المعلم :
ماذا ترى هناك؟
التلميذ :
لا أرى شيئا قط يا مولاي.
المعلم :
نعم يا ولدي، فهذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر، والذي لا تستطيع العين رؤيته، هو نفسه الجوهر الخفي الدقيق الذي نبتت منه هذه الشجرة العظيمة، فصدقني يا ولدي، إن روح العالم هو هذا الجوهر الذي ليس في دقته وخفائه جوهر سواه؛ هذا هو الحق في ذاته، هذا هو الخالق، هذا هو أنت يا ولدي.
إن أول درس يعلمه حكماء أسفار «اليوبانشاد» لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل؛ إذ كيف يتاح لهذا الدماغ الضعيف الذي تتعبه عملية حسابية صغيرة، أن يدرك هذا العالم الفسيح المعقد الذي ليس دماغ الإنسان إلا ذرة عابرة في أرجائه؟ وليس معنى ذلك عند حكماء الهند أن العقل لا خير فيه، بل إن له لمكانة متواضعة، وهو يؤدي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أما إذا حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللامتناهية، فما أعجزه من أداة! فإزاء هذه الحقيقة الصامتة التي تكمن وراء الظواهر كلها دعامة لها، والتي تتجلى في وعي الإنسان، لا بد للإنسان من وسيلة إدراكية أخرى غير هذه الحواس الظاهرة وغير هذا العقل المنطقي؛ ذلك أننا لا ندرك روح العالم بالتحصيل والدرس، ولا بالعبقرية الفذة وسعة الاطلاع في الكتب، إنما الوسيلة المثلى في هذه الحالة هي نفسها وسيلة الطفل في براءته، هي الإدراك الحدسي المباشر، أو هي البصيرة النافذة إلى جوهر الحق وصميمه بغير مقدمات ولا نتائج، وما البصيرة إلا بصر ينثني إلى الداخل ويسد أبواب الحس الخارجي ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليشهد الإنسان حقيقة الوجود متمثلة في ذات نفسه؛ ذلك لأن جوهر النفس الإنسانية ليس هو الجسم ولا هو العقل، بل ليس هو الذات الفردية، وإنما هو الوجود العميق الصامت الكامن في دخيلة أنفسنا، وذلك هو «أتمان» - كما يسمونه - أو هو روح العالم كله، هو القوة الواحدة التي هي فوق جميع القوى.
روح الثقافة الهندية بأسرها هي في دمج الفرد في الكون دمجا يزيل الفواصل التي تميز الفرد من محيطه، ولو أريد الشقاء لفرد من الأفراد كتب عليه أن يعود مرة بعد مرة إلى ولادة جديدة تجعل منه فردا. والنعيم الأبدي هو أن يذوب الفرد في الوجود ذوبانا لا يبقي من ذاته الفردة المتميزة أثرا، فعندئذ يعود الجزء إلى الكل الذي كان قد انفصل عنه حينا من الدهر؛ «فكما تفنى الأنهار المتدفقة في البحر، وتفقد أسماءها وأشكالها، فكذلك الرجل الحكيم إذا ما تحرر من اسمه وشكله، يفنى في الكائن الواحد القدسي الذي هو فوق الجميع» ... وتلك هي «النرفانا».
وتلك هي نظرة الفنان التي نظر بها الهندي إلى نفسه وإلى الوجود، وهي نظرة إن وقف صاحبها عند جزئية من الأشياء، فما ذلك إلا لينسجها خيطا في رقعة الكون الواحد الفسيح.
وبهذه الروح نفسها جاءت فلسفة الفيلسوف وعقيدة المتدين وفن الفنان، فالموسيقي الهندي شبيه بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود ليرسل روحه بعدئذ إلى الكون اللامحدود، إنه يظل يمعن في وشي موضوعه وشيا دقيق الأجزاء ناعم النغمات؛ حتى يتمكن آخر الأمر بتأثير تيار التوقيعات المتكررة النغم أن يخلق نوعا من «التخدير» الموسيقي في نفس السامع؛ لأن غاية الموسيقي - كما هي غاية الفلسفة والدين والفن عندهم - أن يصيب النفس الفردية بضرب من الذهول الذي يشل الإرادة ويطمس الفردية، وبهذه النفس الذاهلة عما يحيط بها من مادة ومكان وزمان، ترتفع الروح إلى ما يشبه الاتحاد الصوفي بكائن عميق عظيم ساكن.
अज्ञात पृष्ठ