فلما فهم عبد الرحمن فحوى الكتاب بما فيه من التهديد ظهر الغضب في وجهه لكنه أمسك نفسه، ونظر إلى هانئ كأنه يستشيره فقال هانئ: «يظهر أن الرجل مغرور بنفسه فأرى أن يكون جوابنا السيف.»
فتبسم عبد الرحمن وصفق فجاء الغلام فقال له: «ادع الأمراء للمفاوضة.» فأدرك هانئ أنه لا يقضي أمرا إلا بالشورى خوفا من العتاب أو الفشل، وبعد ساعة جاء الأمراء فتلى الكتاب عليهم، ففوضوا عبد الرحمن أن يجيب عليه فأشار إلى الترجمان أن يكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن الغافقي قائد جند المسلمين في أكيتانيا إلى الدوق قارله قائد جند الإفرنج، أما بعد، فقد قرأت كتابك وساءني اغترارك بنفسك مع ما بلغني من علو همتك وبسالتك، أيها الدوق، إننا لم نجرد هذا الجند لفتح أكيتانيا وحدها ولكننا نهضنا لفتح هذه الأرض الكبيرة ولو لم تأت أنت للقائنا هنا لالتقينا في بلدك ثم نحمل على رومية فالقسطنطينية حتى يدين لنا العالم كله كما وعدنا نبينا، فننصح لك أن تعتبر بما أصاب أخاك صاحب أكيتانيا وإلا فلا تلومن إلا نفسك والسلام.
ولف الكتاب وختمه وأعاده إلى الرسول فحمله وعاد، وانصرف الأمراء إلا هانئا فظل عند عبد الرحمن وقد انتصف الليل ، فقضيا ساعة في المداولة ثم انصرفا إلى النوم.
وقضيا اليوم التالي في التأهب وتدبير الشئون، وكانا في أصيل اليوم الثالث يطوفان بفرسيهما جناح الجند الأيسر إذ جاءهما أحد الطلائع يقول إنه شاهد غبارا يتصاعد في عرض الأفق بجوار دير القديس مرتين، فأدركا أن شارل لما وصله الجواب زحف بجنده للقتال، فصعدا إلى أكمة أطلا منها فرأيا غبارا يتصاعد أيضا من جهة الجنوب حيث معسكر أود، فعلما أن الجيشين متحدان عليهم، فقال عبد الرحمن: «لقد آن وقت العمل يا هانئ وهذه جنود الإفرنج قادمة، فينبغي لنا أن نتيقظ ونتأهب لئلا يهاجموننا على غرة، فامض إلى فرسانك واجعلهم على أهبة النهوض وأنا ماض إلى تنبيه سائر الأمراء.» قال ذلك وتحول، فمضى هانئ في أثره ونفسه تشتاق إلى النزال.
على أن الجيشين لم يواصلا الزحف على العرب، ولكنهما عسكرا تجاه معسكرهم، وما بينهما وبينه إلا ساحة القتال، فلما رأى عبد الرحمن نزول الإفرنج علم أنهم لا ينوون الهجوم في ذلك اليوم فبعث إلى هانئ سرا، وبعد صلاة العشاء خرجا من المعسكر ماشيين إلى أكمة قريبة كان عبد الرحمن قد عاينها بنفسه في الأمس، فصعدا إليها ونظرا إلى ما بين أيديهما، وقد طلع القمر وأرسل أشعته في الفضاء فوق ذلك السهل، فكشفت عن معسكرين: معسكر شارل في الشرق، ومعسكر أود نحو الجنوب، تجاه معسكر العرب، ونظر عبد الرحمن إلى مضارب ذينك الجيشين وأمعن في النظر ليقدر عددهم فوجدهم كثيرين يزيدون على جند المسلمين، وود لو أنه يلتقي بمن ينبئه عن قوة الجيشين ومعداتهما وسائر أحوالهما.
وكان يفكر في ذلك ويمشط لحيته بأنامله وهانئ واقف بجانبه يفكر في مثل ذلك الأمر، وقد تبادر إلى ذهنه أن حسانا لو كان حيا لكان أفضل من يقوم بالاستطلاع؛ لأنه يعرف لغة البلاد وعادات أهلها وهو حسن الأسلوب ذكي مخلص، فأراد أن يخاطب عبد الرحمن في هذا الشأن على سبيل فتح الحديث فرآه يتفرس في عرض الأفق كأنه يرى شيئا جديدا، فالتفت هو إلى هناك فرأى شبحا كأنه رجل يعدو من جهة معسكر الدوق شارل وعليه ملابس الإفرنج، ولكنه لا يحمل راية ولا يبدو من مظهره أنه رسول، فقال هانئ: «ما رأيك في هذا القادم أيها الأمير؟»
قال: «لا أظنه رسولا فربما كان جاسوسا أو صديقا.»
وما أتم كلامه حتى أصبح الرجل على بضعة عشر مترا منهما فتباطأ في مشيته حتى اقترب وهما لا يكلمانه، فلما دنا منهما قال بلفظ عربي مكسر: «أين الأمير عبد الرحمن؟»
अज्ञात पृष्ठ