[مقدمة الشارح]
الحمد لله المتوحد بوجوب الوجود والبقاء، المتفرد بالقدرة الكاملة والعز والكبرياء، مبدع نظام الموجودات على أحسن الترتيب والولاء، ومخصص نوع الإنسان بإدراك حقائق الأشياء، والصلاة والسلام على خير البرية محمد أشرف الأنبياء، وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء.
يقول العبد الفقير النحيف الحنيف، المرتجي من لطف ربه الخفي، محمد بن محمود بن أحمد المدعو بالأكمل الحنفي، يسر الله أمنيته، وسهل عليه منيته: لما رأيت كتاب «الوصية» المنسوب إلى الإمام الأعظم أقدم المجتهدين سراج الملة الحنفية أبي حنيفة قدس الله روحه ونور ضريحه، وافيا لما يحتاج إليه في أصول الدين، كافيا لما يجب الاعتقاد به على المسلمين، جمعت له في كلام المشايخ فوائد تبين ميامن فوائده، وتعين مكامن فرائده، تقرر ما أراد من معانيه، وتحرر ما أفاد من مبانيه، تفصح عن معاقد القواعد، وتوضح وجه الاستدلال على العقائد، مجيبا عما يرد على ما فيه، مشيرا إلى مذاهب مخالفيه، وشرطت على نفسي أن لا أتجاوز المراد، ليكون سهل المأخذ سلس القياد (1)
पृष्ठ 32
، وسألت الله تعالى أن يجعله لي ذخرا لدار يوم القرار، ويحشرني
به مع البررة الأخيار، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[ماهية الإيمان وطريق وجوبه]
قال الإمام الأعظم رضي الله عنه: (الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان) (1).
أقول: الكلام ها هنا في ماهية الإيمان وطريق وجوبه:
पृष्ठ 33
أما الأول فإنه في اللغة عبارة عن التصديق، قال الله تعالى خبرا عن إخوة يوسف عليه السلام: ?وما أنت بمؤمن لنا? [يوسف: 17]، أي: بمصدق. وعند المتكلمين: هو تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله. فإن فيه تصديق ما يجب التصديق به، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك مما يجب الإيمان به على التفصيل، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن بينه وبين الله تعالى (1)، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام عليه، هذا هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله (2)، وإليه ذهب الشيخ أبو منصور الماتريدي، وأبو الحسن الأشعري (3) ، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو إسحاق الإسفرايني. وإن كان ظاهر كلامه في هذا الكتاب يدل على أن الإيمان مجموع الجزأين: الإقرار والتصديق.
فإن قيل: على كلا التقديرين، شطرا كان أو شرطا، لم قدم الإقرار على التصديق، فإن الإقرار وإن كان جزءا لكنه يحتمل السقوط بعذر الإكراه، والتصديق لا يحتمله؟
أجيب: بأن التصديق القلبي لما كان أمرا باطنا لا يطلع عليه، وكان الإقرار باللسان دليلا على ذلك كما سيجيء تقريره (1)، قدم على التصديق، ويمكن أن يكون هذا محمل قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (2)، لم يذكر التصديق وإن كان هو الأصل.
وأما وجوبه فقد اختلفوا في طريقه، هل هو واجب عقلا أو سمعا، فذهبت المعتزلة إلى الأول، والأشاعرة إلى الثاني.
पृष्ठ 35
واختلفوا أيضا في أنه هل يعرف حسن الإيمان وشكر المنعم وقبح الكفر عقلا أو لا؟ فقالت الأشاعرة والمشبهة والخوارج والملاحدة والرافضة: لا يجب بالعقل شيء، ولا يعرف به حسن الإيمان وقبح الكفر، وإنما يعرف بالشرع (3) وقالت المعتزلة: العقل يوجب الإيمان وشكر المنعم وقبح الكفر، ويعرف بذاته حسن الأشياء، ويثبت الأحكام [حسب] (1) ما يقتضيه صلاح الخلق.
