كان في الأقوام إلاك خالد
وتاريخ هذين البيتين أقدم من تاريخ أبيات شوقي.
ولو لم يكن لشوقي إلا ما قاله في هذه القصيدة عن الحرب الصليبية لكان ذلك كافيا له حتى يلقب بالشاعر الإسلامي وهي الصفة التي استمالت له قلوب المسلمين شرقا وغربا، فكيف وله في هذا الباب يتائم تقلد بها جيد الدهر، وقد ذكر منها الكاتب البليغ الأستاذ محب الدين الخطيب مطلع قصيدته في حرب الدولة العثمانية مع اليونان:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب
وينصر دين الله أيان تضرب
وما السيف إلا آية الملك في الورى
وما الأمر إلا للذي يتغلب
فأدب به القوم الطغاة فإنه
لنعم المربي للطغاة المؤدب
وقوله عند سقوط أدرنة:
يا أخت أندلس عليك سلام
هوت الخلافة عنك والإسلام
بكما أصيب المسلمون وفيكما
دفن اليراع وغيب الصمصام
وقوله يوم أسقط الكماليون في تركيا منصب الخلافة:
عادت أغاني العرس رجع نواح
ونعيت بين معالم الأفراح
ضجت عليك مآذن ومنابر
وبكت عليك ممالك ونواحي
يا للرجال لحرة موءودة
قتلت بغير جريرة وجناح
إن الذين أست جراحك حربهم
قتلتك سلمهمو بغير جراح
هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم
موشية بمواهب الفتاح
إن الغرور سقى الرئيس براحه
كيف احتيالك في صريع الراح
وذكر له ما قاله في الحج عندما دعاه الخديوي أن يكون معه وهو في الدرجة القصوى من التأثير لا يقرؤه قارئ إلا ويستعبر:
لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم
لبيت طهور الساح والعرصات
دعاني إليك الصالح ابن محمد
فكان جوابي صالح الدعوات
وقدمت أعذاري وذلي وخشيتي
وجئت بضعفي شافعا وشكاتي
وفي راحتي ماض إذا ما هززته
تركت عدو الله في السكرات
أتيت به يا رب نورا وحكمة
ونزهته عن ريبة وأذاة
وتشهد ما آذيت نفسا ولم أضر
ولم أبغ في جهري ولا خطراتي
ولا غلبتني شقوة أو سعادة
على حكمة آتيتني وأناة
ولا جال إلا الخير بين سرائري
لدى سدة خيرية الرغبات
ولا بت إلا كابن مريم مشفقا
على حسدي مستغفرا لعداتي
ولا حملت نفس هوى لبلادها
كنفسي في فعلي وفي نفثاتي
وإني ولا من عليك بطاعة
أجل وأغلي في الفروض زكاتي
أبالغ فيها وهي عدل ورحمة
ويتركها النساك في الخلوات
وأنت ولي العفو فامح بناصع
من الصفح ما سودت من صفحاتي
ومن تضحك الدنيا إليه فيغترر
يمت كقتيل الغيد بالبسمات
ولعمري من عرف شوقي معرفة تامة واختلط به لم يجده مبالغا فيما ناجى به ربه، ولشوقي عدا هذا قصائد نبوية مشهورة منها هذه الهمزية:
ولد الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهي
والمنتهى والسدرة العصماء
وحديقة الفرقان ضاحكة الربى
بالترجمان شذية غناء
والوحي يقطر سلسلا من سلسل
واللوح والقلم البديع رواء
نظمت أسامي الرسل فهي صحيفة
في اللوح واسم محمد طغراء
اسم الجلالة في بديع حروفه
ألف هنالك واسم طه الباء
يا خير من جاء الوجود تحية
من مرسلين إلى الهدى بك جاءوا
بيت النبيين الذي لا يلتقي
إلا الحنائف فيه والحنفاء
خير الأبوة خارهم لك آدم
دون الأنام وأحرزت حواء
هم أدركوا عز النبوة وانتهت
فيها إليك العزة القعساء
خلقت لبيتك وهو مخلوق لها
إن العظائم كفؤها العظماء
ومنها:
بسوى الأمانة في الصبا والصدق لم
يعرفه أهل الصدق والأمناء
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
منها وما يتعشق الكبراء
لو لم تقم دينا لقامت وحدها
دينا تضيء بنوره الآناء
أما الجمال فأنت شمس سمائه
وملاحة الصديق منك إباء
والحسن من كرم الوجوه وخيره
ما أوتي القواد والزعماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادرا ومقدرا
لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة
في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته
ورضا الكثير تحلم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة
تعرو الندي وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما
جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا حميت الماء لم يورد ولو
أن القياصر والملوك ظماء
وإذا أجرت فأنت بيت الله لم
يدخل عليه المستجير عداء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها
ولو ان ما ملكت يداك الشاء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة
وإذا ابتنيت فدونك الآباء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
فجميع عهدك ذمة ووفاء
يا أيها الأمي حسبك رتبة
في العلم أن دانت بك العلماء
الذكر آية ربك الكبرى التي
فيها لباغي المعجزات غناء
صدر البيان له إذا التقت اللغى
وتقدم البلغاء والفصحاء
نسخت به التوراة وهي وضيئة
وتخلف الإنجيل وهو ذكاء
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة
بالحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهي حقيقة
نادى بها سقراط والقدماء
لما دعوت الناس لبى عاقل
وأصم منك الجاهلين نداء
أبوا الخروج إليك من أوهامهم
والناس في أوهامهم سجناء
ومن العقول جداول وجلامد
ومن النفوس حرائر وإماء
داء الجماعة من أرسطاليس لم
يوصف له حتى أتيت دواء
فرسمت بعدك للعباد حكومة
لا سوقة فيها ولا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده
والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شورى والحقوق قضاء
قد ذكر شوقي هنا ما لم يكن أتى به في همزية وادي النيل وما أشرت إليه في تعليقي على قصيدته تلك فأنت ترى أنه لا يفوته شيء إن نقص كلامه في محل كمل في محل آخر، ثم يقول:
الاشتراكيون أنت إمامهم
لولا دعاوى القوم والغلواء
داويت متئدا وداووا طفرة
وأخف من بعض الدواء الداء
أي إن الزكاة المشروعة في الإسلام والتي هي والصلاة توأمان تضمن من سد الفقر وتقريب الطبقات بعضها من بعض ما تضمن المبادئ الاشتراكية التي قاموا بها في العصر الحاضر، ولكن الاشتراكيين غلوا وأرادوا الطفرة فكان عملهم أبلغ في الضرر من الحالة الأولى التي أرادوا الخلاص منها، ثم يقول:
الحرب في حق لديك شريعة
ومن السموم الناقعات دواء
والبر عندك ذمة وفريضة
لا منة ممنونة وحباء
جاءت فوحدت الزكاة سبيله
حتى التقى الكرماء والبخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
فلو ان إنسانا تخير ملة
ما اختار إلا دينك الفقراء
هو يقول إن الحرب في تأييد الحق مشروعة في الإسلام لا غبار عليها، وهي دواء لسموم الضلال الناقعة، وإن البر ليس بفضيلة اختيارية في الإسلام ولا إيثار، بل هو فرض كفرض الصلاة لا يجوز قطعه، وإن الزكاة يجب على المسلم إخراجها إذا أراد أن يكون مسلما، فلا تعود إلى إرادته وإلى خلقه من كرم أو لؤم، وليس هذا فرضا في سائر الأديان كما هو في الإسلام. يقول إن الفقراء قد كفاهم الإسلام مئونة الاحتياج؛ وذلك بالزكاة التي انتصف منها الفقراء من الأغنياء، ومن قوله في الإسراء:
يا أيها المسرى به شرفا إلى
ما لا تنال الشمس والجوزاء
الله هيأ من حظيرة قدسه
نزلا لذاتك لم يجزه علاء
والرسل دون العرش لم يؤذن لهم
حاشا لغيرك موعد ولقاء
ومن قوله في شجاعة النبي
صلى الله عليه وسلم :
الخيل تأبى غير أحمد حاميا
وبها إذا ذكر اسمه خيلاء
شيخ الفوارس يعلمون مكانه
إن هيجت آسادها الهيجاء
وإذا تصدى للظبى فمهند
أو للرماح فصعدة سمراء
ساقي الجريح ومطعم الأسرى ومن
أمنت سنابك خيله الأشلاء
إن الشجاعة في الرجال غلاظة
ما لم تزنها رأفة وسخاء
لله در شوقي في هذا الوصف الذي يليق بأن ينشد عنده:
وإن أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
نعم كان محمد - عليه الصلاة والسلام - أشجع الشجعان وأقدمهم إذا حمي الوطيس، وأثبتهم إذا دارت الدائرة على الصحابة؛ كما ظهر في يوم أحد وغيره، وكان مع صلابته هذه أرأف الناس وأرقهم قلبا وأنداهم محجرا، وكان إذا ظهر على عدوه يعرف أن يرق ويعفو، ولم تكن خيله لتدوس على المطروحين بالعراء من أعدائه، ثم يقول:
الحق عرض الله كل أبية
بين النفوس حمى له ووقاء
والحق والإيمان إن صبا على
برد ففيه كتيبة خرساء
ويقول عن الصحابة الكرام:
نسفوا بناء الشرك فهو خرائب
واستأصلوا الأصنام فهي هباء
يمشون تغضي الأرض منهم هيبة
وبهم حيال نعيمها إغضاء
حتى إذا فتحت لهم أطرافها
لم يطغهم ترف ولا نعماء
ثم يقول مخاطبا الرسول:
ما جئت بابك مادحا بل داعيا
ومن المديح تضرع ودعاء
أدعوك عن قوم الضعاف لأزمة
في مثلها يلقى عليك رجاء
أدرى رسول الله أن نفوسهم
ركبت هواها والقلوب هواء
متفككون فما تضم نفوسهم
ثقة ولا جمع القلوب صفاء
رقدوا وغرهم نعيم باطل
ونعيم قوم في القيود بلاء
أقطعتهم غرر البلاد فضيعوا
وغدوا وهم في أرضهم غرباء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها
ما لم ينل في رومة الفقهاء
ما أصدق قوله: «وغدوا وهم في أرضهم غرباء.» إلا ما ندر.
ولشوقي غير هذه الهمزية في الرسول
صلى الله عليه وسلم
قصيدة معارضة للبردة الشريفة، رضي الله عن صاحبها، ولو استشارني شوقي في هذه المعارضة لنهيته عنها، وهل نظمه في هذه المعارضة للبردة أقل إبداعا من سائر نظمه؟ أو أنزل عن طبقته المعهودة؟
لا والله فنظمه نظمه نسج واحد، هو نسيج وحده في هذا العصر، ولكن يا سبحان الله متى قابلته بالبردة فقد رونقه ذاك وصرت تريد أن تطويه على غره وتتجاوزه إلى غيره، فما ألقى الله بردة الفصاحة على قصيدة نبوية كميمية صاحب البردة، هكذا كتب في اللوح وجف القلم وآثر الله الأبوصيري ببكارة البردة وأعجز كل فحل عن افتراع مثلها، فما كانت معارضة شوقي للبردة بالرأي الموفق، ولو كانت أبيات قصيدته كلها عامرة بالمحاسن ولنستشهد مع ذلك ببعض ما قاله فيها مثلا:
يا نفس دنياك تخفي كل مبكية
وإن بدا لك منها حسن مبتسم
فضي بتقواك فاها كلما ضحكت
كما يفض أذى الرقشاء بالثرم
مخطوبة منذ كان الناس خاطبة
جرح بآدم يبكي منه في الأدم
لا تحفلي بجناها أو جنايتها
الموت بالزهر مثل الموت بالفحم
هنا جاء شوقي بمعنى عصري، وهو أن الكربون يقتل في الزهر كما يقتل في الفحم ولم أجد لذلك طلاوة؛ لأن الشعر بعيد عن الكيمياء بعد الأرض عن السماء، ثم يقول:
يا ويلتاه لنفسي راعها ودهى
مسودة الصحف في مبيضة اللمم
ركضتها في صريع المعصيات وما
أخذت من حمية الطاعات للتخم
هامت على أثر اللذات تطلبها
والنفس إن يدعها داعي الصبا تهم
اجتهد بقدر إمكانه أن يقلد الأباصيري في نهجه، وأن يأتي بمثل ديباجته، وأن يقابل بيتا ببيت ويحذو قذة بقذة؛ فحام وما نزل ورمى وما قرطس إلا أنه لما وصل إلى المديح ارتقى عن ذي قبل وجاء بما من حقه أن تسمعه ولو كان من دون البردة:
لزمت باب أمير الأنبياء ومن
يمسك بمفتاح باب الله يغتنم
فكل فضل وإحسان وعارفة
ما بين مستلم منه وملتزم
علقت من مدحه حبلا أعز به
في يوم لا عز بالأنساب واللحم
يزري قريضي زهيرا حين أمدحه
ولا يقاس إلى جودي ندى هرم
محمد صفوة الباري ورحمته
وبغية الله من خلق ومن نسم
وصاحب الحوض يوم الرسل سائلة
متى الورود وجبريل الأمين ظمي
ثم يقول:
لما رآه بحيرا قال نعرفه
بما حفظنا من الأسماء والسيم
سائل حراء وروح القدس قد علما
مصون سر عن الإدراك منكتم
ثم قال:
ونودي اقرأ تعالى الله قائلها
لم يتصل قبل من قيلت له بفم
هناك أذن للرحمن فامتلأت
أسماع مكة من قدسية النغم
جاء النبيون بالآيات فانصرمت
وجئتنا بحكيم غير منصرم
أي بالقرآن الحكيم.
آياته كلما طال المدى جدد
يزينهن جلال العتق والقدم
ومن مستحسن أبياتها:
جبت السموات أو ما فوقهن بهم
على منورة وردية اللجم
ركوبة لك من عز ومن شرف
لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته
وقدرة الله فوق الشك والتهم
حتى بلغت سماء لا يطار لها
على جناح ولا يسعى على قدم
وقيل كل نبي عند رتبته
ويا محمد هذا العرش فاستلم
ولما كان صاحب البردة قال:
فإن لي ذمة منه بتسميتي
محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
أراد أحمد شوقي أن يباريه في ذمة مثلها من التسمية بأحمد:
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي
وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
المادحون وأرباب الهوى تبع
لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
الله يشهد أني لا أعارضه
من ذا يعارض صوب العارض العرم
وإنما أنا بعض الغابطين ومن
يغبط وليك لا يذمم ولا يلم
وقد أحسن أبو علي بهذا الاستدراك وتنصله من معارضة سيد من جاء بالسهل الممتنع والداني المرتفع، ثم قال خطابا للرسول عليه السلام:
إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم
فخيرة الله في لا منك أو نعم
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أجيالا من الأمم
ودخل شوقي في جدل مع الذين اعترضوا على الإسلام، وقراع مع القادحين فيه فقال:
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب
تكفل السيف بالجهال والعمم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
سهل المسيحية الغراء كم شربت
بالصاب من شهوات الظالم الغلم
لولا حماة لها هبوا لنصرتها
بالسيف ما انتقمت بالرفق والرحم
يريد أن يقول إن كلام هؤلاء المعترضين سفسطة محضة؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وإن نبي الإسلام في بدء دعوته لم يأل جهدا في الدعوة بالرفق والمقارعة بالبرهان، وإنه ما دفع إلى الضرب والحرب إلا من بعد أن رأى عقم الوعظ والنصح، وأن لا حيلة في الجهل والظلم إذا مرد الناس عليهما إلا بالتأديب أن هذه المسيحية التي تعلن أنها دين السلام أصابها من الطرد والقتل والتعذيب والانتقام والاصطلام ما لا تسعه الكتب المؤلفة، وبقي ذلك مدة ثلاثمائة سنة إلى أن تنصر قسطنطين فحينئذ استقرت قواعدها وانتشرت في الأرض وأمنت الغوائل، ولم تنتشر في الأرض إلا بقوة ملوكها وسلاطينها، وكم من ملك من ملوك النصرانية بث المسيحية أو الكاثوليكية بالسيف مثل شارلمان وملوك فرنسا، ومثل قياصرة بيزنطة ومثل ملوك الروسية وملوك المجر وغيرهم، ثم عزز كلامه هذا بشواهد العصر الحاضر، فقال:
تلك الشواهد تترى كل آونة
في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم
بالأمس مالت عروش واعتلت سرر
لولا القذائف لم تثلم ولم تصم
أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة
ولم نعد سوى حالات منقصم
جاء في الطبعة الثانية من ديوان شوقي تعليقا على هذه الأبيات، ولعله بقلم الكاتب الفاضل حسين بك هيكل ما يلي:
إن المتشيعين اليوم للدين المسيحي «دين الهدوء والسلام» هم أهل القوة الحربية الدائبون على إعداد المهلكات في الحروب، حتى كأنهم أصبحوا ولم يبق لهم من شغل يشغلهم إلا استخراج الذهب من بطون الأرض وإنفاقه على مصانع الحديد والفولاذ لطبع آلات الحرب في طول الأرض وعرض البحر، وقد افتنوا في أسباب الإهلاك والتدمير، ولم يكفهم أن يدمدموا على الناس ويأخذوهم بالبلاء عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم حتى قاموا على تسخير الرياح ليرموهم من فوق رءوسهم بكل دهياء ... إلخ.
ثم هاجت بشوقي نخوة الإسلام، شأنه في كل موقف، وحمي أنفه للمدنية الإسلامية وقارن بينها وبين غيرها، فقال:
واترك رعمسيس إن الملك مظهره
في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
دار الشرائع روما كلما ذكرت
دار السلام لها ألقت يد السلم
ما ضارعتها بيانا عند ملتأم
ولا حكتها قضاء عند مختصم
ولا احتوت في طراز من قياصرها
على رشيد ومأمون ومعتصم
من الذين إذا سارت كتائبهم
تصرفوا بحدود الأرض والتخم
ويجلسون إلى علم ومعرفة
فلا يدانون في عقل ولا فهم
وختم شوقي هذه القصيدة بأبيات في غاية التأثير تذوب لها القلوب حسرة وذكرى وتتحدر العبرات شفعا ووترا، وتشهد لشوقي فوق شهادات لا تحصى بأنه شاعر الإسلام بجميع جوارحه رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرا:
يا رب هبت شعوب من منيتها
واستيقظت أمم من رقدة العدم
سعد ونحس وملك أنت مالكه
تديل من نعم فيه ومن نقم
رأى قضاؤك فينا رأي حكمته
أكرم بوجهك من قاض ومنتقم
فالطف لأجل رسول العالمين بنا
ولا تزد قومه خسفا ولا تسم
يا رب أحسنت بدء المسلمين به
فتمم الفضل وامنح حسن مختتم
ومن أحسن ما قال شوقي الخطاب الذي خاطب به الخديوي عند زيارته للمدينة المنورة:
إذا زرت يا مولاي قبر محمد
وقبلت مثوى الأعظم العطرات
وفاضت من الدمع العيون مهابة
لأحمد بين الستر والحجرات
وأشرق نور تحت كل ثنية
وضاع أريج تحت كل حصاة
لمظهر دين الله فوق تنوفة
وباني صروح المجد فوق فلاة
فقل لرسول الله: يا خير مرسل
أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها
كأصحاب كهف في عميق سبات
بإيمانهم نوران ذكر وسنة
فما بالهم في حالك الظلمات
وذلك ماضي مجدهم وفخارهم
فما ضرهم لو يعملون لآت
وهذا زمان أرضه وسماؤه
مجال لمقدام كبير حياة
مشى فيه قوم في السماء وأنشئوا
بوارج في الأبراج ممتنعات
فقل رب وفق للعظائم أمتي
وزين لها الأفعال والعزمات (10) شوقي والخلافة
وجاء في ديوان شوقي الذي طبع مؤخرا وعليه مقدمة من قلم محمد حسين بك هيكل تحت عنوان «خلافة الإسلام» ما يلي:
ما كاد العالم الإسلامي يفرح بانتصار الأتراك على أعدائهم في ميدان الحرب والسياسة ذلك النصر الحاسم الذي كان حديث الدنيا، والذي تم على يد مصطفى كمال باشا في سنة 1923 - قلنا: هذا غلط مشهور؛ فالحركة الوطنية في تركيا قام بها كاظم قره بكير وغيره قبل مصطفى كمال، ثم إنها بعد أن التحق مصطفى كمال بالحركة لم يكن فيها وحده، بل كان فيها عدة أبطال مثل كاظم قره بكير وحسين رءوف وعلي فؤاد ورأفت وعلى إحسان ونور الدين وعمر فوزي وغيرهم ممن أنقذ تركيا اجتماع مجهوداتهم، وأكثر الفضل في انقياد الشعب التركي لهؤلاء يرجع إلى علماء الدين الذين تقدموا إلى الشعب باسم الدين، ولولاهم لم يقم أهل الأناضول بهذه الحرب الاستقلالية - حتى أعلن هذا إلغاء الخلافة ونفى الخليفة من بلاد الأتراك، فنظم الشاعر هذه القصيدة يرثي فيها الخلافة وينبه ممالك الإسلام إلى إسداء النصح لهذا الرجل لعله يبني ما هدم وينصف من ظلم:
عادت أغاني العرس رجع نواح
ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبه
ودفنت عند تبلج الإصباح
أي إن مجلس أنقرة الكبير ومصطفى كمال نفسه أعلنوا بمنشور رسمي يوم أسسوا الحكومة التركية في أنقرة بأن جل مقصدهم من هذه الثورة على الدول الأجنبية المحتلة، هو إنقاذ الخلافة الإسلامية واستخلاص الخليفة الذي هو أسير في استامبول بين أيدي الإنجليز، وأعلنوا هذا القرار على جميع سكان تركيا، بل أوصلوه إلى جميع العالم الإسلامي، وكتبوا به إلى الإمام يحيى وغيره من ملوك الإسلام، فإنقاذ الخلافة كان هو الغرض الأول بزعم مصطفى كمال من هذه الحرب الاستقلالية، فلما انتهت الحرب بالطائلة للأتراك كان أول ما فعله مصطفى كمال إلغاء نفس هذه الخلافة التي زعم أنه إنما ثار لأجل المحافظة عليها، فكان دفنها ليلة الزفاف كما قال شوقي، ثم قال:
شيعت من هلع بعبرة ضاحك
في كل ناحية وسكرة صاح
ضجت عليك مآذن ومنابر
وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة
أمحا من الأرض الخلافة ماح؟
وأتت لك الجمع الجلائل مأتما
فقعدن فيه مقاعد الأنواح
يا للرجال لحرة موءودة
قتلت بغير جريرة وجناح
إن الذين أست جراحك حربهم
قتلتك سلمهم بغير جراح
أي ثاروا لأجل أن يضمدوا جراح الخلافة بزعمهم فلما اتسق لهم النصر قتلوا هذه الخلافة نفسها بغير جراح، وبئس العهد وساءت الشيمة:
هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم
موشية بمواهب الفتاح
نزعوا عن الأعناق خير قلادة
ونضوا عن الأعطاف خير وشاح
حسب أتى طول الليالي دونه
قد طاح بين عشية وصباح
وعلاقة فصمت عرى أسبابها
كانت أبر علائق الأرواح
نعم، كانت الخلافة هي أحسن علاقة جامعة بين المسلمين وكان أربعمائة مليون مسلم في العالم يتولون حكومة تركيا بحجة أنها دولة الخلافة، فجاء مصطفى كمال وقطع هذه العلاقة بين تركيا والعالم الإسلامي، وزعم أنه لا يلوي على علاقة غير علاقة الترك خاصة وأن سائر المسلمين والأجانب في نظره سواء، وهو أمر مخالف للحقيقة وللواقع وللمصلحة، وكان أنور - رحمه الله - يقول لي: إن الأتراك الذين في الروسية لا يعطفون علينا نحن أتراك تركيا بسبب أننا ترك بل بسبب أننا مسلمون. وهؤلاء الياقوت الذي هم في سيبيريا هم ترك من المحتد مثلنا، ولكن نظرا لكونهم وثنيين لا يعطفون علينا ولا نعطف عليهم ولا يعرفوننا ولا نعرفهم.
جمعت على البر الحضور وربما
جمعت عليه سرائر النزاح
نظمت صفوف المسلمين وخطوهم
في كل غدوة جمعة ورواح
بكت الصلاة وتلك فتنة عابث
بالشرع عربيد القضاء وقاح
وقد علق تحت هذا البيت تفسيرا للعربيد؛ وهو الشرير الكثير العربدة، وهي سوء الخلق من السكر:
أفتى خزعبلة وقال ضلالة
وأتى بكفر في البلاد بواح
إن الذين جرى عليهم فقهه
خلقوا لفقه كتيبة وسلاح
أي إن هذه النظريات إنما انقاد لها أناس لا يعلمون شيئا سوى الحرب والضرب، فأما الذين يفكرون في مصاير الأمور ويفهمون شدوا من السياسة فلا يمكن أن تعجبهم:
إن حدثوا نطقوا بخرس كتائب
أو خوطبوا سمعوا بصم رماح
أستغفر الأخلاق لست بجاحد
من كنت أدفع دونه وألاحي
ما لي أطوقه الملام وطالما
قلدته المأثور من أمداحي
لا جرم أن شوقي وغير شوقي قد استعجلوا في الحكم، وأنا نفسي من هؤلاء المستعجلين، وطالما عذلت صديقي أنور على خلافه مع مصطفى كمال، ولما كان مراد أنور بعد الحرب أن ينسل نجيا من برلين إلى الأناضول ويأخذ بنصيبه من الجهاد لاستقلال تركيا نهيته عن هذا الأمر خشية أن يكون ذهابه إلى الأناضول مثار فتنة بينه وبين مصطفى كمال تكون نتيجتها صدع الوحدة وتشظية العصا.
وقد استعنت عليه بالدكتور ناظم بك - أحد أركان جمعية الاتحاد والترقي والوطني المشهور الذي كانت نزاهته أشهر من أن تذكر، وشنقه مصطفى كمال بتهمة المؤامرة على حياته، وهو بريء من تلك المؤامرة براءة الذئب من دم يوسف، ولكنه كان ينتقد سياسة الغازي علنا - فهذا الرجل هو الذي أعانني على أنور عندما كنا في برلين حتى توقف عن الدخول إلى الأناضول، وهكذا أمنا شر الاختلاف بين قائدي الأتراك الكبيرين، ولكن مصطفى كمال إلى ذلك العهد كان جاعلا شعاره الإسلام لا غير وكان يشهد الجمع ويحضر قراءة المولد ولا يبرح يخطب قائلا: إخواننا العرب، إخواننا العرب، إخواننا المصريون وإخواننا المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد ذكرت مرة في إحدى الجرائد كيف قال لي: لا بد أن نسترجع القدس إن شاء الله وهذا محقق، وإنما أقول إن شاء الله كمسلم لا أقول إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ... فهذه النغمات التي كان يسمعها الناس منه دائما ولا يعلمون ما يطوي في قلبه من دونها حملت الناس على حبه والثناء عليه بإسراف، فلما انعقدت معاهدة لوزان وتم الصلح مع تركيا وظن الغازي أنه أمن المستقبل قلب ظهر المجن، ونسي ما كان يقوله وجاهر بعكس ما كان يجاهر به من قبل:
هو ركن مملكة وحائط دولة
وقريع شهباء وكبش نطاح
أأقول من أحيا الجماعة ملحد
وأقول من رد الحقوق إباحي؟
الحق أولى من وليك حرمة
وأحق منك بنصرة وكفاح
فامدح على الحق الرجال ونلهمو
أو خل عنك مواقف النصاح
لا شك بأن الحق أولى بأن يقال، ولكن نقطة العراك هنا هي تعيين الحق فإنه بعد أن استقلت تركيا ضل الناس سبيل الحق في تاريخ حوادث هذا الاستقلال فجعلوا الفضل كله في تحرير تركيا لمصطفى كمال، وزعموا أنه هو الذي أوجدها من العدم بعد أن كان قضي عليها القضاء المبرم. وهذا خلاف الحق وهو الخطأ المشهور الذي لا بد للتاريخ من أن يصححه في يوم من الأيام، ولو كان مصطفى كمال خدم تركيا في الحرب الخدمة الكبرى وكان من أعاظم القواد بلا نكير:
ومن الرجال إذا انبريت لهدمهم
هرم غليظ مناكب الصفاح
فإذا قذفت الحق في أجلاده
ترك الصراع مضعضع الألواح
أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح
إن الجواد يثوب بعد جماح
إن الغرور سقى الرئيس براحه
كيف احتيالك في صريع الراح
نقل الشرائع والعقائد والقرى
والناس نقل كتائب في الساح
أي أراد أن يلغي العقائد والتقاليد القديمة والأوضاع التي مضت عليها القرون بمجرد أوامر عسكرية أشبه بالأوامر التي يصدرها في ساحة الحرب:
تركته كالشبح المؤله أمة
لم تسل بعد عبادة الأشباح
هم أطلقوا يده كقيصر فيهم
حتى تناول كل غير مباح
غرته طاعات الجموع ودولة
وجد السواد لها هوى المرتاح
وإذا أخذت المجد من أمية
لم تعط غير سرابه اللماح
من قائل للمسلمين مقالة
لم يوحها غير النصيحة واح
عهد الخلافة في أول ذائد
عن حوضها بيراعة النضاح
لم يتخلف شوقي عن موقف صدق من مواقف الإسلام جميعها؛ ومن جملتها تأييد الخلافة الإسلامية، وقد سبق لنا شواهد كثيرة من شعره تؤيد صحة دعواه هذه:
حب لذات الله كان ولم يزل
وهوى لذات الحق والإصلاح
إني أنا المصباح لست بضائع
حتى أكون فراشة المصباح
غزوات أدهم كللت بذوابلي
وفتوح أنور فصلت بصفاحي
أدهم هو أدهم باشا قائد الجيش العثماني المظفر في الحرب اليونانية، وأنور هو أنور باشا المشهور أحد أبطال الإسلام في التاريخ:
ولت سيوفهما وبان قناهما
وشبا يراعي غير ذات براح
لا تبذلوا برد النبي لعاجز
عزل يدافع دونه بالراح
بالأمس أوهى المسلمين جراحة
واليوم مد لهم يد الجراح
فلتسمعن بكل أرض داعيا
يدعو إلى الكذاب أو لسجاح
ولتشهدن بكل أرض فتنة
فيها يباع الدين بيع سماح
رحم الله شوقي فلم يكن طبيب أبصر منه بعلل الإسلام الحاضرة، وكان يعلم أن أكثر من يبيعون الدين ويفتون لأعداء الإسلام بما يريدون منه هم من رجال الدين ومن ذوي العمائم ويا للأسف! فقد جنت هذه الطبقة على الدين جنايات لا توصف، وأخذت بالصادقين المخلصين من هذه الطبقة، ومنهم فقهاء الأناضول الذين لولاهم لم يتم القيام لمحاربة اليونان والحلفاء:
يفتي على ذهب المعز وسيفه
وهوى النفوس وحقدها الملحاح (11) قصيدته في المولد النبوي
وله في ذكرى المولد قصيدة ليس للقلب طاقة أن يمر بها فلا يأخذ منها إلى هذا الكتاب شيئا، ولا سيما أن في أولها أبياتا هي اليوم لسان حالي الباعث بي لهذه الذكريات أضمد بها جراح النوى وأردد أوراد الأسى، فهو يقول:
وكل بساط عيش سوف يطوى
وإن طال الزمان به وطابا
كأن القلب بعدهمو غريب
إذا عادته ذكرى الأهل ذابا
ولا ينبيك عن خلق الليالي
كمن فقد الأحبة والصحابا
أخا الدنيا أرى دنياك أفعى
تبدل كل آونة إهابا
فمن يغتر بالدنيا فإني
لبست بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيان إلى غبي
ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
جنيت بروضها وردا وشوكا
وذقت بكأسها شهدا وصابا
فلم أر غير حكم الله حكما
ولم أر دون باب الله بابا
ولا عظمت في الأشياء إلا
صحيح العلم والأدب اللبابا
ولا كرمت إلا وجه حر
يقلد قومه المنن الرغابا
ولم أر مثل جمع المال داء
ولا مثل البخيل به مصابا
فلا تقتلك شهوته وزنها
كما تزن الطعام أو الشرابا
أي حفظ المال ينبغي أن يكون بميزان كما يزن الإنسان طعامه وشرابه على قدر حاجته إليهما؛ فلا يسرف ولا يقتر ويكون بين ذلك قواما، ثم يقول:
وخذ لبنيك والأيام ذخرا
وأعط الله حصته احتسابا
فلو طالعت أحداث الليالي
وجدت الفقر أقربها انتيابا
وأن البر خير في حياة
وأبقى بعد صاحبه ثوابا
وأن الشر يصدع فاعليه
ولم أر خيرا بالشر آبا
فرفقا بالبنين إذا الليالي
على الأعقاب أوقعت العقابا
ولم يتقلدوا شكر اليتامى
ولا ادرعوا الدعاء المستجابا
عجبت لمعشر صلوا وصاموا
ظواهر خشية وتقى كذابا
وتلفيهم حيال المال صما
إذا داعي الزكاة بهم أهابا
وهذا مرض المسلمين في الوقت الحاضر؛ تجدهم اختلفوا في كل شيء إلا أنهم اجتمعوا على خلق واحد، وهو الإمساك الشديد في المصالح العامة، مع أنهم يرون النصارى واليهود ماذا يبذلون وماذا يتكلفون على مصالحهم العامة، وأنهم يجودون في هذه السبيل جود من لا يخشى الفقر، وكأن المسلمين يريدون أن يكتفوا بالصلاة والصيام دون الزكاة التي لا يكون الإسلام إسلاما من دونها. وهذا أكثر الأصل في بلائهم الذي يتخبطون فيه، وقد وفى شوقي هذا الموضوع حقه وكان كما قلنا نطاسيا تاما في معرفة علل الإسلام الحاضرة:
لقد كتموا نصيب الله منه
كأن الله لم يحص النصابا
ومن يعدل بحب الله شيئا
كحب المال ضل هوى وخابا
أراد الله بالفقراء برا
وبالأيتام حبا وارتبابا
فرب صغير قوم علموه
سما وحما المسومة العرابا
وكان لقومه نفعا وفخرا
ولو تركوه كان أذى وعابا
فعلم ما استطعت لعل جيلا
سيأتي يحدث العجب العجابا
ولولا البخل لم يهلك فريق
على الأقدار تلقاهم غضابا
تعبت بأهله لوما وقبلي
دعاة البر قد سئموا الخطابا
وكان شوقي سخيا بما يملك لا يأبى أن يجمع المال، ولكنه كان يجمعه لينفقه ويعطي البر حقه ويمتع به أهله الذين كان لهم كما قال خليله المطران: «رئبالا في اللأواء.» وكان فعل شوقي مطابقا لقوله من جهة مؤاساة الفقراء، ثم إنه أخذ يبين المساواة الطبيعية بين البشر ليتبصر بها الذين يستأثرون بالمال لأنفسهم ولا يريدون أن يجعلوا للفقير نصيبا:
ألم تر للهواء جرى فأفضى
إلى الأكواخ واخترق القبابا
وأن الشمس في الآفاق تغشى
حمى كسرى كما تغشى اليبابا
وأن الماء يروى الأسد منه
ويشفي من تلعلعها الكلابا
وسرى الله بينكم المنايا
ووسدكم مع الرسل الترابا
ومن هنا تخلص إلى ذكر الرسول الأعظم
صلى الله عليه وسلم
الذي لم يشرف الفقراء ولا اليتامى بشيء مثل كونه خرج منهم، فقال شوقي:
وأرسل عائلا منكم يتيما
دنا من ذي الجلال فكان قابا
نبي البر بينه سبيلا
وسن خلاله وهدى الشعابا
تفرق بعد عيسى الناس فيه
فلما جاء كان لهم مثابا
وكان بيانه للهدي سبلا
وكانت خيله للحق غابا
وعلمنا بناء المجد حتى
أخذنا إمرة الأرض اغتصابا
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا
هذه الأبيات تكاد تكون أمثالا سائرة أشبه بقول شوقي: «وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.» ثم ذكر شوقي مولد الهادي عليه السلام، فقال:
تجلى مولد الهادي وعمت
بشائره البوادي والقصابا
وأسدت للبرية بنت وهب
يدا بيضاء طوقت الرقابا
لقد وضعته وهاجا منيرا
كما تلد السموات الشهابا
ثم خاطب النبي قائلا له: إني سألت الله النصر لأبناء ديني، فإن كنت أنت الوسيلة عنده تعالى فإنه المجيب هذا الدعاء، فهو يقول:
سألت الله في أبناء ديني
فإن تكن الوسيلة لي أجابا
وما للمسلمين سواك حصن
إذا ما الضر مسهمو ونابا
كأن النحس حين جرى عليهم
أطار بكل مملكة غرابا
ولو حفظوا سبيلك كان نورا
وكان من النحوس لهم حجابا
بنيت لهم من الأخلاق ركنا
فخلوا الركن فانهدم اضطرابا
فكيف قلبت نظرك في شعر شوقي وجدته يطوف في الآفاق ويرجع إلى مركز واحد هو الإسلام في دينه، والشرق في وطنه والعربية في لغته والأخلاق في وصيته والعلم في رغبته، فكان عقله قويما وذوقه سليما ووفاؤه عظيما، وقد قلت فيه يوم رثيته:
كانت قصائده هي الصوت الذي
سرى عن الإسلام ثقل سباته
بعثت به روح الحياة كأنها
هي صور إسرافيل في زعقاته
وقلت:
ما حل بالإسلام حيف مصيبة
إلا وكان لها لسان شكاته
يحمي حقائقه ويوضح سبله
ويقيل طول الوقت من عثراته
وقلت:
وفى عن الشرق القديم نضاله
من يوم نشأته ليوم وفاته
أبدا يحذره استلاب تراثه
منه ويحفزه لأخذ تراته
لم يفتتن من عصره بمساوئ
كلا ولم يغمطه من حسناته
قد لازم الإنصاف في أحكامه
لا فرق بين صحابه وعداته (12) ملحمة شوقي في حرب اليونان
ولا مراء في أنه لم يقل شوقي من شعر الملاحم أعظم من قصيدته البائية في الحرب العثمانية التي أولها:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب ... ... ... ...
