قالت: «وكيف أوصلت إليه المنديل؟»
قال: «بعد أن أتيتك بالجواد الأدهم أمس، وعهدت به لهذا البطل (وأشار إلى رفيقه) وأفهمته كيف يخدع القهرمانة وكل ذلك بإرشادك، ذهبت بالمنديل إلى معسكر المسلمين فوصلت إليهم صباحا، ومن حسن حظ مولاتي وتوفيقها أن رأيت الرجل خارجا يتمشى، فأسرعت نحوه ودفعت إليه المنديل وأنا ملثم، فسألني عما أهدف إليه، فأخبرته أن صاحبة المنديل تدعوه إليها حالا، وتركته وفررت إلى مكان أراه منه ولا يراني، فرأيته قد أسرع إلى جواده فركبه وساقه نحو الخباء فلما تحققت من ذهابه أسرعت من طريق آخر إلى معسكر مولاي الكونت أود وأخبرته بالواقع كما أمرت، وحرضته على مباغتة المسلمين حالا وقائد فرسانهم غائب فاقتنع ونادى رجاله وهجموا على المسلمين وهم في غفلة، وقد رأيتهم في فشل عظيم، ولا أظنهم إلا قد ذعروا وتقهقروا والغالب أن الإفرنج قد استولوا على معسكرهم الآن.»
وكان عدلان يتكلم وميمونة ترمق حركاته، وكلما قال عبارة تبتسم له وتبدي ارتياحها، وهو يتكلم بحماسة وسرور، فلما قال ذلك، قالت: «ثم كيف فعلت ببسطام هذا؟»
قال: «ذهبت إليه في المعسكر القديم وأظهرت أني أخدمه خدمة تسره، وأني فاعل ذلك من تلقاء نفسي وأخبرته أن مريم خرجت من الخباء إلى هذا المكان وأني سأذهب به إليها فيبلغ منها ما يشاء على شرط أن يحافظ عليك فأثنى على غيرتي ودفع إلي هدية ثمينة، وكنت أتوقع أن يلتقي هانئ به فيقتتلا فيقضي أحدهما على الآخر فيكمل توفيقك، وتتم رغبتنا بانقسام هذا الجند، وقد جاء هانئ بعد ذهابه إلى الخباء ولم يجد مريم فيه فظن أن بسطاما اختطفها، فلما لقيه في الخيام تشاجرا، وكاد هانئ أن يفتك به لو لم يجبن هذا ويدخل خيمته، وبعد ذهاب هانئ حرضت بسطاما على الركوب سريعا، فركب وسرت في ركابه والتقينا في أثناء الطريق بأخي هذا وكان قد جاء يستعجلنا، فبدلت عباءته بعباءتي وغيرت قيافته، وجئنا في ركاب بسطام كما رأيتنا.»
فقالت ميمونة: «بورك فيك من خادم أمين وإذا تحققت أمنيتنا بفشل جند العرب دعوتك بلقب آخر.» قالت ذلك وأشارت بحاجبيها.
فأشرق وجهه وجعل ينظر إليها وقلبه يكاد يطفح سرورا لما شاهده من أنسها وتلطفها.
الفصل التاسع والعشرون
الخنجر
أما مريم، فلما رأت ميمونة مسوقة إلى تلك الحجرة وهي مقيدة الأطراف، وسمعت تضرعها إلى بسطام بشأنها آمنت بأنها تحبها، ولكنها كانت في شغل من أمر نفسها؛ لأنها لم تتوقع بعد ما رأته إلا الفتك الذريع من بسطام، وهو مع غلظته وخشونته كانت رائحة الخمر تفوح من فمه، وقد احمرت عيناه واربد لون وجهه، وتمنطق بجلد عريض غرس فيه خنجرا ضخما وضع يمينه على قبضته ويسراه على قبضة السيف، فبدا لعيني مريم شيطانا رجيما فاستعاذت بالله من ذلك الشيطان، وتضرعت إليه تعالى أن ينجيها منه على أنها لم تتمالك عن الاضطراب الشديد من منظر ذلك الوحش الكاسر، وكانت لا تزال متزملة بالعباءة الحمراء التي تعتقد أنها عباءة هانئ فوق ردائها الأسود، وعلى رأسها خمار أسود يغطي جبينها إلى الحاجبين، وقد تلثمت به من أسفل الذقن فبان وجهها من خلال ذلك مستديرا، وقد تلألأت عيناها وزادهما الانقباض هيبة، ومع كل ما شاهدته من أسباب الخوف لم تخر عزيمتها، ولعلها كانت عند لقاء بسطام لأول وهلة أكثر اضطرابا منها بعد ظهور تلك الفظاعة بتقييد ميمونة وحبسها، وقد أصبحت وهي معه وحيدين في ذلك البيت الواسع.
أما بسطام، فلما اختلى بمريم على تلك الصورة دعاها إلى الجلوس على كرسي هناك، كأنه يريد أن يخاطبها بلطف على سبيل الإقناع ، فجلست، وجلس هو على كرسي آخر، والتف بعباءته حتى غطت السيف والخنجر ، وهو يقول بلغة عربية مستعجمة في نغمة بربرية: «لا تخافي يا مريم إني لا أريد بك سوءا؛ لأني أحبك حبا شديدا (وبالغ في تشديد الدال) وأنت على ما يظهر قد غشك ذلك الغلام العربي، فانخدعت بأقواله، على أنك نصيبي وحدي من هذه الحرب، ولو شئت أن أمنعه منك لمنعته من أول ساعة، ولكنني تلطفت بك وأشفقت على مزاجك، والآن قد وقعت بين يدي، فلا مفر لك فأطيعيني.»
अज्ञात पृष्ठ