पृष्ठ 36
وقال أصحابنا رحمهم الله تعالى: العقل آلة يعرف حسن بعض الأشياء وقبحه، ووجوب الإيمان وشكر المنعم (2) والفرق بين قولنا وقول المعتزلة أنهم يقولون: العقل موجب لذاته، لأنهم يقولون: إن العبد موجد لأفعاله. وعندنا العقل آلة للمعرفة، والموجب هو الله تعالى لكن بواسطة العقل (1)، كما أن الرسول معرف للوجوب، والموجب هو الله تعالى حقيقة، لكن بواسطة الرسول.
पृष्ठ 37
ووجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة رحمه الله، فقد ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» (1) أن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات وخلق نفسه وغيره. وروي أنه قال: لو لم يبعث رسول لوجب على الخلق معرفته بعقولهم. وعليه مشايخنا (2).
पृष्ठ 38
وقال الشيخ أبو منصور في الصبي العاقل: إنه تجب عليه معرفة الله تعالى، وهو قول كثير من مشايخ العراق، لأن الوجوب على البالغ باعتبار العقل، فإذا كان الصبي عاقلا كان كالبالغ في وجوب الإيمان عليه، وإنما التفاوت بينهما في ضعف البنية (1) وقوتها، فلا جرم يفترقان في عمل الأركان فيما لا يتعلق بالجنان.
पृष्ठ 39
وذهب كثير من مشايخنا إلى أنه لا يجب على الصبي شيء قبل البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم» (2) الحديث. وحمله الشيخ أبو منصور على الشرائع. ولا خلاف بين أصحابنا في صحة إيمان الصبي العاقل (3) احتجت المعتزلة على أن الإيمان حسن عقلا بوجوه، وأنا أورد ها هنا وجهين اختصارا:
أحدهما: أن شكر الله واجب عقلا، ودفع الخوف عن نفسه واجب كذلك، وشكر المنعم ودفع الخوف العقليين متوقفان على معرفة الله تعالى فتكون معرفة الله واجبة بالعقل.
والثاني: لو ثبت الحسن والقبح شرعا لزم انتفاؤهما مطلقا، لأنهما لو ثبتا بالشرع لم يحكم العقل بقبح الكذب، فجاز وقوعه من الشارع، فإذا حكم الشرع بقبح شيء لم يجزم بقبحه لجواز صدور الكذب حينئذ من الشارع، فلم يثبت الحسن والقبح أصلا.
وقالت الأشاعرة: الحسن والقبيح يطلقان على أمور: منها ما يكون صفة كمال أو صفة نقص، يمدح بها أو يذم. ومنها ما يكون ملائما للطبع أو منافرا له. ومنها ما يتعلق به في الآجل ثواب أو عقاب.
فإن كان المراد بالحسن ما يكون صفة كمال، وبالقبيح ما يكون صفة نقص، أو كان المراد بالحسن ما يكون ملائما للطبع، وبالقبيح ما يكون منافرا له، فلا خلاف في كونهما عقليين.
وإن كان المراد بالحسن والقبيح ما يثاب به في الآجل أو يعاقب عليه، فالعقل لا مجال له في إدراك ذلك، لقوله تعالى: ?وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا? [الإسراء: 15]، نفى التعذيب إلا ببعثة الرسل، فلو كان الفعل قبيحا بالعقل لزم وقوع التعذيب وإن لم يوجد الرسل.
ولأن شكر المنعم لو وجب لوجب لفائدة، وإلا لكان عبثا وهو قبيح. والفائدة إما أن تعود إلى الرب وهو منزه عنها، أو إلى العبد، إما في الدنيا أو في العقبى، والأول ممنوع لأنه إتعاب النفس بلا فائدة، وكذا الثاني لأنه لا مجال للعقل في درك أحوال الآجل، وكذا دفع الخوف عن نفسه.
पृष्ठ 40
ولقائل أن يقول: احتمال العقاب بعدم الشكر قائم، ودفع الخوف عن ذلك من أجل الفوائد، لأن احتمال العقاب إما أن يكون واقعا في نفس الأمر أو لا، فإن كان واقعا فدفعه من الفوائد، وإن لم يكن واقعا لزم ورود الشرع على خلاف الواقع، وهو محال.