فإنها القصيدة الغراء، واليتيمة الدهماء، والكلمة التي طارت في الآفاق فحلقت فوق المحلقات، ولا نظن أنه يوجد عربي يمت إلى الأدب بسبب إلا وهو يروي من هذه القصيدة كثيرا أو قليلا، ونحن أولاء الآن نروي منها بعض المقاطع التي يلوح لنا أنها آخذ للألباب وأملك للقلوب من غيرها وإلا فهي من الألف إلى الياء محكمة السرد متساوية النسج لا تجد فيها عوجا ولا أمتا.
قال:
ومملكة اليونان محلولة العرى
رجاؤك يعطيها وخوفك يسلب
هددت أمير المؤمنين كيانها
بأسطع مثل الصبح لا يتكذب
وما زال فجرا سيف عثمان صادقا
يساويه من عالي ذكائك كوكب
إذا ما صدعت الحادثات بحده
تكشف داجي الخطب وانجاب غيهب
سما بك يا عبد الحميد أبوة
ثلاثون حضار الجلالة غيب
يريد أنه سليل ثلاثين سلطانا إن كانوا قد درجوا فإن جلالتهم لا تزال حاضرة في الأذهان:
قياصر أحيانا خلائف تارة
خواقين طورا والفخار المقلب
يريد بقوله قياصرة أنهم استووا على عرش القسطنطينيين مكان قياصرة الرومان، وبقوله خلائف أنهم تسلموا الخلافة الإسلامية مذ عهد سليم الأول من بني العباس، وبقوله خواقين بأنهم سلاطين الأتراك؛ لأن ملك الترك يقال له خاقان، قال الحسن بن هاني:
كأن عمود الصبح خاقان معشر
من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى
ثم قال:
نجوم سعود الملك أقمار زهوه
لو ان النجوم الزهر يجمعها أب
تواصوا به عصرا فعصرا فزاده
معممهم من هيبة والمعصب
ثم يقول:
ظهرت أمير المؤمنين على العدى
ظهورا يسوء الحاسدين ويتعب
سل العصر والأيام والناس هل نبا
لرأيك فيهم أو لسيفك مضرب
همو ملئوا الدنيا جهاما وراءه
جهام من الأعوان أهدى وأكذب
فلما استللت السيف أخلب برقهم
وما كنت يا برق المنية تخلب
أخذتهمو لا مالكين لحوضهم
من الذود إلا ما أطالوا وأسهبوا
ولم يتكلف قومك الأسد أهبة
ولكن خلقا في السباع التأهب
كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم
ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب
ومن شرف الأوطان ألا يفوتها
حسام معز أو يراع مهذب
يعيد معنى بيته «وإنما الأمم الأخلاق» يذكر أن الأوطان لتكون عزيزة محتاجة إلى الجمع بين السيف والقلم، ثم يقول:
ملكت سبيلهم ففي الشرق مضرب
لجيشك ممدود وفي الغرب مضرب
ثمانون ألفا أسد غاب ضراغما
لها مخلب فيهم وللموت مخلب
إذا حلمت فالشر وسنان حالم
وإن غضبت فالشر يقظان مغضب
فيالق أفشى في البلاد من الضحى
وأبعد من شمس النهار وأقرب
تلوح لهم في كل أفق وتعتلي
وتطلع فيهم من مكان وتغرب
وتغشى أبيات المعاقل والذرى
فثيبهن البكر والبكر ثيب
يقود سراياها ويحمي لواءها
سديد المرائي في الحروب مجرب
يجيء بها حينا ويرجع مرة
كما تدفع اللج البحار وتجذب
ومنها:
ونادت فلبى الخيل من كل جانب
ولبى عليها القسور المترقب
خفافا إلى الداعي سراعا كأنما
من الحرب داع للصلاة مثوب
منيفين من حول اللواء كأنهم
له معقل فوق المعاقل أغلب
وما هي إلا دعوة وإجابة
إن التحمت والحرب بكر وتغلب
فأبصرت ما لم تبصرا من مشاهد
ولا شهدت يوما معد ويعرب
هنا جاشت الفكرة برأس شوقي فذهبت به إلى أبعد حدود المبالغة، فلا نزاع في الترك إذا ذكرت الشجاعة والصبر على الحروب كانوا في الذروة العليا التي ينحط عنها السيل، ولكن القول بأن مشاهدهم لم تشهدها معد ويعرب فيه نظر. ولعمري أن معدا ويعرب عندما فاضت جموعها على بلاد الله كانت تقاتل في ساحات لا يحصيها العدد، فبينما جيوشها تحاصر القسطنطينية كانت جيوش أخرى تفتح إسبانيا وجنوبي فرنسا، وأخرى تقاتل أمة البربر العاصية، وأخرى تتوغل في إفريقية، وجحافل تغزو الهند، وفيالق تغزو الخزر، وجيوش فيما وراء النهر تغزو الأتراك في عقر دارهم. وكل ذلك في وقت واحد لا تلهيهم حرب عن حرب ولا تشغلهم ساحة قتال عن ساحة قتال، وكانت حرب الترك ساحة واحدة من تلك الساحات الكثيرة يستقل بها قائد مثل قتيبة بن مسلم الباهلي تجتمع عليه الترك من كل حدب، فيوالي عليها الهزائم ويقودها بالخزائم، وهو في قلة بالقياس إلى أمم الترك التي اجتمعت عليه من كل صوب، وما زال يثخن فيها حتى ضرب عليها الذلة والمسكنة إلى حدود الصين، ولاذت أخيرا من بأسه بالإسلام ودانت به، فكان من ذلك الوقت مبدأ دخول الترك في الدين العربي، فصاروا فيما بعد أحمى حماته وأمضى سيوفه، ولكن لا يقال إن أمة من الأمم تقدر أن تبذ العرب في ميادين القتال إذا كانت العرب مجتمعة على قلب واحد. وما أتى العرب إلا من تقطع ما بينهم، وصعوبة مقادتهم لرئيس واحد. وفي هذا يفضلهم الترك وبهذا سادوا عليهم.
ومن أحسن ما قال شوقي في حياته في هذه القصيدة وفي غيرها وما قاله شاعر قديم أو حديث وصف عبور الجيش العثماني مضيق «ملونا» في الحرب العثمانية اليونانية، ولا يكاد يوجد في العرب من يمت إلى الأدب بسبب إلا وهو يعرف هذه الأبيات قال:
جبال ملونا لا تخوري وتجزعي
إذا مال رأس أو تضعضع منكب
فما كنت إلا السيف والنار مركبا
وما كان يستعصي على الترك مركب
علوا فوق علياء العدو ودونه
مضيق كحلق الليث أو هو أصعب
فكان صراط الحشر ما ثم ريبة
وكانوا فريق الله ما ثم مذنب
يمرون مر البرق تحت دجنة
دخانا به أشباحهم تتجلبب
إلى أن قال في قتال الحاج عبد الأزل باشا قائد فرقة الفرسان الذي اقتحم الموت جهرا لا يمشي إليه الضراء، وذلك طمعا في الشهادة:
وأشمط سواس الفوارس أشيب
يسير به في الشعب أشمط أشيب
رفيقا ذهاب في الحروب وجيئة
قد اصطحبا والحر للحر يصحب
إذا شهداها جددا هزة الصبا
كما يتصابى ذو ثمانين يطرب
فيهتز هذا كالحسام وينثني
وينفر هذا كالغزال ويلعب
توالى رصاص المطلقين عليهما
يخضل من شيبيهما ويخضب
فقيل أنل أقدامك الأرض إنها
أبر جواد إن فعلت وأنجب
فقال أيرضى واهب النصر أننا
نموت كموت الغانيات ونعطب
ذروني وشأني والوغى لا مباليا
إلى الموت أمشي أم إلى الموت أركب
إلى أن يقول:
فهل من ملونا موقف ومسامع
ومن جبليها منبر لي فأخطب
فأسأل حصنيها العجيبين في الورى
ومدخلها الأعصى الذي هو أعجب
ويلاحظ هنا على قوله: «منبر لي فأخطب» بضم الفعل المضارع، وقد سبق ذلك استفهام في قوله: «فهل من ملونا» فالقاعدة هي أن الفعل ينتصب بعد الفاء إذا سبقه نفي أو استفهام، ثم يقول عن الترك:
هل البأس إلا بأسهم وثباتهم
أم الحزم إلا عزمهم والتلبب
أم الدين إلا ما رأت من جهادهم
أم الملك إلا ما أعزوا وهيبوا
وأي فضاء في الوغى لم يضيقوا
وأي مضيق في الوغى لم يرحبوا
وقال عن تلاقي الترك واليونان في سهل فرساله:
وفرسال إذا باتوا وبتنا أعاديا
على السهل لدا يرقبون ونرقب
وقام فتانا الليل يحمي لواءه
وقام فتاهم ليله يتلعب
توسد هذا قائم السيف يتقي
وهذا على أحلامه يتحسب
وهل يستوي القرنان هذا منعم
غرير وهذا ذو تجاريب قلب
إلى أن يقول:
ورحنا يهب الشر فينا وفيهم
وتشمل أرواح القتال وتجنب
أي إن رياح الحرب تهب شمالا وجنوبا.
ثم يقول:
كأنا أسود رابضات كأنهم
قطيع بأقصى السهل حيران مذنب
كأن خيام الجيش في السهل أينق
نواشز فوضى في دجى الليل أشزب
كأن السرايا ساكنات موائجا
قطائع تعطي الأمن طورا وتسلب
كأن القنا دون الخيام نوازلا
جداول يجريها الظلام ويسكب
كأن الدجى بحر إلى النجم صاعد
كأن السرايا موجه المتضرب
كأن المنايا في ضمير ظلامه
هموم بها فاض الضمير المحجب
كأن صهيل الخيل ناع مبشر
تراهن فيه ضحكا وهي نحب
كأن وجوه الخيل غرا وسيمة
دراري ليل طلع فيه ثقب
كأن أنوف الخيل حرا من الوغى
مجامر في الظلماء تهدأ وتلهب
كأن صدور الخيل غدر على الدجى
كأن بقايا النضح فيهن طحلب
كأن سنا الأبواق في الليل برقه
كأن صداها الرعد للبرق يصحب
كأن نداء الجيش من كل جانب
دوي رياح في الدجى تتذأب
كأن عيون الجيش في كل مذهب
من السهل جن جول فيه جوب
يريد بعيون الجيش جواسيسه وأرصاده، ثم يقول:
كأن الوغى نار كأن جنودنا
مجوس إذا ما يمموا النار قربوا
كأن الوغى نار كأن الردى قرى
كأن وراء النار حاتم يأدب
كأن الوغى نار كأن بني الوغى
فراش له في ملمس النار مأرب
وثبنا يضيق السهل عن وثباتنا
وتقدمنا نار إلى الروم أوثب
مشت في سراياهم فحلت نظامها
فلما مشينا أدبرت لا تعقب
لم يمر بي في الشعر العربي كأنات أحلى وأجزل من هذه الكأنات التي هي مع وصف عبور ملونا واستشهاد عبد الأزل باشا عيون هذه الملحمة الجبارة، ثم يقول:
فما في القوى أن السموات ترتقى
بجيش وأن النجم يغشى فيغضب
سموتم إليه والقنابل دونه
وشهب المنايا والرصاص المصوب
يريد بالقنابل كرات المدافع المنفجرة وهو خطأ دخل على لغة شوقي من كلام الجرائد، وكم للجرائد من فريسة في ميدان اللغة؛ فالقنابل في اللغة جمع قنبلة وهو مصيدة يصاد بها أبو براقش، والقنابل أيضا جمع قنبل بفتح فسكون ففتح، وهو الطائفة من الناس والطائفة من الخيل، قيل من الخمسين فصاعدا، وقيل من الثلاثين إلى الأربعين. وأما الكرة المحشوة بالديناميت التي تنفجر عند قذفها من فم المدفع فقد شبهوها بالقنبرة لا بالقنبلة؛ أي بالراء لا باللام، ووجه الشبه أن الكرة لها رأس ناتئ محدد وأن القنبرة وهي نوع من الدجاج لها فضل ريش في رأسها وهذه الكرة في شكلها كالقنبرة، وأظن هذا الاستعمال بدأ في زمان محمد علي أمير مصر؛ لأني رأيت هذه اللفظة في قصيدة للشيخ أمين الجندي الشاعر الحمصي؛ حيث يقول:
إن قيل إبراهيم جاء محاربا
سقطوا ولو كان الكلام تقولا
قامت قيامة عكة من بأسه
وأحاط من كل الجهات بها البلا
بمدافع ما إن لها من دافع
وقنابر تحكي الفضاء المنزلا
ثم يقول شوقي:
صعدتم وما غير القنا ثم مصعد
ولا سلم إلا الحديد المذرب
كما ازدحمت بئزان جو بمورد
أو ارتفعت تلقى الفريسة أعقب
فما زلتمو حتى نزلتم بروجه
ولم تحتضر شمس النهار فتغرب
والشطر الثاني من البيت الأول من هذه الأبيات الثلاثة ينظر إلى قول محمود سامي:
ونقع كموج البحر خضت غماره
ولا عاصم إلا الصفيح المشطب
وأما قوله: «ولم تحتضر شمس النهار فتغرب.» فالأولى فيه نصب فعل «تغرب» لأنه وارد بعد نفي كما تقدم الكلام عليه. وفي آخر القصيدة يقول شوقي مخاطبا السلطان عبد الحميد ولا ينسى في هذا الخطاب نغمته الدائمة، وهي أنه شاعر النيل غير مدافع:
وإني لطير النيل لا طير غيره
وما النيل إلا من رياضك يحسب
إذا قلت شعرا فالقوافي حواضر
وبغداد بغداد ويثرب يثرب
ولم أعدم الظل الخصيب وإنما
أجاز بك الظل الذي هو أخصب
فلا زلت كهف الدين والهادي الذي
إلى الله بالزلفى له يتقرب
وهذا البيت الأخير ينظر إلى قول القائل وأظنه الكميت في قصيدة يمدح بها آل البيت منها:
من النفر البيض الذين بحبهم
إلى الله في ما نابني أتقرب
بني هاشم رهط النبي فإنني
بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب (13) قصيدة شوقي بمناسبة مجيء ملنر إلى مصر
ولشوقي يوم جاء اللورد ملنر إلى مصر سنة 1919 قصيدة رنانة عن المشروع الذي يسميه المصريون بمشروع ملنر؛ لأن شوقي لم يغفل حادثة سياسية ذات بال في الشرق حتى مهرها بمنظومة لتسجل تلك الحادثة على الدهر، قال:
اثن عنان القلب واسلم به
من ربرب الرمل ومن سربه
ومن تثني الغيد عن بانه
مرتجة الأرداف عن كثبه
إلى أن يقول:
يا ظبية الرمل وقيت الهوى
وإن سعت عيناك في جلبه
ولا ذرفت الدمع يوما وإن
أسرفت في الدمع وفي سكبه
هذي الشواكي النجل صدن امرأ
ملقى الصبا أعزل من غربه
صياد آرام رماه الهوى
بشادن لا برء من حبه
شاب وفي أضلعه صاحب
خلو من الشيب ومن خطبه
واه بجنبي خافق كلما
قلت تناهى لج في وثبه
ما خف إلا للهوى والعلا
أو لجلال الوفد في ركبه
بدأ هذه القصيدة بالنسيب ككثير من قصائده؛ لأنه كان على عادة شعراء العرب في تقديم النسيب، وأما الذي لم يرافق صاحبه في الشيب وشاب الصاحب ولم يشب المصحوب؛ فيريد به القلب لأنه طالما يكون الإنسان شيخا ويكون قلبه شابا، وتقول العامة لمن كان في هذه الحالة: «نفسه خضراء.» وأما قوله: «واه بجنبي خافق.» فهي كلمة للشيخ أحمد الزرقاني الشاعر الذي أنشدني قصيدة من شعره يوم ذهبت إلى مصر قدمتي الأولى إليها منذ خمس وأربعين سنة، وما زال عالقا بذهني منها ما يلي:
أرى لوعة بين الجوانح لا تهدأ
أهذا الذي سماه أهل الهوى وجدا؟
ويا أيها الواهي الخفوق بجانبي
أأنت هو القلب الذي يحفظ الودا؟
وكانت في شعر الزرقاني رقة يشعر بها كل سامع، ثم يقول شوقي:
ما بال قومي اختلفوا بينهم
في مدحة المشروع أو ثلبه
كأنهم أسرى أحاديثهم
في لين القيد وفي صلبه
يا قوم هذا زمن قد رمى
بالقيد واستكبر عن سحبه
لو أن قيدا جاءه من عل
خشيت أن يأبى على ربه
وهذه الضجة من ناسه
جنازة الرق إلى تربه
من يخلع النير يعش برهة
في أثر النير وفي ندبه
يا نشأ الحي شباب الحمى
سلالة المشرق من نخبه
بني الألى أصبح إحسانهم
دارت رحى الفن على قطبه
موسى وعيسى نشآ بينهم
في سعة الفكر وفي رحبه
وعالجا أول ما عالجا
من علل العالم أو طبه
ما نسيت مصر لكم برها
في حازب الأمر وفي صعبه
يقول لأهل مصر: ما لكم تختلفون في درجة الحرية التي هي مدار الخلاف بينكم وبين إنجلترة، إن هذا الزمان قد رمى القيود كلها وأبى أن يسحب قيدا ولو كان القيد من السماء، وإن هذه الضجة التي ترونها إن هي إلا ضجة جنازة الرق المحمولة إلى الدفن، ولكن من كان يحمل النير فإنه وإن تخلص منه فلا يزال عليه أثر جرحه، ثم يذكر أهل مصر بماضيهم العظيم وبما هم جديرون به في المستقبل.
1
رثاء المؤلف لمحمد فريد رحمه الله
وقد ذكرتني هذه الأبيات أبياتا قلتها في رثاء المرحوم محمد بك فريد رئيس الحزب الوطني الذي توفي سنة 1919 في برلين، ولم أكن اطلعت على قصيدة شوقي هذه، بل كانت وفاة فريد قبل مشروع ملنر، وإنما توارد الخاطر مع الخاطر؛ قلت:
فانظر إلى مصر العزيزة بعضها
مثل البريم ببعضها مشدودا
تمشي إلى التحرير لا هيابة
خطرا ولا الموت الزؤام مبيدا
حاشا ولو جار القوي ولو طغى
أحرار مصر أن تكون عبيدا
مهما استعز الغالبون بجندهم
فالحق أعظم قوة وجنودا
قد أقبل الزمن الذي أبناؤه
لا يحملون سلاسلا وقيودا
وهذا هو بيت القصيد، ومنها خطابا لفريد رحمه الله:
لله وفيت الأمانة حقها
وبذلت فيها طارفا وتليدا
وأذبت في حسراتها كبدا بها
أوديت تحرق من ذويك كبودا
وكان موت فريد بمرض الكبد، ثم قلت:
لم تدخر في حب مصر وأهلها
وسعا ولا جهدا هناك جهيدا
ما عز عندك أن تركت لأجلها
وطنا وقصرا كالسدير مشيدا
ولذائذ ونفائسا أورثتها
عنها انصرفت وعيلا ووليدا
غادرته طفلا وطال بك النوى
فحرمت منظره وصار رشيدا
لخلاص مصر قد تركت مآثرا
بيضا سهرت لها ليالي سودا
كنت المتيم والعميد بحبها
فلذا لفتيتها غدوت عميدا
كم خطئوك وعاندوك وكل من
يفري فريك لم يزل محسودا
حتى تمخضت السنون حقائقا
خروا لديها ركعا وسجودا
علموا بأنك لم تكن متهورا
بل كنت تنظر مذ نظرت بعيدا
عمدوا لرأيك فانقلبت وتلك من
نعم الإله مؤيدا تأييدا
لم تحتضر إلا ومصر كلها
لنظير صنعك تستحث وفودا
فلشد ما قرت عيونك عندما
حف الجميع لواءك المعقودا
لا شك أن الكثيرين ممن كانوا يرمون محمد فريد بالتهور وعقم المساعي، عادوا بعد الحرب العامة إلى أفكاره حتى أصبح الجميع وطنيين، يدينون من العقيدة الوطنية بما كان يدين به، فصار الجميع حزبا وطنيا؛ ومنها:
نم يا فريد على يقينك إنه
يوم تأذن بالخلاص عتيدا
لا بد من فرج قريب عنده
مصر تؤمم شخصك الملحودا
ويبشرونك بالخلاص إلى الثرى
أن قم وشاهد يومك الموعودا
ولعمري كان جديرا بالمصريين بعد عقد المعاهدة التي انعقدت بينهم وبين الإنكليز أخيرا أن يؤموا قبري مصطفى كامل ومحمد فريد، ويترحموا عليهما وعلى الشيخ جاويش في يوم مشهود:
يبقى مع الأهرام ذكرك ثابتا
ويظل قبرك مثلها مشهودا
وهناك تنقلب المدامع قرة
ويعود مأتمك المفجع عيدا •••
ولهذه المرثية نكتة لا بأس بإيرادها، وما زال للحديث شجون؛ وذلك أني لما سمعت نعي محمد بك فريد كنت في برن من سويسرة، وكنت أسكن أنا وسعادة الدكتور عبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين اليوم في أوتيل واحد على قمة الجبل المشرف على برن، فلما جاءنا خبر فريد وكان عزيزا على كل منا بلغ الأسى منا مبلغه، فقال عبد الحميد بك: لا بد أن ترثيه. فقلت له: وهو كذلك. وثاني يوم قال لي بعد أن نهضنا عن الطعام: هل عملت الرثاء للمرحوم فريد؟ فقلت: لا. قال فيجب أن تعمله الآن. قلت: لا بد لي من القيلولة بعد الطعام. قال: إلا أن البريد سيمشي الآن، فوالله لا تقيل قبل أن تعمل هذا الرثاء. فصعدت إلى غرفتي ونظمت هذه الأبيات في نصف ساعة، ورجعت إلى عبد الحميد بك فناولته إياها، فدهش وقال لي: اذهب الآن ونم. وحقيقة الحال أن سرعة النظم هي على قدر عمق التأثر ودرجة الاقتناع بالموضوع، فإذا كان الإنسان ملآن من الموضوع انثالت عليه الألفاظ كأنها تتقلع من صبب آخذا بعضها برقاب بعض، وإذا كان الإنسان محمولا على الموضوع بغير سائق الشعور أو حادى الاقتناع كان في نظمه أو نثره متعملا متكلفا، كأنما يصعد جبلا؛ فأوصاف محمد فريد وأعماله هي التي أملت على ناظم هذه المرثية ما أملته، حتى قال هذه الأبيات في نصف ساعة وهو ثقيل الأجفان يريد أن ينتهي منها ليأخذ نصيبه من الراحة. •••
ولنعد إلى قصيدة شوقي في مشروع ملنر، فهو يقول:
يا رب قيد لا تحبونه
زمانكم لم يتقيد به
ومطلب في الظن مستبعد
كالصبح للناظر في قربه
واليأس لا يجمل من مؤمن
ما دام هذا الغيب في حجبه (14) قصيدة شوقي في مشروع 28 فبراير
وقال شوقي في مشروع 28 فبراير، ويا ليته عاش حتى رأى مصر حرة مطلقة من عقالها كما هي اليوم:
أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
وفاز بالحق من لم يأله طلبا
وجاء في حاشية هذه القصيدة هذا التفسير، وأظنه لمحمد حسين بك هيكل: «لم يأل: لم يقصر؛ قال تعالى:
لا يألونكم خبالا ، وهذا البيت من الحكم الغالية التي لا تتاح لغير أمير الشعراء، فكم وراء جهاد الحياة من راحة، وكم وراء الضعف من قوة.» قلت: إن لشوقي بلا نزاع حكما غالية لم تكن تتاح لغيره، إلا أنه لم يكن أبا عذرة هذه الحكمة التي استهل بها هذه القصيدة؛ فإن أبا تمام الطائي من قبله هو الذي قال:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
وهي من قصيدته التي هنأ بها المعتصم على فتح عمورية:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
ثم يقول شوقي:
وما قضت مصر من كل لبانتها
حتى تجر ذيول الغبطة القشبا
في الأمر ما فيه من جد فلا تقفوا
من واقع جزعا أو طائر طربا
لا تثبت العين شيئا أو تحققه
إذا تحير فيها الدمع واضطربا
يريد أن يقول إن من الناس من استطاره طربا هذا الاستقلال المقيد؛ لأنه رآه بالقياس إلى الماضي غير منتظر، ومنهم من استطاره جزعا لأنه نصف استقلال وليس هو بنشيدة آمال المصريين، فهو ينهى الفريقين هذا عن الطرب وهذا عن الجزع، ثم يقول للجازع: إن العين لا ترى المرئيات جيدا إذا كان يجول الدمع في مآقيها، فارفع الدمع من عينك حتى تقدر أن ترى جليا.
إذا طلبت عظيما فاصبرن له
أو فاحشدن رماح الخط والقضبا
ولا تعد صغيرات الأمور له
إن الصغائر ليست للعلى أهبا
ولن ترى صحبة ترضى عواقبها
كالحق والصبر في أمر إذا اصطحبا
إن الرجال إذا ما ألجئوا لجئوا
إلى التعاون فيما جل أو حزبا
قال: إما الصبر وإما الحرب، فأما الصغائر فلا تصل بكم إلى غاية. ثم قال:
تمهدت عقبات غير هينة
تلقى ركاب السرى من مثلها نصبا
وأقبلت عقبات لا يذللها
في موقف الفصل إلا الشعب منتخبا
كم صعب اليوم من سهل هممت به
وسهل الغد في الأشياء ما صعبا
ضموا الجهود وخلوها منكرة
لا تملئوا الشدق من تعريفها عجبا
يريد أن يقول إن عقابا كئودا قد تمهدت، ولا تزال عقاب لا تقل عن تلك غير ممهدة، ولكن إذا اتفق الشعب وانتخب نوابه، فقد يصل إلى أربه، وربما تيسر في الغد ما لم يتيسر اليوم (ولقد تيسر ما تكهن به شوقي بعد ثماني سنوات مما قال)، فضموا مجهوداتكم واجعلوها فكرة منسوبة للبلاد بأسرها، ولا تضيعوا الوقت في نسبتها إلى الأشخاص، وتفضيل زيد على عمرو، والاختلاف على من كان هو العامل:
أفي الوغى ورحى الهيجاء دائرة
تحصون من مات أو تحصون ما سلبا
خلوا الأكاليل للتاريخ إن له
يدا تؤلفها درا ومخشلبا
أمر الرجال إليه لا إلى نفر
من بينكم سبق الأنباء والكتبا
يقول: إذا كانت الهيجاء دائرة، فليس من العقل أن يشتغل الناس بإحصاء من ذهب أو إحصاء ما ذهب، بل هذا متروك إلى ما بعد انتهاء المصاف، كذلك المعارك السياسية التي التاريخ وحده هو الذي يعطي فيها كل مقاتل حقه، فإلى التاريخ مرجع الفصل في هذه القضية، وأما أنتم فلستم الآن في تاريخ بل في سياسة تجب معالجتها بما يناسبها. ثم يقول:
قالوا الحماية زالت قلت لا عجب
بل كان باطلها فيكم هو العجبا
رأس الحماية مقطوع فلا عدمت
كنانة الله حزما يقطع الذنبا
ولقد آتى الله الكنانة حزما كافيا في أثناء غارة إيطاليا على الحبشة، فاستغلت الخصام الإيطالي الإنكليزي وقطعت ذنب تلك الحماية.
لو تسألون «ألنبي» يوم جندلها
بأي سيف على يافوخها ضربا
يا فاتح القدس خل السيف ناحية
ليس الصليب حديدا كان بل خشبا
إذا نظرت إلى أين انتهت يده
وكيف جاوز في سلطانه القطبا
علمت أن وراء الضعف مقدرة
وأن للحق لا للقوة الغلبا
أي إن الصليب كان خشبا لا حديدا، وكان أصحابه أضعف خلق الله، ومع هذا فقد انتهى أمرهم إلى ما انتهى إليه من القوة، فلا ينبغي أن يعتمد القوي على قوته، ويسرف في الاعتماد عليها، وكم من الله على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة.
وهذه الأبيات الثلاثة الأخيرة هي من الأبيات الخالدة التي يحفظها مئات الألوف من الناطقين بالضاد، ولا يبرحون يطرزون المجالس بها، ولو ترجمت إلى لغة أجنبية لما خسرت شيئا من طلاوتها ولا من قوة معناها، كما هو الشأن فيما يحول من لغة إلى لغة. (15) قصيدة شوقي عن تأجيل حفلة التتويج لملك إنكلترة
ولشوقي قصيدة في تأجيل حفلة التتويج لملك إنجلترة إدوارد السابع، وقالوا إنها تأجلت لإصابة الملك بدمل، ومطلع هذه القصيدة هو هذا:
لمن ذلك الملك الذي عز جانبه
لقد وعظ الأملاك والناس صاحبه
ومنها:
أيبطل عيد الدهر من أجل دمل
وتخبو مجاليه وتطوى مواكبه
ويرجع بالقلب الكسير وفوده
وفيهم مصابيح الورى وكواكبه
وتسمو يد الدهر ارتجالا ببأسها
إلى طنب الأقواس والنصر ضاربه
ويستغفر الشعب الفخور لربه
ويجمع من ذيل المخيلة ساحبه
ما أحسن قوله يجمع من ذيل المخيلة ساحبه؛ أي يقصر من ذيل الخيلاء الذي كان يجرره.
ألا هكذا الدنيا وذلك ودها
فهلا تأنى في الأماني خاطبه
أعد لها إدوارد أعياد تاجه
وما في حساب الله ما هو حاسبه (16) قصيدة شوقي في ذكرى كارنارفون
وقال شوقي في ذكرى كارنارفون:
من سره ألا يموت فبالعلا
خلد الرجال وبالفعال النابه
ما مات من جاز الثرى آثاره
واستولت الدنيا على آدابه
قل للمدل بماله وبجاهه
وبما يجل الناس من أنسابه
هذا الأديم يصد عن حضاره
وينام ملء الجفن عن غيابه
يريد بالأديم وجه هذه الأرض.
إلا فتى يمشي عليه مجددا
ديباجتيه معمرا لخرابه (17) قصيدة شوقي في تكريم الريحاني
وله في إكرام الفيلسوف الأديب الكبير الأستاذ أمين الريحاني اللبناني عندما جاء إلى مصر، وأقام له الأدباء حفلا على سفح الأهرام، قال:
قف ناج أهرام الجلال وناد
هل من بناتك مجلس أو ناد؟
ومنها:
إيه أمين لمست كل محجب
في الحسن من أثر العقول وباد
قم قبل الأحجار والأيدي التي
أخذت لها عهدا من الآباد
وخذ النبوغ عن الكنانة إنها
مهد الشموس ومسقط الآراد
ما زال يغشى الشرق من لمحاتها
في كل مظلمة شعاع هاد
كم من جلائل أنعم لمحمد
بل كم لإسماعيل بيض أياد
لولا اهتمامهما لظل الشرق في
واد وأبناء الزمان بواد
ثم يخاطب الريحاني، وهذا الخطاب يذكرني بدويا سمع مديحا في رجل كبير فقال: القول على الفعل يزين:
يا نجم سوريا ولست بأول
ماذا نمت من نير وقاد
أطلع على يمن بيمنك في غد
وتجل بعد غد على بغداد
وأجل خيالك في طلول ممالك
مما تجوب وفي رسوم بلاد
يقول له: لست أنت أول نجم من أنجم سورية، فقد طلع منها نيرات وقادة قبلك، فاطلع الآن بعد مصر على اليمن، وتجل على العراق لترى ما ترى في رسوم تلك الأربع وتتذكر مجد العرب القديم. ولقد قام الريحاني وايم الله بهذه المهمة، وكتب عن أحوال جزيرة العرب الكتب الممتعة، ودعا إلى وحدة العرب بكل طريقة، ولا بد من الاعتراف بهذه الحقيقة. ثم قال له:
قضيت أيام الشباب بعالم
لبس السنين قشيبة الأبراد
ولد البدائع والروائع كلها
وعدته أن يلد البيان عواد
لم يخترع شيطان حسان ولم
تخرج مصانعه لسان زياد
الله كرم بالبيان عصابة
في العالمين عزيزة الميلاد
يقول للريحاني إنك قضيت أيام شبابك في عالم جديد أذل الله له أعراف البدائع الصناعية وألان أعطاف الروائع العلمية، ولكنه لم يدرك شأو العرب في فصاحة اللسان، ولم يلد شعراء كثيرين مثل حسان بن ثابت، ولا خطباء كثيرين مثل زياد بن أبيه. ثم قال:
هومير أحدث من قرون بعده
شعرا وإن لم تخل من آحاد
والشعر في حيث النفوس تلذه
لا في الجديد ولا القديم العادي
يقول: إن هومير وهو أقدم الشعراء، لا يزال شعره حديثا طليا لم يبلغ درجته شعراء كثيرون تأخروا عنه عشرات من القرون؛ وذلك أن الشعر ليس فيه قديم وجديد، وإنما فيه لذيذ وغير لذيذ، فما استلطفته النفوس فهو شعر لا تخلق ديباجته ولو كان قديما، وما مجته الأذواق فليس بشعر ولو كان جديدا. (18) رأي المؤلف في قديم الشعر وجديده
قلت: ولو كانت القدمة مما يهجن الشعر لوجب أن يكون هومير منبوذا؛ فإنه أقدم شاعر، ونحن لم نزل نقول لهؤلاء الذين لا يفتئون يتكلمون في القديم والجديد من الشعر، ويزعمون أن لكل عصر «مدرسة» على قولهم في الشعر: إن هذه «المدرسة» تكون في العلم، وتكون في الصناعة، وتكون في الزراعة، وتكون في كل شيء إلا في الشعر، فإن مدرسته هي القلب، وإن طريقته هي النفس، وإن النفس البشرية لم تتغير ولن تتغير، فهي هي في أذواقها ومشاربها ومواردها في الحياة ومصادرها، فإذا كان العلم يتغير بظهور حقائق جديدة وبروز أسرار كونية كانت حتى اليوم خافية، فإن العلم شيء والشعر شيء آخر.
وما سمعنا - يا ليت شعري - أن الإنجليز زهدوا في شعر شكسبير لكونه عاش قبل هذه الأيام بثلاثمائة سنة، ولا أن الألمان عابوا غوته لقدم عهده ومجيئه قبل اليوم بمائة وخمسين سنة، ولم يزل غوته هو عند الألمان سيد الشعراء، ولم يزل شكسبير عند الإنكليز أكبر الشعراء، وشكسبير وغوته وملتون وكورنيل وراسين ودانتي، وكل هؤلاء لم يعرفوا شيئا من أوضاع العصر الحاضر ببداهة كونهم قد سبقوه بأعصر، وهم على كل حال متقدمون لا محدثون.
وكم من مرة نقول لهم: ليس الشعر بكيمياء ولا طب ولا جغرافية ولا طبيعيات، وإنما هو تأثرات نفسية وانطباعات فكرية لا غير، هذا من جهة الشعر على العموم، وأما من جهة الشعر العربي الذي تريدون أن تفرنجوه، فالشعر العربي لا يكون شعرا إلا إذا وافق ذوق العرب، ولاءم مشارب أنفسهم، وجانس مذاهب لغتهم، واتصل بمناحي حياتهم نظمه قديم أو متوسط أو محدث كلهم على حد سواء، فإذا باين الشعر العربي أساليب العرب في بيانها وطرقها في التعبير عن خوالج نفوسها، لم يتأثر به قارئ، ولا يسوغه سامع من العرب، وربما لم يفهموه أصلا على حد ما قال الأستاذ محب الدين الخطيب: إن الواحد من هؤلاء «يظل يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستل منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية، فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضا، فلا يفهم منها القارئ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني.» وأنا أيضا معترف بأني لا أفهم هذه اللغة التي يكتبون بها.
ثم يختم شوقي خطابه للريحاني:
أو دع لسانك واللغات فربما
غنى الأصيل بمنطق الأجداد
إن الذي ملأ اللغات محاسنا
جعل الجمال وسره في الضاد (19) إحدى قصائد شوقي في السلطان عبد الحميد
ولما ألقيت قذيفة على السلطان عبد الحميد سنة 1905 ونجا السلطان منها، هنأه شوقي بقصيدة مطلعها:
هنيئا أمير المؤمنين فإنما
نجاتك للدين الحنيف نجاة
ومنها:
بلوناك يقظان الصوارم والقنا
إذا ضيع الصيد الملوك سبات
سهرت ولذ النوم وهو منية
رعايا تولاها الهوى ورعاة
فلولاك ملك المسلمين مضيع
ولولاك شمل المسلمين شتات
لقد ذهبت راياتهم غير راية
لها النصر وسم والفتوح شيات
حنيفية قد عزها وأعزها
ثلاثون ملكا فاتحون غزاة
حماها وأسماها على الدهر منهم
ملوك على أملاكه سروات
أي إن سلاطين آل عثمان هم ذرى ملوك الإسلام.
