فصاح عبد الرحمن: «اذهبوا في أثره واستقدموه.» وتحول عبد الرحمن وهانئ إلى الخيمة، وجاء في أثرهما بعض الأمراء ثم جلسوا يتحدثون في أمر ذلك اليوم العجيب، وما كان يهددهم من خطر وكلهم يذكرون هانئا آخر ويتعجبون، على أنهم اشتغلوا عن ذلك بعد قليل بتدبير أمر الغنائم والأسرى، ولم يكن في معسكر الإفرنج نساء؛ لأنهم لا يحملون معهم نساءهم ولا أولادهم، أما الرجال، فإنهم ركنوا إلى الفرار وفي مقدمتهم الكونت أود صاحب أكيتانيا ورجال حاشيته.
فتباحث الأمراء في أمر الغنائم من الأسلحة والخيام والفرش وغير ذلك، وعهدوا إلى كتاب الجيش بالعمل على تقسيمها وحفظ حق بيت المال على عادتهم، ولم تكن الغنائم في هذه الوقعة كثيرة فاقتسموها على عجل، وقضوا تلك الجلسة وكل منهم يفكر في أمر ذلك الفارس، ثم تفرقوا إلى خيامهم إلا هانئا فإنه بقي عند عبد الرحمن يقص عليه حديثه باختصار، ولم يكتمه شيئا بعد ما آنسه من مجاراته في حبه لمريم، فلما بلغ إلى حديث بسطام وما كان من حاله في مستودع الغنائم، هز عبد الرحمن رأسه وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إن أمر هؤلاء البرابرة يقلقني، فإنني أخشى عواقب استبدادهم إذا نحن بالغنا في استرضائهم، وأخشى - من جهة أخرى - إذا جافيناهم أن يفسدوا علينا سعينا.»
وكان هانئ حينما ذكر الجواد الأدهم الذي أخذت مريم به، تذكر ما قالته القهرمانة عن العباءة الحمراء والخوذة اللتين تشبهان عباءته وخوذته، فتبادر إلى ذهنه أن ثمة علاقة بين ذلك الجواد وهذا الفارس.
وبينما هما في ذلك إذ عاد الذين ذهبوا للبحث عن هانئ الآخر، وقالوا: «لقد بحثنا عنه في المعسكرين فلم نقف له على أثر.» فعاد هانئ إلى هواجسه وهو في قلق على مريم، ولم يفهم تلك الأسرار، وخشي أن يكون قد أصابها سوء، أو لعلها في ضيق، أو تكون قد فرت من معسكر العرب بتلك الحيلة، أما عبد الرحمن فإنه حينما سمع ما قصه عليه هانئ من أمر مريم وخروجها، وتذكر والدتها والمهمة التي ذهبت لأجلها، أوحى إليه سوء ظنه - والعاقل سيء الظن - باتهام سالمة في الأمر، وأنها إنما تظاهرت بما تظاهرت به احتيالا للفرار من الأسر، ثم راجع ما حفظه من حديثها، وما كان يبدو في وجهها من أمارات الجد، فغلب عليه الاعتقاد في صدقها.
الفصل الثاني والثلاثون
هانئ الآخر
ولبثا برهة صامتين لا يتكلمان، وكل منهما في خواطره يتنازعهما التفكير في مريم وفي ذلك الفارس، وبينما هما في ذلك، إذ سمعا وقع حوافر مسرعة نحو الخيمة فأصغيا، فإذا بغلام دخل مسرعا وهو يقول: «إن فارسين بالباب يلتمسان الدخول.» فقال عبد الرحمن: «ليدخلا» فخرج الغلام ثم عاد وفي أثره رجل عليه خوذة وعباءة حمراء، فلما وقع نظرهما عليه علما أنه الفارس الذي سمى نفسه هانئا، فلما رآه هانئ وقف وأقبل نحوه وتفرس في وجهه، فرآه قد تلثم تحت الخوذة بلثام أسود، ورأى من خلال العباءة ثوبا أسود فصاح فيه: «يا أهلا بالفارس الذي يسمي نفسه هانئا.» قال ذلك وتقدم نحوه وهو يتوقع جوابه، فظل الفارس ساكتا ينظر من خلال اللثام، فابتدره الأمير عبد الرحمن قائلا: «إنك لذو فضل على هذا الجند بالله ألا رفعت لثامك وعرفتنا بنفسك.»
فرفع الفارس يده إلى الخوذة فنزعها، فبان من تحتها خمار أسود، وألقى العباءة عن كتفيه فبان من تحتها ثوب أسود، فعرف هانئ للحال أنه ثوب مريم، فلم يتمالك أن صاح: «مريم، مريم.»
فمد الفارس يده إلى الخمار فأزاحه، فبان من تحته وجه فتاة يتدفق حيوية وجمالا، وقد زاده التلثم دفئا فتورد وأبرقت العينان، ولا تسل عن هانئ حينما علم بما أظهرته مريم من البسالة التي تندر بين النساء، فقال وهو لا يستطيع إمساك نفسه: «مريم أهذه الفعال فعالك يا حبيبة؟ عهدناك ربة الجمال واللطف، ولم يخطر لنا أنك ربة الجواد والسيف، حبيبتي ما الذي جرى؟ أين كنت؟ ما هذا؟ ماذا أرى؟»
قالت: «إنك ترى مريم واقفة بين يديك ويدي الأمير عبد الرحمن، ولم أفعل أمرا يستحق هذا الثناء وإذا كنت قد فعلت شيئا، فما هو إلا لأني تسميت باسم الأمير هانئ، فالأمير هانئ هو الذي فعل ذلك.» قالت ذلك بلثغتها المعهودة، وقد تجلى على محياها شيء هو غير البسالة والأنفة تجلت على وجهها ملامح الحب، فذهب كل ما كان هناك من أمارات الشجاعة والرجولة، ثم تنبهت إلى أنها قالت ذلك بين يدي الأمير عبد الرحمن، فغلب عليها الحياء فأطرقت فابتدرها عبد الرحمن قائلا: «بورك فيك، وبورك في الأمير هانئ إنكما متكافئان، ولولاكما لأصاب هذا الجيش ضيق تعصف بنا عاقبته، تفضلي يا بنية اجلسي وقصي علينا خبرك، وما الذي دعاك إلى اقتحام هذا الخطر العظيم فقد سمعت من أخي هانئ أنك خرجت من الخباء في هذا الصباح بخديعة، وذهب هو من الصباح للبحث عنك ولم يعد إلا بعد مجيئك، عاد وهو يائس من العثور عليك فما هو خبرك؟»
अज्ञात पृष्ठ