والجواب عما تلوا (1): أنه محمول على عذاب الدنيا كما جرى للمتقدمين من مكذبي الرسل، أو هو محمول على الشرائع.
पृष्ठ 41
واعلم أن أصحابنا قد ذكروا أنا لا نعني بوجوب الإيمان بالعقل أنه يستحق الثواب بفعله والعقاب بتركه، إذ هما يعرفان بالسمع، وإنما نعني به أن يثبت بالعقل نوع رجحان للإتيان بالإيمان (2) ، بحيث لا يحكم العقل أن الترك والإتيان فيهما سيان، بل يحكم بأن الإيمان يوجب نوع مدح، والامتناع عنه نوع ذم، فعلى هذا لا خلاف بيننا وبين الأشاعرة في هذه المسألة.
قال: (والإقرار وحده لا يكون إيمانا، لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين، وكذلك المعرفة وحدها لا تكون إيمانا، لأنها لو كانت إيمانا لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين، قال الله تعالى في حق المنافقين: ?والله يشهد إن المنافقين لكاذبون? [المنافقون: 1]، وقال تعالى في حق أهل الكتاب: ?الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم? [البقرة: 146، الأنعام:20]).
पृष्ठ 42
أقول: إذا عرف أن الإيمان عبارة عن التصديق (1)، فمن جعله عبارة عن مجرد الإقرار كالكرامية، أو عن الإقرار بشرط المعرفة والتصديق كعبد الله ابن سعيد القطان (2) ، أو عن المعرفة وحدها كجهم بن صفوان والمعتزلة (1)، فقد صرف الاسم عن المفهوم اللغوي بلا ضرورة، ولو جاز ذلك لجاز في كل اسم لغوي، وفيه إبطال اللغات ورفع الوصول إلى الدلائل السمعية، وأيضا فإن الدلائل تدل على ذلك.
أما على أن الإقرار ليس وحده بإيمان، فيدل عليه قوله تعالى في حق المنافقين: ?والله يشهد إن المنافقين لكاذبون? [المنافقون: 1]، أثبت لهم الكذب، ولا شك في قيام الإقرار بهم، وقوله تعالى: ? إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان? [النحل: 106] فإنه يدل على أن موضع الإيمان القلب لا اللسان، وكذلك قوله تعالى: ?ولما يدخل الإيمان في قلوبكم? [الحجرات: 14]، وقوله: ?أولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان? [المجادلة: 22].
وكأن الكرامية إنما قالوا ذلك لما رأوا من إجراء أحكام الإسلام على الذين شهدوا باللسان، ولا كلام فيه، وإنما الكلام في اعتباره في حق أحكام الآخرة، وهم في أحكام الآخرة كفار، لقوله تعالى: ?استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم? [التوبة: 80]، وقوله: ? إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار? [النساء: 145]، وقد قال تعالى في حقهم: ?من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم? [المائدة: 41]، ولو لم يكن بالقلب إيمان لم يكن لهذا القول فائدة، كمن يقول لآخر: لم تؤمن يدك أو رجلك.
पृष्ठ 43
وأما أنه ليس المعرفة وحدها، فيدل عليه قوله تعالى: ?الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم? [البقرة: 146، الأنعام:20]، فإن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بنعته ومبعثه واسمه معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص، كما يعرفون أبناءهم لا يشتبه عليهم أبناءهم من بين الصبيان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام: قد أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: ?الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم? [البقرة: 146، الأنعام:20]، فكيف يا عبد الله هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وكيف ذلك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا ويقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فلعل والدته قد خانت. فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه، وقال: وفقك الله يا ابن سلام، فقد صدقت وأصبت (1) ومع ذلك ما كانوا مؤمنين حيث لم يصدقوا. وقال تعالى: ?وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم? [النمل: 14]، وقال: ?فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين? [البقرة: 89].