غمائم في محل السنين هواطل
مصابيح في ليل الشكوك هداة
تهادت سلاما في ذراك مطيفة
لها رغبات الخلق والرهبات
تموت سباع الجو غرثى حيالها
وتحيا نفوس الخلق والمهجات
سننت اعتدال الدهر في أمر أهله
فبات رضيا في ذراك وباتوا
أكان لهذا الأمر غيرك صالح
وقد هونته عندك السنوات
أي صارت إدارة الملك ملكة عندك بطول اضطلاعك بها.
ومن يسس الدنيا ثلاثين حجة
تعنه عليها حكمة وأناة
وما زلت حسان المقام ولم تزل
تليني وتسري منك لي النفحات
زهدت الذي في راحتيك وشاقني
جوائز عند الله مبتغيات
يجعل نفسه من السلطان الخليفة بمقام حسان من رسول الله عليه السلام، ويقول إنه لم يزل مغمورا بعطايا الخليفة، ولكنه هو إنما يرغب في جوائز الله بتأييد خليفته في الأرض، لا في جوائز هذه الدنيا. ولم يشأ شوقي أن يمدح الخليفة من دون أن يمدح نفسه مقتديا في ذلك بإمامه أبي الطيب المتنبي الذي كان يقول:
فدع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
ويقول:
خليلي إني لا أرى غير شاعر
فلم منهم الدعوى ومني القصائد
ويقول وقد تجاوز الحد وانتهى بذلك إلى الحمق:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
وهذه قصيدته «وا حر قلباه ممن قلبه شبم» ملأى بأوا وعجبا وعجرفة، لا يشك سامعها في أن المتنبي قصد يومئذ فراق سيف الدولة وقطع صلته به، ومن إعجاب الشعراء بأنفسهم ما يغتفره لهم الناس، مثل قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
ولكن منه ما يسمج على كل حال، مثل قول المتنبي «بأنني خير من تسعى به قدم»؛ شهد لنفسه بما لا يوافقه عليه أحد، فأما شوقي فلم يصل إلى ذلك الأمد في البأو، وإن كان لم يقصر في ذلك عند قوله:
ومن كان مثلي أحمد الوقت لم تجز
عليه ولو من مثلك الصدقات
ولي درر الأخلاق في المدح والهوى
وللمتنبي درة وحصاة
أي إنه كما كان أحمد بن الحسين المتنبي رجل وقته في الشعر، فإن أحمد شوقي هو رجل هذا الوقت، وإنه يفضل المتنبي بكون شعره سويا لا تجد فيه عوجا ولا أمتا، وإن المتنبي كان في شعره يعلو ويسفل، ويقرن بين الدر والحصى والسيف والعصا. (20) شوقي نصير الصون والعفاف
ولشوقي قصيدة ألقيت على جمع حافل من سيدات مصر في حديقة الأزبكية تدل على شدة اهتمامه بصيانة الأخلاق والفضائل، وتحصين التربية العائلية من نزعات العصر الحاضر ونزغات الخلاعة والفجور، بينما كثير من الأدباء يزينون للناشئة الخروج على تقاليد الصون، ويريدونها فوضى اجتماعية لا لجام لها؛ وقال شوقي ولم يزل على صراط مستقيم:
قم حي هذي النيرات
حي الحسان الخيرات
واخفض جبينك هيبة
للخرد المتخفرات
زين المقاصر والحجا
ل وزين محراب الصلاة
هذا مقام الأمها
ت فهل قدرت الأمهات؟
لا تلغ فيه ولا تقل
غير الفواصل محكمات
وإذا خطبت فلا تكن
خطبا على مصر الفتاة
اذكر لها اليابان لا
أمم الهوى المتهتكات
ماذا لقيت من الحضا
رة يا أخي الترهات
لم تلق غير الرق من
عسر على الشرقي عات
ينهى أهل مصر عن أن يقوم فيهم من يخطب فيفجر، فيكون خطبا على مصر الناشئة، ويرخي فيها من قيود الآداب الاجتماعية، ويسهل العبث بالتقاليد القديمة الكريمة، ويقول لهم: تأملوا في اليابان وشدة اعتصامها بتقاليدها مع علو كعبها في المدنية. ثم يقول لهم: ماذا افتتانكم إلى ذلك الحد في حضارة أوروبية لم تجدوا من ورائها غير العسر والرق. ثم يقول:
خذ بالكتاب وبالحدي
ث وسيرة السلف الثقات
وارجع إلى سنن الخلي
قة واتبع نظم الحياة
هذا رسول الله لم
ينقص حقوق المؤمنات
العلم كان شريعة
لنسائه المتفقهات
رضن التجارة والسيا
سة والشئون الأخريات
كانت سكينة تملأ الد
نيا وتهزأ بالرواة
روت الحديث وفسرت
آي الكتاب البينات
وحضارة الإسلام تن
طق عن مكان المسلمات
بغداد دار العالما
ت ومنزل المتأدبات
ودمشق تحت أمية
أم الجواري النابغات
ورياض أندلس نمي
ن الهاتفات الشاعرات
جزاه الله عن الإسلام خيرا، بل جزاه عن المجتمع الشرقي بأسره خيرا؛ فإنه لم يقف موقفا من مواقف الاجتماع غفل فيه عن الطريقة المثلى، وهو وإن كان كلامه لم ينجع كما يجب، ولم يؤثر بقدر ما نحب، بسبب استيلاء الضلالة على العقول وإفلات الشهوات من العقال، فلا بد أن تكون للأخلاق كرة، وأن يعود السلطان للشريعة، ويتناشد الناس أقوال شوقي هذه ويرحموا عليه. ثم قال:
للصالحات عقائل ال
وادي هوى في الصالحات
الله أنبتهن في
طاعاته خير النبات
فأتين أطيب ما أتى
زهر المناقب والصفات
لم يكف أن أحسن ح
تى زدن حظ المحسنات
يمشين في سوق الثوا
ب مساومات رابحات
مصر تجدد مجدها
بنسائها المتجددات
النافرات من الجمو
د كأنه شبح الممات
هل بينهن جوامدا
فرق وبين الموميات
لما حضن لنا القض
ية كن خير الحاضنات
غذينها في مهدها
بلبانهن الطاهرات
ينفثن في الفتيان من
روح الشجاعة والثبات
يهوين تقبيل المهن
د أو معانقة القناة
ويرين حتى في الكرى
قبل الرجال محرمات
فرق شوقي بين الجمود وبين الاعتصام بالتقاليد الكريمة والمبادئ الفاضلة التي لا سعادة للمجتمع إلا بها، فليس هذا من هذا، بل الجمود ليس من تقاليد هذه الأمة، وإن أحسن ما يعمل في مدارس الإناث هو تحفيظ هذه الأبيات للآنسات، وتجديد تلاوتها في المحافل. (21) شوقي يدمدم على رذيلة الانتحار
ورأى شوقي ما فشا في مصر من انتحار صغار الطلبة لدن سقوطهم في الامتحانات، فنظم هذه القصيدة في ذم اليأس، ودعوة هؤلاء الشبان إلى الثبات في المعركة، وإلى بسط الأمل في الحياة، فقال:
كل يوم خبر عن حدث
سئم العيش ومن يسأم يذر
عاف بالدنيا بناء بعدما
خطب الدنيا وأهدى ومهر
حل يوم العرس منها نفسه
رحم الله العروس المحتضر
ضاق بالعيشة ذرعا فهوى
عن شفا اليأس وبئس المنحدر
راحلا في مثل أعمار المنى
ذاهبا في مثل آجال الزهر
لا أرى الأيام إلا معركا
وأرى الصنديد فيه من صبر
رب واهي الجأش فيه قصف
مات بالجبن وأودى بالحذر
لامه الناس وما أظلمهم
وقليل من تغاضى أو عذر
ولقد أبلاك عذرا حسنا
مرتدي الأكفان ملقى في الحفر
قال ناس صرعة من قدر
وقديما ظلم الناس القدر
ويقول الطب بل من جنة
ورأيت العقل في الناس ندر
ويقولون جفاء راعه
من أب أغلظ قلبا من حجر
وامتحان صعبته وطأة
شدها في العلم أستاذ نكر
لا أرى إلا نظاما فاسدا
فكك العلم وأودى بالأسر
من ضحاياه وما أكثرها
ذلك الكاره في غض العمر
ما رأى في العيش شيئا سره
وأخف العيش ما ساء وسر
نزل العيش فلم ينزل سوى
شعبة الهم وبيداء الفكر
ونهار ليس فيه غبطة
وليال ليس فيهن سمر
ودروس لم يذلل قطفها
عالم إن نطق الدرس سحر
وبعد أن ذكر هذه الأسباب التي تضيق سبل العيش على الأحداث، وأنحى باللائمة على الأهل والمعلمين، عاد فنصح للأحداث بالصبر والتأني والتقدم إلى الأمام، فقال:
نشأ الخير رويدا قتلكم
في الصبا النفس ضلال وخسر
لو عصيتم كاذب اليأس فما
في صباها ينحر النفس الضجر
تضمر اليأس من الدنيا وما
عندها من حادث الدنيا خبر
فيم تجنون على آبائكم
ألم الثكل شديدا في الكبر
وتعقون بلادا لم تزل
بين إشفاق عليكم وحذر
فمصاب الملك في شبانه
كمصاب الأرض في الزرع النضر
ليس يدري أحد منكم بما
كان يعطى لو تأنى وانتظر
أي ربما كان بين هؤلاء المنتحرين لأجل سقوطهم في الامتحان من لو صبر على نفسه، لجاء عالما كبيرا أو كان في عصره نادرا.
روحوا القلب بلذات الصبا
فكفى الشيب مجالا للكدر
أي بكرتم في الغم من هذه الدنيا، فسوف تأتيكم الشيخوخة بما هو حسبكم من هذه الجهة.
عالجوا الحكمة واستشفوا بها
وانشدوا ما ضل منها في السير
واقرءوا آداب من قبلكم
ربما علم حيا من غبر
واغنموا ما سخر الله لكم
من جمال في المعاني والصور
واطلبوا العلم لذات العلم لا
لشهادات وآراب أخر
كم غلام خامل في درسه
صار بحر العلم أستاذ العصر
النشأ محركة جمع نشء، وهو النسل وكثيرا ما يستعمل شوقي هذه اللفظة في خطاب الشبان هذا، وكم أصاب في قوله اطلبوا العلم لذات العلم؛ فقد رأيت كثيرا من الشبان يجعلون جميع وكدهم في تحصيل الشهادة ويرون بها منتهى السعادة، وإذا حصل الواحد عليها ظن نفسه عالما لا يجوز أن يقال له أخطأت، أوليس أنه أحرز الشهادة؟ ورأيت شبانا آخرين يكاد أحدهم يذوب حسرة وتألما على كونه لم يصب الشهادة ولم يفز بما فاز به غيره، وهو يتخيل أن الأرض قد ابتلعته، فكنت أقول للفئة الأولى: لا يغرنكم نيل الشهادة فتناموا بعدها قائلين لأنفسكم أنكم صرتم علماء، بحجة أن الشهادة هي في أيديكم، بل يجب أن تثابروا على الدرس والتحقيق كأن شهادتكم لم تكن، فالشهادة ليست العلم. وكنت أقول للفئة الثانية: ما أرى تأخركم في الامتحان إلا خيرا لكم؛ إذ بهذا التأخر تضطرون إلى مراجعة دروسكم المرة والمرتين والثلاث، فيكون ذلك وسيلة لتتمكنوا من العلم وتعرفوا أكثر مما عرفه أصحاب الشهادات، واعلموا أن الشهادة ليست هي العلم الحقيقي، بل هي علامة من علاماته، فمن عرف نفسه قد أحكم الفن الذي عكف عليه، فلا ينبغي أن يحزن على تأخر الشهادة، ومن عرف نفسه لا يزال غير ضليع في العلم الذي درسه، فلا ينبغي أن يفرح بهذه الورقة التي أعطاه إياها الأساتيذ، وكثيرا ما قدموا متأخرا وأخروا متقدما، فكم من طالب تأخر أيام التحصيل، ثم بعد خروجه من الجامعة نبغ وتقدم وصار من كبار العلماء.
وهذا كما يقول شوقي الذي قسم الله له من المنطق ما لم يقسم إلا لأعاظم الفلاسفة. وختم شوقي هذه القصيدة بذم الانتحار واستنكار قتل النفس التي لا يجوز أن تموت إلا باسم الله تعالى، ولم يحمد موطنا يجوز فيه الاستخفاف بالنفس إلا موطن الجهاد، فقال رحمه الله:
قاتل النفس ولو كانت له
أسخط الله ولم يرض البشر
ساحة العيش إلى الله الذي
جعل الورد بإذن والصدر
لا تموت النفس إلا باسمه
قام بالموت عليها وقهر
إنما يسمح بالروح الفتى
ساعة الروع إذا الجمع اشتجر
فهناك الأجر والفخر معا
من يعش يحمد ومن مات أجر (22) شوقي يتوجع على بيروت يوم ضربها الطليان أيام حرب طرابلس
وله عندما ضرب الأسطول الإيطالي مدينة بيروت في أثناء حرب طرابلس الغرب:
يا رب أمرك في الممالك نافذ
والحكم حكمك في الدم المسفوك
إن شئت أهرقه وإن شئت احمه
هو لم يكن لسواك بالمملوك
ثم يقول:
بيروت مات الأسد حتف أنوفهم
لم يشهروا سيفا ولم يحموك
سبعون ليثا أحرقوا أو أغرقوا
يا ليتهم قتلوا على «طبروك»
يريد بها «طبرق» الواقعة غربي السلوم ضمن حدود قضاء درنة، وقد كان الناس دعوا جنود السفينة الصغيرة العثمانية الراسية في المرفأ للخروج منها قبل أن يضربها الأسطول، فأبى الضباط ذلك وأصروا على البقاء في السفينة قياما بالواجب، ولو كانوا سيموتون لا محالة، فتلقوا الموت اليقين حتى لا يقال إنهم فروا منه.
بيروت يا راح النزيل وأنسه
يمضي الزمان علي لا أسلوك
الحسن لفظ في المدائن كلها
ووجدته لفظا ومعنى فيك
نادمت يوما في ظلالك فتية
وسموا الملائك في جلال ملوك
ينسون حسانا عصابة جلق
حتى يكاد بجلق يفديك
يشير إلى قول حسان: «لله در عصابة آنستهم
يوما بجلق في الزمان الأول »
تالله ما أحدثت شرا أو أذى
حتى تراعي أو يراع بنوك
إن يجهلوك فإن أمك سوريا
والأبلق الفرد الأشم أبوك
لك في ربى النيل المبارك جيرة
لو يقدرون بدمعهم غسلوك
يشير بالأبلق الفرد الأشم إلى جبل لبنان وبنوه بسورية العزيزة وطن الكرم والشجاعة، قائلا لبيروت إنها أمك البرة. (23) وصف شوقي لاستانبول
ولشوقي وصف للآستانة:
مني لعهدك يا فروق تحية
كعيون مائك أو ربى واديك
أو كالنسيم غدا عليك وراح من
فوف الرياض ووشيها المحبوك
أو كالأصيل جرى عليك عقيقه
أو سال من عقيانه شاطيك
تلك الخمائل والعيون اختارها
لك من ربى جناته باريك
قد أفرغت فيك الطبيعة سحرها
من ذا الذي من سحرها يرقيك
خلعت عليك جمالها وتأملت
فإذا جمالك فوق ما تكسوك
عن جيدك الحالي تلفتت الربى
واستضحكت حور الجنان بفيك
إن أنس لا أنس الشبيبة والهوى
وسوالف اللذات في ناديك
ولياليا لم ندر أين عشاؤها
من فجرها لولا صياح الديك
وصبوحنا من «بندلار» و«شرشر»
وغبوقنا «بترابيا» و«بيوك»
هذه منازل ومتنزهات في البوسفور، أما «البندلار» فهي أودية ذات سدود تشكلت منها بحيرات يذهب ماؤها إلى الآستانة، وشرشر هي عين ماء، وترابيا هي قرية على ضفة البوسفور وكذلك «بيوك دره». ثم يقول:
لا يحزننك من حماتك خطة
كانت هي المثلى وإن ساءوك
وهم الخفاف إليك كالأنصار إذ
قل النصير وعز من يفديك
والمشتروك بمالهم ودمائهم
حين الشيوخ بجبة باعوك
هنا تحامل أخونا شوقي على الشيوخ الذين لولاهم في الحقيقة لم يقم أهل الأناضول ولا لبوا دعوة كاظم قره بكير، ولا مصطفى كمال، ولا أحد سواهما؛ فالجهاد التركي في وجه الحلفاء واليونان، وبعبارة أخرى الحرب التي يسمونها بحرب الاستقلال، لم تكن إلا بتحريض الأئمة والمشايخ وجميع أصحاب العمائم، وذلك بصارخة الإسلام التي لباها الشعب التركي.
هذه هي حقيقة لا يكابر فيها إلا من أعمت الضلالة قلوبهم، ومن غلبوا على الأمور اليوم، فظنوا أنهم يسخرون الحقائق كما يسخرون الأهالي، ويغلبون على التاريخ كما غلبوا على المناصب، ولا نعلم أحدا من علماء الترك باع بلاده من الأجانب بجبة، وإنما كان بعضهم سيئ الظن ببعض القواد الذين أقحموا أنفسهم بحرب الاستقلال، وكانوا مطلعين من قبل على ضمائرهم بحق الإسلام والأخلاق، متوقعين من غلبهم أن يئول الأمر إلى ما آل إليه من الإلحاد في الدين، ومن هدم الخلافة، ومن القضاء على الأوضاع الإسلامية بأسرها؛ مما عاد شوقي نفسه بعد قليل فاعترف به وناح وبكى من أجله، وقصيدته الحائية التي مرت أعظم شاهد على ذلك؛ فالذين أفتوا بما أفتوا به لم يكونوا خائنين لوطنهم، وإنما كانوا أمناء لدينهم خائفين على الإسلام من أمر يأتي.
وقد يجد المعترض على كلامي هذا وجها للجواب، ولكنه يكون جواب سفسطة، ليس هنا محل الشرح والتفصيل لبيانه، وقد زلق شوقي في هذه الفكرة كما زلق ملايين من الخلق، ولكن الحقيقة لا يضرها كثرة عدد مخالفيها. (24) قصيدة شوقي في اللورد كرومر (يوم عزل عن مصر)
ومن قصائد شوقي المشهورة القصيدة المسماة (وداع اللورد كرومر):
أيامكم أم عهد إسماعيلا
أم أنت فرعون يسوس النيلا
أم حاكم في أرض مصر بأمره
لا سائلا أبدا ولا مسئولا
يا مالكا رق الرقاب ببأسه
هلا اتخذت إلى القلوب سبيلا
يقول لكرومر: إنك غلبت على مصر بقوة الأسطول الإنجليزي آمنا بذلك، فهل تقدر أن تقول إنك ملكت قلبا واحدا من قلوب أهل مصر؟ ومن لم يملك القلوب فلا يقال إنه ملك شيئا؛ لأن الممالك لا يمكن أن ترتكز على رءوس الحراب دائما:
أوسعتنا يوم الوداع إهانة
أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
هلا بدا لك أن تجامل بعدما
صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا
انظر إلى أدب الرئيس ولطفه
تجد الرئيس مهذبا ونبيلا
في ملعب للمضحكات مشيد
مثلت فيه المبكيات فصولا
شهد «الحسين» عليه لعن أصوله
ويصدر الأعمى به تطفيلا
لما جرت حفلة الوداع للورد كرومر في دار الأوبرا يوم خروجه من مصر، خطب رئيس النظار مصطفى باشا فهمي، وبحسب العادة في مثل تلك الحفلات أثنى على المودع وأظهر الأسف لفراقه، فأجابه اللورد كرومر بكلام نال فيه من كرامة الأمة المصرية ومن الخديوي إسماعيل، ولم يراع شيئا من شروط الكياسة، وأغرب ما في الأمر أنه قال ما قال في حضور الأمير حسين كامل ابن الخديوي إسماعيل وسلطان مصر فيما بعد، وهذا ما يشير إليه شوقي بقوله: «شهد الحسين عليه لعن أصوله»، وأما الأعمى فهو صديقنا الأستاذ الشيخ عبد الكريم سليمان، وكان بصره ضعيفا حتى كاد يكف في الآخر، وما نظن شوقي ذكره هنا إلا على سبيل النكتة، أو كما يقال جرته القافية؛ فإن الشيخ عبد الكريم لم يكن له شأن في السياسة، ولم يكن حضوره تلك الحفلة إلا كما يحضر سائر الاجتماعات، فقد كان مولعا بذلك، وكان الناس يتنادرون عليه في كثرة وجوده في المآدب والمحافل، وكان حلو الفكاهة يطارد في ميدان المداعبة أحسن طراد، وكانت الناس تستخف روحه؛ فأما أن يقوم الشيخ عبد الكريم ويرد على اللورد كرومر في وجهه، على حين الأمراء والوزراء تحملوا كلامه وأبلسوا أمامه، فلم يكن من فرسان ذلك الميدان. ثم يقول:
أنذرتنا رقا يدوم وذلة
تبقى رحالا لا ترى تحويلا
أحسبت أن الله دونك قدرة
لا يملك التغيير والتبديلا
الله يحكم في الملوك ولم تكن
دول تنازعه القوى لتدولا
فرعون قبلك كان أعظم سطوة
وأعز بين العالمين قبيلا
اليوم أخلفت الوعود حكومة
كنا نظن عهودها الإنجيلا
دخلت على حكم الوداد وشرعه
مصرا فكانت كالسلال دخولا
هدمت معالمها وهدت ركنها
وأضاعت استقلالها المأمولا
قالوا جلبت لنا الرفاهة والغنى
جحدوا الإله وصنعه والنيلا
نعم، إن الكثيرين من سعاة الأجانب ودعاتهم كانوا دائما يبينون للناس ما جرى من الإصلاحات في مصر لعهد الإنجليز، وينسون أن الله تعالى أنعم على مصر بالنيل، وأنه لولا النيل لم تتسهل هذه الإصلاحات، وأن الإنجليز دخلوا بلادا غير مصر فلم يوفقوا إلى شيء مما وفقوا به في مصر؛ لأنه لم يكن لتلك البلاد نيل يسقيها ويسيل الذهب في واديها؛ ثم إن هؤلاء ينسون شيئا آخر، وهو أن مصر على فرض أن الإنجليز لم يدخلوها، ما كانت لتقف في مكانها السياسي والاجتماعي والإداري وتبقى متأخرة عن درجة غيرها، أفلا يرون أن محمد علي كان قد أنشأها نشأة جديدة، وبنى فيها المدارس والمعاقل والمعامل، ونظم الجيوش وأجرى في البحر الأساطيل، ومهد الطرق وبنى السدود وشق الجداول إلى غير ذلك مما يعدده شوقي، فيقول:
وحياة مصر على زمان محمد
ونهوضها من عهد إسماعيلا
ومدارسا لبني البلاد حوافلا
حظ الفقير بهن كان جزيلا
ومعاقلا لا تمحى آثارها
وجيوش إبراهيم والأسطولا
وجداولا بين الضياع جواريا
تذر اليباب مزارعا وحقولا
ومدائنا قد خططت وطرائقا
كانت حزونا فاستحلن سهولا
والقطن مزروعا بفضل محمد
في مصر محلوجا بها مغزولا
قد مد إسماعيل قبلك للورى
ظل الحضارة في البلاد ظليلا
إن قيس في جود وفي سرف إلى
ما تنفقون اليوم عد بخيلا
يريد أن يقول إن الإنجليز كانوا يجورون على خزانة مصر ويجحفون بها أكثر مما كان إسماعيل يجور عليها، فلماذا لا يزالون ينتقدون إسرافه؟
أو كان قد صرع المفتش مرة
فلكم صرعت بدنشواي قتيلا
أي إنه إن كان إسماعيل باشا ظلم وقتل إسماعيل باشا المفتش ظلما، فكم ظلمتم أنتم وقتلتم ظلما من أناس في حادثة دنشواي، وهي أن جنودا من جيش الاحتلال الإنجليزي اصطادوا حماما لأهل دنشواي (قرية من أعمال المنوفية)، برغم رجاء أهل القرية لهم ألا يفعلوا، فوقع بين الفريقين نزاع من أجل صيد الحمام، فاعتدى الجنود الإنجليز على بعض الأهالي، فدافعوا عن أنفسهم وفر أحد الإنجليز في الحر، فأصيب بضربة الشمس فمات، وعند ذلك قامت قيامة اللورد كرومر، فأمر بأهل القرية فحوكموا محاكمة صارت مثلا مضروبا في الظلم، وشنق عدة أشخاص من أهل القرية، وجلد آخرين وسجن كثيرين، وشاعت فظاعة هذه الحادثة حتى في إنجلترة نفسها، فاضطرت الحكومة الإنجليزية أن تصرف اللورد كرومر عن مصر بسببها؛ ولذلك غلب عليه الحقد فتكلم بما تكلم به في حفلة توديعه، وخالف الأدب بما فعله، وتركها على نفسه سبة باقية زادها شعر شوقي تخليدا.
لا تذكر الكرباج في أيامه
من بعد ما أنبت فيه ذيولا
أي إنه إن كان إسماعيل قد استعمل المقرعة في أيامه، فأنت أيها اللورد جعلت لهذه المقرعة ذيولا، وجلدت أكثر مما جلد إسماعيل، ومن الجملة ما جلدت في دنشواي.
كم منة موهومة أتبعتها
منا على الفطن الخبير ثقيلا
في كل تقرير تقول خلقتكم
أفهل ترى تقريرك التنزيلا
أي كلما قدم اللورد كرومر تقريرا سنويا عن مصر والسودان، ادعى لنفسه من الإصلاحات ما ادعى، ونزل ذلك منزلة الحقائق التي لا شك فيها، ومن بها على مصر منا ثقيلا، كما قال بعضهم:
رأيتك تكويني بميسم منة
كأنك كنت الأصل في يوم تكويني
ثم ذكر كيف أضاع اللورد كرومر الجيش المصري وضعضع قوته عمدا، وقلم أظفاره خبثا ولؤما، وحرم ضباطه الترقي عن درجات معلومة، فصاروا يعيشون بلا أمل، ويخدمون بلا مكافأة، مع أن إنجلترة إنما فتحت السودان بدم هذا الجيش المصري لا بغيره، وقد صاغ شوقي هذا الموضوع بالأبيات الآتية:
أم هل يعد لك الإضاعة منة
جيش كجيش الهند بات ذليلا
انظر إلى فتيانه ما شأنهم
أوليس شأنا في الجيوش ضئيلا
حرمتهم أن يبلغوا رتب العلا
ورفعت قومك فوقهم تفضيلا
فإذا تطلعت الجيوش وأملت
مستقبلا لم يملكوا التأميلا
من بعد ما زفوا لإدوارد العلا
فتحا عريضا في البلاد طويلا
ثم يذكر شوقي أصناف الناس الذين يحق لهم أن يأسفوا على انفصال كرومر عن ولاية أمر مصر، مثل الإنجليز الذين ملكهم كرومر زمام هذا القطر، ومثل أعضاء الكلوب أو النادي في القاهرة، ومثل القسيسين المبشرين، ومثل الصرافين بلندن، ومثل جريدة التايمس والجرائد الاستعمارية، ومثل شركة قناة السويس؛ فقال:
لو كنت من حمر الثياب عبدتكم
من دون عيسى محسنا ومنيلا
حمر الثياب كناية عن العسكر الإنجليزي المحتل لمصر.
أو كنت بعض الإنجليز قبلتكم
ملكا أقطع كفه تقبيلا
أو كنت عضوا في الكلوب ملأته
أسفا لفرقتكم بكا وعويلا
أو كنت قسيسا يهيم مبشرا
رتلت آية مدحكم ترتيلا
أو كنت صرافا بلندن دائنا
أعطيتكم عن طيبة تحويلا
أو كنت «تيمسكم» ملأت صحائفي
مدحا يردد في الورى موصولا
أو كنت في مصر نزيلا جاهدا
سبحت باسمك بكرة وأصيلا
يشير بالبيت الأخير إلى النزلاء الأجانب الذين يتمتعون بالامتيازات الأجنبية، ولا تقدر الحكومة المصرية أن تواجه منهم أحدا إلا عن طريق قنصله، وهذه الامتيازات كان اللورد كرومر من أشد المحافظين عليها؛ رغبة في تقييد مصر وكسر شوكتها.
أو كنت سريونا حلفت بأنكم
أنتم حبوتم بالقناة الجيلا
سريون هذا مدير شركة قناة السويس.
عهد الفرنج وأنت تعلم عهدهم
لا يبخسون المحسنين فتيلا
أي إن الفرنج لا يبخسون المحسنين حقهم، وهل من رجل أحسن إليهم بقدر إحسانك في مصر؟ وذلك على ظهر أهلها.
فارحل بحفظ الله جل صنيعه
مستعفيا إن شئت أو معزولا
واحمل بساقك ربطة في لندن
واخلف هناك غراي أو كمبيلا
أو شاطر الملك العظيم بلاده
وسس الممالك عرضها والطولا
كان اللورد كرومر قد حمل على الاستعفاء من بعد حادثة دنشواي، ولكنه هو وأصحابه حاولوا إقناع الناس بأنه استعفى بمجرد إرادته واختياره؛ فشوقي يقول له: على كل حال قد ذهبت عنا مستعفيا أو معزولا، فارحل بحفظ الله. وقوله «بحفظ الله» أسلوب من أساليب الكلام التي يقصد بها غير ظاهرها، كما يقول الإنسان: «اذهب مع السلامة» لمن يريد أن يتخلص منه. ثم يقول له: كن ما شئت بعد أن تخلصت مصر منك، فليعطوك وسام ربطة الساق، ولتخلف هناك الوزير غراي أو الوزير كمبيل، ولتشاطر إدوارد في ملكه، هذا كله لا يهمنا على شرط أن ترحل عنا. ثم يقول:
إنا تمنينا على الله المنى
والله كان بنيلهن كفيلا
من سب دين محمد فمحمد
متمكن عند الإله رسولا
يقول لكرومر: قد تمنينا على الله أن يقلعك فانقلعت، وهذا كل ما نريد، وإن من حب دين محمد، فمحمد عليه السلام له جاه عظيم عند الله فالله ينتقم له، وهذا إيماء إلى ما جاء في تقرير اللورد كرومر عن سنة 1906، من أن دين الإسلام دين لا يصلح لهذا العصر؛ فقد بلغ من جبروت هذا السيد الإنجليزي وغطرسته وعداوته للإسلام أن قذف بدين أهالي مصر التي كان يلي أمرها، وبدين أتباعه وهم خمس العائلة البشرية، وذلك في تقرير رسمي يقدمه لحكومته وينتشر في الأرض، فلا جرم أن مصر قد صبرت على الأذى في دنياها ودينها إلى أقصى مراحل الصبر، ولقد تأذن الله بفك قيودها الثقيلة في هذه السنة بفضل نزاع إنكلترة مع إيطاليا،
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين .
ولا نظن أديبا أو شاديا شيئا من الأدب في مصر وجوارها، غير حافظ لقصيدة شوقي هذه، وحافظ له جميلها، فهي لسان المصري الموتور المتأجج صدره وغرا، المنتقم لوطنه ودينه وشرفه وملكه وماله، الذي ينطق عن قلب ملآن وكبد قد قرحتها الأحزان، ويتكلم بلسان من دونه السنان. (25) قصيدة شوقي في الثورة السورية
ولما دمر الفرنسيس دمشق في إبان الثورة السورية - وفي أيام العداوة بين السوريين والفرنسيس - أقيمت في القاهرة حفلة استنكار لذلك العمل، وتليت فيه الخطب والقصائد، فقال شوقي القصيدة الآتية، وتسابقت الصحف إلى نشرها، فاشترت جريدة السياسة امتياز السبق إلى نشر هذه القصيدة بأربعين جنيها، وضم هذا المال إلى إعانة منكوبي الثورة السورية:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي
جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها لقلبي
إليك تلفت أبدا وخفق
وبي مما رمتك به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
دخلتك والأصيل له ائتلاق
ووجهك ضاحك القسمات طلق
وتحت جنانك الأنهار تجري
وملء رباك أوراق وورق
وحولي فتية غر صباح
لهم في الفضل غايات وسبق
على لهواتهم شعراء لسن
وفي أعطافهم خطباء شدق
رواة قصائدي فاعجب لشعر
بكل محلة يرويه خلق
يقول إنه كان حوله يوم دخل دمشق فتية غر الأفعال صباح الوجوه هم بلهواتهم كناية عن أفواههم، شعراء لسن جمع ألسن وهو الفصيح، وفي أعطافهم كناية عن مواقفهم، خطباء شدق جمع أشدق وهو المفوه البليغ، ومع هذا فإنهم رواة شعري الذي بكل محلة من الدنيا له رواة. قلت: لم يبالغ شوقي في هذا، ولكن لم يرو عنه الرواة من الشعر كما رووا من هذه القصيدة . ثم قال:
غمزت إباءهم حتى تلظت
أنوف الأسد واضطرم المدق
وضج من الشكيمة كل حر
أبي من أمية فيه عتق
لحاها الله أنباء توالت
على سمع الولي بما يشق
يفصلها إلى الدنيا بريد
ويجملها إلى الآفاق برق
تكاد لروعة الأحداث فيها
تخال من الخرافة وهي صدق
وقيل معالم التاريخ دكت
وقيل أصابها تلف وحرق
يقول إنه كانت تأتي أخبار هذه القارعة النازلة بدمشق الصاكة للأسماع، مجملة بالبرقيات مفصلة بالكتابات، يكاد الناس يحسبونها من الخرافات المخيلة، والحقيقة أنها وقائع وقعت فعلا، وقيل إنه دمر ذلك اليوم أبنية تاريخية وبيوت مزدانة بأفخر الصنعة العربية. ثم قال:
ألست دمشق للإسلام ظئرا
ومرضعة الأبوة لا تعق
صلاح الدين تاجك لم يجمل
ولم يوسم بأزين منه فرق
وكل حضارة في الأرض طالت
لها من سرجك العلوي عرق
بنيت الدولة الكبرى وملكا
غبار حضارتيه لا يشق
له بالشام أعلام وعرس
بشائره بأندلس تدق
بعد أن ذكر صلاح الدين دفين دمشق، ذكر الدولة الكبرى، ويريد بالدولة الكبرى دولة بني أمية؛ لأنه لم تتسع فتوحات الإسلام في دور كما اتسعت في زمانهم، لا سيما خلافة عبد الملك بن مروان. ويشير بقوله: «غبار حضارتيه ... إلخ» إلى الحضارة الأموية في دمشق، والحضارة الأموية في قرطبة؛ فإن الثانية هذه لها عروق من الأولى. ثم قال:
رباع الخلد ويحك ما دهاها
أحق إنها درست أحق؟
وهل غرف الجنان منضدات
وهل لنعيمهن كأمس نسق؟
وأين دمى المقاصر من حجال
مهتكة وأستار تشق
برزن وفي نواحي الأيك نار
وخلف الأيك أفراخ تزق
إذا رمن السلامة من طريق
أتت من دونه للموت طرق
بليل للقذائف والمنايا
وراء سمائه خطف وصعق
إذا عصف الحديد احمر أفق
على جنباته واسود أفق
إذا قرأ القارئ هذه الأبيات تصور الحالة كأنه يراها بعينه، عقائل مقصورات في الحجال، برزن إلى الطرق للنجاة، والنار تعمل في البيوت وتأخذ على الهاربين والهاربات أفواه الطرق، وعلى أيدي أولئك العقائل أطفال كالأفراخ التي تزقها أمهاتها بمناقيرها، وقد ضاقت على الناس الأرض بما رحبت، فكيف سلكوا فهي النار النازلة عليهم في جوف الظلام، تخطف الأرواح وتصعق الأجسام طول الليل - لأن ضرب دمشق بالمدافع استمر 56 ساعة - كلما نزلت كرة من كرات الديناميت، احمر جانب من الأفق بلون اللهيب، واسود الجانب الآخر بلون الدخان، ويستحيل على أي شاعر أن يبلغ هذه الدرجة من البلاغة في وصف القذائف الحربية، ولا سيما تحت الظلام. ثم قال:
سلي من راع غيدك بعد وهن
أبين فؤاده والصخر فرق؟
وللمستعمرين وإن ألانوا
قلوب كالحجارة لا ترق
رماك بطيشه ورمى فرنسا
أخو حرب به صلف وحمق
إذا ما جاءه طلاب حق
يقول: عصابة خرجوا وشقوا
يقول: هل من أدخل على نساء دمشق هذا الهول كله يقال إن بين قلبه والصخر فرقا؟ لا لعمري إن قلبه كالصخرة قسوة، وهذه حال الدول الاستعمارية بأسرها، فإن رجالها وإن ألانوا القول فلينهم رياء، وفعلهم بعكس قولهم، وقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة؛ وقد رماك يا دمشق ورمى فرنسا نفس وطنه بسبب رميك قائد متكبر أحمق، يعني به الجنرال سراي، وقد كان الناس إذا جاءوه يرجونه الكف عن ضرب دمشق، أجابهم أنه إنما يضرب عصاة شقوا عصا الطاعة.
ويشير بقوله «رمى فرنسا» إلى أن هذا الفعل قد بقي سبة وعارا في التاريخ على فرنسا، بسبب هذا القائد ولم يقدر أن يدافع عنه أحد.
