أحدها: أن من العظام ما قياسه من البدن قياس الأساس عليه يبني البدن كما تبنى السفينة على الخشبة التي تنصب فيها أو لًا وهي الخشبة التي توضع أو لًا في وسط أسفل السفينة ممتدة في طولها من الطرف إلى الطرف، ثم توصل بها أضلاع السفينة، وتوصل بتلك الأضلاع باقي خشبها، كذلك هذا القسم من العظام. وهو عظم الصلب. فإن المستلقي من الناس يكون هذا العظم فيه على هيئة تلك الخشبة في تلك السفينة. واتصال أضلاع الإنسان بهذا العظم كاتصال أضلاع السفينة بتلك الخشبة، لكنهما مختلفان في شيء واحد، وهو أن تلك الخشبة تجعل قطعة واحدة أو يحكم اتصال بعضها ببعض حتى تكون كالقطعة الواحدة وعظام الصلب ليست كذلك إذ لبعضها مفاصل سلسلة، وسبب ذلك أن الإنسان احتيج أن تكون له حركة انثناء وانعطاف إلى قدام، وخلف، وإلى جانبين.
وإنما يمكن ذلك بأن تكون بعض مفاصل هذا العظم سهلة المواتاة للحركة وإنما يكون كذلك إذا كانت سلسلة، ولا كذلك السفينة فإن وضع هذه الخشبة فيها أريد به القوة، والثبات. وإنما يتم ذلك إذا كانت قطعة واحدة أو محكمة كالقطعة الواحدة، وأيضًا فإن هذا العظم للبدن كالأساس للبناء لان الأساس يبنى أو لًا ثم يبنى عليه باقي أجزاء البناء، وكذلك هذا العظم في البدن.
ولقائل أن يقول: إنكم قد بينتم أن العظام كلها كالأساس والدعامة، فلم جعلتم ذلك ها هنا خاصًا بهذا الصنف منها؟ قلنا: الذي اختص به هذا الصنف أنه كالأساس والدعامة لجميع البدن، وأما سائر العظام، فإنما هي كذلك للأعضاء التي تكون فيها.
وثانيها: أن من العظام ما قياسه من البدن قياس المجن والوقاية كعظام اليافوخ، وسبب ذلك أن الدماغ احتيج أن يكون موضعه في أعلى البدن لما نذكره بعد. وجوهره شديد اللين، فيكون شديد القبول للتضرر بما يلاقيه، ولو بأدنى ضغط فاحتيج أن يكون مصونًا عن ملاقاة ما يصل إليه من جميع الجهات، وإنما يمكن ذلك بأن يحوط من جميع النواحي. ولا يمكن أن يكون ذلك بعضو لين، وإلا لم يكن له غنى فلا بد وأن يكون بعضو صلب يشتمل عليه من كل جهة، وذلك هو عظام الرأس. فيكون الغرض الأقصى في خلقه هذه العظام هو أن تكون كالجنة للدماغ. وهذه المنفعة ليست بالذات للبدن كله، ولا كذلك منفعة الصلب إذ هي منفعة بالذات للبدن كله كما بان عن أنها أساس للبدن بجملته وهذه العظام للدماغ كالأضلاع للقلب.
ولقائل أن يقول: ما السبب في خلقه هذه العظام متصلة لا فرج بينها بخلاف الأضلاع مع أن القلب أشرف، فكان ينبغي أن تكون جنته أشد صونًا قلنا: السبب في ذلك أمران: أحدهما أن الأضلاع موضوعة حيث ينالها الحس، ولا كذلك الرأس فإنه غائب عن حراسة الحواس، فاحتيج أن يكون الاحتياط في توقيته أكثر.
وثانيهما: أن الصدر احتيج فيه إلى حركة انبساط وانقباض بإرادة ليست طبيعية كما بيناه. وإنما يتم ذلك بخلقة العضل. ويحتاج أن تكون هذه العضلات كبيرة جدًا وكثيرة لأن هذه الحركة عسرة، فلو جعلت عظام الصدر متصلة ببعضها البعض لاحتيج إلى خلقة تلك العضلات فوقها، وكان يلزم ذلك زيادة الثقل والثخن، فاحتيج أن يكون بين عظامه فرج يتخللها العضل.
واعلم أن لتخلل العضلات بين الأضلاع منفعة أخرى وهي تحلل البخارات وثالث الأقسام المذكورة: أن من العظام ما قياسه من البدن قياس السلاح الذي يدفع به المؤذي كالسناسن. وهي عظام موضوعة على ظهور الفقرات لتمنع وصول المؤذي بعقب الملاقاة إلى الفقرات. واحتيج إليها لأن ظهور الفقرات هو إلى خلف البدن فيكون حيث لا تشعر به الحواس. فاحتيج أن تكون صيانتها من هناك شديدة، فخلقت له هذه العظام، وهي بمنزلة الزوائد التي هي على حجارة جدران القلاع وأسوار المدن إذ الغرض بتلك الزوائد منع وصول صدمة ما يلاقي من تلك الحجارة المنجنيق ونحوها، وكذلك هذه العظام للفقرات.
ورابعها: أن من العظام ما هو حشو بين المقاصل لتملأ الفرج كالعظام السمسمانية. وهي عظام صغيرة جدًا توجد بين السلاميات فائدتها: منع الانجراد الذي توجبه ملاقاة أحد العظمين المتحركين للآخر إذ لم يمكن أن يكون بينهما غضاريف لئلا يثقل. وأيضًا ليمنع ميل السلاميات إلى الجهات، فتكون الأصابع مستقيمة.
هذا على ما قالوه وأما أنا فيظهر لي، والله أعلم، أن هذه العظام لا وجود لها.
1 / 7