واعلم أن تحقيق معنى قولنا: «الإقرار شرط إجراء الأحكام» هو أن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا لا يستقل بأمر معاشه، محتاجا إلى تعاضد وتعارض وتعاون وتعاوض (1)، ولا يتيسر إلا بتعريف ما في نفسه من المقاصد والحاجات لصاحبه بطريق، كإشارات أو أمثلة أو كتابة أو ألفاظ تكون علامات للمقاصد الباطنة، وكانت الألفاظ أسهل، لأنها أصوات مقطعة هي كيفيات مسموعة حادثة من إخراج النفس الضروري الممتد من آلة التنفس دون تكلف اختياري يحدث عند الحاجة وينعدم عند عدمها، وأفيد لأنها يعبر بها عن الموجود والمعدوم والمعقول والمحسوس والغائب والشاهد، بخلاف الإشارة والمثال، إذ لا تمكن الإشارة إلى المعدوم والمعقول والغائب، وليس لكل شيء مثال. فأنعم الله تعالى على العباد ولطف بهم بإحداث الموضوعات اللغوية بأن وضع الألفاظ بإزاء المعاني ووقفهم (2) عليها أو بإحداث قدرتهم عليها على اختلاف الرأيين، ليتوصلوا بها إلى تحصيل مقاصدهم (3).
पृष्ठ 45
وكان حقيقة الإيمان وهو التصديق القلبي أمرا باطنا لا يطلع
عليه، وقد رتب الله تعالى للعباد عليها مصالح، كالإرث والتزويج والابتداء بالتسليم ورده وحقن الدماء والأموال وغير ذلك، فجعل الإقرار دليلا على ما في الباطن ليعلم به وتترتب عليه المصالح المتعلقة بوجوده. وهذا ما وعدناه فيما تقدم من تقريره (1).
[زيادة الإيمان ونقصانه]
قال: (والإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر، ولا تتصور زيادته إلا بنقصان الكفر، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا؟!).
أقول: إذا ثبت أن الإيمان عبارة عن تصديق العبد، وهو لا يتزايد في نفسه، دل أن الإيمان لا يزيد بانضمام الطاعات إليه، ولا ينقص بارتكاب المعاصي، لأن التصديق قائم في الحالين كما كان قبلهما، واستدل الإمام رحمه الله على هذا بأن زيادة الإيمان لا تتصور إلا بنقصان الكفر، ونقصانه إلا بزيادة الكفر، واجتماعهما في ذات واحدة في حالة واحدة محال، وهذا لأن الكفر ضد الإيمان، وهو التكذيب والجحود، ولهذا قابل الله تعالى الكفر بالإيمان في قوله: ?فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله? [البقرة: 256]، والمراد بهما التصديق والتكذيب، واجتماع الضدين في محل واحد في حالة واحدة محال. وأشار إلى هذا بقوله: «وكيف يجوز أن يكون يكون الشخص الواحد مؤمنا وكافرا في حالة واحدة».
पृष्ठ 46
وذهب الشافعية وأصحاب الظاهر (1) إلى أن الإيمان يزيد وينقص، مستدلين بقوله تعالى: ?زادتهم إيمانا? [الأنفال: 2]، وقوله: ?ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم? [الفتح: 4] وأمثالهما، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة» (2) الحديث، قالوا: إنا نعلم بالضرورة أن التصديق وحده لم يكن كذلك، فدل أن الإيمان يزيد ويتشعب بانضمام الطاعات (3).
والجواب: أن المراد من الزيادة في الآيتين الزيادة بتجدد الأمثال، فإن بقاء الإيمان لا يتصور إلا بهذا الطريق، لأنه عرض، وهو لا يبقى زمانين، فكان بقاءه بتجدد أمثاله كسائر الأعراض (4).
पृष्ठ 47
أو يكون المراد الزيادة من حيث ثمرات الإيمان وإشراق نوره وضيائه في القلوب بالأعمال الصالحة، إذ الإيمان له نور وضياء، قال الله تعالى: ?أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه? [الزمر: 22] (1).