قلت: وقد نشرت أنا في ذلك رسالة بالإفرنسية وطبعتها في جنيف، ووزعتها في الآفاق، واستحسنها الناس وجاءني من المستر ماكدونالد نفسه استنكار لتدمير دمشق، وقد كان ذلك بعد رئاسته الأولى لنظار إنجلترا، ولكن ماكدونالد هذا لم يكن بأقل ظلما في عمله لتهويد فلسطين التي فجيعتها لا تقاس بها فجيعة. ثم قال:
دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحق
جرى في أرضها فيه حياة
كمنهل السماء وفيه رزق
بلاد مات فتيتها لتحيا
وزالوا دون قومهم ليبقوا
وحررت الشعوب على قناها
فكيف على قناها تسترق؟
يريد أن فرنسا لها ضراوة بدم الثوار، وهي تعلم ما أوجدته الثورة فيها من حقوق كانت ضائعة، وأنوار علم كانت خافية، وأن الثورة كانت حياة لفرنسا، وقد مات فيها البعض ليحيا الكل، ومن عادة الشعوب أن تنال حريتها برءوس الحراب، فكيف يعقل أن سورية تزداد رقا على رق برءوس الحراب، بعد أن سفك السوريون دماءهم لأجل الحرية؟ ثم قال:
بني سورية اطرحوا الأماني
وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خدع السياسة أن تغروا
بألقاب الإمارة وهي رق
وكم صيد بدا لك من ذليل
كما مالت من المصلوب عنق
فتوق الملك تحدث ثم تمضي
ولا يمضي لمختلفين فتق
يخاطب أبناء سورية قائلا: ذروا الأماني وانبذوا الأحلام الكواذب ولا تغتروا بلقب «الدولة السورية»، ولا «لبنان الكبير»، ولا «دولة جبل الدروز»، ولا «حكومة العلويين»، وما أشبه ذلك من ألقاب مملكة في غير موضعها، فإن كل هذه الحكومات أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وكلها مستعبدة لفرنسا. وقد تجدون من عليه لقب أمير أو وزير وهو جالس على كرسيه، وإنما هو مائل العنق ينظر إلى نقطة واحدة، يخاله الناس أميرا أصيد من شدة كبره، وليس ذلك بعبرة، بل المصلوب أو المشنوق يميل بعنقه وهو ميت. وقد أنث شوقي العنق هنا وليس ذلك بخطأ وإن كان التذكير أقوى. ثم قال إن فتوق الملك تحدث في كل مكان، ولكنها قابلة للرتق إلا إذا انصدعت الوحدة وتفرقت كلمة الشعب؛ فذلك فتق لا رتق له، وشق لا يحاص، فإياكم وأن تصدعوا وحدتكم بالخلاف فيما بينكم، ولو عاش شوقي إلى اليوم لقرت عيونه بما رآه من وحدة كلمة السوريين التي حملت فرنسة على الاعتراف باستقلالهم، في الوقت الذي كانت فيه إنكلترة تعترف باستقلال مصر، فتحرر القطران الشقيقان في وقت واحد.
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
يقول: ليست مصر والشام بدار واحدة، ولكن مصر والشام كلتاهما من الشرق؛ فبينهما جامعة شرقية، ولسان كل من القطرين هو اللسان العربي، وأية رحم شابكة أكثر من هذا؟
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
ومن يسقي ويشرب بالمنايا
إذا الأحرار لم يسقوا ويسقوا
ولا يبني الممالك كالضحايا
ولا يدني الحقوق ولا يحق
ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فدى لهم وعتق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
ينثر شوقي بهذا النظم نصائحه الغالية لأهل سورية، مبنية على التجربة والتاريخ والمبادئ السرمدية، فيقول للسوريين: وقفتم الآن بين الموت والحياة، فإن رمتم الراحة الكبرى فاتعبوا، وإن نشدتم النعيم المقيم فاختاروا لأنفسكم الشقاء مدة من الزمن؛ لأنه لا يدرج النعيم إلا من أوكار العذاب، وإن دماء الأحرار المسفوكة في سبيل الأوطان ديون مستحقة، لا بد للدهر من أن يتوفر على إيفائها، ومن لعمري يسقي ويشرب بكئوس المنايا نهلا وعلا إذا كان أحرار البلاد لا يشربون بتلك الكئوس ولا يسقون بها، وهو معنى فيه شيء من قول الشاعر:
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وقال إنه لا شيء يقوم عليه أساس الممالك مثل الضحايا، ولا ما يحق الحقوق غيرها، فكل أمة بذلت في سبيل حريتها دماء، فإن تلك الدماء تنال لها حقوقها في الحرية ولا يقدر أن يكابر فيها مكابر، وبالجملة فلا تحيا الأمم إلا بقتل بعض رجالها، ولا يعيشون طلقاء إلا بأسر البعض الآخر، وما قرع باب الحرية الحمراء إلا الأيدي الملطخة بالدم. وقد وصف الحرية «بالحمراء» كناية عن كونها لا تنال إلا بالدم المسفوك، ويجوز أن يقال في معنى «الحمراء» أنها «الشديدة»؛ وذلك أن العرب وصفوا الشدة دائما بالحمرة. ثم قال:
جزاكم ذو الجلال بني دمشق
وعز الشرق أوله دمشق
نصرتم يوم محنته أخاكم
وكل أخ بنصر أخيه حق
يدعو لأهل دمشق أن يؤيدهم الله، ويذكر أن دمشق في الحقيقة كانت أول مركز عز وسيادة للشرق، فإن الدولة الإسلامية الأولى وهي دولة بني أمية إنما اتخذت دمشق لها عاصمة. ثم يقول لأهل دمشق: مرحى لكم أنتم الذين نصرتم إخوانكم الدروز يوم زحف إليهم الفرنسيس، فلم تذروهم منفردين، وشغلتم الفرنسيس من الوراء بثورة الغوطة، ولا عجب في ذلك؛ فإنكم إنما نصرتم إخوانكم، وكل أخ حق بنصر أخيه، وقوله حق: هو بمعنى حقيق أو جدير. ثم يقول:
وما كان الدروز قبيل شر
وإن أخذوا بما لم يستحقوا
ولكن ذادة وقراة ضيف
كينبوع الصفا خشنوا ورقوا
لهم جبل أشم له شعاف
موارد في السحاب الجون بلق
لكل لبوءة ولكل شبل
نضال دون غابته ورشق
كأن من السموءل فيه شيئا
فكل جهاته شرف وخلق
قال: وإن إخوانكم الدروز هؤلاء لم يكونوا قبيلة شر، وإنهم لم يستحقوا النكال الذي أراد الفرنسيس أن ينزلوه بهم، فالدروز في الحقيقة قوم كرام يعزون الضيف ويمنعون حماهم بالسيف، وهم يجمعون بين الرقة والخشونة، ففي حال السلم وعدم الاعتداء عليهم تراهم أرق الناس خلقا وأكثرهم أدبا وأخفضهم جناحا، فإذا اعتدى عليهم معتد انقلب كل منهم ليثا عاديا، بعد أن كان حملا وديعا، وما أشبههم بالينبوع المنفجر من الصخر في الجمع بين الرقة والجمود. ولهم جبل أشم له رءوس كأنها موارد للسحاب، وهذه الرءوس تجمع بين البياض من صخورها، والسواد من السحب التي تتراكم عليها؛ فلذلك هي بلق، وإذا اعتدى معتد على الدروز وجدت كل امرأة منهم أسدة تناضل عن قومها، وكل شاب أسدا يراشق عن قومه، وكأنما هو السموأل في وفائه، وشرف نفسه وحمية أنفه، مع سعة حلمه ورقة طبعه، فهو من كل الجهات شرف وحسن خلق.
قال شوقي في الدروز هذه الأبيات، وأحسن ما فيها أنه قال قولا لم ينكره أحد عليه؛ لأن الإجماع واقع على اتصاف بني معروف بهذه الخلال التي عرفها شوقي فيهم، إما من التاريخ، وإما في أثناء قدماته إلى الشام، وإما من الاثنين معا.
ومما أذكره عن هذه الأبيات أنني لما قفلت من الحج الشريف، ووقفت أياما في السويس، وجاء أحمد شوقي رحمه الله يسلم علي في تلك البلدة، فيمن جاءوا من مصر للسلام علي، كان لا بد من أن نتذاكر الشعر، فجرتنا القافية إلى قصيدته الدمشقية هذه؛ لأن العالم العربي كله قام لها وقعد، وهلل بها وكبر، فلما وصلنا إلى الأبيات المختصة بالدروز ، قلت له: عندما بدأت بقولك: «لكل لبوءة ولكل شبل» خفت أن يكون جواب هذه الجملة «نضال عن مغارته ورشق». فقال لي: «وهي إيه.» قلت له: «هي نضال دون غابته ورشق»، والغابة هي والمغارة كلتاهما مأوى للأسد، ولكن الغابة أخف وقعا على السمع، وأقرب إلى الأنس.
هذا وقيل إن هذه القصيدة التي لم يقل فيها شوقي شيئا سوى الحق كانت سببا في غضب الفرنسيس على شوقي، وفي حرمانه زيارة المغرب؛ سمعت أنه استأذن الحكومة الإفرنسية في هذه الزيارة، فأبت عليه الإذن بها معتلة عليه بقصيدته هذه، وقد حرمت عالم الأدب بمنعها شوقيا من زيارة المغرب، بدائع آثار ويتائم أشعار كانت تسير في الأقطار، فلو رأى شوقي ذلك القطر العظيم بما فيه من آثار المدنية العربية البالغة حد التناهي في الفخامة ودقة الصنعة وسلامة الذوق، والتي هي نسج واحد مع حمراء غرناطة ومسجد قرطبة وقصر إشبيلية، وشاهد من بقايا حضارة الإسلام، ما حدا الكاتبين الإفرنسيين الكبيرين جيروم وجان تارو أن يقولا: إن الذي لم يشاهد مقبرة الملوك السعديين في حاضرة مراكش لم يعلم إلى أية درجة تناهت المدنية الإسلامية في العالم، وكانت ولا شك قد استفزته تلك المناظر وهاتيك المساكن المتناسبة مع أهلها المأهولة بذلك الشعب المغربي الكريم، وتلك الأمة الموصوفة بالعزة والمنعة من القديم، ما أنطقه بقواف سائرات في الأقطار وفاخرات باللآلئ الكبار، لا سيما وهو شاعر الإسلام غير مدافع، وصناجة العرب غير منازع في هذا العصر. (26) قصيدة شوقي في السلطان حسين
ولشوقي قصيدة في السلطان حسين كامل، يذكر فيها مفاخر عائلة محمد علي فيقول:
الملك فيكم آل إسماعيلا
لا زال بيتكم يظل النيلا
لطف القضاء فلم يمل لوليكم
ركنا ولم يشف الحسود غليلا
هذي أصولكم وتلك فروعكم
جاء الصميم من الصميم بديلا
إلى أن يقول:
أأخون إسماعيل في أبنائه
ولقد ولدت بباب إسماعيلا
ولبست نعمته ونعمة بيته
فلبست جزلا وارتديت جميلا
ووجدت آبائي على صدق الهوى
وكفى بآباء الرجال دليلا
رؤيا علي يا حسين تأولت
ما أصدق الأحلام والتأويلا
القوم حين دهى القضاء عقولهم
كسروا لأيديهم بمصر غلولا
هدموا بوادي النيل ركن سيادة
لهم كركن العنكبوت ضئيلا
يقول: إن حلم محمد علي بجعل مصر مملكة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطنة العثمانية قد تحقق هذه المرة، فالأتراك حينما دخلوا في الحرب العامة ساقوا إنجلترة إلى إعلان فصل سيادتهم عن مصر، فكأنهم هم بأيديهم قطعوا روابطهم مع وادي النيل. ثم يقول:
يا أكرم الأعمام حسبك أن ترى
للعبرتين بوجنتيك مسيلا
من عثرة ابن أخيك تبكي رحمة
ومن الخشوع لمن حباك جزيلا
ولو استطعت إقالة لعثارة
من صدمة الأقدار كنت مقيلا
يا أهل مصر كلوا الأمور لربكم
فالله خير موئلا ووكيلا
جرت الأمور مع القضاء لغاية
وأقرها من يملك التحويلا
أخذت عنانا منه غير عنانها
سبحانه متصرفا ومديلا
هل كان ذاك العهد إلا موقفا
للسلطتين وللبلاد وبيلا
يقول للسلطان حسين إنك أكرم الأعمام، وحسبنا أننا نراك تبكي رحمة على عثرة ابن أخيك الخديوي عباس، كما أنك تبكي من خوف الخضوع لمن أجلسوك على العرش، ولعمري لو استطعت أن تعيد ابن أخيك إلى سريره لفعلت ولآثرته على نفسك. ثم يقول لأهل مصر: دعوا التدبير لله، فلقد كان العهد الماضي موقفا لسلطتين متناقضتين، ولم يكن في ذلك خير للبلاد؛ يريد بالسلطتين السلطة الشرعية التي كانت للسلطان ووكيله الخديوي، والسلطة الفعلية التي كانت للإنجليز المحتلين. (27) قصيدة شوقي في أبي الهول
وله في أبي الهول:
أبا الهول ماذا وراء البقاء
إذا ما تطاول غير الضجر
عجبت للقمان في حرصه
على لبد والنسور الأخر
وشكوى لبيد لطول الحياة
ولو لم تطل لتشكى القصر
ولو وجدت فيك يابن الصفاة
لحقت بصانعك المقتدر
فإن الحياة تفل الحديد
إذا لبسته وتبلي الحجر
يقول إن بقاءك يا أبا الهول إلى اليوم إنما هو لأنك لست حيا، فلو كنت حيا للحقت بالذين نحتوك؛ لأن الحياة ما لبست كائنا إلا أبلته ولو كان حديدا.
وقال:
أبا الهول ويحك لا يستقل
مع الدهر شيء ولا يحتقر
تهزأت دهرا بديك الصباح
فنقر عينيك فيما نقر
أسال البياض وسل السواد
وأوغل منقاره في الحفر
فعدت كأنك ذو المحبسين
قطيع القيام سليب البصر
كأن الرمال على جانبيك
وبين يديك ذنوب البشر
كأنك فيها لواء القضاء
على الأرض أو ديدبان القدر
أبا الهول أنت نديم الزمان
نجي الأوان سمير العصر
بسطت ذراعيك من آدم
ووليت وجهك شطر الزمر
تطل على عالم يستهل
وتوفي على عالم يحتضر
فعين إلى من بدا للوجود
وأخرى مشيعة من غبر
فحدث فقد يهتدى بالحديث
وخبر فقد يؤتسى بالخبر
ألم تبل فرعون في عزه
إلى الشمس معتزيا والقمر
وأبصرت إسكندرا في الملا
قشيب العلا في الشباب النضر
وشاهدت قيصر كيف استبد
وكيف أذل بمصر القصر
وكيف تجبر أعوانه
وساقوا الخلائق سوق الحمر
وكيف ابتلوا بقليل العديد
من الفاتحين كريم النفر
رمى تاج قيصر رمي الزجاج
وفل الجموع وثل السرر
فدع كل طاغية للزمان
فإن الزمان يقيم الصعر
يقول لأبي الهول: لا يحتقر شيء مع الدهر، ألا ترى أنك أنت عندما هزأت بديك الصباح؛ أي الزمن الذي لا يخلو من ديك يصيح باكرا، جاء هذا الزمن فنقر عينيك فعدت كأنك أبو العلاء المعري. ثم يقول له: إنك من على عنق الدهر باسط ذراعيك تنظر إلى الناس، تودع الغابر من الأمم وتستقبل القادم، فحدثنا عما رأيت فإنك تاريخ عام.
ثم أخذ شوقي يسرد الوقائع التاريخية التي مرت على مصر، وما قيل في أبي الهول شيء من الشعر يداني هذه القصيدة. (28) شعر شوقي في الأزهر
ولشوقي قصيدة في الأزهر مطلعها:
قم في فم الدنيا وحي الأزهرا
وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واخشع مليا واقض حق أئمة
طلعوا به زهرا وماجوا أبحرا
لا تحذ حذو عصابة مفتونة
يجدون كل قديم شيء منكرا
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا
من مات من آبائهم أو عمرا
من كل ماض في القديم وهدمه
وإذا تقدم للبناية قصرا
وأتى الحضارة بالصناعة رثة
والعلم نزرا والبيان مثرثرا
يخاطب نفسه قائلا: قم وحي هذا المعهد العلمي الأكبر واخشع له، واقض حقوق الأئمة الأبحر الذين ماجوا فيه من قديم الزمان، ولا تكن كأولئك المفتونين الذين ينكرون كل قديم، ولو استطاعوا لأنكروا آباءهم، وهم من شدة رغبتهم في الهدم وكونهم فرسانا في التخريب، نجدهم راجلين في البناء؛ فإذا دعوت الواحد منهم إلى صناعة لم يحسنها، أو إلى علم لم يأت بشيء منه، أو إلى بيان ما جاء إلا بالثرثرة. ثم يقول: إني وإن لم أكن ممن تخرجوا في الأزهر، فإني لا أقصر دون غايات البيان، وإن إصلاح الأزهر ليهمني كمسلم؛ ولذا قمت مهنئا بهذا الإصلاح باسم الحنيفة.
ما ضرني أن ليس أفقك مطلعي
وعلى كواكبه تعلمت السرى
لا والذي وكل البيان إليك لم
أك دون غايات البيان مقصرا
لما جرى الإصلاح قمت مهنئا
باسم الحنيفة بالمزيد مبشرا
نبأ سرى فكسا المنارة حبرة
وزها المصلى واستخف المنبرا
يأتي زها لازما ومتعديا.
وسما بأروقة الهدى فأحلها
فرع الثريا وهي في أصل الثرى
ومشى إلى الحلقات فانفرجت له
حلقا كهالات السماء منورا
حتى ظننا الشافعي ومالكا
وأبا حنيفة وابن حنبل حضرا
كيف يتغنى بوصف الأزهر ولا يذكر المصلى والمنارة والمنبر، ولا يشير إلى الأروقة وإلى حلقات الدروس، ولا يذكر أئمة المذاهب الأربعة؛ إنه لشاعر لا يؤتى من جهة في فنه. (29) قصيدة شوقي في الرحالة حسنين
وله من قصيدة عن الرحالة المصري محمد حسنين بك، وصف فيها رحلته الشاقة في صحراء ليبيا، جاء فيها:
كم في الحياة من الصحراء من شبه
كلتاهما في مفاجأة الفتى شرع
وراء كل سبيل فيهما قدر
لا تعلم النفس ما يأتي وما يدع
أي حياة الإنسان هي كالصحراء، في كل دقيقة يجوز أن يطلع عليه قدر لا يتوقعه.
فلست تدري وإن كنت الحريص متى
تهب ريحاهما أو يطلع السبع
ولست تأمن عند الصحو فاجئة
من العواصف فيها الخوف والهلع
ولست تدري وإن قدرت مجتهدا
متى تشد رحالا أو متى تضع
ولست تملك من أمر الدليل سوى
أن الدليل وإن أرداك متبع
وما الحياة إذا أظمت وإن خدعت
إلا سراب على صحراء يلتمع
ما نحت شاعر من مقاطع التشبيه أبدع من هذه التشابيه التي وجدها شوقي بين الصحراء والحياة، كل منهما لا يدري السائر فيها متى تهب عواصفها ومتى تسكن، ومتى يطلع فيها السبع ومتى يختفي، ومتى يشد السائر الرحل أو متى يضعه، وإنه إذا اتبع دليلا فهو رهن معرفة الدليل لا مناص له من اتباعه وإن أداه إلى الهلاك، وإنه يلوح في كل منهما بارق الأمل، فإذا به خلب وإذا الشراب سراب. ثم يمتدح همة الرحالة حسنين فيقول:
أكبرت من حسنين همة طمحت
تروم ما لا يروم الفتية القنع
وما البطولة إلا النفس تدفعها
فيما يبلغها حمدا فتندفع
ولا يبالي لها أهل إذا وصلوا
طاحوا على جنبات الحمد أم رجعوا
قال إن الدافع الذي يجعل من الإنسان بطلا هو أنه يطمح إلى ما لا يطمح القانعون، وأن نفسه تسمو به إلى ما يبلغها المجد، ذهبت في سبيل المجد أم رجعت سالمة. ثم هو يسأل حسنين عما رأى في تلك الصحاري، وعن أهلها الذين لم يزالوا على الفطرة من عهد آدم، والذين اهتدى إليهم الإسلام في فيافيهم المنقطعة، واهتدوا به وأصبحوا مصلين صائمين، فقال:
رحالة الشرق إن البيد قد علمت
بأنك الليث لم يخلق له الفزع
ماذا لقيت من الدو السحيق ومن
قفر يضيق على الساري ويتسع
وهل مررت بأقوام كفطرتهم
من عهد آدم لا خبث ولا طبع
ومن عجيب لغير الله ما سجدوا
على الفلا ولغير الله ما ركعوا
ما النافية لا يتقدمها شيء مما في حيزها، خلافا للكوفيين ونحو قول الشاعر:
إذا هي قامت حاسرا مشمعلة
نخيب الفؤاد رأسها ما تقنع
مع شذوذه محتمل للتأويل:
كيف اهتدى لهم الإسلام وانتقلت
إليهم الصلوات الخمس والجمع
جزتك مصر ثناء أنت موضعه
فلا تذب من حياء حين تستمع
ولو جزتك الصحاري جئتنا ملكا
من الملوك عليك الريش والودع
أي ملكا من ملوك أواسط إفريقية، الذين عنوان الملك عندهم الريش والودع. (30) قصيدة له في حفلة تكريم
ومما أحب أن أنوه به من شعر شوقي قصيدته في تكريم الإخوان: عبد الملك بك حمزة، وإسماعيل بك كامل، وعوض بك البحراوي، بعد رجوعهم إلى مصر من الغربة التي اغتربوها أثناء الحرب العامة، فإن شعر شوقي فيهم يعبر عن شعور كثيرين، وراقم هذه الأسطر منهم أو في طليعتهم؛ قال:
وطن يرف هوى إلى شبانه
كالروض رقته على ريحانه
هم نظم حليته وجوهر عقده
والعقد قيمته يتيم جمانه
يرجو الربيع بهم ويأمل دولة
من حسنه ومن اعتدال زمانه
من غاب منهم لم يغب عن سمعه
وضميره وفؤاده ولسانه
وإذا أتاه مبشر بقدومهم
فمن القميص ومن شذا أردانه
ولقد يخص النافعين بعطفه
كالشيخ خص نجيبه بحنانه
هيهات ينسى بذلهم أرواحهم
في حفظ راحته وجلب أمانه
وقفوا له دون الزمان وريبه
ومشت حداثتهم على حدثانه
في شدة نقلت أناة كهوله
فيها وحكمتهم إلى فتيانه
هذا البيت الأخير معنى مطروق كثيرا، ومما أتذكره منه قول الشيخ ناصيف اليازجي شاعر سورية في وقته في الأرسلانيين:
فتيانهم في العقل مثل شيوخهم
وشيوخهم في البأس كالفتيان
ثم قال:
قم يا خطيب الجمع هات من الحلي
ما كنت تنثره على آذانه
ناد الشباب فلم يزل لك ناديا
والمرء ذو أثر على أخدانه
ألق النصيحة غير هائب وقعها
ليس الشجاع الرأي مثل جبانه
قل للشباب زمانكم متحرك
هل تأخذون القسط من دورانه؟
وقد صادف الاحتفال بتكريم هؤلاء المجاهدين الثلاثة أيام الأزمة المالية في مصر وسقوط أسعار القطن، فقال شوقي:
يا من لشعب رزؤه في ماله
أنساه ذكر مصابه بكيانه
الملك كان ولم يكن قطن فلم
يغلب أبوتنا على عمرانه
الفاطمية شيدت من عزه
وبنى بنو أيوب من سلطانه
بالقطن لم يرفع قواعد ملكه
فرعون والهرمان من بنيانه
لكن بأول زارع نفض الثرى
بذكائه وأثاره ببنانه
وبكل محسن صنعة في دهره
تتعجب الأجيال من إتقانه
وبهمة في كل نفس حلقت
في الجو وارتفعت على كيوانه
ملك من الأخلاق كان بناؤه
من نحت أولكم ومن صوانه (31) ما قاله يوم أطلق أحد الشبان المفتونين الرصاص على سعد زغلول
وقال في الزعيم الأكبر سعد باشا زغلول عندما أطلق عليه الرصاص أحد الشبان، فأنجى الله سعدا ووقى مصر شرا مستطيرا:
نجا وتماثل ربانها
ودق البشائر ركبانها
وهلل في الجو قيدومها
وكبر في الماء سكانها
تحول عنها الأذى وانثنى
عباب الخطوب وطوفانها
نجا نوحها من يد المعتدي
وضل المقاتل عدوانها
فيا سعد جرحك ساء الرجال
فلا جرحت فيك أوطانها
وقتك العناية بالراحتين
وطوق جيدك إحسانها
رماك على غرة يافع
مثار السريرة غضبانها
وقدما أحاطت بأهل الأمور
ميول النفوس وأضغانها
تلمس نفسك بين الصفوف
ومن دون نفسك إيمانها
يريد الأمور كما شاءها
وتأبى الأمور وسلطانها
وعند الذي قهر القيصرين
مصير الأمور وأحيانها
أرى مصر يلهو بحد السلاح
ويلعب بالنار ولدانها
وراح بغير مجال العقول
يجيل السياسة غلمانها
وما القتل تحيا عليه البلاد
ولا همة القول عمرانها
ولا الحكم أن تنقضي دولة
وتقبل أخرى وأعوانها
ولكن على الجيش تقوى البلاد
وبالعلم تشتد أركانها
وهذا ما قلناه دائما، وما قد انتهت إليه مصر بهذه المعاهدة الأخيرة مع الإنكليز، فليكن لمصر الجيش المهيب، فكل شيء يتسق بعد ذلك.
فأين النبوغ وأين العلوم
وأين الفنون وإتقانها؟
وأين من الخلق حظ البلاد
إذا قتل الشيب شبانها؟
وفي هذه القصيدة كلام عن ضرورة السودان لمصر يجدر أن نأثره، ويجب على كل مصري أن يحفظه عن ظهر قلبه، ولقد أراد الله بفضل خصام إنكلترة مع إيطالية في هذه السنة أن يعود المصريون إلى السودان، فليبشر شوقي في قبره.
ويا سعد أنت أمين البلاد
قد امتلأت منك أيمانها
ولن نرتضي أن تقد القناة
ويبتر من مصر سودانها
أي لن نرضى أن تفصل قناة السويس عن مصر، ولا أن يبتر عنها السودان.
وحجتنا فيهما كالصباح
وليس بمعييك تبيانها
فمصر الرياض وسودانها
عيون الرياض وخلجانها
وما هو ماء ولكنه
وريد الحياة وشريانها
تتمم مصر ينابيعه
كما تمم العين إنسانها
وأهلوه منذ جرى عذبه
عشيرة مصر وجيرانها
وأما الشريك فعلاته
هي الشركات وأقطانها
يريد بالشريك إنجلترة، وأنها تريد فصل السودان عن مصر لمشروعاتها الزراعية، وأنا أقول ليس للقطن فقط يقصد الإنجليز الاستيلاء على السودان، ولكن ليجعلوا لجام مصر دائما في قبضة أيديهم؛ فإن مصر هي النيل، وإذا كان النيل بيد الإنجليز فكيف تخرج عن إرادتهم مصر. ثم قال:
وحرب مضت نحن أوزارها
وخيل خلت نحن فرسانها
أي باشروا حربا كنا نحن أسلحتها، على خيل كنا نحن فرسانها، ولكن ليكون الملك لهم.
وكم من أتاك بمجموعة
من الباطل الحق عنوانها
فأين من «المنش» بحر الغزال
وفيض «نيانزا» وتهتانها
وأين التماسيح من لجة
يموت من البرد حيتانها
ولكن رءوس لأموالهم
يحرك قرنيه شيطانها
ودعوى القوي كدعوى السباع
من الناب والظفر برهانها
أي أين بلاد الإنجليز من السودان، وما الصلة بين المانش وبحر الغزال، والحال هي كقول القائل:
سهم أصاب وراميه بذي سلم
من في العراق لقد أبعدت مرماك
ولكن دعوى القوي على الضعيف كدعوى الضواري المفترسة، براهينها من النيوب وأدلتها من الأظفار، لا ترجع إلى قوة المنطق، بل إلى شهوة الافتراس والجشع في الأكل. (32) قصيدة شوقي عن الكائنة البلقانية وحواش تاريخية للمؤلف
ومن كلمات شوقي التي تقصر عن وصفها الكلم، وشوارده التي يسهر الخلق جراها ويختصم، قصيدته في الحرب البلقانية، وهي التي يسميها بالأندلس الجديدة؛ فقد نظمها وفي قلوب المسلمين نار الله الموقدة، مما جرى على الإسلام في حرب البلقان؛ فطاشت لذلك العقول وطارت الأفئدة، وكان نصيب شاعر الإسلام من تلك الفادحة بقدر رقة شعوره ورهافة حسه وسهمه من الالتياع على ما حل بمسلمي البلقان، على نسبة شفوف طبعه ونفاسة نفسه، فقال وأرسلها للقرون والأجيال، وناطها بالأيام والليال:
يا أخت أندلس عليك سلام
هوت الخلافة عنك والإسلام
نزل الهلال عن السماء فليتها
طويت وعم العالمين ظلام
أزرى به وأزاله عن أوجه
قدر يحط البدر وهو تمام
يودع بلاد الرومللي ويقول: أصابك ما أصاب أختك الأندلس من قبل، ونزل الهلال فيك عن سمائه، يريد بالهلال الراية العثمانية التي نزلت في تلك البلاد عن عليائها بحكم قدر ينقص البدر بعد تمامه، كأنه يقول: إذا تم شيء بدا نقصه، وكأنه يشير إلى قول القائل:
وإن البدر أوله هلال
وآخره يعود إلى الهلال
ثم يقول:
جرحان تمضي الأمتان عليهما
هذا يسيل وذاك لا يلتام
بكما أصيب المسلمون وفيكما
دفن اليراع وغيب الصمصام
لم يطو مأتمها وهذا مأتم
لبسوا السواد عليك فيه وقاموا
ما بين مصرعها ومصرعك انقضت
فيما نحب ونكره الأيام
خلت القرون كليلة وتصرمت
دول الفتوح كأنها أحلام
والدهر لا يألو الممالك منذرا
فإذا غفلن فما عليه ملام
يقول: إن جرح الأندلس لما يلتئم، ولا يزال في قلوب العرب منه نزيز، وإذا بجرح البلقان بدأ يسيل وقد أدمى قلوب الترك، وإن كلا من الأمتين لمنكوبة بكل من هاتين الكائنتين اللتين دفن القلم والسيف فيهما، وهذه المئات الأربع من السنين التي مضت بين مأتم الأندلس ومأتم البلقان، كانت فيها الأيام تجري تارة فيما نحب، وطورا فيما نكره، يشير بقوله فيما نحب إلى فتوحات آل عثمان في بلاد البلقان حتى انتهوا إلى المجر وبولونيا، وحصروا فينا ولولا قليل لفتحوها، وفي قوله فيما نكره إلى الجزر الذي عقب ذلك المد والمصائب التي نزلت بالإسلام في السنين الأخيرة، حتى انقضت أيام تلك الفتوحات كأنها لم تكن، وقد كانت هذه المثلات تقرع المسلمين حتى ينتبهوا لشئونهم وينهضوا كما نهض غيرهم، فلبثوا يغطون في نومهم، وتركوا الحبل على الغارب؛ فليس على الدهر ملام إذا كانوا هم لبثوا غافلين عن شأنهم. ثم يقول:
مقدونيا والمسلمون عشيرة
كيف الخئولة فيك والأعمام
أترينهم هانوا وكان بعزهم
وعلوهم يتخايل الإسلام
إذ أنت ناب الليث كل كتيبة
طلعت عليك فريسة وطعام
ما زالت الأيام حتى بدلت
وتغير الساقي وحال الجام
أرأيت كيف أديل من أسد الشرى
وشهدت كيف أبيحت الآجام
زعموك هما للخلافة ناصبا
وهل الممالك راحة ومنام؟
ويقول قوم كنت أشأم مورد
وأراك سائغة عليك زحام
ويراك داء الملك ناس جهالة
بالملك منهم علة وسقام
لو آثروا الإصلاح كنت لعرشهم
ركنا على هام النجوم يقام
وهم يقيد بعضهم بعضا به
وقيود هذا العالم الأوهام
صور العمى شتى وأقبحها إذا
نظرت بغير عيونهن الهام
ولقد يقام من السيوف وليس من
عثرات أخلاق الشعوب قيام
يقول: أي مقدونية - مقدونية هي قسم مما يسميه الأتراك بالرومللي، والرومللي عبارة عن القسم الأمامي من شبه جزيرة البلقان، كان يحتوي على ست ولايات عثمانية، هي: أدرنة، وسلانيك، ومانستر، وقوصوه، وأشقودره، ويانيا، والولايات الثلاث الأخيرة هي بلاد الأرناءوط - يسأل عنك المسلمون لأنهم مهما تنوعت أجناسهم فهم عشيرة واحدة، فإذا سألوا عنك فإنما يسألون عن أخوالهم وأعمامهم، أترينهم ذلوا بعد ذلك العز؟ وبعد أن كانت كل كتيبة تطلع عليهم تعود فريسة لهم؟ نعم، قد تحولت الأيام وسقيت بغير الكأس التي كنت تشربين بها، وأديل من الآساد واستباح الأعداء آجامها القديمة، وزعم بعض الناس أن وجودك يا مقدونية كان على الخلافة مشئوما، وأنه كان هما ناصبا، وهل الممالك تكون للراحة وتدار بدون تعب؟ وإذا كنت موردا وبيتا فلماذا تتزاحم عليك الدول؟ إن الذين يرون هذا الرأي إنما هم قوم جهالة، كانوا علة في جسم هذه السلطنة العثمانية، وبدلا من أن يدلوا بهذه الأقوال الدنيئة كان عليهم أن يصلحوا الإدارة في الرومللي، فكانت تكون لهم ركنا عاليا وحصنا حصينا، ولكن هؤلاء الضالين يبثون هذه الأوهام في الناس، فيأخذها بعض الناس عن بعض، ويلوكونها بألسنتهم بدون تدبر، وللعمى صور شتى، وإنها قد تعمى الأبصار ولكن تعمى أكثر منها القلوب التي في الصدور. وإنه قد ينهض الشعب من بعد الهزيمة، وقد تعود بقية السيف إلى النمو، ولكن المصيبة التي لا نهوض منها ولا إقالة لها هي عثرة الأخلاق وانحطاط الهمم.
قلت: حالف المنطق أقوال شوقي في جميع مصادره وموارده، ولولا ذلك لم يكن شاعر هذا العصر بالاتفاق؛ فبلاد البلقان كانت الحصن الحصين للدولة العثمانية، وكانت تستورد منها خزانة السلطنة أعظم دخلها، لا سيما القسم الذي ذهب على إثر الحرب الروسية العثمانية، وهو ولايات الطونة، وهي اليوم بلاد البلغار وقسم من رومانيا. وكان وجود الرومللي في يد الدولة واقيا للأناضول نفسه؛ أي كانت أوروبا العثمانية مجنا لآسية العثمانية، وما كان على أولئك المعترضين بدلا من اعتراضاتهم وتهوينهم أمر ذهاب الرومللي إلا أن يهبوا لإصلاح إدارتها، وينشدوا وسائل استبقائها؛ لأنه شرط ضروري لحماية السلطنة، وجعل عاصمتها إسطنبول التي هي مركز لا نظير له في العالم وسطا في المملكة لا طرفا لها، أفلا ترى أنها بعد أن ذهبت الرومللي صارت من ثغور المملكة، ولم يبق بينها وبين العدو إلا مسافة ساعات معدودات، فتذكر الإنسان في أمرها قول الشاعر، وهو بيت قديم:
كانت هي الوسط المحمي فانتقصت
منها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فالآستانة التي كانت وسطا محميا قبل ذهاب الولايات البلقانية من يد الدولة، أصبحت طرفا يكاد يكون عورة لقرب العدو منها وسهولة غارته عليها، وقد شاهدنا ذلك بأعيننا أيام الحرب البلقانية، وكنت أنا نفسي في الآستانة فكنا نسمع فيها أصوات المدافع من شطلجة؛ حيث كان الجيش البلغاري يحاول دخول الآستانة، ولأيا في ذلك اليوم قدر الأتراك أن يدحروا البلغار إلى الوراء، وهي الواقعة الوحيدة التي وفقوا فيها من حرب البلقان، ولولاها لاستولى البلقانيون على عاصمة آل عثمان. فقول من قال إن الرومللي كانت للدولة هما ناصبا هو ضلال مبين، ورأي من لا يريد التعب ولا يحسن إدارة الممالك.
وفي هذه المسألة أراني وشوقي متواردين على رأي واحد، وليست هذه بالمرة الوحيدة التي أجدني فيها وإياه على وفاق، كأن قلبينا قلب واحد، وكأنا نفكر عن خلية دماغ واحدة، فإنه لما استردت الدولة أدرنة مستفيدة من اختلاف البلغار مع حلفائهم الصرب واليونان، دعت الدولة وفدا عربيا إلى الآستانة لبعض مذاكرات تتعلق بالعرب، وكنت أنا من أعضاء ذلك الوفد الثمانية، فدعتنا الدولة لزيارة أدرنة وتهنئة أهلها على رجوعهم إلى حضن الدولة، فلما وصلنا إلى تلك البلدة أقاموا لنا حفلة عظيمة كان فيها أعيان البلدة وضباط الجيش العثماني، فأنشدت في ذلك الحفل قصيدة ميمية أتذكر منها الأبيات التالية: (33) قصيدة المؤلف في استرداد أدرنة
فدى لحمانا كل من يمنع الحمى
ومن ليس يرضى حوضه متهدما
فما العيش إلا أن نموت أعزة
وما الموت إلا أن نعيش ونسلما
تأملت في صرف الزمان فلم أجد
سوى الصارم البتار للسلم سلما
ولم أر أنأى عن سلام من الذي
تأخر يعتد السلامة مغنما
يقولون وجه السيف أبيض دائما
وما ابيض إلا وهو أحمر بالدما
تجاهل أهل الغرب كل قضية
إذا لم يجئ فيها الحسام مترجما
وكابر قوم ينظرون بأعين
ألا عمه الألباب أعمى من العمى
انظر إلى قول شوقي:
صور العمى شتى وأقبحها إذا
نظرت بغير عيونهن الهام
وإلى قولي: «ألا عمه الألباب أعمى من العمى.»
وذلك في عرض الكلام على وجوب الدفاع عن الرومللي وعدمه، فتعلم اتحادنا في الفكر. ثم إني أقول في آخر هذه القصيدة ما يأتي:
فمن مبلغ البلغار أنا إلى الوغى
وإخواننا الأتراك نزحف توءما
وأن جميع العرب والترك إخوة
عليهم إليهم يبتغون تقدما
وليس يزال العرب والترك أمة
حنيفية بيضاء لن تتقسما
وقولوا لهم بانت سعاد فلا يزل
فؤادكم صبا عليها متيما
فلا يطمعنكم في أدرنة مطمع
ولا تفتحوا في شأنها أبدا فما
أدرنة صارت عندنا تلو مكة
وماء المريج اليوم أشبه زمزما
ستلبث عثمانية رغم أنفكم
وأنف الألى منا يصيحون لوما
فأنت ترى أيضا أن الذين كان يعرض بهم شوقي ويجعلهم علة للملك وسقما في جسم الدولة، هم الذين كنت أعرض بهم أنا أيضا وأقول إننا استرددنا أدرنة برغم الأعداء من الخارج، وبرغم هؤلاء المضلين المثبطين من الداخل.
ثم يقول شوقي:
ومبشر بالصلح قلت لعله
خير عسى أن تصدق الأحلام
ترك الفريقان القتال وهذه
سلم أمر من القتال عقام
يقول: إن الفريقين قد تتاركا القتال، ويقال إنه سينعقد الصلح، ولكن هذا الصلح الذي تذهب فيه ولايات الرومللي من يد الدولة كره أكثر من القتال. ثم يقول:
ينعي إلينا الملك ناع لم يطأ
أرضا ولا انتقلت به أقدام
برق جوائبه صواعق كلها
ومن البروق صواعق وغمام
إن كان شر زار غير مفارق
أو كان خير فالمزار لمام
بالأمس أفريقا تولت وانقضى
ملك على جيد الخضم جسام
نظم الهلال به ممالك أربعا
أصبحن ليس لعقدهن نظام
من فتح هاشم أو أمية لم يضع
آساسها تتر ولا أعجام
واليوم حكم الله في مقدونيا
لا نقض فيه لنا ولا إبرام
كانت من الغرب البقية فانقضت
فعلى بني عثمان فيه سلام
يقول: جاءنا البرق بخبر هذا الصلح، ومن البروق صواعق نقمة ومنها غمائم رحمة، فأما نحن معاشر المسلمين فبروقنا كلها صواعق، وإذا كان الشر زارنا فهو غير مفارق، وإذا كان الخير زارنا فلماما، واللمام أو الغب هو الزيارة في الأحايين. وبالأمس ذهب لنا في إفريقية ممالك أربع: مصر وطرابلس وتونس والجزائر، كانت راية الهلال تخفق فوقها فانطوت عنها، وهي أقطار لم يفتحها مسلمو التتر ولا العجم، ولكنها من فتح الخلفاء الراشدين وبني أمية من بعدهم، واليوم نفذ حكم الله في مقدونية على أيدي البلقانيين ومن ورائهم الدول الأوروبية متحدة علينا، وقد كانت هذه الولايات الست المسماة بالرومللي بقية الملك العثماني في أوروبا، وقبلها كانت له مملكة البلغار ومملكة رومانيا ومملكة الصرب ومملكة ألبانيا ومملكة اليونان ومملكة المجر وبلاد بوسنة والهرسك؛ كلها تابعة للسلطنة العثمانية، فذهبت تلك الممالك في القرن الماضي، ولحقت به هذه البقية الباقية في هذه النوبة، فعلى ملك بني عثمان في أوروبا السلام. ثم قال:
أخذ المدائن والقرى بخناقها
جيش من المتحالفين لهام
غطت به الأرض الفضاء وجوهها
وكست مناكبها به الآكام
تمشي المناكر بين أيدي خيله
أنى مشى والبغي والإجرام
ويحثه باسم الكتاب أقسة
نشطوا لما هو في الكتاب حرام
ومسيطرون على الممالك سخرت
لهم الشعوب كأنها أنعام
من كل جزار يروم الصدر في
نادي الملوك وجده غنام
سكينه ويمينه وحزامه
والصولجان جميعها آثام
قال إن الدول البلقانية تحالفت على الدولة العثمانية - وكان تحالفها على هذه بواسطة قيصر الروسية وتحت كفالته، فهو الذي نظم شتات دول البلقان وشجعهن على محاربة تركيا، وقد لقاه الله جزاءه بعد الحرب العامة، فقتله البلاشفة شر قتلة يمكن أن يتصورها العقل؛ لأنهم بعد أن نفوه وحبسوه زحفت الجيوش الروسية التي يقودها أعداء البولشفيك لتستخلص القيصر من محبسه، فعجل هؤلاء بقتله أمام عائلته، وقتل عائلته أمامه، فأطلقوا عليهم الرصاص في لحظة واحدة ، وكان هو وامرأته وابنه ولي العهد وبناته الأربع - وسقن جيوشا جرارة تغطت بها الأرض زاحفة صوب تركيا والمناكير والقبائح والفظائع تمشي بين يديها، فقد كانت جيوش البلقانيين ترتكب من قتل الأهالي الوادعين، واستباحة أعراض النساء ذوات الصون والستر، ونهب الأموال وإهانة شعائر دين الإسلام، ما لم يقع نظيره إلا في الأندلس؛ ولذلك سمى شوقي البلقان بالأندلس الجديدة.
وكما كانت حروب الأندلس وفظائعها تغشى بتحريض القسوس الذين يخالفون في أعمالهم جميع ما قرءوا في كتابهم الإنجيل، كذلك كانت الصليبية البلقانية يؤجج نارها الأحبار والقسيسون من بلغار ويونان وصربيين، وكان الملوك الأربعة ملك البلغار وملك اليونان وملك الصرب وملك الجبل الأسود، ينشرون المناشير الحربية التي لا تزال نصوصها محفوظة كأنها محررة في القرون الوسطى، من الحث على استئصال المسلمين والتحريض على قتالهم بغير هوادة باسم النصرانية.
نعم، تقضي أمانة التاريخ أن نذكر كون الجيش الصربي تجنب الآثام في معاملة المسلمين أكثر من الجيشين البلغاري واليوناني، وقد رفعنا يومئذ الاحتجاجات إلى الدول العظام بناء على كون هذه الفظائع مخالفة لحقوق الأمم وللإنسانية، وقلنا إن من واجبات الدول بحسب التكافل الإنساني والتعاون المدني أن تقيم النكير على البلقانيين من أجلها، وكان لهذا الفقير إليه تعالى برقية من الآستانة في غاية التأثير والشدة، إلى السير ادوارد غراي ناظر الخارجية الإنجليزي، اطلع على صورتها بعد إرسالها كامل باشا الصدر الأعظم، وذلك بواسطة صديقي المرحوم محمد باشا الشريعي، فأعجب بها الصدر جدا وأرسل يشكرني عليها، ولكن من جهة النتيجة لم تعمل الدول أدنى عمل يدل على أنها تزن المسلمين بميزان واحد مع البلقانيين ولا مع سائر البشر، ولا سمعنا أنها خاطبت دول البلقان ولو من قبيل النصح بالاعتدال في سيرهن، أو بمراعاة حقوق الإنسانية في أثناء الحركات الحربية، ولا نبض عرق لجمعية أوروبية من تلك الجمعيات التي لا يحصى عددها المتشدقات بحفظ حقوق الإنسان.
وقد بلغ عدد الذين هاجروا من مسلمي البلقان فرارا من وجه الأعداء بعد أن سمعوا بما حل بإخوانهم على الحدود؛ مائة وخمسين ألف نسمة، دخلوا إلى الآستانة حتى غصت بهم الجوامع والمدارس على كثرتها، وكان ذلك في قلب الشتاء، وفشت فيهم الكوليرة وكانت خطوب الدولة تشغلها عن إيوائهم وإطعامهم، فقامت مصر حماها الله في تلك الأزمة مقاما لا ينساه لها تاريخ الإسلام، بل التاريخ العام؛ فأرسلت إليهم الإعانات التي كفلت نجاة هؤلاء الإخوان المهاجرين من الموت بردا وجوعا، إلى أن تمكنت الدولة من إجازتهم إلى الأناضول، وقد كان ما أعانت به مصر الجيش العثماني في تلك الحرب أربعمائة ألف جنيه، وما وزعته من الإعانات على هؤلاء المهاجرين مائة وخمسين ألف جنيه، وكنت أنا من جملة أعضاء اللجنة التي وزعت الإعانات من قبل لجنة الإعانة الكبرى بمصر، التي كان يرأسها أمين هذه الأمة الأمير عمر طوسون أمتع الله الإسلام بطول حياته، وإليه وإلى الأمير محمد علي توفيق رئيس الهلال الأحمر كنا نرسل البرقيات استمدادا واستعجالا بالإعانات كلما قدمت طائفة من المهاجرين، وكانت جميع تلك البرقيات تقريبا بقلم كاتب هذه السطور، وأنا الذي أبرق للأمير عمر طوسون بسقوط سلانيك ووجود 150 ألف نسمة من المسلمين فيها تحت خطر الموت جوعا، فما مضى على هذه البرقية إلا بضعة أيام حتى وصلت البواخر من مصر إلى ميناء سلانيك، ثم إلى ميناء «قواله»، مشحونة بالأرزاق والألبسة وجميع الحوائج التي كفلت إنقاذ أولئك المساكين من الموت، وتخفيف ويلات إخواننا مسلمي مقدونية أجمع، فجزى الله كنانته مصر خيرا عن هذه المبرات، التي وإن كانت بحسب الشرع فرضا عليهم لا منة لهم، فإنه لا يجوز للتاريخ أن يغفلها ولا يجوز للأمة التركية بخاصة أن تتناساها.
ثم يقول شوقي عن ملوك الدول البلقانية الذين تولوا تلك الآثام، ما هو واضح لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى تعليق، ومن الغريب أنهم ارتكبوا تلك الموبقات باسم السيد المسيح بزعمهم، والحال أن سبيل المسيح كان كله محبة ورحمة كما لا يخفى، وكان ينهى عن سفك الدماء بكل حال، وإلى هذا أشار شوقي بقوله:
عيسى سبيلك رحمة ومحبة
في العالمين وعصمة وسلام
ما كنت سفاك الدماء ولا امرأ
هان الضعاف عليه والأيتام
يا حامل الآلام عن هذا الورى
كثرت علينا باسمك الآلام
أنت الذي جعل العباد جميعهم
رحما وباسمك تقطع الأرحام
أتت القيامة في ولاية يوسف
واليوم باسمك مرتين تقام
يريد بيوسف صلاح الدين بن أيوب، وأن الحرب الصليبية وقعت في أيامه، واليوم قد تجددت أولا وثانيا. ثم يقول:
واليوم يهتف بالصليب عصائب
هم للإله وروحه ظلام
خلطوا صليبك والخناجر والمدى
كل أداة للأذى وحمام
أوما تراهم ذبحوا جيرانهم
بين البيوت كأنهم أغنام
كم مرضع في حجر نعمته غدا
وله على حد السيوف فطام
وصبية هتكت خميلة طهرها
وتناثرت عن نوره الأكمام
هل قيل في هتك أعراض الأبكار أبلغ من هذا القول، وأشد تأثيرا في النفس؟
وأخي ثمانين استبيح وقاره
لم يغن عنه الضعف والأعوام
وجريح حرب ظامئ وأدوه لم
يعطفهم جرح له وأوام
ومهاجرين تنكرت أوطانهم
ضلوا السبيل من الذهول وهاموا
السيف إن ركبوا الفرار سبيلهم
والنطع إن طلبوا القرار مقام
لعمري ليس فيما وصفه شوقي هنا شيء من المبالغة، فقد جرى من البلقانيين كل هذه الأفعال وأوروبا تنظر كأنها جاهلة، بل كانت في الحقيقة مرتاحة إلى قهر المسلمين وإعناتهم حتى لا يرفعوا رءوسهم، ودليل ارتياحها أنها لو أرادت وجزمت لما تجرأ البلقانيون طرفة عين على مخالفتها. ثم بعد أن سرد شوقي ما سرد من هذه الفجائع، التفت نحو الأتراك فنصحهم بالوئام، وعذلهم على الانقسام، وقال لهم:
يا أمة بفروق فرق بينهم
قدر تطيش إذا أتى الأحلام
فيم التخاذل بينكم ووراءكم
أمم تضاع حقوقها وتضام
لا يأخذن على العواقب بعضكم
بعضا فقدما جارت الأحكام
تقضي على المرء الليالي أو له
فالحمد من سلطانها والذام
من عادة التاريخ ملء قضائه
عدل وملء كنانتيه سهام
ما ليس يدفعه المهند مصلتا
لا الكتب تدفعه ولا الأقلام
إن الألى فتحوا الفتوح جلائلا
دخلوا على الأسد الغياض وناموا
هذا جناه عليكم آباؤكم
صبرا وصفحا فالجناة كرام
رفعوا على السيف البناء فلم يدم
ما للبناء على السيوف دوام
أبقى الممالك ما المعارف أسه
والعدل فيه حائط ودعام
قال لهم: إن القدر إذا نزل تطيش له الأحلام، ولكن يجدر بكم أن تذروا التخاذل فيما بينكم، والجدل فيمن كان مخطئا ومن كان مصيبا، فإن وراءكم وأنتم مشغولون بالفتن الداخلية أمما تضام وتهان وتؤكل حقوقها، فدعوا الخطأ والصواب إلى التاريخ، واعلموا أنه إن لم يكن سيف يدفع الظلم لم يكن للأقلام قبل بدفعه، لقد فتح آباؤكم هذه البلدان وناموا على فتوحاتهم، ولم يفكروا في أن هذه الأمم المغلوبة لا تزال تترصد الفرصة حتى تثور وتأخذ بالثأر، فالخطأ إنما هو خطأ آبائكم الذين أحسنوا الظن، وصفحوا عن الذنب، ووثقوا دائما بالنصر، ثم هناك عيب آخر وقع في البناء الذي بنوه، وهو أنهم رفعوه على رءوس الحراب، ووقفوا عن تحصينه بالعلم ودعمه بالعدل، ولما كان ملك السيف لا يدوم، كانت هذه العاقبة منتظرة لكم، ثم يقول:
وقف الزمان بكم كموقف طارق
اليأس خلف والرجاء أمام
الصبر والإقدام فيه إذا هما
قتلا فأقتل منهما الإحجام
أي إن موقفكم اليوم أصبح كموقف طارق بن زياد يوم أجاز إلى الأندلس، وتواقف مع لذريق ملك الإسبانيول، فقال لجيشه: البحر وراءكم والعدو أمامكم، فلا نجاة لكم إلا بالإقدام؛ لأنكم إذا انهزمتم فليس وراءكم إلا البحر، وهذا يا رجال السلطة العثمانية هو موقفكم اليوم، ولنقل إن في إقدامكم هلكا، فالجواب عليه أن الهلك الذي في الإحجام هو أوكد من الهلك الذي في الإقدام. ثم يقول لهم: لو أنكم أحسنتم إدارة البقية الباقية من ملك آل عثمان، لكانت لكم بها دولة وصولة لا يفت في عضدهما.
هذي البقية لو حرصتم دولة
صال الرشيد بها وطال هشام
قسم الأئمة والخلائف قبلكم
في الأرض لم تعدل به الأقسام
سرت النبوة في طهور فضائه
ومشى عليه الوحي والإلهام
وتدفق النهران فيه وأزهرت
بغداد تحت ظلاله والشام
أثرت سواحله وطابت أرضه
فالدر لج والنضار رغام
أي إن صولة الرشيد كلها، وطائلة هشام بن عبد الملك، وعزة أولئك الخلائف، إنما كانت بهذه البلاد التي بقيت لكم، وهي نعم الأقسام إذا تقاسم البشر الأرض، وفيها ظهر الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وفيها جرى الفرات ودجلة وازدهرت الشام وبغداد، ثم ذكر أدرنة وحسن دفاع شكري باشا عنها، فقال:
شرفا أدرنة هكذا يقف الحمى
للغاصبين وتثبت الأقدام
وترد بالدم بقعة أخذت به
ويموت دون عرينه الضرغام
والملك يؤخذ أو يرد ولم يزل
يرث الحسام على البلاد حسام
علم الزمان مكان «شكري» وانتهى
شكر الزمان إليه والإعظام
يذكر أن شكري باشا وقف من أدرنة موقف مدافع ثابت الأقدام، ولم يسلم شبرا من أرضها إلا بالدم، وهذا هو حق الدفاع، فاستحق بذلك شكر الناس وإجلالهم، ولما دخل ملك البلغار إلى أدرنة ترك لشكري باشا سيفه عند الاستسلام إعجابا ببسالته وثباته.
والحق أن شكري باشا لولا أن مس جيشه الجوع، ما كان يمكن أن يدخل البلغار والصرب عليه في أدرنة، مهما طال الحصار، ولكنه لم يبق للجيش زاد يقتات به.
ومن حيث إننا ذكرنا في التعليق على الأبيات السابقة شيئا من قصة الحرب البلقانية حبا في إظهار فضل شوقي فيما سجله شعره في هذا الموضوع، فلا بأس بأن نورد تحت هذه الأبيات ما نعلمه بنفسنا لا نقلا عن رواة ولا حكاية عن سمار، وهو: أنه لما كان شكري باشا تحت الحصار، وجد رسولا أنفذه إلى الآستانة يلتمس من الباب العالي أن ينجدوه ولو بعشرة آلاف جنيه ليشتري بها رزقا للجيش، وجاء الرسول فحدثنا بالخبر وكنت أنا ومحمد باشا الشريعي وكامل باشا جلال؛ لأننا كنا ندير لجنة الإعانات والهلال الأحمر المصري، وعلمنا أنهم كانوا في الباب العالي لم يجدوا المال في الحال، وأشاروا إلى الرسول بالتلوم إلى أن يجدوه، والحال أن شكري باشا كان من الانتظار على أحر من النار، فقررت لجنة الإعانة المصرية على مسئوليتي أنا ورفاقي، لا سيما الشريعي، إرسال العشرة آلاف جنيه إلى شكري باشا باسم الجرحى والمرضى، وذهب بها الرسول وعاد بورقة الوصل.
ومن هذه الحادثة وحدها يعلم القارئ اللأواء التي وصل إليها الجيش العثماني أثناء حصار أدرنة.
وبناء على ما علمناه من أزمة الجيش وأزمة مسلمي أدرنة الذين كانوا يموتون جوعا بعد سقوط أدرنة في أيدي البلغار، التمسنا من الهلال الأحمر المصري ببرقيات مكررة كتبتها كلها بقلمي، أن الهلال الأحمر في مصر يطلب من إنجلترة التوسط لدى حكومة البلغار بأن تسمح بدخول بعثة الهلال الأحمر المصري إلى أدرنة، فتوسطت الحكومة الإنجليزية وأمكن الهلال الأحمر المصري جزى الله أهله خيرا من إغاثة مسلمي أدرنة، الذين كان عددهم يربي على أربعين ألف نسمة، وكان الجوع يفتك بهم. ولما ذهبنا نحن الوفد السوري الذي تقدم الكلام عليه إلى أدرنة بعد استرداد الدولة لها، شاهدت بعثة الهلال الأحمر المصري لا تزال هناك، وقد كان والي أدرنة الحاج عادل بك أعد للوفد ولي أنا من الجملة مكانا للمبيت، فاستأذنته في الذهاب إلى محل الهلال الأحمر المصري، وبت هناك بناء على أني كنت من مفتشيه في أثناء الحرب البلقانية، ولما نهضت صباحا شاهدت بعيني ألوفا من مسلمي أدرنة بأيديهم السطول، يأخذون بها الحساء من مطبخ الهلال الأحمر، فتعجبت من كثرة عددهم، فقال لي رجال الهلال الأحمر: لو رأيت الحالة قبل أن تسترجع الدولة أدرنة لرأيت عجبا، فالآن إنما نطعم ثلاثة أو أربعة آلاف، وأما من قبل فقد كنا نعول ثلاثين أو أربعين ألفا. فهذا ما شاهدته بعيني فضلا عن كونه عملا كنت أنا ولله الحمد من الساعين فيه، وكان المصريون الكرام هم السبب في إتمامه بحيث أنقذوا من الهلاك عشرات الألوف من إخوانهم مسلمي تلك البلاد، ولا بأس أن يكون للتاريخ مكان من كتاب أدب، لا سيما إذا تعلق بالحمية والإنسانية.
ثم قال أحمد شوقي:
صبرا أدرنة كل ملك زائل
يوما ويبقى المالك العلام
خفت الأذان فما عليك موحد
يسعى ولا الجمع الحسان تقام
وخبت مساجد كن نورا جامعا
تمشي إليه الأسد والآرام
يدرجن في حرم الصلاة قوانتا
بيض الإزار كأنهن حمام
وعفت قبور الفاتحين وفض عن
حفر الخلائف جندل ورجام
نبشت على قعساء عزتها كما
نبشت على استعلائها الأهرام
في ذمة التاريخ خمسة أشهر
طالت عليك فكل يوم عام
السيف عار والوباء مسلط
والسيل خوف والثلوج ركام
والجوع فتاك وفيه صحابة
لو لم يجوعوا في الجهاد لصاموا
وهذا ما أشرنا إليه في حديثنا عن هذه الحرب المشئومة، واستمداد قائد أدرنة القوت الضروري.
ضنوا بعرضك أن يباع ويشترى
عرض الحرائر ليس فيه سوام
ورمى العدى ورميتهم بجهنم
مما يصب الله لا الأقوام
بعت العدو بكل شبر مهجة
وكذا يباع الملك حين يرام
ما زال بينك في الحصار وبينه
شم الحصون ومثلهن عظام
حتى حواك مقابرا وحويته
جثثا فلا غبن ولا استذمام
يصف هنا كيفية الدفاع عن أدرنة كما تقدم الكلام عليه بأن شكري باشا لم يبع منها شبرا، إلا بعد أن غطاه دما، وأنه لم يسلم البلدة إلا بعد أن فتك بجيشه الجوع والمرض، فكان تسليما شريفا أعذر فيه ذلك القائد الباسل إلى قومه، وحفظ فيه شرف أمته. ثم ذكر كيف آلت أدرنة بعد غلبة البلغار عليها، ولا شك في أن نظم شوقي هذه القصيدة وقع في المدة التي هي بين تسليم أدرنة للبلغار واسترداد تركيا لها؛ فلذلك قال شوقي: خفت الأذان من أدرنة فما فيها موحد يسعى ولا جمعة تقام ... إلخ.
وبعد ثلاثة أو أربعة أشهر من قول شوقي هذا، كنت أنا أقول في قصيدتي الميمية التي تقدم بعضها:
أدرنة يا أم الحصون ومن غدت
لدار بني عثمان سورا ومعصما
فديتك ربعا ما أبر أهله
وأما علينا ما أعز وأكرما
عمرناك أحقابا طوالا فلم نزل
بأهلك من أهل البسيطة أرحما
فلما أتاك المصلحون بزعمهم
أصاروا إلى تلك الجنان جهنما
ألا قل لفردينان أسرفت عاديا
وأبعدت في وادي الضلالة مزعما
وهاجمت والأحلاف غدرا وغيلة
رجالا غدوا عما تكيدون نوما
وذلك أن الدول البلقانية الأربع اتحدت على قتال الدولة العثمانية تحت كفالة قيصر الروس، وتآمرت بجميع ما بقي من الملك العثماني في أوروبا، والأتراك غافلون عما يكيد لهم البلقانيون، مشغولون بالشقاق بعضهم مع بعض، ولما فاجأ البلقانيون تركيا بالحرب، كانت قد صرفت جيشا عظيما لها في الرومللي إلى أوطانه، مما يدل أعظم دلالة على الغفلة التي كانت فيها. ثم أقول:
رجالا مضى بعض ببعض تشاجرا
فكان قضاء الله فيهم محتما
تعرض هذا الملك منكم ومنهم
لسهمين كل منهما انقض أسهما
ثم أقول عن استرداد أدرنة عندما زحف إليها القائد عزت باشا، وطرد البلغار منها:
أدرنتنا لو كان للصخر ألسن
بها يوم عاد الراجعوها تكلما
فما من فتى إلا وأجهش بالبكا
ولا من جواد عاد إلا وحمحما
ولا غادة إلا وكفكف دمعها
مكر حماة العرض كالسيل مفعما
ولا منبر إلا وأورق بهجة
وقام عليه ساجع مترنما
وقرت عيون المصطفى في ضريحه
وهناه في الفردوس عيسى بن مريما
ولما ذهبنا إلى أدرنة كما سبق الكلام عليه، شهدنا صلاة الجمعة في جامع السلطان سليم، وهو من الجوامع الكبرى في العالم الإسلامي لا ينقص جلالة عن السليمانية والفاتح والسلطان أحمد وغيرها في الآستانة، وازدحم الجمع في تلك الجمعة لما بلغ أهل أدرنة مجيء وفد عربي يهنئهم بالرجوع إلى الدولة، وكنا قد استصحبنا من استانبول صديقنا الأستاذ الشيخ أحمد الفقيه من علماء مكة المكرمة، ومن أفصح الناس لسانا وأشجاهم صوتا، وكان في القديم إماما للشريف عون الرفيق أمير مكة، فالشيخ أحمد الفقيه رحمه الله خطب في تلك الجمعة على منبر جامع السلطان سليم، واستنزل العبرات في خطبته المؤثرة، وكان للناس في أربع زوايا الجامع نشيج وشهيق من ذكرى الفجائع التي حلت بالإسلام وخروج ذلك البلد من يد الدولة، ثم من ذكرى استرداد الدولة له وتبدل ذلك المأتم عرسا، وذلك الخوف أمنا، وتلك الوحشة أنسا، وإلى هذا وإلى جيش عزت باشا أشير بقولي:
تعجلتمو منا ثغورا شواغرا
فهلا وقد جاء الخميس عرمرما
أي إنكم هاجمتم ثغورنا على غرة، والجيش الذي كان مرابطا فيها قد صرفته الدولة إلى أوطانه، وصارت ثغورها عورة عند ذلك، فما أمكن استدعاؤه تحت السلاح من جديد، حتى كنتم قد أوغلتم في البلاد وأصبح التلافي صعبا، فأما الآن وقد زحف إليكم الجيش على أهبة وعلى تعبئة، فلماذا لا تنهدون إليه ؟
خميس إذا النيات صحت رأيته
يخيم معه نصره حيث خيما
تأمل أهاضيب الجبال وقد رست
وحدث عن البحر المحيط وقد طمى
تضيء نواحيه بغرة عزة
مشيع ما تحت الضلوع غشمشما
يليه من الأبطال كل غضنفر
إذا عبس الموت الزؤام تبسما
تراهم ليوثا في الوغى وضياغما
وفي أفق النادي بدورا وأنجما
ثم أقول في حالة أهل درنة بعد استردادها:
فيا لك من يوم غدا في خطوبنا
كشادخة غراء في وجه أدهما
وكانت بقايا السيف تبكي فأصبحت
تضاحكهم طرا ملائكة السما
عسى كل يوم بعد يوم أدرنة
يعود على الإسلام عيدا وموسما
وليس على المولى عزيز بأن نرى
هناء محا ذاك العزاء المقدما
وهذا الشطر الأخير تضمين لبيت قديم من قصيدة أظنها لابن نباتة، يهنئ فيها ملكا تولى العرش بعد أبيه، ولقد كان في الواقع استرداد أدرنة بعد تلك الكائنة البلقانية الفجيعة أشبه بغرة بيضاء في وجه جواد أدهم. وأذكر أني كنت دخلت أنا والمرحوم محمد باشا الشريعي على السلطان محمد رشاد رحمه الله، وكان وقتئذ في قصر يلدز، فبعد أن جلسنا في حضرته أظهر التألم من الحوادث التي قضت بهزيمة الدولة في حرب البلقان، ثم تبسم وقال: «لكن أدرنة استرداديله متسلي اولدق.» أي إننا مع هذا قد تسلينا باسترداد أدرنة. (34) قصيدة شوقي في الانقلاب العثماني
ومن قصائد شوقي التي سارت بها الركبان منظومته في الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد الثاني، قال فيها:
سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها نبأ البدور
يلدز معناه بالتركية النجم، وكان اسم القصر الذي يقيم به السلطان عبد الحميد، وهو على رابية مشرفة على البوسفور، وشوقي يريد أن يقول إن هذا النجم جاءته نوبة الأفول كالبدر الذي يطلع ثم يغيب.
لو تستطيع إجابة
لبكتك بالدمع الغزير
أخنى عليها ما أنا
خ على الخورنق والسدير
الخورنق والسدير من قصور المناذرة بالحيرة.
ودها الجزيرة بعد إس
ماعيل والملك الكبير
يريد بالجزيرة القصر الذي كان يقيم به الخديوي إسماعيل بمصر.
ذهب الجميع فلا القصو
ر ترى ولا أهل القصور
فلك يدور سعوده
ونحوسه بيد المدير
أين الأوانس في ذرا
ها من ملائكة وحور
المترعات من النعي
م الراويات من السرور
العاثرات من الدلا
ل الناهضات من الغرور
الآمرات على الولا
ة الناهيات على الصدور
الصدور جمع صدر، وكان يقال لكبير وزراء السلطنة العثمانية «الصدر الأعظم»، وفي هذا البيت مبالغة بلا شك؛ لأن جواري القصر السلطاني لا سيما حظايا السلطان كان لهن نفوذ الكلمة في الأعصر القديمة لا في الزمن الأخير، ولكن شوقي قال هذا لطلاوة الشعر، ثم يقول:
الناعمات الطيبا
ت العرف أمثال الزهور
يلاحظ هنا أن الزهر لا يجمع على الزهور، بل على الأزهار وجمع الجمع الأزاهر، ولكن قد توجد هذه اللفظة في كتابات المحدثين.
الذاهلات عن الزما
ن بنشوة العيش النضير
من كل بلقيس على
كرسي عزتها الوثير
أمضى نفوذا من زبي
دة في الإمارة والأمير
بين الرفارف والمشا
رف والزخارف والحرير
والروض في حجم الدنا
والبحر في حجم الغدير
وذلك أن البوسفور يضيق حتى كأنه بعض الأنهر.
والدر مؤتلق السنا
والمسك فياح العبير
في مسكن فوق السما
ك وفوق غارات المغير
بين المعاقل والقنا
والخيل والجم الغفير
سموه يلدز والأفو
ل نهاية النجم المغير
ويلاحظ هنا على قوله المغير إن كانت بمعنى الآفل فصوابه الغائر؛ يقال غارت الشمس غيارا وغئورا أي غربت، ولعل شوقي أراد بقوله «المغير» أي المسرع فلا غبار على البيت حينئذ.
دارت عليهن الدوا
ئر في المخادع والخدور
أمسين في رق العبي
د وبتن في أسر العشير
ما ينتهين من الصلا
ة ضراعة ومن النذور
يطلبن نصرة ربهن
وربهن بلا نصير
ربهن الأول هو الله، والثاني هو السلطان.
صبغ السواد حبيرهن
وكان من يقق الحبور
أنا إن عجزت فإن في
بردي أشعر من جرير
مضى هنا الشاعر على طريقته في الفخر، وهو مثل قوله:
إن الذي قد ردها وأعادها
في بردتيك أعاد في البحتري
ثم قال:
خطب الإمام على النظي
م يعز شرحا والنثير
عظة الملوك وعبرة الأ
يام في الزمن الأخير
شيخ الملوك وإن تضع
ضع في الفؤاد وفي الضمير
نستغفر المولى له
والله يعفو عن كثير
في كتاب الله:
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير
في سورة المائدة، وفي سورة الشورى:
أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير .
ونراه عند مصابه
أولى بباك أو عذير
ونصونه ونجله
بين الشماتة والنكير
عبد الحميد حساب مثلك
في يد الملك الغفور
سدت الثلاثين الطوا
ل ولسن بالحكم القصير
تنهي وتأمر ما بدا
لك في الكبير وفي الصغير
يريد أن يقول إنه كان آمرا ناهيا على الكبير والصغير من رعيته وفي الكبير والصغير من شئون المملكة.
لا تستشير وفي الحمى
عدد الكواكب من مشير
يقول: كنت مستبدا برأيك لا تقبل عليك مشيرا مع أنه كان عندك وزراء ممن لهم رتبة مشير لا يأخذهم العد. وفي هذا شيء من المبالغة؛ لأن عبد الحميد طالما استشار وأخذ برأي أعوانه، وإنما كان يفترق عن غيره من الملوك الدستوريين بكونه لا يتقيد بإشارة أحد منهم.
كم سبحوا لك في الروا
ح وألهوك لدى البكور
ورأيتهم لك سجدا
كسجود موسى في الحضور
خفضوا الرءوس ووتروا
بالذل أقواس الظهور
أي كانوا ينحنون أمامك حتى تصير ظهورهم كالأقواس من الانحناء، وإنما كان وترها الخضوع لك.
ماذا دهاك من الأمو
ر وكنت داهية الأمور
دهاك بمعنى أصابك، وأما داهية فمعناه باقعة، وفي البيت جناس بين دهاك وداهية، كما أن في البيت الذي مر قبل هذا بثلاثة أبيات جناسا معنويا بين تستشير ومشير، ثم قال:
ما كنت إن حدثت وجل
ت بالجزوع ولا العثور
أين الروية والأنا
ة وحكمة الشيخ الخبير
إن القضاء إذا رمى
دك القواعد من ثبير
الثبيران بالتثنية جبلان مفترقان يصب بينهما أفاعية، وهو واد يصب من منى يقال لأحدهما ثبير «غينا» وللآخر ثبير الأعرج. وقالوا ثبير جبل بمكة بينها وبين عرفة، سمي ثبيرا برجل من هذيل مات في ذلك الجبل فسمي به، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا الإفاضة يقولون : أشرق ثبير كي ما نغير. فإنهم كانوا إذا أشرقت الشمس من ناحية ثبير أغاروا إلى النحر؛ أي أسرعوا وبمكة أثبرة غير هذا منها ثبير الزنج وثبير الخضراء وثبير النصع، وهو جبل المزدلفة وثبير الأحدب. واشتقاق اللفظة هو من ثبره عن الأمر يثبره بالضم ثبرا إذا احتبسه. قيل إن ثبيرا سمي ثبيرا لأنه يواري حراء، ثم قال:
دخلوا السرير عليك يح
تكمون في رب السرير
أعظم بهم من آسري
ن وبالخليفة من أسير
قالوا اعتزل قلت اعتزل
ت الحكم للملك القدير
صبروا لدولتك السني
ن وما صبرت سوى شهور
أي إنهم صبروا على حكمك المطلق ثلاثين سنة، وبعد أن أجبروك على إعلان الشورى لم تصبر أنت عليها سوى بضعة أشهر حتى حاولت أن تقوضها.
أوذيت من دستورهم
وحننت للحكم العسير
وغضبت كالمنصور أو
هارون في خالي العصور
أي أردت أن تستبد استبداد أبي جعفر المنصور أو حفيده هارون الرشيد، ولكن هذا الوقت غير ذلك الوقت.
ضنوا بضائع حقهم
وضننت بالدنيا الغرور
هلا احتفظت به احتفا
ظ مرحب فرح قدير
هو حلية الملك الرشي
د وعصمة الملك الغرير
وبه يبارك في المما
لك والملوك على الدهور
قال إنهم حرصوا على حق الرعية الضائع، وحرصت أنت على تحكيم إرادتك وليس هذا بحق، ولقد كنت تحسن لو تلقيت الدستور بصدر رحب وعين قرة، فإن الدستور للملك العاقل الرشيد حلية، وللملك الذي لا يملك التدبير عصمة ووقاية، والدستور بركة على الممالك والملوك ما دام قائما، ثم خاطب الجيش العثماني الذي خلع عبد الحميد، فقال:
يا أيها الجيش الذي
لا بالدعي ولا الفخور
يخفى فإن ريع الحمى
لفت البرية بالظهور
كالليث يسرف في الفعا
ل وليس يسرف في الزئير
يقول إن الجيش العثماني يخفى بعدم تدخله في السياسة وإدارة الملك حتى إذا ريع حمى الملك بشيء من النوازل وثب وظهر بكل قوته، فهو كثير الفعل قليل الضوضاء، وهذان البيتان هما من أبدع ما قال شوقي، ولكنه مع الأسف قد بدأ منذ خلع هذا الجيش للسلطان عبد الحميد يتعرض للسياسة وللإدارة ودخول الجيوش في سياسة الممالك طالما كان قاصما لظهورها، ولم يكن انهزام هذا الجيش العثماني في الحرب البلقانية خاليا من هذا السبب، قال:
يتلو الزمان صحيفة
غراء مذهبة السطور
في مدح أنورك الجري
ء وفي نيازيك الجسور
أنور كان ضابطا صغيرا عندما ثار بشرذمة من العسكر في بلاد الروملي يطلب إعادة الدستور، وكذلك نيازي الذي ثار مثله في بلاد الأرناءوط، فطار صيتهما في ذلك الوقت وما زال أحدهما - أنور - يرقى حتى صار ناظرا للحربية العثمانية.