पृष्ठ 48
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنهم كانوا آمنوا في الجملة ثم يأتي فرض بعد فرض فيؤمنون بكل فرض خاص فزادهم إيمانا بالتفصيل مع إيمانهم في الجملة (2) وأما الجواب عن الحديث فبأن معنى الحديث: شعب الإيمان بضع وسبعون شعبة، لا أن الإيمان نفسه بضعا وسبعين شعبة (1)، إذ لو كان الإيمان نفسه بضعا وسبعين شعبة لكانت إماطة الأذى من الطريق داخلة فيه، وليس كذلك بالاتفاق (2).
واعلم أن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل عليهم السلام، نص عليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى في «العالم والمتعلم»، لأنا صدقنا وحدانيته وربوبيته وقدرته كما صدق الأنبياء والرسل عليهم السلام (3).
पृष्ठ 49
والإيمان مخلوق، لأن العبد بجميع أفعاله مخلوق، ولا يجوز أن
يكون الإيمان اسما للهداية أو التوفيق وإن كان لا يوجد إلا بهما كما زعم من قال إنه غير مخلوق، لأنه مأمور به، والأمر إنما يكون بما هو داخل تحت قدرته، وما كان كذلك كان مخلوقا (1).
[الاستثناء في الإيمان]
قال: (والمؤمن مؤمن حقا، والكافر كافر حقا، وليس في الإيمان شك، كما أنه ليس في الكفر شك، لقوله تعالى: ?أولئك هم المؤمنون حقا? [الأنفال: 4]، و?أولئك هم الكافرون حقا? [النساء: 151]، والعاصون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم مؤمنون وليسوا بكافرين).
पृष्ठ 50
أقول: لما كان الإيمان أمرا حقيقيا معلوم الحد، وهو تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، والكفر على ضد ذلك، فمن قام به التصديق فهو مؤمن حقا، ومن قام به خلافه فهو كافر حقا، كالقعود والسواد والبياض، لما كانت معاني معلومة الحد كان الذات بها قاعدا أسود أبيض إذا وجدت بحقيقتها، قال الله تعالى: ?أولئك هم المؤمنون حقا? [الأنفال: 4]، أتى بالجملة الاسمية مبتدئا باسم الإشارة مفصلا بضمير الفصل معرفا بالخبر مؤكدا بالمصدر، وقال: ?أولئك هم الكافرون حقا? [النساء: 151]، وكل ذلك يدل على قيام الإيمان والكفر بهم حقيقة على ما عرف في موضعه.
قوله: (وليس في الإيمان شك) أي: لا يصح أن يقال: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا لأن هذا الكلام إنما يلحق فيما يشك ثبوته في الحال، أو في معدوم على خطر الوجود، لا فيما هو ثابت في الحال قطعا (1).
पृष्ठ 51
وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله (1). وهو قول الشافعي رحمه الله، واستدل بأنا لا نحمل هذا على الشك، بل على التبرك، كقوله تعالى: ?لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله? [الفتح: 27]، ولم يرد به الشك لأنه مستحيل على الله تعالى، بل هو للتبرك والتعليم، أو يحمل على الشك في المآل لا في الحال، لأن الإيمان المنتفع به هو الباقي عند الموت، وكل أحد شاك في ذلك، فنسأل الله إبقاءه عليه في تلك الحالة (2).
पृष्ठ 52
والحق أن هذا الاختلاف بنائي، لأن الأعمال لما كانت من الإيمان
عند الشافعي رحمه الله (1)، كان حصول الشك في العمل يقتضي الشك في حصول الإيمان. وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه رحمهم الله تعالى لما كان الإيمان عبارة عن التصديق، لم يكن الشك في العمل موجبا لوقوع الشك في الإيمان.
[حكم مرتكب الكبيرة]
قوله: (والعاصون من أمة محمد عليه السلام كلهم مؤمنون) اختلف الناس في مقترف الكبيرة عمدا غير مستحل لها ولا مستخف بمن نهى عنها، هل يبقى مؤمنا أو لا؟
पृष्ठ 53