يا شوكت الإسلام بل
يا فاتح البلد العسير
وابن الأكارم من بني
عمر الكريم على البشير
القابضين على الصلي
ل كجدهم وعلى الصرير
هل كان جدك في ردا
ئك يوم زحفك والكرور
فقنصت صياد الأسو
د وصدت قناص النسور
وأخذت يلدز عنوة
وملكت عنقاء الثغور
كان شائعا يوم جرت هذه الحادثة أن محمود شوكت باشا الذي قاد الجيش المسمى بجيش الحركة الذي زحف من سلانيك إلى استانبول وخلع السلطان عبد الحميد، هو من ذرية الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليس ذلك بصحيح فمحمود شوكت باشا هو من عائلة كرجية الأصل استوطنت بغداد وصارت من بيوتات الوجاهة فيها، ويقال إن بينها وبين آل العمري في الموصل مصاهرة، فإن كان محمود شوكت باشا يمت إلى عمر - رضي الله عنه - بنسب فيكون من جهة الأمهات لا الآباء، وأما قوله: «عمر الكريم على البشير.» فمعناه أنه العزيز على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن البشير من أسمائه.
ولأخي نسيب - رحمه الله - في دخول جيش الحركة إلى استانبول زحفا من سلانيك تحت قيادة محمود شوكت باشا قصيدة رنانة، أملاها عليه التأثر بما كنا فجعنا به من استشهاد ابن عمنا الأمير محمد المصطفى أرسلان الذي كان أحد نواب الأمة ورئيسا للجنة الأمور الخارجية في مجلس النواب، وكان الحزب الحميدي قد ثار على الحكومة غيظا بجمعية الاتحاد والترقي التي كانت قوام الحكومة حينئذ، وخدعوا العساكر وساقوها إلى ساحة أياصوفية حيث أرادوا الفتك بالنواب، ولكنهم بعد أن فتكوا بالأمير محمد أرسلان وناظم باشا ناظر العدلية، وقع فيهم الرعب وبلغهم أن عساكر أخرى من أنصار الدستور آتية للاقتصاص منهم؛ فتفرقوا ولكن فتكوا بكثيرين من أنصار الدستور وانتدب السلطان عبد الحميد توفيق باشا صدرا أعظم مكان حسين حلمي باشا الصدر الذي وقعت عليه الثورة وتوارى عن الأنظار.
ولما بلغ الاتحاديين الذين كان مركز جمعيتهم سلانيك ما وقع في الآستانة قرروا الزحف إلى الآستانة بجيش سلانيك، وانضم إليه جيش أدرنة، ونشر محمود شوكت باشا بيانا للأمة العثمانية عن الأسباب التي حملت على هذه الحركة؛ وهي أن الرجعيين ثاروا في العاصمة ونادوا بسقوط الحكومة الدستورية، وتجمعت العساكر التي أثاروها في ساحة مجلس النواب أو المبعوثين وقرروا الفتك بهم، واستشهد بأيديهم الأثيمة مبعوث الأمة محمد أرسلان بك وناظر العدلية ناظم باشا؛ ولذلك يزحف جيش الحرية لإعادة الدستور وتوطيده والاقتصاص من الجناة.
ثم دخل الجيش ولم تحصل له مقاومة إلا أمام بعض الثكن والعسكرية؛ لأن السلطان خشي عاقبة الحرب الداخلية، وكان توفيق باشا الصدر الجديد أشار عليه بعدم المقاومة تخفيفا للشر، فلما استولى جيش الحرية على العاصمة أنقذ الاتحاديون أنور بك ومعه جماعة فأبلغوا السلطان وجوب التخلي عن الملك فلم يسعه إلا الطاعة وأرسلوه إلى سلانيك؛ حيث تخصص له قصر أقام به إلى ما قبل الحرب البلقانية بقليل، فردوه إلى الآستانة وأنزلوه بقصر «بكلر بك» حيث مات سنة 1917.
أما قصيدة أخي في محمود شوكت باشا فهي هذه:
محمود شوكت ما خشيت فروقا
حتى مهدت من الصواب طريقا
سقيا لهمتك التي قد شاكلت
يوم المغار من الرياح خريقا
يا من تداركت الخلافة بعدما
أمسى بها الخطر الأجل حقيقا
أسمع لقمري المديح وقد غدا
غصن النجاح بجانبيك وريقا
بك قد أراد الله أن يمحو البلا
ويلم شمل الدولة المفروقا
ما إن أتاح من الظلام دجنة
حتى أتاح من الهلال شروقا
ومنها:
لك عند أمتك التي أنقذتها
فضل يطوق جيدها تطويقا
أنحى عليها الخائنون بكيدهم
فرددت سهم أذاهم المرشوقا
أنفوا من الشورى وطاب لديهم
قتل الكرام دعارة وفسوقا
خفقت قلوب الظالمين بقدر ما
شهدوا لمنصور اللواء خفوقا
سدروا فما أبقى التحير ألسنا
منهم ولا أبقى التخوف سوقا
تلفاهم صفر الوجوه كأنهم
دهنوا المحاجر والجباه خلوقا
ومنها:
أمطرت من ديم المنايا بعدما
قدمت من لمع السيوف بروقا
لما أهنت القصر في شرفاته
أكرمت بيتا في الحجاز عتيقا
بات المتوج في أسارك عنوة
سبحان من ترك العزيز رقيقا
وذعرت سرب الغيد في أكنانها
فغدا تناغيها لديك شهيقا
من للحسان وقد تميس بنعمة
ما شارفت نكدا ولا ترنيقا
جزعت على الدنيا عشية آنست
مما دهاها البين والتفريقا
ورأت أزاهرها بيلدز خضبت
بدم يرد الياسمين شقيقا
إن شوقي وإن كان أودع خطابه للسلطان عبد الحميد ما أودعه من اللوم في القالب الجميل، لم ينس ولاءه للخليفة السابق الذي طالما تغنى بمدائحه؛ فلهذا أشار بوجوب توقيره وحفظ كرامته وتذكر إمامته والإغضاء عن سيئاته، متروكا حسابه إلى الله الذي سيفصل فيه. وما زال شوقي يوصي بالسلطان عبد الحميد في شخصه إلى الآخر، ولكن شوقي لم يكن يهمه السلطان عبد الحميد لأجل شخصه، بل لأجل منصب الخلافة الذي كان يتقلده وهو منصب تهوي إليه أفئدة جميع المسلمين، وهذا المنصب لا يزول بزوال عبد الحميد، بل قد شغله الآن أخوه السلطان محمد رشاد الذي بويع سلطانا وخليفة باسم محمد الخامس، فالشاعر الإسلامي الأمين عملا بمبدئه الذي لا يحيد عنه يودع السلف ويحيي الخلف؛ لأن الخلافة يجب أن تبقى. وهو يهدي إلى الخليفة الجديد سلام أهل مصر الذين بايعوه في من بايعه من الأمة الإسلامية، فيقول:
المؤمنون بمصر يه
دون السلام إلى الأمير
ويبايعونك يا محم
د في الضمائر والصدور
قد أملوا لهلالهم
حظ الأهلة في المسير
فابلغ به أوج الكما
ل بقوة الله النصير
أنت الكبير يقلدو
نك سيف عثمان الكبير
شيخ الغزاة الفاتحي
ن حسامه شيخ الذكور
يهنئ السلطان محمدا الخامس بتقليده سيف آل عثمان، ومن عادة هذا البيت الكريم أنهم عند مبايعة السلطان يقلدونه سيف جده عثمان وذلك في حفلة عظيمة تقام في مقام الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - المدفون كما لا يخفى في آخر خليج استانبول. ويكون الذي يقلد السلطان هذا السيف شيخ الطريقة المولوية المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي، يستدعونه من قونية إلى الآستانة ليقوم بهذا التقليد، وهي عادة قديمة لم يريدوا أن يغيروها طول الدهر حتى تولى السلطان محمد وحيد الدين الملقب بمحمد السادس وهو السلطان الأخير من بني عثمان، فلما جرت حفلة تقليد السيف في مقام أبي أيوب الأنصاري وذلك في السنة الأخيرة من الحرب العامة، كان المجاهد الكبير السيد أحمد الشريف السنوسي قد قدم بغواصة من طرابلس الغرب إلى الآستانة، فآثر السلطان أن يجعل تقليده سيف آل عثمان من يد السيد السنوسي رضي الله عنه، ثم يقول:
بشرى الخلافة بالإما
م العادل النزه الجدير
الباعث الدستور في ال
إسلام من حفر القبور
أودى معاوية به
وبعثته قبل النشور
فعلى الخلافة منكما
نور تلألأ فوق نور
يقول شوقي لمحمد الخامس: إن الحكم المقيد قد بعث في أيامك بعد أن كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان قد طوى بساطه، فأنت نشرته من جديد وأنشأته استئنافا. يشير إلى أن الحكم الشوروي لم يستتب إلا مدة الرسول عليه السلام وخلفائه الراشدين الأربعة رضي الله عنهم، وبعد ذلك جاء معاوية فحول الخلافة إلى ملك عضوض، وجعلها بالإرث لا بالانتخاب، والله وارث الأرض ومن عليها. (35) قصيدة لشوقي في النسيب ومعارضتها لأخي نسيب
هذا ومن قصائد شوقي في النسيب قوله:
مضناك جفاه مرقده
وبكاه ورحم عوده
حيران القلب معذبه
مقروح الجفن مسهده
أودى حرقا إلا رمقا
يبقيه عليك وتنفده
يستهوي الورق تأوهه
ويذيب الصخر تنهده
ويناجي النجم ويتعبه
ويقيم الليل ويقعده
ويعلم كل مطوفة
شجنا في الدوح تردده
كم مد لطيفك من شرك
وتأدب لا يتصيده
فعساك بغمض مسعفه
ولعل خيالك مسعده
الحسن حلفت بيوسفه
والسورة أنك مفرده
قد ود جمالك أو قبسا
حوراء الخلد وأمرده
وتمنت كل مقطعة
يدها لو تبعث تشهده
أي صواحبات امرأة العزيز اللواتي قطعن أيديهن لما رأين يوسف.
جحدت عيناك زكي دمي
أكذلك خدك يجحده
قد عز شهودي إذ رمتا
فأشرت لخدك أشهده
وهممت بجيدك أشركه
فأبى واستكبر أصيده
وهززت قوامك أعطفه
فنبا وتمنع أملده
سبب لرضاك أمهده
ما بال الخصر يعقده
بيني في الحب وبينك ما
لا يقدر واش يفسده
ما بال العاذل يفتح لي
باب السلوان وأوصده
ويقول تكاد تجن به
فأقول وأوشك أعبده
مولاي وروحي في يده
قد ضيعها سلمت يده
ناقوس القلب يدق له
وحنايا الأضلع معبده
قسما بثنايا لؤلؤها
قسم الياقوت منضده
ورضاب يوعد كوثره
مقتول العشق ومشهده
وبخال كاد يحج له
لو كان يقبل أسوده
وقوام يروي الغصن له
نسبا والرمح يفنده
وبخصر أوهن من جلدي
وعوادي الهجر تبدده
ما خنت هواك ولا خطرت
سلوى بالقلب تبرده
وقد عارضها أخي نسيب بهذه القصيدة التي أحببت أن أعرضها للقراء في جانب قصيدة شوقي، وهي هذه:
مضناك عصاه تجلده
هل أنت بعطفك منجده
منهوك الجسم به كمد
إحناء الأضلع موقده
ترجيع الورق يهيجه
ووميض البرق يسهده
وله نفس لو ما خفقت
أحشاه لعز تردده
إن تهجره فعزاؤك في
دنف يتهامس عوده
لا يسري طيفك في غلس
قد زود نورك فرقده
ما حال فؤادي في شغف
يستبكي الصخر توجده
إذ يغدو الصدغ يصدعه
ويروح الخد يخدده
ويكر الطرف فيأسره
فيقوم الفرع يصفده
والصد له جرح جلل
لولا الآمال تكمده
أفدي مولاي فكل فتى
يشقيه الحب ويسعده
كم فزت بمرأى طلعته
فوزا يتقطع حسده
وسكرت براح شمائله
سكرا ما فاه معربده
غصن أغرتني رقته
أترى شكواي تؤوده
والشعر صداح في وله
يهوى الأغصان مغرده
أقول: ما يخالج نفسي عند قراءة هذا الشعر سواء المعارض أو المعارض، وهو أنه ليس فيه كبير أمر، وأن هناك صنعة تعمدها الشاعران اللذان قيدهما هذا الوزن، فأصبحا له أسيرين يسخران له المعاني ويجران القوافي. ولا جرم أن الوزن والقافية طالما حكما على الشاعر وسلباه حرية التصرف في إبراز معانيه كيف شاء؛ ولهذا كان أطول الشعراء باعا وأعلاهم درجة من تراه حرا وهو مقيد، ولكن بحرا كهذا الذي نظما عليه، وإن كان مرقصا يعجب القارئ بمقاطعه ويلذ بخببه، ترى الشاعر فيه راسفا في قيد ثقيل يمنعه أن يجري جريه المعتاد. (36) قصيدة شوقي في شكسبير
ولشوقي قصيدة في شكسبير بالغ بها في مدح عظمة الإنكليز، فقال:
أعلى الممالك ما كرسيه الماء
وما دعامته بالحق شماء
يا جيرة المنش حلاكم أبوتكم
ما لم يطوق به الأبناء آباء
ملك يطاول ملك الشمس عزته
في الغرب باذخة في الشرق قعساء
تأوي الحقيقة منه والحقوق إلى
ركن بناه من الأخلاق بناء
أعلاه بالنظر العالي ونطقه
بحائط الرأي أشياخ أجلاء
وحاطه بالقنا فتيان مملكة
في السلم زهر ربى في الروع أرزاء
يستصرخون ويرجى فضل نجدتهم
كأنهم عرب في الدهر عرباء
ودولة لا يراها الظن من سعة
ولا وراء مداها فيه علياء
عصماء لا سبب الرحمن مطرح
فيها ولا رحم الإنسان قطعاء
تلك الجزائر كانت تحتهم ركنا
وراءهن لباغي الصيد عنقاء
وكان ودهم الصافي ونصرتهم
للمسلمين وراعيهم كما شاءوا
لا نزاع في عظمة الإنكليز المادية، وفي كثير من عظمتهم المعنوية، وإن كانت هذه قد غدت تتضاءل في نظر الناس شيئا فشيئا، وصار ثوبها يشف عما تحته. وعلى كل حال فقد أصاب شوقي بتقييد ود الإنكليز الصافي للمسلمين بفعل «كان»؛ إذ إننا إذا نظرنا إلى العصر الأخير لا نجد لهذا الود أثرا يستحق أن ينوه به، ثم قال في شكسبير:
ما أنجبت مثل شيكسبير حاضرة
ولا نمت من كريم الطير غناء
نالت به وحده إنكلترا شرفا
ما لم تنل بالنجوم الكثر جوزاء
كان كارليل يقول: إن شكسبير أفضل عندنا من الهند.
لم تكشف النفس لولاه ولا بليت
لها سرائر لا تحصى وأهواء
شعر من النسق الأعلى يؤيده
من جانب الله إلهام وإيحاء
سبق لي كلام نقله المنفلوطي، وهو أن الشعر هو من الوحي بمكان الدرجة الثانية من العلياء.
ثم إنه يخاطب شكسبير، فيقول له: قد أفضيت إلينا عن الحياة بأسرار لم يكشفها حتى الآن شاعر قبلك ، فهل تقدر أن تفضي إلينا بشيء عما بعد الحياة؟ فإن السر هو هنا.
يا صاحب العصر الخالي ألا خبر
عن عالم الموت يرويه الألباء
أما الحياة فأمر قد وصفت لنا
فهل لما بعد تمثيل وإدناء
ثم يسأله عن جمجمته ماذا جرى عليها بعد موته، فيقول:
بمن أماتك قل لي كيف جمجمة
غبراء في ظلمات الأرض جوفاء
كانت سماء بيان غير مقلعة
شؤبوبها عسل صاف وصهباء
فأصبحت كأصيص غير مفتقد
جفته ريحانة للشعر فيحاء
الأصيص نصف الجرة يزرع فيها الرياحين.
وكيف بات لسان لم يدع غرضا
ولم تفته من الباغين عوراء
عفا فأمسى ذنابى عقرب بليت
وسمها في عروق الظلم مشاء
وما الذي صنعت أيدي البلى بيد
لها إلى العيب بالأقلام إيماء
في كل أنملة منها إذا انبجست
برق ورعد وأرواح وأنواء
وأين تحت الثرى قلب جوانبه
كأنهن لوادي الحق أرجاء
تصغي إلى دقه أذن البيان كما
إلى النواقيس للرهبان إصغاء
لئن تمشى البلى تحت التراب به
لا يؤكل الليث إلا وهو أشلاء
وصف جمجمة شكسبير بما لم يصف به شاعر رأس شاعر، وقال إن رأسا جبارا كهذا الرأس لا يسطو عليه إلا الثرى الذي يجعله أجزاء كالليث لا يؤكل إلا إذا صار أشلاء. ومن أحسن ما ورد في هذه القصيدة ذكره للمدنية العصرية التي كان ترقي الإنسان فيها بالعلم سببا لزيادة تفننه في ضروب القتل والإفناء، فهو يقول:
يا واصف الدم يجري ها هنا وهنا
قم انظر الدم فهو اليوم دأماء
قال: يا شكسبير قد كنت تصف الدم يجري من هنا ومن هناك أشبه بجداول وتجد ذلك فظيعا، فقم اليوم وانظر الدم فإنه ليس بجداول ولا بأنهار ولكنه دأماء؛ أي بحر عجاج متلاطم بالأمواج، ثم قال:
لاموك في جعلك الإنسان ذئب دم
واليوم تبدو لهم من ذاك أشياء
وقيل أكثر ذكر القتل ثم أتوا
ما لم تسعه خيالات وأنباء
كانوا الذئاب وكان الجهل داءهم
واليوم علمهم الراقي هو الداء (37) قصيدة شوقي في كتاب حافظ عوض عن تاريخ مصر الحديث
ولشوقي أبيات في كتاب فتح مصر الحديث للأستاذ الفاضل السياسي المحنك حافظ بك عوض، يبدأ فيها بذكر الصاحب الأمين الذي هو الكتاب، فيقول:
أنا من بدل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
صاحب إن عبته أو لم تعب
ليس بالواجد للصاحب عابا
صالح الإخوان يبغيك التقى
ورشيد الكتب يبغيك الصوابا
ثم اختص التاريخ من بين الكتب بزيادة الإجلال، فقال:
غال بالتاريخ واجعل صحفه
من كتاب الله في الإجلال قابا
واطلب الخلد ورمه منزلا
تجد الخلد من التاريخ بابا
عاش خلق ومضوا ما نقصوا
رقعة الأرض ولا زادوا الترابا
أخذ التاريخ مما تركوا
عملا أحسن أو قولا أصابا
يقول: كم عاش أمم وأقوام ومضوا فما قدروا أن ينقصوا الأرض ولا أن يزيدوها حبة تراب، وإنما تركوا ما حفظه لهم التاريخ لا غير، وهو كما قال الآخر وهو ابن دريد:
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثا حسنا لمن وعى
ثم يصف القوم بدون تاريخ لهم، فيقول:
مثل القوم نسوا تاريخهم
كلقيط عي في الناس انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة
يشتكي من صلة الماضي انقضابا
ثم يصف العربية الفصحى - أيد الله سلطانها - فيقول:
إن للفصحى زماما ويدا
تجنب السهل وتقتاد الصعابا
لغة الذكر لسان المجتبى
كيف تعيا بالمنادين جوابا
كل عصر دارها إن صادفت
منزلا رحبا وأهلا وجنابا
يقول: إن لغة القرآن ولسان المصطفى - عليه السلام - ليست باللغة التي يعييها إجابة من يناديها إلى البيان عن ضرب من ضروب القول والإعراب عن خالج مهما دق من خوالج النفس، وهي لعمري مليئة بحوائج كل عصر بشرط أن تجد من يحسن الاطلاع على دقائقها والاضطلاع بحقائقها، ثم يذكر كيف كان الأزهر هو الكوكب الوحيد في دجنة أيام المماليك فيقول:
ظلمات لا ترى في جنحها
غير هذا الأزهر السمح شهابا
زيدت الأخلاق فيه حائطا
فاحتمى فيها رواقا وقبابا
قسما لولاه لم يبق بها
رجل يقرأ أو يدري كتابا
ولشوقي وصف للجبرتي المؤرخ ينطبق عليه أحسن انطباق، فهو يقول عنه:
صحف الشيخ ويومياته
كزمان الشيخ سقما واضطرابا
من حواش كجليد لم يذب
وفصول تشبه التبر المذابا
والجبرتي على فطنته
مرة يغبى وحينا يتغابى
أي إنه يجمع الفطنة والغباوة في نسق واحد، وهو من الأصل فطن شديد الذكاء، إلا أنه قد يتغابى أحيانا بحسب غرضه.
ثم يذكر أيام مصر في حروبها، فقال إن المصريين فيها لهم وعليهم؛ ففي وقعة نصيبين التي يقول لها الأتراك وقعة نزب لبسوا رداء الفخر، وفي وقعة التل الكبير التي على أثرها احتل الإنكليز مصر التحفوا رداء الذل، ثم ذكر وقعة الأهرام ووصف جيش نابليون فقال:
شهد الجيزي
2
منهم عصبة
لبسوا الغار على الغار اعتصابا
كذئاب القفر من طول الوغى
واختلاف النقع لونا وإهابا
قادهم للفتح في الأرض فتى
لو تأنى حظه قاد السحابا
ثم ذكر عجز المصريين يوم اقتحم بلادهم بونابرت، فقال:
وبنو الوادي رجالات الحمى
وقفوا من ساقة الجيش ذنابى
موقف العاجز من خلف الوغى
يحرس الأحمال أو يسقي مصابا (38) زهرية مرنان لشوقي
هذا ولما كان شوقي يأبى إلا أن يجيد في كل لون من ألوان التأثر بمظاهر الحياة عالج أيضا الزهريات بما يناسبها من شعره نضارة ورونقا، فقال في الربيع:
آذار أقبل قم بنا يا صاح
حي الربيع حديقة الأرواح
واجمع ندامى الظرف تحت لوائه
وانشر بساحته بساط الراح
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها
فالصفو ليس على المدى بمتاح
واجلس بضاحكة الرياض مصفقا
لتجاوب الأوتار والأقداح
واستأنسن من السقاة برفقة
غر كأمثال النجوم صباح
واجعل صبوحك في البكور سليلة
للمنجبين: الكرم والتفاح
ثم يذكر الحمام فيقول:
بيض القلانس في سواد جلابب
حلين بالأطواق والأوضاح
رتلن في أوراقهن ملاحنا
كالراهبات صبيحة الإفصاح
ثم يقول عن الربيع:
ملك النبات فكل أرض داره
تلقاه بالأعراس والأفراح
منشورة أعلامه من أحمر
قان وأبيض في الربى لماح
لبست لمقدمه الخمائل وشيها
ومرحن في كنف له وجناح
يغشى المنازل من لواحظ نرجس
آنا وآنا من ثغور أقاح
ورءوس منثور خفضن لعزه
تيجانهن عواطر الأرواح
الورد في سرر الغصون مفتح
متقابل يثني على الفتاح
مر النسيم بصفحتيه مقبلا
مر الشفاه على خدود ملاح
هتك الردى من حسنه وبهائه
بالليل ما نسجت يد الإصباح
ينبيك مصرعه وكل زائل
أن الحياة كغدوة ورواح
ويقائق النسرين في أغصانها
كالدر ركب في صدور رماح
والياسمين نقيه ولطيفه
كسريرة المتنزه المسماح
متألق خلل الغصون كأنه
في بلجة الأفنان ضوء صباح
والجلنار دم على أوراقه
قاني الحروف كخاتم السفاح
وكأن محزون البنفسج ثاكل
يلقى القضاء بخشية وصلاح
والسرو في الحبر السوابغ كاشف
عن ساقه كمليحة مفراح
والنخل ممشوق القدود معصب
متزين بمناطق ووشاح
كبنات فرعون شهدن مواكبا
تحت المراوح في نهار ضاح
وترى الفضاء كحائط من مرمر
نضدت عليه بدائع الألواح
الغيم فيه كالنعام بدينة
بركت وأخرى حلقت بجناح
إلى أن يقول في وصف السواقي التي ترفع الماء:
وجرت سواق كالنوادب بالقرى
رعن الشجى بأنة ونواح
الشاكيات وما عرفن صبابة
الباكيات بمدمع سحاح
من كل بادية الضلوع غليلة
والماء في أحشائها ملواح
وما زال الشعراء يصفون أنين السواقي والنواعير، وأشهر هذه في الأنين والبكاء نواعير مدينة حماة على وادي العاصي التي صارت مضرب المثل؛ لارتفاع دواليبها التي قد يبلغ الواحد منها ثمانية أمتار، فيكون لها أنين يسمع إلى مسافة بعيدة، هذا وليس في زهريات الشعراء أجمع ما يبذ زهرية شوقي هذه التي قدمها إلى الكاتب الروائي الشهير «هول كين»، وختمها بخطاب له يقول فيه: «هول كين» مصر رواية لا تنتهي
منها يد الكتاب والشراح
فيها من البردي والمزمور والت
وراة والفرقان والإصحاح «ومنا» و«قمبيز» إلى إسكندر
فالقيصرين فذي الجلال صلاح
يريد بصلاح صلاح الدين الأيوبي بعد ذكره أعاظم من ملكوا مصر، ثم يقول لهذا الكاتب العظيم:
تلك الخلائق والدهور خزانة
فابعث خيالك يأت بالمفتاح (39) قصيدة شوقي في مسجد أيا صوفيا
وله في مسجد أيا صوفيا:
كنيسة صارت إلى مسجد
هدية السيد للسيد
كانت لعيسى حرما فانتهت
بنصرة الروح إلى أحمد
شيدها الروم وأقيالهم
على مثال الهرم المخلد
تنبئ عن عز وعن صولة
وعن هوى للدين لم يخمد
مجامر الياقوت في صحنها
تملؤه من ندها الموقد
ومثل ما قد أودعت من حلى
لم تتخذ دارا ولم تحشد
كانت بها العذراء من فضة
وكان روح الله من عسجد
عيسى من الأم لدى هالة
والأم من عيسى لدى فرقد
جلاهما فيها وحلاهما
مصور الروم القدير اليد
ومنها:
قد جاءها «الفاتح» في عصبة
من الأسود الركع السجد
رمى بهم بنيانها مثل ما
يصطدم الجلمد بالجلمد
وما توانى الروم يفدونها
والسيف في المفدي والمفتدي
ثم يقول عن السلطان محمد الفاتح:
بفاتح غاز عفيف القنا
لا يحمل الحقد ولا يعتدي
أجار من ألقى مقاليده
منهم وأضفى الأمن للمرتدي
وناب عما كان من زخرف
جلالة المعبود في المعبد
فيا لثأر بيننا بعده
أقام لم يقرب ولم يبعد
باق كثأر القدس من قبله
لا ننتهي منه ولا يبتدي
فلا يغرنك سكون الملا
فالشر حول الصارم المغمد
إني أرى المختار من شعر شوقي إنما يكثر في الأوابد ووصف المباني والمشاهد، وكل ما له صلة بالتاريخ؛ فلذلك يعلو في هذه السموات ما لا يعلو في غيرها، فشعره في المواضيع التاريخية والملاحم ينحط عنه كل سيل بلاغة، ولا يرتقي إليه طير فصاحة؛ ولذلك أفضل قصائده في هذه المقامات الهائلة على قصائده في الغزل والنسيب والرثاء والمديح مع رقة الأولى وجزالة الثانية.
وانظر الآن إلى قصيدته السينية الأندلسية، فإن شوقي في أيام الحرب الكبرى قد ارتحل إلى الأندلس وزار أفخر مآثر العرب فيها، قال: وكان البحتري - رحمه الله - رفيقي في هذا الترحال وسميري في الرحال، فإنه أبلغ من حلي الأثر وحيي الحجر ونشر الخبر وحشر العبر، ومن قام في مأتم على الدول الكبر ... إلخ، ثم استشهد بالعماد الأصفهاني صاحب «الفتح القسي في الفتح القدسي»، وهو قوله: فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه تجدوا الإيوان قد خرت شعفاته وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد بقي بها كسرى في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه ا.ه.
قلت: من حيث أراد شوقي معارضة البحتري في سينيته الكسروية فيحسن أن نورد قصيدة البحتري هذه وبعدها قصيدة شوقي ثم نقابل بينهما. ولا يعيب شوقي إن قصر عن البحتري في مداه البعيد؛ والبحتري ثالث ثلاثة مع أبي تمام والمتنبي. (40) سينية البحتري في إيوان كسرى
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل جبس
وتماسكت حين زعزعني الده
ر التماسا منه لتعسي ونكسي
بلغ من صبابة العيش عندي
طففتها الأيام تطفيف بخس
وبعيد ما بين وارد رفه
علل شربه ووارد خمس
وكأن الزمان أصبح محمو
لا هواه مع الأخس الأخس
واشترائي العراق خطة غبن
بعد بيعي الشآم بيعة وكس
لا تزرني مزاولا لاختباري
عند هذي البلوى فتنكر مسي
وقديما عهدتني ذا هنات
آبيات على الدنيئات شمس
ولقد رابني نبو ابن عمي
بعد لين من جانبيه وأنس
وإذا ما جفيت كنت حريا
أن أرى غير مصبح حيث أمسي
حضرت رحلي الهموم فوجه
ت إلى أبيض المدائن عنسي
أتسلى عن الحظوظ وآسى
لمحل من آل ساسان درس
ذكرتنيهم الخطوب التوالي
ولقد تذكر الخطوب وتنسي
وهم خافضون في ظل عال
مشرف يحسر العيون ويخسي
مغلق بابه على جبل القب
ق إلى دارتي خلاط ومكس
حلل لم تكن كأطلال سعدى
في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني
لم تطقها مسعاة عنس وعبس
نقل الدهر عهدهن عن الجد
ة حتى غدون أنضاء لبس
فكأن الجرماز من عدم الأن
س وإخلاله بنية رمس
الجرماز بالكسر بناء عظيم كان عند أبيض المدائن وقد عفا أثره، جاء ذلك في تاج العروس. وقد أشرنا إلى هذا عمدا؛ لأنه لا يوجد في العربي لفظ الجرماز، وإنما يوجد الجرموز، قالوا عنه إنه الحوض المتخذ في قاع أو روضة ويكون مرتفع الأعضاد فيسيل منه الماء ثم يفرغ بعد ذلك. وقيل الجرموز البيت الصغير وقيل الجرموز الركية، فوجب التنبيه إلى أن الجرماز مكان معين.
لو تراه علمت أن الليالي
جعلت فيه مأتما بعد عرس
وهو ينبيك عن عجائب قوم
لا يشاب البيان فيهم بلبس
فإذا ما رأيت صورة أنطا
كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر
وان يزجي الصفوف تحت الدرفس
الدرفس كدمقس، وهو العلم الكبير وقد قالوا إن هذا البيت هو بيت هذه القصيدة.
في اخضرار من اللباس على أص
فر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين يديه
في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح
ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحيا
ء لهم بينهم إشارة خرس
يفتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقراهم يداي بلمس
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو
ث على العسكرين شربة خلس
من مدام تقولها هي نجم
أضوأ الليل، أو مجاجة شمس
وتراها إذا أجدت سرورا
وارتياحا للشارب المتحسي
أفرغت في الزجاج من كل قلب
فهي محبوبة إلى كل نفس
وتوهمت أن كسرى أبروي
ز معاطي والبلهبذ أنسي
ما اهتديت إلى الآن إلى معنى البلهبذ الذي هو لفظ فارسي فيما يظهر.
حلم مطبق على الشك عيني
أم أمان غيرن ظني وحدسي
وكأن الإيوان من عجب الصن
عة جوب في جنب أرعن جلس
يتضنى من الكآبة أن يب
دو لعيني مصبح أو ممسي
مزعجا بالفراق عن أنس إلف
عز أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات ال
مشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلدا وعليه
كلكل من كلاكل الدهر مرسي
لم يعبه أن بز من بسط الدي
باج واستل من ستور الدمقس
مشمخر تعلو له شرفات
رفعت في رءوس رضوى وقدس
لابسات من البياض فما تب
صر منها إلا غلائل برس
البرس هو القطن، والغلائل جمع غلالة بالكسر وهو شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع، ويجوز أن يكون «فلائل» جمع فليلة وهو الشعر المجتمع، ولكن الأول هو الأقرب.
ليس يدرى أصنع إنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم
يك بانيه في الملوك بنكس
فكأني أرى المراتب والقو
م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى
من وقوف خلف الزحام وخنس
وكأن القيان وسط المقاصي
ر يرجحن بين حو ولعس
وكأن اللقاء أول من أم
س ووشك الفراق أول أمس
وكأن الذي يريد اتباعا
طامع في لحوقهم صبح خمس
عمرت للسرور دهرا فصارت
للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعينها بدموع
موقفات على الصبابة حبس
موقفات حقها أن تكون موقوفات، ولكن البحتري تكلم هنا بلغة تميم، فكانوا يقولون أوقف بمعنى وقف، وأنكرها الأصمعي وقال الكلام وقف بغير ألف، وجاء عن بعضهم ما يمسك باليد يقال فيه أوقفته وما لا يمسك باليد يقال فيه وقفته.
ذاك عندي وليست الدار داري
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من ذكائها خير غرس
أيدو ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأعانوا على كتائب أريا
ط بطعن على النحور ودعس
وأراني من بعد أكلف بالأش
راف طرا من كل سنخ وأس
من تأمل في هذه القصيدة وما ختمها به البحتري لم يجد نظمها مجردا لإجلال الفن والتنويه بعظمة البنيان الذي لا تزال فخامته دليلا على عظمة الملوك الذين بنوه وبعد شأوهم في العمران، وإنما اتخذها أبو عبادة فرصة للتغني بمجد فارس التي كان ينتسب إليها كثيرون من أمراء الدولة العباسية، ومن هؤلاء من كان يسني العطاء للبحتري ويواصل إجازته، بحيث لم يكن يدع فرصة يتغنى بها بمجد فارس إلا ويتوردها، فكم جاء ذلك في شعره، فمنه قصيدة يمدح بها إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال فيها: (41) إشادة أبي عبادة بمجد العجم
كسروي عليه منه جلال
يملأ البهو من بهاء ونور
وترى في روائه بهجة المل
ك إذا ما استوفاه صدر السرير
وإذا ما أشار هبت صبا المس
ك وخلت الإيوان من كافور
يا ابن سهل وأنت غير مفيق
من بناء العلياء أخرى الدهور
إن للمهرجان حقا على كل
كبير من فارس وصغير
عيد آبائك الملوك ذوي التي
جان أهل النهى وأهل الخير
من قباذ ويزدجرد وفيرو
ز وكسرى وقيلهم أزدشير
شاهدوه في حلبة الملك يغدو
ن عليه في سندس وحرير
وله فيه أيضا من قصيدة أخرى:
مجد سهل والفضل والحسن والإح
سان في مجدك الرفيع الشريف
كسرويون أوليون في السؤ
دد بيض الوجوه شم الأنوف
وقال فيه أيضا ولم يغفل نسبه الساساني ولا تاجه الخسرواني:
آل سهل أنتم عيون بني سا
سان جودا ونجدة وحلوما
كسروي تلقاه في الحرب ليثا
قسوريا وفي الندي حكيما
وقال أيضا من قصيدة أخرى:
قد ورثت العلياء عن أزدشير
وقباذ وعن أنو شروان
وأرى الليل والنهار سواء
حين تبدو بوجهك الإضحيان
وقال أيضا:
أفتى بني الحسن بن سهل أنهم
فتيان فارس نجدة وحلوما
لا توجبن لكريم أصلك منة
لو كنت من عكل لكنت كريما
وللبحتري في أحمد بن علي الإسكاف، ويظهر أنه كان من غطاريف فارس:
همة ترذل الدنايا ونفس
شرفت أن تهم بالإشراف
وعلا في الصهبذين وددنا
أنها في الزيود والأعواف
قدمته قوادم الريش منهم
حين خاست بآخرين الخوافي
رهط سابور ذي الجنود وطلا
ب مساعي سابور ذي الأكتاف (42) وصف البحتري لواقعة بحرية
وله في مدح أحمد بن دينار بن عبد الله، وكان أمير البحر وقد غزا بلاد الروم ويظهر أنه من أصل فارسي:
تظن النجوم الزهر بتن خلائفا
لأبلج من سر الأعاجم أزهر
هو الغيث يجري من عطاء ونائل
عليك فخذ من صيب الغيث أو ذر
ولما تولى البحر والجود صنوه
غدا البحر من أخلاقه بين أبحر
أضاف إلى التدبير فضل شجاعة
ولا عزم إلا للشجاع المدبر
وله في وصف مركبه الخاص:
غدونا على الميمون صبحا وإنما
غدا المركب الميمون تحت المظفر
أطل بعطفيه ومر كأنما
تشرف من هادى حصان مشهر
إذا زمجر النوتي فوق علاته
رأيت خطيبا في ذؤابة منبر
إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى له
جناحا عقاب في السماء مهجر
إذا ما انكفى في هبوة الماء خلته
تلفع في أثناء برد محبر
وحولك ركابون للهول عاقروا
كئوس الردى من دارعين وحسر
إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم
ليقلع إلا عن شواء مقتر
صدمت بهم صهب العثانين دونهم
ضراب كإيقاد اللظى المتسعر
يريد بصهب العثانين الروم الذين غزاهم ذلك الأمير بحرا، ثم يقول:
يسوقون أسطولا كأن سفينهم
سحائب صيف من جهام وممطر
كأن ضجيج البحر بين رماحهم
إذا اختلف الترجيع عود مجرجر
لك أن تقول عود مجرجر؛ أي مصوت من جرجر أي صوت، ولك أن تقول إنه كبير من الإبل يردد رغاء في حنجرته من جرجر البعير؛ أي ردد رغاءه.
فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلا
مقطعة فيهم وهام مطير
على حين لا نقع تطوحه الصبا
ولا أرض تلفى للصريع المقطر
وكنت ابن كسرى قبل ذاك وبعده
مليا بأن توهي صفات ابن قيصر
جدحت له الموت الذعاف فعافه
وطار على ألواح شطب مسمر
مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها
عليه ومن يول الصنيعة يشكر
إذا الموج لم يبلغه إدراك عينه
ثنى في انحدار الموج لحظة أخزر
تعلق بالأرض الكبيرة بعدما
تنقصه جري الردى المتمطر
وله فيه أيضا من قصيدة:
له سلف في آل فيروز برزوا
على العجم وانقادت لهم حفلة العرب
مرازبة الملك التي نصبت لهم
منابره العظمى جبابرة الحرب
لهم بني الإيوان في عهد هرمز
وأحكم طبع الخسروانية القضب
ودارت بنو ساسان طرا عليهم
مدار النجوم السائرات على القطب
وله أيضا في مدح يعقوب بن أحمد بن صالح:
كريم من أرومة شيرزاد
تفخمه الجهارة والبيان
وما تخفى المكارم حيث كانت
ولا أهل المكارم حيث كانوا
وله في مدح الحسن بن مخلد، ويظهر أنه كان فارسي النسب:
قوم أشاد بعلياهم وورثهم
كسرى بن هرمز نجدا واضح الأمن
الأمن يسكن ويحرك.
تسمو بواذخ ما يبنون من شرف
كما سما الهضب من ثهلان أو حضن
الفاعلون إذا لذنا بظلهم
ما يفعل الغيث من شؤبوبه الهتن
لله أنتم فأنتم أهل مأثرة
في المجد معروفة الأعلام والسنن
إن جئتموها فليست بكر أنعمكم
ولا ببدء أياديكم إلى اليمن
أيام رد أنو شروان ملكهم
على عميدهم سيف بن ذي يزن
وله في إبراهيم بن المدبر:
نشدوا في بني المدبر عهدا
غير مستقصر ولا مذموم
في المحل الجليل من رتبة المل
ك استقلت والمذهب المستقيم
للندى الأول الأخير الذي بر
ز والسؤدد الحديث القديم
هي أكرومة نمت من بني سا
سان في خير منصب وأروم
للصريح الصريح والأشرف الأش
رف إن عد والصميم الصميم
وله في إسماعيل بن نيبخت:
ما للمكارم لا تريد سوى أبي
يعقوب إسحاق بن إسماعيل
وإلى أبي سهل بن نيبخت انتهى
ما كان من غرر لها وحجول
نسبا كما اطردت كعوب مثقف
لدن يزيدك بسطة في الطول
يفضي إلى بيب بن جوزرز الذي
شهر الشجاعة بعد فرط خمول
أعقاب أملاك لهم عاداتها
من كل نيل مثل مد النيل
الوارثون من السرير سراته
عن كل رب تحية مأمول
والضاربون بسهمة معروفة
في التاج ذي الشرفات والإكليل
قد استوفينا هنا أكثر ما تهافت عليه البحتري من الإشادة بمجد العجم وذكر ملكهم القديم وحسبهم الصميم، ولا نزاع في أن ممدوحيه من أمراء الدولة العباسية الذين ينتمون إلى الفرس كانوا أولي حسب ضخم وسؤدد فخم، ولكن لم نجد مثل البحتري في شعراء العرب من ينوء بمجد العجم بإسراف، فلا عجب أن نظم تلك القصيدة الخالدة في وصف إيوان كسرى وانتهى منها إلى مدح فارس وذكر مواقف رجالات الفرس من خدمة الخلافة الإسلامية. (43) سينية شوقي
ولنعد الآن إلى شعر شوقي ونثبت سينيته الأندلسية التي يليق أن تقرن بسينية البحتري.
يقول شوقي إنه اتخذ قصيدة البحتري مثالا، ونسج على منوالها وقد صرح عن ذلك بقوله: ثم جعلت أروض القول على هذا الروي وأعالجه على هذا الوزن حتى نظمت هذه القافية المهلهلة، وأتممت هذه الكلمة الريضة ا.ه.
وقد تأملت في معارضة شوقي للبحتري فوجدت القسم الأول من قصيدته نازلا نزولا بارزا عن طبقة البحتري إلا أنه عندما وصل إلى الأوابد وشرع في وصف الملاحم والوقائع، رجع فأخذ يعلو حتى قارن البحتري سائرا وإياه الكتف مع الكتف، قال:
اختلاف النهار والليل ينسي
اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
وصفا لي ملاوة من شباب
صورت من تصورات ومس
الملاوة مثلثة: البرهة من الدهر.
عصفت كالصبا اللعوب ومرت
سنة حلوة ولذة خلس
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
أو أسا جرحه الزمان المؤسي
جانس شوقي هنا بين «سلا» و«سلا» الأولى من السؤال والثانية من السلو، وقد سبق لي هذا الجناس نفسه، ولم أكن اطلعت على شعر شوقي هذا، وهو في قولي في رثاء الشيخ عبد القادر الشيبي سادن البيت الحرام رحمه الله.
سلاني هل على بعد سلاني
وهل كان الغياب سوى العيان
ثم قال:
كلما مرت الليالي عليه
رق والعهد في الليالي يقسي
مستطار إذا البواخر رنت
أول الليل أو عوت بعد جرس
راهب في الضلوع للسفن فطن
كلما ثرن شاعهن بنقس
يا ابنة اليم ما أبوك بخيل
ما له مولعا بمنع وحبس
أحرام على بلابله الدو
ح حلال للطير من كل جنس
كل دار أحق بالأهل إلا
في خبيث من المذاهب رجس
ما رأيت في هذا الشعر إلى هنا سوى التكلف والتعمل كأنما شوقي يقطع في صوان، فلشد ما لقي من عناء المعارضة، وقد حاول مباراة مثل البحتري إلا أنه ما لبث أن أسلس له القول، فقال:
نفسي مرجل وقلبي شراع
بهما في الدموع أسري وأرسي
فاجعلي وجهك «الفنار» ومجرا
ك يد الثغر بين رمل ومكس
الثغر هو الإسكندرية، وهذا هو اسمها من قديم الزمان، والرمل والمكس هما من ضواحيها، ثم قال:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
هذا بيت خالد ومعنى طريف؛ أي إنه لو سكن الجنة لبقي ينزع إلى وطنه مصر، وكأنه يشير إلى بيت المتنبي:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
ثم يقول:
وهفا بالفؤاد في سلسبيل
ظمأ للسواد من عين شمس
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخل حسي
يصبح الفكر و«المسلة» نادي
ه و«بالسرحة الزكية» يمسي
وكأني أرى الجزيرة أيكا
نغمت طيره بأرخم جرس
هي بلقيس في الخمائل صرح
من عباب وصاحب غير نكس
حسبها أن تكون للنيل عرسا
قبلها لم يجن يوما بعرس
لبست بالأصيل حلة وشي
بين صنعاء في الثياب وقس
ينسب الوشي عادة إلى صنعاء، وهنا مكان آخر تنسب إليه الثياب وهي القسية، وهي ثياب من كتان مخلوط من حرير كانت تجلب من بلدة يقال لها القس بين العريش والفرما من أرض مصر، وهي على ساحل البحر الملح، قال في تاج العروس إنها خربت من زمان ولم يبق إلا آثارها، وهناك تل عظيم من رمل خارج في البحر الشامي. قال وقد يكسر القاف في قس وأهل مصر يقولونه بالفتح.
قدها النيل فاستحت فتوارت
منه بالجسر بين عري ولبس
وأرى النيل كالعقيق بوادي
ه وإن كان كوثر المتحسي
وادي العقيق هو في المدينة المنورة وكانت فيه أيام عمران المدينة القصور الباذخة والجنان الغناء.
ابن ماء السماء ذو الموكب الفخ
م الذي يحسر العيون ويخسي
أخذ جملة «يحسر العيون ويخسي» من كلام البحتري، ثم قال:
لا ترى في ركابه غير مثن
بجميل وشاكر فضل غرس
ورأى الجيزة الحزينة ثكلى
لم تفق بعد من مناحة رمس
يريد برمس الملك رمسيس، ولكن رخم الاسم نظير قولهم: «يا حار» أي يا حارث و«يا أحم» أي يا أحمد، والترخيم نوع من أنواع البديع وفي بديعية ابن حجة الحموي «كالأغصان حين تمي» أي تميس وتميل وتميد.
أكثرت ضجة السواقي عليه
وسؤال اليراع عنه بهمس
اليراع هنا هو القصب.
وقيام النخيل ضفرن شعرا
وتجردن غير طوق وسلس
سلست النخلة ذهب كربها محركة، وهو أصول السعف الغلاظ.
وكأن الأهرام ميزان فرعو
ن بيوم على الجبابر نحس
أو قناطيره تأنق فيها
ألف جاب وألف صاحب مكس
روعة في الضحى ملاعب جن
حين يغشى الدجى حماها ويغسي «ورهين الرمال» أفطس إلا
أنه صنع جنة غير فطس
يشير إلى أبي الهول.
تتجلى حقيقة الناس فيه
سبع الخلق في أسارير إنسي
لعب الدهر في ثراه صبيا
والليالي كواعبا غير عنس
ركبت صيد المقادير عيني
ه لنقد ومخلبيه لفرس
فأصابت به الممالك كسرى
وهرقلا والعبقري الفرنسي
العبقري الفرنسي هو نابليون بونابرت.
يا فؤادي لكل أمر قرار
فيه يبدو وينجلي بعد لبس
عقلت لجة الأمور عقولا
كانت الحوت طول سبح وغس
غرقت حيث لا يصاح بطاف
أو غريق ولا يصاخ لحس
فلك يكشف الشموس نهارا
ويسوم البدور ليلة وكس
ليلة الوكس هي ليلة دخول البدر في نجم منحوس.
ومواقيت للأمور إذا ما
بلغتها الأمور صارت لعكس
دول كالرجال مرتهنات
بقيام من الجدود وتعس
وليال من كل ذات سوار
لطمت كل رب روم وفرس
من هنا بدأ شوقي يسامت البحتري لأنه إنما يستولي على أمد الإجادة في الملاحم ثم قال:
سددت بالهلال قوسا وسلت
خنجرا ينفذان من كل ترس
حكمت في القرون «خوفو» و«دارا»
وعفت وائلا وألوت بعبس
أين مروان في المشارق عرش
أموي وفي المغارب كرسي
أي كان لبني أمية في الشام عرش عم الإسلام وفي قرطبة كرسي خص الأندلس.
سقمت شمسهم فرد عليها
نورها كل ثاقب الرأي نطس
ثم غابت وكل شمس سوى ها
تيك تبلى وتنطوي تحت رمس
وعظ البحتري إيوان كسرى
وشفتني القصور من عبد شمس
أي إن إيوان كسرى كان موعظة للبحتري وأما أنا فبلغت مني غاية الوعظ قصور بني أمية آل عبد شمس.
رب ليل سريت والبرق طرفي
وبساط طويت والريح عنسي
أنظم الشرق في الجزيرة بالغر
ب وأطوي البلاد حزنا لدهس
أي أطوي شرق الجزيرة الأندلسية وغربها وأجوب وعرها وسهلها.
في ديار من الخلائف درس
ومنار من الطوائف طمس
كان أمراء بني أمية في قرطبة لا يقدرون أن يدعوا الخلافة فلم يكن يقال لهم الخلفاء، بل كان هذا اللقب لبني العباس، بل كان يقال لأمراء قرطبة الخلائف كناية عن أنهم ذرية الخلفاء آبائهم الذين كانوا بالشام، وبقي ذلك إلى زمان الناصر عبد الرحمن الثالث فهو أول من تلقب بالخليفة من أمراء قرطبة.
وأما الطوائف فهم ملوك الأندلس المتفرقون بعد أن انتثر سلك الخلافة فيها مثل بني جهور في قرطبة وبني ذي النون في طليطلة وبني هود في سرقسطة وبني رزين في السهلة، والموالي العامريين في بلنسية ودانية وبني صمادح في المرية وبني عباد في إشبيلية وبني الأفطس في بطليوس وهلم جرا.
وربى كالجنان في كنف الزي
تون خضر وفي ذرا الكرم طلس
لم يرعني سوى ثرى قرطبي
لمست فيه عبرة الدهر خمسي
يا وقى الله ما أصبح منه
وسقى صفوة الحيا ما أمسي
قرية لا تعد في الأرض كانت
تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيط وغطت
لجة الروم من شراع وقلس
ركب الدهر خاطري في ثراها
فأتى ذلك الحمى بعد حدس
الحدس هنا ليس الظن والتخمين بل هو بمعنى السير على غير هداية.
فتجلت لي القصور ومن في
ها من العز في منازل قعس
ما ضفت قط في الملوك على نذ
ل المعالي ولا تردت بنجس
وكأني بلغت للعلم بيتا
فيه مال العقول من كل درس
قدسا في البلاد شرقا وغربا
حجه القوم من فقيه وقس
كانت قرطبة في وقتها مدينة العلماء لم يخرج من العلماء من خرج من قرطبة لا في الكمية ولا في الكيفية، وكان إذا أجمع أهالي قرطبة على شيء فعليه تكون الفتوى، وكان فيها العلم بأنواعه وفنونه، وكما كانت قرطبة عاصمة الإسلام في العلم فقد كان إلى جانب علماء المسلمين فيها أحبار وأقسة يفتون في دين النصرانية ولهم بيع وأديار مشهورة.
وعلى الجمعة الجلالة و«النا
صر» نور الخميس تحت الدرفس
ينزل التاج عن مفارق «دون»
ويحلى به جبين «البرنس»
يتكلم عن الخليفة عبد الرحمن الناصر وعن جلالة الجمع التي كان يشهدها في المسجد الأعظم بقرطبة أو في مسجد الزهراء المدينة التي كان شيدها لسكناه في سفح جبل العروس من قرطبة، ويقول إنه كان نورا للجيوش تحت العلم الكبير وكانت تلجأ إليه ملوك الإفرنج والإسبان وغيرهم وربما خلع بعضها وأدال لبعضها من بعض.
ولنضرب مثالا على ذلك ما جاء في نفح الطيب:
وفي سنة 44 بعد الثلاثمائة جاء رسول أردون يطلب السلم فعقد له - أي الناصر - ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فردلند قومس قشتيلة في عهده فأذن له في ذلك وأدخل في عهده، وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة ثم انتقض عليه أهل جليقية وتولى كبرهم قومس قشتيلة فردلند المذكور، ومال إلى أردون بن ردمير، وكان غرسية بن شانجة حافدا لطوطة ملكة البشكونس فامتعضت لحافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن ردمير الملك وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوه. وجاء الملكان معها فاحتفل الناصر لقدومهم وعقد الصلح لشانجة وأمه، وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فرد عليه ملكه، وخلع الجلالقة طاعة أردن إليه وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك وبما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة في نكثه ووثوبه ويعيره بذلك عند الأمم. ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك. ولما وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالشرق وصل معه رسول ملك برشلونة وطركونة راغبا في الصلح، فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب.
انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
قلنا: لم يبق ملك من ملوك ذلك العصر الذي عاش فيه الناصر إلا أرسل إليه وفده يخطب وده وأعظمهم أوتون إمبراطور ألمانية الذي طالما تبادل السفارات مع الخليفة الناصر وكذلك إمبراطور القسطنطينية الذي كان يرسل إلى الناصر الهدايا والألطاف ويوفد الوفود الحافلة.
وإلى ذلك أشرت في قصيدتي الأندلسية التي قلت فيها:
وصقر قريش حين جاء مشردا
فأنشب فيهم أي ظفر مظفر
وشاد بهاتيك القواصي إمارة
لها أجفل المنصور والد جعفر
يقال إن أبا جعفر المنصور هو الذي لقب عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وقال: «الحمد لله الذي جعل البحر بيننا وبينه.»
وخلف أملاكا سموا وخلائفا
أسود عرين منهم كل مخدر
كفى بالإمام الناصر الفذ عاهلا
كسا أمة الإسلام حلة مفخر
تقبل أملاك الفرنجة كفه
ويقصد عالي بابه وفد قيصر
غداة تجلى للخلافة رونق
به ظهر الإسلام أروع مظهر
وأضحت بها الزهرا تميد جموعها
فيا لك من يوم أغر مشهر
تلعثم فيه كل رب فصاحة
فعيوا سوى قاضي الجماعة منذر
إشارة إلى المحفل النادر الذي احتفل به الخليفة الناصر لوفود صاحب القسطنطينية وذلك في قصره الزهراء، وانتدب كثير من العلماء للكلام في ذلك المحفل فأرتج عليهم من شدة المهابة، وتكلم ارتجالا القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وكانت خطبة رنانة، وهي مذكورة في الكتب.
ولا تهمل المستنصر الحكم الذي
تلاه ومن يستنصر الله ينصر
غدت قبة الإسلام قرطبة العلا
وسارقت الزوراء لحظة أزور
وباري بني العباس فيها أمية
وجروا على بغداد ذيل التبختر
وكان بها العمران يزخر مثلما
تلاطم أمواج الخضم المهدر
ولما رأيت المسجد الجامع الذي
بقرطبة من فوق فوق التصور
عضضت على كفي بكل نواجذي
وقلت لعيني اليوم دورك فاهمري
هو الجامع الطامي العباب بوقته
يحاكي به عماره لج أبحر
ظللت به بين الأساطين سائحا
بفكري حتى غاب عني محضري
تخيلته والذكر يتلى خلاله
نظير دوي النحل من كل مصدر
تأمل خليلي كم هنا من مهلل
إلى ربه صلى وكم من مكبر
وكم أزهرت فيه ألوف مصابح
وكم أوقدت أرطال عود وعنبر
وكم قارئ بالسبع في وسط حلقة
وكم خاطب بالسجع من فوق منبر
وكم عالم يلقي على الجمع درسه
وكم واعظ يمري مدامع محجر
وكم ملك ضخم وكم من خليفة
هنا كان يجثو عن جبين معفر
تسد فجاج المغربين جيوشه
ويبدو هنا في ثوب أشعث أغبر
كان الخليفة الناصر يأتي أحيانا إلى المسجد في الجمع المشهودة مرتديا ثوبا خلقا تواضعا منه لله تعالى.
خليلي تأمل كالعرائس تنجلي
أساطين قد تحصى بألف وأكثر
أساطين من صم الجماد مواثل
يذوب لها قلب الحنيف المفكر
تراها صفوفا قائمات كأنها
حدائق نصت من جماد مشجر
من العمد الأسنى فكل يتيمة
لها نسب من مقطع متخير
أجادت تحريها قروم أمية
معادن شتى من فلز ومرمر
نبت دونها زرق الفئوس وأصبحت
لدى الفري تهزا بالحديد المعصفر
ولكن لفضل الفن ألقت قيادها
فصالت بها الصناع صولة عنتر
فبينا هي الصم الصلاد إذ انثنت
مقاطع جبن أو قوالب سكر
عرائس للتخريم فوق رءوسها
أكاليل در في قلائد جوهر
ووجه إلى المحراب طرفك ينسرح
من الصخر في مثل الطراز المحبر
وحدق بهاتيك النقوش وزهوها
كأن فاتها صناعها منذ أشهر
وبالقبة العلياء يبدو شعاعها
بألمع من زهر النجوم وأزهر
لو ان الثريا في سماها تعرضت
لظلت تحدى للثريا وتزدري
ثم نعود إلى سينية شوقي:
سنة من كرى وطيف أمان
وصحا القلب من ضلال وهجس
وإذا الدار ما بها من أنيس
وإذا القوم ما لهم من محس
إشارة إلى قوله تعالى:
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .
ورقيق من البيوت عتيق
جاوز الألف غير مذموم حرس
الحرس بفتح أوله فسكون: هو الدهر أو قطعة منه، يقال: مضى عليه حرس من الدهر، وهو يريد بهذا البيت العتيق مسجد قرطبة. ثم يقول:
أثر من محمد وتراث
صار للروح ذي الولاء الأمس
بلغ النجم ذروة وتناهى
بين ثهلان في الأساس وقدس
قدس: جبل عظيم بأرض نجد، قال الأزهري: قدس وآرة جبلان لمزينة، وهما معروفان بحذاء سقيا مزينة، وقيل في الحجاز جبلان كل منهما اسمه قدس: قدس الأبيض وقدس الأسود، وهما عند ورقان وكلاهما لمزينة، والقدس أيضا البيت المقدس.
مرمر تسبح النواظر فيه
ويطول المدى عليها فترسي
وسوار كأنها في استواء
ألفات الوزير في عرض طرس
يعني بالوزير ابن مقلة الخطاط الشهير.
فترة الدهر قد كست سطريها
ما اكتسى الهدب من فتور ونعس
السطر بالسكون وبالتحريك: الصف من الشيء.
ويحها كم تزينت لعليم
واحد الدهر واستعدت لخمس
يريد أن يقول كم تزينت لعالم من أفراد الدهر واستعدت لإقامة الصلوات الخمس، ولو قال: كم تزينت لإمام، كان أحسن.
وكأن الرفيف في مسرح العي
ن ملاء مدنرات الدمقس
وكأن الآيات في جانبيه
يتنزلن من معارج قدس
منبر تحت «منذر» من جلال
لم يزل يكتسيه أو تحت «قس»
يريد بمنذر القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وبقس قس بن ساعده، أي بخطيب نظيره في الفصاحة.
فأما منذر فقد كان مشهورا بالعدل والصلابة في الحق، وقد تولى قضاء الجماعة في الأندلس، وكان الناصر وولده المستنصر يبالغان في تعظيمه، ولكنه لشدة ورعه لم يكن يتوقف عن تقريع الخليفة إذا رأى منه ما يوجب ذلك، ولما كان الناصر كلفا بالبناء وأمره في هذا الباب مشهور، وقد بنى الزهراء التي قدروا النفقة على بنائها بثلاثمائة ألف دينار كل عام، واستمر ذلك خمسة وعشرين عاما، حتى قيل إن ما أنفقه على الزهراء بلغ 15 من مائة من دخل الدولة كلها، وبلغ من انهماكه بالبناء فيها أنه تأخر ثلاث جمع متواليات عن شهود صلاة الجمعة بمسجد الزهراء، وكان القاضي منذر بن سعيد خطيب ذلك المسجد، فلم يصبر على هذا الإهمال، ولما صلى الخليفة بعد ذلك صلاة الجمعة عرض منذر به في الخطبة تاليا في أول خطبته قوله تعالى:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدن * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ، ثم أخذ يتكلم بما يناسب تلك الآية مقرعا وموبخا وموردا ما جاء في هذا المعنى في كتاب الله إلى أن تلا:
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ، وكان الناصر يسمع ويعلم أن القاضي منذرا إنما يشير إليه. ثم قرن منذر بن سعيد هذه الآي العظام بالأحاديث النبوية والآثار المروية، وأضاف إليها من بلاغته النادرة وفصاحته الساحرة، حتى خشع كل المصلين ذلك اليوم ورقوا وبكوا وضجوا وتضرعوا إلى الله تعالى أن يغفر لهم، وبكى الخليفة نفسه معهم واستعاذ بالله من سخطه، إلا أنه وجد في نفسه على منذر لغلظ ما قرعه به، فشكا ذلك لولده الحكم (المستنصر) وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، وكاد بعصاه يقرعني. وأقسم لا يصلي الجمعة وراء منذر، وجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف إمام المسجد الأعظم في قرطبة، ويجانب الصلاة بجامع الزهراء حيث يؤم منذر بن سعيد، فقال له الحكم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟ فقال له الناصر: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد، هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت، ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض منه أبدا. ا.ه. فتأمل في عظمة أخلاق هذا الخليفة العظيم وفي إنصافه من نفسه.
ومكان الكتاب يغريك ريا
ورده غائبا فتدنو بلمس
صنعة «الداخل» المبارك في الغر
ب وآل له ميامين شمس
ثم انتهى شوقي من قرطبة، وبدأ بذكر حمراء غرناطة فقال:
من لحمراء جللت بغبار الد
هر كالجرح بين برء ونكس
كسنا البرق لو محا الضوء لحظا
لمحتها العيون من طول قبس
حصن غرناطة ودار بني الأح
مر من غافل ويقظان ندس
جلل الثلج دونها «رأس شيرى»
فبدا منه في عصائب برس
سرمد شيبه ولم أر شيبا
قبله يرجى البقاء ويمسي
مشت الحادثات في غرف الحم
راء مشي النعي في دار عرس
هتكت عزة الحجاب وفضت
سدة الباب من سمير وأنس
عرصات تخلت الخيل عنها
واستراحت من احتراس وعس
ومغان على الليالي وضاء
لم تجد للعشي تكرار مس
لا ترى غير وافدين على التا
ريخ ساعين في خشوع ونكس
يصف زائري تلك المعاهد الذين إنما يأتون ليشاهدوا آثار تاريخ ماض.
نقلوا الطرف في نضارة آس
من نقوش وفي عصارة ورس
وقباب من لازورد وتبر
كالربى الشم بين ظل وشمس
وخطوط تكفلت للمعاني
ولألفاظها بأزين لبس
أتذكر بين الكتابات التي قرأتها على جدران الحمراء بالخط المذهب قصيدة لابن زمرك من كتاب بني الأحمر.
وترى مجلس السباع خلاء
مقفر القاع من ظباء وخنس
لا «الثريا» ولا جواري الثريا
يتنزلن فيه أقمار إنس
الثريا إحدى ملكات بني الأحمر.
مرمر قامت الأسود عليه
كلة الظفر لينات المجس
تنثر الماء في الحياض جمانا
يتنزى على ترائب ملس
آخر العهد بالجزيرة كانت
بعد عرك من الزمان وخرس
فتراها تقول راية جيش
باد بالأمس بين أسر وحس
ومفاتيحها مقاليد ملك
باعها الوارث المضيع ببخس
خرج القوم في كتائب صم
عن حفاظ كموكب الدفن خرس
ركبوا بالبحار نعشا وكانت
تحت آبائهم هي العرش أمس
يقول إن السفن كانت لهم في الآخر نعشا، كما كانت في الأول عرشا، فقد جاءوا الأندلس راكبين البحر ففتحوها، ثم أعادهم أعداؤهم ركوبا في البحر لما برحوها.
رب بان لهادم وجموع
لمشت ومحسن لمخس
إمرة الناس همة لا تأتى
لجبان ولا تسنى لجبس
وإذا ما أصاب بنيان قوم
وهي خلق فإنه وهي أس
بعد أن أشار إلى انقراض ملك العرب بالأندلس بوهي أخلاقهم، أحب أن يعظ أبناء وطنه مصر حتى يتنبهوا ويتجنبوا النبوات والغفلات التي بمثلها تضيع الممالك، فقال:
يا ديارا نزلت كالخلد ظلا
وجنى دانيا وسلسال أنس
محسنات الفصول لا ناجر في
ها بقيظ ولا جمادى بقرس
لا تحس العيون فوق رباها
غير حور حو المراشف لعس
كسيت أفرخي بظلك ريشا
وربا في رباك واشتد غرسي
هم بنو مصر لا الجميل لديهم
بمضاع ولا الصنيع بمنسي
من لسان على ثنائك وقف
وجنان على ولائك حبس
حسبهم هذه الطلول عظات
من جديد على الدهور ودرس
وإذا فاتك التفات إلى الما
ضي فقد غاب عنك وجه التأسي (44) قصيدة شوقي في آثار الأقصر
وخاطب روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة عندما زار الصعيد بالقصيدة التالية:
أيها المنتحي بأسوان دارا
كالثريا تريد أن تنقضا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشع
لا تحاول من آية الدهر غضا
قف بتلك القصور في اليم غرقى
ممسكا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا
سابحات به وأبدين بضا
مشرفات على الزوال وكانت
مشرفات على الكواكب نهضا
شاب من حولها الزمان وشابت
وشباب الفنون ما زال غضا
رب نقش كأنما نفض الصا
نع منه اليدين بالأمس نفضا
ودهان كلامع الزيت مرت
أعصر بالسراج والزيت وضا
وخطوط كأنها هدب ريم
حسنت صنعة وطولا وعرضا
وضحايا تكاد تمشي وترعى
لو أصابت من قدرة الله نبضا
ومحاريب كالبروج بنتها
عزمات من عزمة الجن أمضى
ثم يقول:
يا قصورا نظرتها وهي تقضي
فسكبت الدموع والحق يقضى
أنت سطر ومجد مصر كتاب
كيف سام البلى كتابك فضا
وأنا المحتفي بتاريخ مصر
من يصن مجد قومه صان عرضا
رب سر بجانبيك مزال
كان حتى على الفراعين غمضا
قل لها في الدعاء لو كان يجدي
يا سماء الجلال لا صرت أرضا
حار فيك المهندسون عقولا
وتولت عزائم العلم مرضى (45) شوقي يعارض ابن سينا
ولشوقي معارضة لقصيدة الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا التي مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
فقال شوقي:
ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي
هذي المحاسن ما خلقن لبرقع
الضاحيات الضاحكات ودونها
ستر الجلال وبعد شأو المطلع
يا دمية لا يستزاد جمالها
زيديه حسن المحسن المتبرع
يخاطب النفس فيقول لها تبرجي أو تستري، فإن محاسنك ما خلقت حتى يسدل فوقها نقاب، فهي محاسن ضاحية ظاهرة، وإن كان متناولها بعيدا، وستر جلالها حاجبا بينها وبين المتأمل فيها، إن حسنك ليس عليه من مزيد، أفلا تريدين أن تزيديه بالإحسان؟
ماذا على سلطانه من وقفة
للضارعين وعطفة للخشع
بل ما يضرك لو سمحت بجلوة
إن العروس كثيرة المتطلع
ليس الحجاب لمن يعز مناله
إن الحجاب لهين لم يمنع
يقول: أنت تحرصين على حجابك، والحال أن الحجاب أنت في غنى عنه؛ لأنه لا وصال إليك، وما كان الحجاب إلا لغير المنيع.
أنت التي اتخذ الجمال لعزه
من مظهر ولسره من موضع
وهو الصناع يصوغ كل دقيقة
وأدق منك بنانه لم تصنع
يحكم بأن الجمال صناع اليد، وأنه صنع بدائع كثيرة، ولكنه لم يصنع أدق وألطف من النفس.
لمستك راحته ومسك روحه
فأتى البديع على مثال المبدع
البديع يأتي بمعنى المبدع، ومنه قوله تعالى:
بديع السماوات والأرض ، وهو يأتي أيضا بمعنى المبدع بالفتح كما هو هنا.
الله في الأحبار من متهالك
نضو ومهتوك المسوح مصرع
من كل غاو في طوية راشد
عاصي الظواهر في سريرة طيع
يتوهجون ويطفئون كأنهم
سرج بمعترك الرياح الأربع
علموا فضاق بهم وشق طريقهم
والجاهلون على الطريق المهيع
يقول: إن الأحبار والحكماء هلكوا من العناء في البحث عن حقيقة النفس، ومنهم من غوى في سبيل الرشاد، وعصى وهو يريد الطاعة، وكانوا كلما آنسوا نارا خبت فهم أبدا بين وميض وخمود أشبه بمصابيح لعبت بها الرياح، وما كان العلم في هذا المقام إلا ليزيدهم خبالا، أما العامة الجهلاء فهم سائرون على سواء السبيل؛ لأنهم مؤمنون متوكلون لا يتفلسفون، وهنا يتذكر الإنسان قول الفخر الرازي: اللهم إيمانا كإيمان العجائز.
ثم يقول:
ذهب ابن سينا لم يفز بك ساعة
وتولت الحكماء لم تتمتع
هذا مقام كل عز دونه
شمس النهار بمثله لم تطمع
فمحمد لك والمسيح ترجلا
وترجلت شمس النهار ليوشع
ما بال أحمد عي عنك بيانه
بل ما لعيسى لم يقل أو يدع
يقال إن شوقي كان قد جعل هذا الشطر «بل ما لعيسى لم يقل ويدعي»، فلاحظ عليه بعضهم بأنه لو قال ذلك لكان المعنى: ما بال عيسى لا يشرح لنا حقيقة النفس وهو يدعي معرفة ذلك، فعاد شوقي وغير ما قاله أولا وقال: «بل ما لعيسى لم يقل أو يدع» أي لم يقل عن النفس شيئا ولا ادعى أنه قال عن النفس شيئا.
ولسان موسى انحل إلا عقدة
من جانبيك علاجها لم ينجع
لما حللت بآدم حل الحبا
ومشى على الملأ السجود الركع
أي لما نفخك الله في آدم استوى قائما ومشى يباري الملائكة.
وأرى النبوة في ذراك تكرمت
في يوسف وتكلمت في المرضع
وسقت قريش على لسان محمد
بالبابلي من البيان الممتع
ومشت بموسى في الظلام مشردا
وحدته في قلل الجبال اللمع
حتى إذا طويت ورثت خلالها
رفع الرحيق وسره لم يرفع
أي حتى إذا طويت وبقيت أنت خلالها، رفعت وبقي أثرها كما يبقى أثر الرحيق بعد رفعه. (46) النيل في شعر شوقي
ولشوقي يخاطب النيل، وجدير بالشاعر الذي أنجبه هذا الوادي أن يكون له منه خطاب شهير:
من أي عهد في القرى تتدفق
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداولا تترقرق
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتفهق
وبأي نول أنت ناسج بردة
للضفتين جديدها لا يخلق
تسود ديباجا إذا فارقتها
فإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
في كل آونة تبدل صبغة
عجبا وأنت الصابغ المتأنق
تسقي وتطعم لا إناؤك ضائق
بالواردين ولا خوانك ينفق
والماء تسكبه فيسبك عسجدا
والأرض تغرقها فيحيا المغرق
أخلقت راووق الدهور ولم تزل
بك حمأة كالمسك لا تتروق
حمراء في الأحواض إلا أنها
بيضاء في عنق الثرى تتألق
دين الأوائل فيك دين مروءة
لم لا يؤله من يقوت ويزرق
لو أن مخلوقا يؤله لم تكن
لسواك مرتبة الألوهة تخلق
جعلوا الهوى لك والوقار عبادة
إن العبادة خشية وتعلق
دانوا ببحر بالمكارم زاخر
عذب المشارع مده لا يلحق
متقيد بعهوده ووعوده
يجري على سنن الوفاء ويصدق
يتقبل الوادي الحياة كريمة
من راحتيك عميمة تتدفق
ومهما قيل في النيل فهو قليل، إلا أن شوقي جاء من وصف النيل بما يناسب جلاله وجماله، ولا أظن شاعرا قديما ولا حديثا وصف النيل بمثل هذه الإجادة، ثم إنه انتقل من وصف النيل إلى وصف الفراعنة وأهرامهم، فلا نعلم أحدا جاء بمثل فريه في هذا الباب، فقد قال:
أين الفراعنة الألى استذرى بهم
عيسى ويوسف والكليم المصعق
يقال صعقته السماء وأصعقته.
الموردون الناس منهل حكمة
أفضى إليه الأنبياء ليستقوا
الرافعون إلى الضحى آباءهم
فالشمس أصلهم الوضيء المعرق
منذ وجد الإنسان على الأرض لم يجد في نظره أجل وأنفع من الشمس؛ فلذلك عبدها كثير من بني الإنسان قبل أن جاء الأنبياء فأخبروهم بأن هذه الشمس هي أيضا مخلوقة، وهي مادة لا تقدر على شيء بنفسها، وإنما الذي تجب له العبادة هو الذي أوجد الشمس وسائر الشموس السابحة في الأفلاك ودبرها، وهو وراء المادة وفوق الطبيعة، وهو العلة الأولى وهو الأزل وهو الأبد، فمنذ جاء الأنبياء ارتقت عبادة البشر وسمت إلى الأفق اللائق بهذه النفس الناطقة، ولكن الأقدمين من شدة إجلالهم للشمس جعلوها هي مصدر كل شيء ورفعوا إليها أنساب ملوكهم.
وكأنما بين البلى وقبورهم
عهد على أن لا مساس وموثق
فحجابهم تحت الثرى من هيبة
كحجابهم فوق الثرى لا يخرق
لم يصف أحد الموميا ولم يمثل معناها بمثل ما وصفها شوقي. ثم يقول:
بلغوا الحقيقة من حياة علمها
حجب مكثفة وسر مغلق
وتبينوا معنى الوجود فلم يروا
دون الخلود سعادة تتحقق
والحقيقة هي أنهم حاولوا الخلود فلم يقدروا عليه، فاعتاضوا منه بتخليد الأجسام بعد أن يئسوا من خلود الحياة في هذه الدنيا.
يبنون للدنيا كما تبني لهم
خربا غراب البين فيها ينعق
فقصورهم كوخ وبيت بداوة
وقبورهم صرح أشم وجوسق
رفعوا لها من جندل وصفائح
عمدا فكانت حائطا لا ينتق
ثم قال في الأهرام:
ولمن هياكل قد علا الباني بها
بين الثريا والثرى تتنسق
منها المشيد كالبروج وبعضها
كالطود مضطجع أشم منطق
جدد كأول عهدها وحيالها
تتقادم الأرض الفضاء وتعتق
من كل ثقل كاهل الدنيا به
تعب ووجه الأرض عنه ضيق
عال على باع البلى لا يهتدي
ما يعتلي منه وما يتسلق
متمكن كالطود أصلا في الثرى
والفرع في حرم السماء محلق
هي من بناء الظلم إلا أنه
يبيض وجه الظلم منه ويشرق
لم يرهق الأمم الملوك بمثلها
فخرا لهم يبقى وذكرا يعبق
ثم يذكر عادة المصريين القدماء في إلقاء عذراء في النيل كل سنة في يوم مخصوص وموسم كانت تحتفل به الفراعنة، فيقول:
ونجيبة بين الطفولة والصبا
عذراء تشربها القلوب وتعلق
كان الزفاف إليك غاية حظها
والحظ إن بلغ النهاية موبق
في كل عام درة تلقى بلا
ثمن إليك وحرة لا تصدق
أي لا تعطى صداقها.
حول تسائل فيه كل نجيبة
سيقت إليك متى يحول فتلحق
والمجد عند الغانيات رغيبة
يبغى كما يبغى الجمال ويعشق
حتى إذا بلغت مواكبها المدى
وجرى لغايته القضاء الأسبق
وكسا سماء المهرجان جلالة
سيف المنية وهو صلت يبرق
وتلفتت في اليم كل سفينة
وانثال بالوادي الجموع وحدقوا
ألقت إليك بنفسها ونفيسها
وأتتك شيقة حواها شيق
خلعت عليك حياءها وحياتها
أأعز من هذين شيء ينفق
وإذا تناهى الحب واتفق الفدى
فالروح في باب الضحية أليق
ما وصف هذا المشهد الغريب من عبادة النيل قبل شوقي شاعر بمثل هذا الوصف الذي بلغ فيه الإحسان مداه الأقصى، وظني أنه لن يباريه فيه شاعر آخر، ولقد أبطل الإسلام عادة تقديم بكر كل سنة للنيل؛ لأن الإسلام لا يعرف عبادة ماء ولا سماء ولا بشر ولا حجر ولا خشب ولا شجر ولا شيء من الأشياء كلها، وإنما هو عبادة الواحد الأحد خالق كل شيء بقدرته، ومدبر كل شيء بحكمته سبحانه وتعالى عما يصفون.
ما العالم السفلي إلا طينة
أزلية فيه تضيء وتغسق
ما كان فيها للزيادة موضع
وإلى حماها النقص لا يتطرق
منبثة في الأرض تنتظم الثرى
وتنال مما في السماء وتعلق
منها الحياة لنا ومنها ضدها
أبدا نعود لها ومنها نخلق
والزرع سنبله يطيب وحبه
منها فيخرج ذا وهذا يفلق
وتشد بيت النحل فهو مطنب
وتمد بيت النمل فهو مروق
وتظل بين قوى الحياة جوائلا
لا تستقر دوائلا لا تمحق
هي كلمة الله القدير وروحه
في الكائنات وسره المستغلق
الكلمة بفتح فسكون، وكذلك بكسر فسكون، وكذلك بفتح فكسر، والجمع كلمات وكلم، وهو ما ينطق به الإنسان مفردا كان أو مركبا، وأما كلمة الله فهي خلقه، يقال كلمات الله أي مخلوقاته، وقيل في عيسى عليه السلام إنه كلمة الله، وفسروا ذلك أنه انتفع به وبكلامه على حد قولهم سيف الله وأسد الله؛ وقيل بل لأن الله تعالى خلقه بمجرد كلمة «كن» من غير أب؛ أي ألقى الكلمة ثم كونها بشرا. ومعنى الكلمة معنى الولد قاله الأزهري في تفسير قوله تعالى:
بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم
أي يبشرك بولد اسمه المسيح، وقيل كلمة الله بمعنى مشيئته وقدرته، وقيل غير ذلك كما في تاج العروس، والظاهر أن شوقي يريد بكلمة الله هنا المادة التي خلقها الله، وبروحه هذه الحياة التي بثها فيها، إلى أن قال:
فتنت عقول الأولين فألهوا
من كل شيء ما يروع ويخرق
سجدوا لمخلوق وظنوا خالقا
من ذا يميز في الظلام ويفرق
قال إن الناس في القدم فتنوا بهذه المادة فألهوها، وبدلا من أن يعبدوا الخالق عبدوا المخلوق؛ لأن الإنسان كما أنه لا يميز في الظلام لا يميز في الضلال. ثم قال عن ضلال البشر:
يدعون خلف الستر آلهة لهم
ملئوا الندي جلالة وتأبقوا
تأبق: استتر.
واستحجبوا الكهان هذا مبلغ
ما يهتفون به وذاك مصدق
لا يسألون إذا جرت ألفاظهم
من أين للحجر اللسان الأذلق
ثم ذكر مآثر مصر التاريخية مخاطبا وادي النيل:
أصل الحضارة في صعيدك ثابت
ونباتها حسن عليك مخلق
ولدت فكنت المهد ثم ترعرعت
فأظلها منك الحفي المشفق
ملأت ديارك حكمة مأثورها
في الصخر والبردي الكريم منبق
وبنت بيوت العلم باذخة الذرى
يسعى لهن مغرب ومشرق
واستحدثت دينا فكان فضائلا
وبناء أخلاق يطول ويشهق
مهد السبيل لكل دين بعده
كالمسك رياه بأخرى تفتق
يدعو إلى بر ويرفع صالحا
ويعاف ما هو للمروءة مخلق
للناس من أسراره ما علموا
ولشعبة الكهنوت ما هو أعمق
إلى أن يقول:
وصلاة مريم فوق زرعك لم يزل
يزكو لذكراها النبات ويسمق
وخطى المسيح عليك روحا طاهرا
بركات ربك والنعيم الغيدق
وودائع الفاروق عندك دينه
ولواؤه وبيانه والمنطق
بعث الصحابة يحملون من الهدى
والحق ما يحيي العقول ويفتق
فتح الفتوح من الملائك رزدق
فيه ومن أصحاب بدر رزدق
يبنون لله الكنانة بالقنا
والله من حول البناء موفق
يذكر فتح الإسلام لوادي النيل، ثم ينهي هذه الكلمة التي تاهت على الكلمات، وجرت من مطارف الحكمة ما يندر في ماض وآت بخطاب للوادي هو هذا:
كنف كمعن أو كساحة حاتم
خلق يودعه وخلق يطرق
وعليك تجلى من مصونات النهى
خود عرائس خدرهن المهرق
لي فيك مدح ليس فيه تكلف
أملاه حب ليس فيه تملق
مما يحملنا الهوى لك أفرخ
سنطير عنها وهي عندك ترزق
تهفو إليهم في التراب قلوبنا
وتكاد فيه بغير عرق تخفق
ترجى لهم والله جل جلاله
منا ومنك بهم أبر وأرفق
يقول لوادي النيل: إن ثنائي عليك ليس فيه تكلف، وحبي لك ليس من باب التزلف، ويكفي أننا نترك عندك أولادنا ترزق في جوانبك بعد أن نكون افترقنا عنهم، فإننا نفكر فيهم ولو كنا ترابا. وما زال شوقي من أبر الناس بأهله ووطنه، ولكنه في الآخر مع شدة حبه لوادي النيل لم يشأ أن يعبده عبادة المصري القديم؛ فإنه مسلم لا يعبد غير الله، فهو يقول للنيل: أنت المرجو لأولادي، وإنما الله تعالى من فوقك هو أبر بهم مني ومنك. (47) كلمة شوقي في الطيران
ولشوقي قصيدة في الطيران والطيارات نظمها عندما كان أمر الطيارة عجبا - ولم يزل عجبا - وكان الناس لما يألفوا مثل اليوم هذه الأعجوبة المعدودة من المعجزات العصرية، فقال شوقي:
قم سليمان بساط الريح قاما
ملك القوم من الجو الزماما
حين ضاق البر والبحر بهم
أسرجوا الريح وساموها اللجاما
صار ما كان لكم معجزة
آية للعلم آتاها الأناما
ثم يقول:
رفعوا لولبها فاندفعت
هل رأيت الطير قد زف وحاما
شال بالأذناب كل ورمى
بجناحيه كما رعت النعاما
تنبري في زرق الأفق كما
سبح الحوت بدأماء وعاما
بعضها في طلب البعض كما
طارد النسر على الجو القطاما
إلى أن يقول:
طلبة قد رامها آباؤنا
وابتغاها من رأى الدهر غلاما
أسقطت «إيكار» في تجربة «وابن فرناس» فما استطاعا قياما
يشير إلى العباس بن فرناس القرطبي الأندلسي، الذي كان من العلماء أول من حاول الطيران، وكانت كنيته أبا القاسم، وكان مع علمه بالعلوم الطبيعية أديبا مشهورا، عاش في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الثاني صاحب الأندلس، وقيل إنه أول من ابتنى طيارة وطار بها، ولكنه لم يحسن التحيل في أمر نزولها فسقطت به ومات.
في سبيل المجد أودى نفر
شهداء العلم أعلاهم مقاما
خلفاء الرسل في الأرض هم
يبعث الله بهم عاما فعاما
قطرة من دمهم في ملكه
تملأ الملك جمالا ونظاما
ثم يقول في مغزى الطيران:
رب إن كانت لخير جعلت
فاجعل الخير بناديها لزاما
وإن اعتز بها الشر غدا
فتعالت تمطر الموت الزؤاما
فاملأ الجو عليها رجما
رحمة منك وعدلا وانتقاما
نقول: مع الأسف إن الشر قد اعتز بهذه الطيارات اعتزازا جاء فوق ما كان يخشاه شوقي، وصارت تمطر الموت الزؤام في كل مكان تقع فيه حرب، وصارت عمدة في القتال الحديث، وأخذت الدول التي تزعم أنها تريد نشر المدنية ونصر الإنسانية في العالم تطير من هذه الطيارات أسرابا، ترمي منها بالموت الزؤام على الضعفاء الذين لا قبل لهم بمقاومتها، وكثيرا ما تقتل النساء والأطفال والعاجزين، وتدمر البيوت على رءوس أصحابها.
وقد تحرك عرق الإنسانية بكثير من رجال السياسة والعلم، وحاولوا حمل جمعية الأمم على اتخاذ قرار يمنع القتال بالطيارات، ففشلوا وإلى الآن ولا يزال اعتماد الدول الكبر على القتال في الجو، ونرى الدول يكاثر بعضها بعضا في عدد الطيارات التي لا تشتغل معامل الأسلحة بشيء شغلها بها. ثم قال شوقي:
ملك هذا الجو في منعته
طالما للنجم والطير استقاما
حسد الإنسان سربيه بما
أوتيا في ذروة العز اعتصاما
دخل العش على أنسره
أترى يغشى من النجم السناما
أيها الشرق انتبه من غفلة
مات من في طرقات السيل ناما
لا تقولن عظامي أنا
في زمان كان للناس عصاما
ثم قال في إظهار الفرق بين قدرة الخالق والمخلوق:
خالق العصفور حيرت به
أمما بادوا وما نالوا المراما
أفنوا النقدين في تقليده
وهو كالدرهم ريشا وعظاما (48) ما قاله في توت عنخ آمون
وقال في توت عنخ آمون وحضارة مصر القديمة:
درجت على الكنز القرون
وأتت على الدن السنون
خير السيوف مضى الزما
ن عليه في خير الجفون
في منزل كمحجب ال
غيب استسر عن الظنون
حتى أتى العلم الجسو
ر ففض خاتمه المصون
والعلم «بدري» أحل
لأهله ما يصنعون
يشير إلى ما ورد في الأثر من أن أهل بدر مغفورة لهم ذنوبهم «إلا الكبائر».
هتك الحجال على الحضا
رة والخدور على الفنون
واندس كالمصباح في
حفر من الأجداث جون
حجر ممردة المعا
قل في الثرى شم الحصون
لا تهتدي الريح الهبو
ب لها ولا الغيث الهتون
خانت أمانة جارها
والقبر كالدنيا يخون
يا ابن الثواقب من «رع»
وابن الزواهر من «أمون»
نسب عريق في الضحى
بذ القبائل والبطون
أرأيت كيف يثوب من
غمر القضاء المغرقون
حب الخلود بنى لكم
خلقا به تتفردون
لم يأخذ المتقدمو
ن به ولا المتأخرون
حتى تسابقتم إلى ال
إحسان فيما تعملون
لم تتركوه في الجلي
ل ولا الحقير من الشئون
هذا القيام فقل لنا ال
يوم الأخير متى يكون
البعث غاية زائل
فان وأنتم خالدون
السبق من عاداتكم
أترى القيامة تسبقون
ثم يصف تلك الآثار التي وجدت تحت الأرض، وإليك أنموذجا من وصفه:
وبكل ركن صورة
وبكل زاوية رقين
وترى الدمى فتخالها ان
تثرت على جنبات زون
صور تريك تحركا
والأصل في الصور السكون
ويمر رائع صمتها
بالحس كالنطق المبين
صحب الزمان دهانها
حينا عهيدا بعد حين
خدع العيون ولم يزل
حتى تحدى اللامسين
غلمان قصرك في الركا
ب يناولون ويطردون
والبوق يهتف والسها
م ترن والقوس الحنون
وكلاب صيدك لهث
والخيل جن لها جنون
والوحش تنفر في السهو
ل وتارة تثب الحزون
فعل وثب لا بد من أن يتعدى بحرف، ولكن شوقي عداه بلا حرف على نزع الخافض.
والطير ترسف في الجرا
ح وفي مناقرها أنين
وكأن آباء البري
ة في المدائن محضرون
وكأن دولة آل شم
س عن شمالك واليمين (49) قصيدة شوقي في دمشق
ولشوقي قصيدة دمشقية يوم زار دمشق غير القصيدة الطائرة الصيت التي قالها يوم ضرب تلك الحاضرة بالقنابر:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
هذا الأديم كتاب لا كفاء له
رث الصحائف باق منه عنوان
بنو أمية للأنباء ما فتحوا
وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
كانوا ملوكا سرير الشرق تحتهم
فهل سألت سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها
في كل ناحية ملك وسلطان
يا ويح قلبي مهما انتاب أرسمهم
سرى به الهم أو عادته أشجان
بالأمس قمت على الزهراء أندبهم
واليوم دمعي على الفيحاء هتان
يريد أن يقول إنه بكى آثار بني أمية عندما كان بالأندلس، واليوم يبكي آثارهم وهو في دمشق.
في الأرض منهم سماوات وألوية
ونيرات وأنواء وعقبان
لولا دمشق لما كانت طليطلة
ولا زهت ببني العباس بغدان
يشير إلى فتح الأندلس كان الأصل فيه دمشق، وأن عاصمة بني أمية هي التي استلحقت عاصمة القوط، ولولا عاصمة بني أمية لما كانت عاصمة بني العباس الذين انتزعوا منهم الخلافة موحدة. وبغدان لغة في بغداد.
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت
على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته
إذا تعالى ولا الآذان آذان
الحقيقة أن الأذان لا يزال كما كان، وإنما اختلف تأثيره في الآذان، وعسى كل شيء يعود إلى أصله.
آمنت بالله واستثنيت جنته
دمشق روح وجنات وريحان
عاد فاستثنى دمشق وقال: آمنت بالله، يقلد الدمشقيين في كلماتهم؛ لأنهم يستعملون هذه الجملة كثيرا في موضع العجب.
قال الرفاق وقد هبت خمائلها
الأرض دار لها الفيحاء بستان
جرى وصفق يلقانا بها بردى
كما تلقاك دون الخلد رضوان
دخلتها وحواشيها زمردة
والشمس فوق لجين الماء عقيان
وربوة الواد في جلباب راقصة
الساق كاسية والنحر عريان
والطير تصدح من خلف العيون بها
وللعيون كما للطير ألحان
وأقبلت بالنبات الأرض مختلفا
أفوافه فهو أصباغ وألوان
وقد صفا بردى للريح فابتدرت
لدى ستور حواشيهن أفنان
ثم انثنت لم يزل عنها البلال ولا
جفت من الماء أذيال وأردان
خلفت لبنان جنات النعيم وما
نبئت أن طريق الخلد لبنان
أي ظننت لبنان هو الجنة، ولكن بعدما أفضت منه إلى دمشق علمت أنه لم يكن إلا طريق الجنة.
حتى انحدرت إلى فيحاء وارفة
فيها الندى وبها طي وشيبان
اختص بالذكر من قبائل العرب طيا التي منها حاتم، وشيبان التي ينسب إليها معن بن زائدة.
نزلت فيها بفتيان جحاجحة
آباؤهم في شباب الدهر غسان
بيض الأسرة باق فيهم صيد
من عبد شمس وإن لم تبق تيجان
يا فتية الشام شكرا لا انقضاء له
لو أن إحسانكم يجزيه شكران
خميلة الله وشتها يداه لكم
فهل لها قيم منكم وجنان
الجنان بمعنى البستاني، لفظة مولدة لم نعثر عليها في كتب اللغة، وقد استعملها صاحب نفح الطيب من المتأخرين.
شيدوا لها الملك وابنوا ركن دولتها
فالملك غرس وتجديد وبنيان
الملك أن تعملوا ما اسطعتم عملا
وأن يبين على الأعمال إتقان
الملك أن تخرج الأموال ناشطة
لمطلب فيه إصلاح وعمران
أصاب شوقي هنا شاكلة الداء الذي به انحط الشرق وتقهقر العالم الإسلامي، وهو عدم ائتلاف أهلهما على الإنفاق على المصالح العامة، بخلاف الأوروبيين الذين كان أكبر عوامل نجاحهم وفلاحهم بذل كل واحد منهم على قدر حالته في مصلحة الجمهور. ثم قال:
الملك أن تتلافوا في هوى وطن
تفرقت فيه أجناس وأديان
كنا نتمنى لو عاش شوقي إلى هذا العهد وشهد انحلال المسألتين المصرية والسورية باستقلال كل من القطرين الشقيقين، فكان لذلك البلبل الصداح غناء يرقص الجماد كما كان له من أجل استيلاء الأجانب عليهما نواح يذيبه. (50) حنين شوقي من الأندلس إلى وطنه مصر
ولشوقي قصيدة نظمها وهو في منفاه بالأندلس أيام الحرب العامة، يحن فيها إلى مصر وطنه، ويعارض قصيدة ابن زيدون في ولادة بنت المستكفي وهو يخاطب حمام وادي الطلح الذي بظاهر أشبيلية:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نشجى لواديك أم تأسى لوادينا
ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت في حواشينا
رمى بنا البين أيكا غير سامرنا
أخا الغريب وظلا غير نادينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع
من الجناحين عي لا يلبينا
فإن يك الجنس يا ابن الطلح فرقنا
إن المصائب يجمعن المصابينا
وأكثر أبيات هذه القصيدة شبها بقصيدة ابن زيدون، وهي التي تلي :
يا من نغار عليهم من ضمائرنا
ومن مصون هواهم في تناجينا
ناب الحنين إليكم في خواطرنا
عن الدلال عليكم في أمانينا
جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا
في النائبات فلم يأخذ بأيدينا
وما غلبنا على دمع ولا جلد
حتى أتتنا نواكم من صياصينا
ونابغي كأن الحشر آخره
تميتنا فيه ذكراكم وتحيينا
نطوي دجاه بجرح من فراقكم
يكاد في غلس الأسحار يطوينا
إذا رسا النجم لم ترقأ محاجرنا
حتى يزول ولم تهدأ تراقينا (51) المكتب في شعر شوقي
ومن ألطف كلمات شوقي وصفه حياة المكتب، وكيف يتدرج الناشئ في أطوار الحياة:
ألا حبذا صحبة المكتب
وأحبب بأيامه أحبب
ويا حبذا صبية يمرحو
ن عنان الحياة عليهم صبي
كأنهم بسمات الحيا
ة وأنفاس ريحانها الطيب
يراح ويغدي بهم كالقطي
ع على مشرق الشمس أو المغرب
إلى مرتع ألفوا غيره
وراع غريب العصا أجنبي
ومستقبل من قيود الحيا
ة شديد على النفس مستصعب
فراخ بأيك فمن ناهض
يروض الجناح ومن أزغب
مقاعدهم من جناح الزما
ن وما علموا خطر المركب
عصافير عند تهجي الدرو
س مهار عرابيد في الملعب
خليون من تبعات الحيا
ة على الأم يلقونها والأب
جنون الحداثة من حولهم
تضيق به سعة المذهب
عدا فاستبد بعقل الصبي
وأعدى المؤدب حتى صبي
لهم جرس مطرب في السرا
ح وليس إذا جد بالمطرب
إلى أن يقول:
قطيع يزجيه راع من الده
ر ليس بلين ولا صلب
أهابت هراوته بالرفا
ق ونادت على الحيد الهرب
وصرف قطعانه فاستبد
ولم يخش شيئا ولم يرهب
أراد لمن شاء رعي الجدي
ب وأنزل من شاء بالمخصب
وروى على ريها الناهلا
ت ورد الظماء فلم تشرب
وألقى رقابا إلى الضاربي
ن وضن بأخرى فلم تضرب
وليس يبالي رضا المستري
ح ولا ضجر الناقم المتعب
وليس بمبق على الحاضري
ن وليس بباك على الغيب
ثم ذكر دخول الإنسان في دور الكهولة بعد أن ودع الشباب:
حياة يغامر فيها امرؤ
تسلح بالناب والمخلب
وصار إلى الفاقة ابن الغني
ولاقى الغنى ولد المترب
وقد ذهب الممتلي صحة
وصح السقيم فلم يذهب
وكم منجب في تلقي الدرو
س تلقى الحياة فلم ينجب
وغاب الرفاق كأن لم يكن
بهم لك عهد ولم تصحب
إلى أن فنوا ثلة ثلة
فناء السراب على السبسب
إذا وضعت هذا الشعر في شعر المتنبي لم تفرقه عنه، وما زال شوقي أشبه الشعراء المحدثين بأبيه أبي الطيب، لا سيما إذا طرق باب الحكمة وتكلم في الأوابد. (52) كلمة شوقي عن لبنان
ولشوقي قصيدة عن لبنان من جملتها هذه الأبيات:
لبنان والخلد اختراع الله لم
يوسم بأزين منهما ملكوته
هو ذروة في الحسن غير مرومة
وذرى البراعة والحجى بيروته
ملك الهضاب الشم سلطان الربى
هام السحاب عروشه وتخوته
سيناء شاطره الجلال فلا يرى
إلا له سبحاته وسموته
والأبلق الفرد انتهت أوصافه
في السؤدد العالي له ونعوته
جبل على آذار يزرى صيفه
وشتاؤه يئد القرى جبروته
أبهى من الوشي الكريم مروجه
وألذ من عطل النحور مروته
يغشى روابيه على كافورها
مسك الوهاد فتيقه وفتيته
وكأن أيام الشباب ربوعه
وكأن أحلام الكعاب بيوته
وكأن ريعان الصبا ريحانه
سر السرور يجوده ويقوته
وكأن أثداء النواهد تينه
وكأن أقراط الولائد توته
وكأن همس القاع في أذن الصفا
صوت العتاب ظهوره وخفوته
وكأن ماءهما وجرس لجينه
وضح العروس تبينه وتصيته
يظهر من البيتين الأخيرين أن شوقي استلطف وادي عين زحلة، وهناك نبعان أحدهما يقال له نبع القاعة، والآخر نبع الصفا، والمسافة بينهما قصيرة يجتمعان فيسيل منهما نهر الصفا الذي ينحدر إلى البحر عند الدامور، وقد عبر شوقي عن القاعة بالقاع، وليس كذلك بل هو بالتاء، والقاع في اللغة هو الأرض السهلة المطمئنة، ولا محل له هنا، وإنما سمي أحد هذين النبعين بنبع القاعة؛ لأنه يخرج من مغارة تراها كأنها منحوتة باليد، فأطلقوا عليها اسم القاعة التي هي البهو عند أهل الشام، وهكذا يسمي أهل الجبل هذا الكهف. (53) كلمة شوقي عن حرية المرأة
ولشوقي شعر في حفلة نسائية عظيمة انعقدت تحت رئاسة السيدة هدى شعراوي:
قل للرجال طغى الأسير
طير الحجال متى يطير
أوهى جناحيه الحدي
د وحز ساقيه الحرير
ذهب الحجاب بصبره
وأطال حيرته السفور
هل هيئت درج السما
ء له وهل نص الأثير
وهل استمر به الجنا
ح وهم بالنهض الشكير
وسما لمنزله من الدن
يا ومنزله خطير
ومتى تساس به الريا
ض كما تساس به الوكور
أوكل ما عند الرجا
ل له الخواطب والمهور
والسجن في الأكواخ أو
سجن يقال له القصور
تالله لو أن الأدي
م جميعه روض ونور
في كل ظل ربوة
وبكل وارفة غدير
وعليه من ذهب سيا
ج أو من الياقوت سور
ما تم من دون السما
ء له على الأرض الحبور
إن السماء جديرة
بالطير وهو بها جدير
هي سرجه المشدود وه
و على أعنتها أمير
حرية خلق الإنا
ث لها كما خلق الذكور
نعم، وكل من هاتين الحريتين لا يجوز أن تكون مطلقة كما يتوهم بعضهم، بل يجب أن تكون مقيدة بقيود الشرع، وإلا فسد المجتمع وانتشرت الإباحة، وهذا التقييد بقيود الشرع لا يعني أسر المرأة ولا قصرها في الحجال غير مشتركة في الحياة العامة. ثم يخاطب قاسم بك أمين رحمه الله فيقول له:
يا قاسم انظر كيف سا
ر الفكر وانتقل الشعور
جابت قضيتك البلا
د كأنها مثل يسير
ما الناس إلا أول
يمضي فيخلفه الأخير (54) موشح أندلسي لشوقي
ولشوقي موشح أندلسي في عبد الرحمن الداخل الذي لقبه أبو جعفر المنصور وهو عدوه بصقر قريش:
من لنضو يتنزى ألما
برح الشوق به في الغلس
حن للبان وناجى العلما
أين شرق الأرض من أندلس •••
بلبل علمه البين البيان
بات في حبل الشجون ارتبكا
في سماء الليل مخلوع العنان
ضاقت الأرض عليه شبكا
كلما استوحش في ظل الجنان
جن فاستضحك من حيث بكى
ارتدى برنسه والتثما
وخطا خطوة شيخ مرعس
ويرى ذا حدب إن جثما
فإن ارتد بدا ذا قعس
ثم يقول:
يا شباب الشرق عنوان الشباب
ثمرات الحسب الزاكي النمير
حسبكم في الكرم المحض اللباب
سيرة تبقى بقاء ابني سمير
في كتاب الفخر «للداخل» باب
لم يلجه من بني الملك أمير
في الشموس الزهر بالشام انتمى
ونمى الأقمار بالأندلس
قعد الشرق عليهم مأتما
وانثنى الغرب بهم في عرس
ثم أخذ يسوق قصة بني أمية مع بني العباس، وكيف ثارت بين العائلتين الثارات إلى أن تغلبت العباسية على الأموية، وأخذ بنو العباس يقتلونهم في كل سهل وجبل، فقال:
جزيت مروان عن آبائها
ما أراقوا من دماء ودموع
ومن النفس ومن أهوائها
ما يؤديه عن الأصل الفروع
خلت الأعواد من أسمائها
وتغطت بالمصاليب الجذوع
ظلمت حتى أصابت أظلما
حاصد السيف وبيء المحبس
فطنا في دعوة الآل لما
همس الشاني وما لم يهمس
قال إن الظالمين من بني أمية وأعوانهم كيزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف وغيرهما، قد كانوا السبب فيما لقيه أعتابهم من ظالمين مثلهم من بني العباس، وأعوانهم كأبي العباس السفاح وأبي مسلم الخراساني وغيرهما، وما ظالم إلا سيبلى بأظلم. ثم ذكر كيف نجا عبد الرحمن بن معاوية سبحا بالفرات ومعه أخوه وهو ولد، فبعد أن خاض الولد وراء أخيه في الماء غلب عليه الخوف، وناداه الجند من عن الشاطئ ليعود وله الأمان، فانخدع بقولهم فرجع فقتلوه وأخوه عبد الرحمن يرى قتله بعينه من الشاطئ الآخر. قال شوقي:
صحب الداخل من إخوته
حدث خاض الغمار ابن ثمان
غلب الموج على قوته
فكأن الموج من جند الزمان
وإذا بالشط من شقوته
صائح صاح به: نلت الأمان
فانثنى منخدعا مستسلما
شاة اغترت بعهد الألس
خضب الجند به الأرض دما
وقلوب الجند كالصخر القسي
ثم أتى على قصة عبد الرحمن ونجاته وانسلاله إلى المغرب واختفائه، ثم إجازته إلى الأندلس وغلبته على تلك الأرض بعد أن لقي من الأهوال ما تشيب له ذوائب الأطفال، وكيف صبر وآل به الصبر الجميل إلى الملك، فاستخرج شوقي العبرة اللازمة، ولم يزل في الحكم والمواعظ الشاعر الذي لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار.
أيها اليائس مت قبل الممات
أو إذا شئت حياة فالرجا
لا يضق ذرعك عند الأزمات
إن هي اشتدت وأمل فرجا
ذلك الداخل لاقى مظلمات
لم يكن يأمل منها مخرجا
قد تولى عزه وانصرما
فمضى من غده لم ييأس
رام بالمغرب ملكا فرمى
أبعد الغمر وأقصى اليبس
نعم، كان عبد الرحمن بن معاوية من أفحل رجال الإسلام في عقله وتدبيره وصبره وشدة بأسه، ولكن كان وراءه عظمة اسم بني أمية، ذكر صاحب «أخبار مجموعة» في فتح الأندلس وذكر أمرائها، وهو أقدم تاريخ عربي لها، أنه لما وصلت رسل عبد الرحمن بن معاوية إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس يلتمس منه تمكينه من الإجازة إلى الأندلس والسكن بها، كان أجمع في البداية أن يسمح له بدخولها وانصرف الرسل وقد حصلوا على هذا الوعد، ثم ما ساروا أكثر من ساعة حتى سمعوا صائحا يصيح خلفهم ليتوقفوا، فإذا الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الذي كان بمقام الوزير عند الأمير يوسف الفهري، يقول لهم: كنا قد أجبنا دعوة ابن معاوية، ولكننا روينا في هذا الأمر، فوجدنا أن عبد الرحمن بن معاوية هو من قوم لو بال أحدهم في هذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، والله إن أول سيف يسل عليه هو سيفي. وهكذا انقطع رجاء جماعة عبد الرحمن من ربيعة ومضر في نصرته، وإنما استمالوا اليمانية لما كان في صدورهم من الأحقاد على المضرية.
قال في «أخبار مجموعة» نقلا عن رسل عبد الرحمن: فألفينا قوما وغرت صدورهم يتمنون شيئا يجدون به سبيلا إلى طلب ثأرهم، ورغبوا في عقد بني أمية بالأندلس، ثم ساق القصة إلى آخرها، وخلاصتها أن عبد الرحمن بن معاوية لم يتمكن من الأندلس إلا بواسطة عداوة اليمانية للمضرية الذين كانوا جماعة يوسف الفهري، وكان اسم بني أمية مليا بأن ينهض به مهما كان مهيض الجناح، على أن عبد الرحمن كان جامعا بين الاسم والفعل. (55) أبيات شوقي عن زحلة من لبنان
ولشوقي قصيدة يصف بها زحلة من لبنان، لا نحب أن نختم هذا الكتاب بغير ذكر بعض أبياتها الرشيقة:
شيعت أحلامي بقلب باك
ولمحت من طرق الملاح شباكي
ومنها:
بنت البقاع وأم بردونيها
طيبي كجلق واسكبي برداك
البردوني هو نهر زحلة.
ودمشق جنات النعيم وإنما
ألفيت سدة عدنهن رباك
قسما لو انتمت الجداول والربا
لتهلل الفردوس ثم نماك
مرآك مرآه وعينك عينه
لم يا زحيلة لا يكون أباك
ثم يقول:
يمشي إليك اللحظ في الديباج أو
في العاج من أي الشعاب أتاك
ضمت ذراعيها الطبيعة رقة
صنين والحرمون فاحتضناك
جبل صنين من أعلى قمم لبنان، وهو مطل على زحلة من الغرب، والحرمون هو جبل الشيخ الذي قنته تعلو عن البحر ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وهو يقابل زحلة من جهة الشرق، وبينهما سهل البقاع. ثم يقول:
شرفا عروس الأرز كل خريدة
تحت السماء من البلاد فداك
أدباؤك الزهر الشموس ولا أرى
أرضا تمخض بالشموس سواك (56) كلام شوقي عن استقلال سورية وذكرى شهدائها وأولهم يوسف العظمة
وله قصيدة عن استقلال سورية وذكرى شهدائها جاء فيها:
كأن الله إذ قسم المعالي
لأهل الواجب ادخر الكمالا
ترى جدا ولست ترى عليهم
ولوعا بالصغائر واشتغالا
وليسوا أرغد الأحياء عيشا
ولكن أنعم الأحياء بالا
إذا فعلوا فخير الناس فعلا
وإن قالوا فأكرمهم مقالا
وإن سألتهم الأوطان أعطوا
دما حرا وأبناء ومالا
بني البلد الشقيق عزاء جار
أهاب بدمعه شجن فسالا
قضى بالأمس للأبطال حقا
وأضحى اليوم بالشهداء غالي
يعظم كل جهد عبقري
أكان السلم أم كان القتالا
ذكرت المهرجان وقد تجلى
ووفد المشرقين وقد توالى
تسلل في الزحام إلي نضو
من الأحرار تحسبه خيالا
رسول الصابرين ألم وهنا
وبلغني التحية والسؤالا
دنا مني فناولني كتابا
أحست راحتاي له جلالا
وجدت دم الأسود عليه مسكا
وكان الأصل في المسك الغزالا
كأن أسامي الأبطال فيه
حوامم على رق تتالى
رواة قصائدي قد رتلوها
وغنوها الأسنة والنصالا
ثم يقول:
سأذكر ما حييت جدار قبر
بظاهر جلق ركب الرمالا
مقيم ما أقامت ميسلون
يذكر مصرع الأسد الشبالا
تغيب عظمة العظمات فيه
وأول سيد لقي النبالا
يذكر يوسف بك العظمة قائد الجيش السوري الذي استشهد في وقعة ميسلون، ثم يقول عنه:
أقام نهاره يلقي ويلقى
فلما زال قرص الشمس زالا
فكفن بالصوارم والعوالي
وغيب حيث جال وحيث صالا
إذا مرت به الأجيال تترى
سمعت لها أزيزا وابتهالا (57) كلمة شوقي عن تمثال نهضة مصر
وله في تمثال نهضة مصر:
جعلت حلاها وتمثالها
عيون القوافي وأمثالها
وأرسلتها في سماء الخيال
تجر على النجم أذيالها
وإني لغريد هذي البطاح
تغذى جناها وسلسالها
ترى مصر كعبة أشعاره
وكل معلقة قالها
وتلمح بين بيوت القصيد
حجال العروس وأحجالها
أدار النسيب إلى حبها
وولى المدائح إجلالها
لم يخالف شوقي طريقته في التيه بشعره على نسق المتنبي الذي كان تياها بعبقريته، وليس هذا بوجه الشبه الوحيد بينهما. ثم قال:
فؤاد ارفع الستر عن نهضة
تقدم جدك أبطالها
ورب امرئ لم تلده البلاد
نماها ونبه أنسالها
وليس اللآلئ ملك البحور
ولكنها ملك من نالها
وما كعلي ولا جيله
إذا عرضت مصر أجيالها
بنوا دولة من بنات الأسن
ة لم يشهد النيل أمثالها
يقول إن محمد علي وإن لم يكن مصريا في نسبه، فقد أسس لمصر دولة لم يشهد وادي النيل مثلها. (58) قصيدة شوقي في عيده الخمسيني
ولما احتفل بعيد شوقي الخمسيني سنة 1927، وأنشد الشعراء في ذلك المحفل العظيم القصائد التي شرقت وغربت، أجابهم عليها بهذه القصيدة التي نأخذ من أبياتها ما نجعله مسك الختام لهذا الكتاب الذي أهديناه إلى روحه العبقرية، وإلى عشاق شعره من أبناء العربية، قال:
مرحبا بالربيع في ريعانه
وبأنواره وطيب زمانه
رفت الأرض في مواكب آذا
ر وشب الزمان في مهرجانه
ومضى في وصف الربيع إلى أن قال:
نغم في السماء والأرض شتى
من معاني الربيع أو ألحانه
أين نور الربيع من زهر الشع
ر إذا ما استوى على أفنانه
سرمد الحسن والبشاشة مهما
تلتمسه تجده في إبانه
حسن في أوانه كل شيء
وجمال القريض بعد أوانه
ملك ظله على ربوة الخل
د وكرسيه على خلجانه
أمر الله بالحقيقة والحك
مة فالتفتا على صولجانه
لم تثر أمة إلى الحق إلا
بهدى الشعر أو خطا شيطانه
وكان لا بد لشوقي من ذكر ملك البلاد في حفلة عيده هذا، فقال:
ظللتني عناية من فؤاد
ظلل الله عرشه بأمانه
ورعاني رعى الإله له الفارو
ق طفلا ويوم مرجو شانه
وقد وصل الفاروق إلى اليوم الذي أشار إليه شوقي بعد تسع سنوات من قوله هذا، وبويع الفاروق ملكا على مصر والسودان موفقا منصورا إن شاء الله، وزاد تيمن الناس به نيل وادي النيل استقلاله التام لدى استهلال ملكه.
ثم ذكر سعد زغلول فقال:
منبر الحق في أمانة سعد
وقوام الأمور في ميزانه
لم ير الشرق داعيا مثل سعد
رجه من بطاحه ورعانه
अज्ञात पृष्ठ