عرف الكتاب والمراد به كتاب الله تعالى بأنه النظم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المنقول عنه تواترا، والحال أن (في إنزاله) إعجاز من أراد معارضته في شيء من أحواله، من نحو بلاغته الباهرة وتراكيبه الظاهرة وبراهينه القاهرة، فالمراد هو الكلام المؤلف وآثر التعبير به عن اللفظ لما في أصل النظم من الحسن ولما في أصل اللفظ معنى الطرح، وهو أي النظم جنس يشمل القرآن وغيره من كل كلام مؤلف، وما بعده فصل مخرج لغير الكتاب من هذا التعريف، فخرج بالمنزل على نبينا الأحاديث الغير المنزلة عليه صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تنزل نظما هكذا، وإنما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم معانيها، والكتب المنزلة على غيره صلى الله عليه وسلم كالتوراة والإنجيل، وخرج بالمنقول عنه تواترا، منسوخ التلاوة وما نقل عنه صلى الله عليه وسلم آحاد، فإنه ليس بقرآن ولا يعطى له حكم القرآن، وخرج بالقيد الأخير وهو الإعجاز الأحاديث الربانية على فرض نقلها تواترا، (واعلم) أن غرض الأصوليين من الكتاب إنما هو متعلق بالآية منه والآيتين وبالحرف الواحد ونحو ذلك لأن غرضهم منه هو إنما استنباط الحكم الشرعي من الدليل، ويكون ذلك الدليل آية ويكون حرفا، فهم يطلقون اسم الكتاب على المجموع من كتاب الله تعالى وعلى الآية وعلى الحرف منه، فاحتاجوا لتعريف منطبق على غرض الأصوليين فجمع بعضهم الإعجاز والإنزال على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكتبة في المصاحف والنقل بالتواتر، واعتبر بعضهم الإنزال والإعجاز، لأن الكتابة والنقل ليس من اللوازم لتحقيق القرآن بدونهما في زمن النبي عليه السلام، واعتبر بعضهم الكتابة والإنزال والنقل، لأن المقصود تعريف القرآن لمن لم يشاهد الوحي ولم يدرك زمن النبوة وهم إنما يعرفونه بالنقل والكتابة في المصاحف ولا ينفك عنهما في زمانهم، فهما بالنسبة إليهم من بين اللوازم البينة وأوضحها دلالة على المقصود، ولما ألزم بعضهم الدور في تعريف الكتاب بالكتابة في المصاحف عدل المصنف عن ذكرها في تعريفه، فبقي تعريفه خاليا من الاعتراض، جامعا لصفات القرآن المختصة به الحاصلة في جميعه وفي بعضه، فحصل المقصود من ذلك، وهنا تنبيهات، (الأول) أن العادة قضت بتواتر القرآن جملة وتفصيلا، وقد أجمعت المحمدية على أن نقله كذلك تواترا، فالزائد فيه ما ليس منه، والناقص منه ما هو منه كافر لتضمنه تكذيب النبي فيما جاء به، حيث أخبر أن هذا من القرآن والنبي يقول بخلاف ذلك وأن هذا ليس من القرآن، والنبي يقول منه على أن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان لقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والمراد بالحفظ إنما هو الحفظ عن الزيادة فيه والنقصان منه، إذ لا يعقل للحفظ في العربية إلا معنيان (أحدهما) حفظه من التفويت بالنسيان، (وثانيهما) حفظه من الزيادة فيه والنقصان ولا يصح أن يكون المعنى الأول هو المراد من الآية، لأن القرآن غير محفوظ عنه ضرورة فتعين إرادة المعنى الثاني، لكن قد يمنع من الحكم بالاكفار على من زاد أو نقص فيه قوة شبهة الزائد أو الناقص، ومن هنا لم تكفر كل واحدة من الطائفتين الحنفية والشافعية الأخرى حيث أنكرت الحنفية أن تكون البسملة آية من كل سورة من القرآن، وأثبت ذلك الشافعية، والحق معنا معشر الإباضية أنها آية من كل سورة كتبت في أولها، لأنها من جملة الآيات المنقولة بالتواتر المكتوبة في المصاحف، (قال) صاحب المنهاج (فإن قلت) وكيف يحكم على بكفر من زاد في القرآن غير ما تواتر منه وأنكر كون بعض المتواتر قرآنا، وقد وردت الزيادة عن ابن مسعود في آية الكفارة، وروي عنه أن المعوذتين ليستا قرآنا وإنما هما معوذتان أنزلتا، وعن غيره أن الفاتحة ليست من القرآن، وعن حفصة أنه كان من القرآن (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) وعن ابن عمر أنه كان من القرآن (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) والظاهر من روى عنه ذلك كان يعتقد صحة ذلك ولم يسمع من أحد العلماء أكفار هؤلاء من الصحابة، فكيف قطعت بكفر من زاد ونقص، وهؤلاء زادوا ونقصوا ولم يكفروا، (قلت لا شك أن هذه لروايات عنهم أحادية وقد قطع بعض العلماء بإكذابها، وبعضهم تأولها وهي محتملة للتأويل، فكيف يحسن القطع بإكفار من رويت عنه مع ذلك، (التنبيه الثاني) قال ابن الحاجب وغيره: أن القراآت السبع متواترة قطعا، وقال آخرون بتواتر العشر أيضا واستثنوا من ذلك ما كان من قبيل الآداء كالمد والإمالة وتحقيق الهمزة وكالرفع والنصب والخفض والجزم، (قالوا) فإن هذه الأمور ونحوها يجوز أن تكون غير متواترة، أي لأنه لا يلزم من كونها آحادية عدم تواتر القرآن، (قال) صاحب المنهاج لكن الأقرب أنها في السبع والعشر متواترة لأنا إذا علمنا تواتر الألفاظ التي نقولها على التفصيل لزم تواتر كيفية تأديتهم تلك الألفاظ، لأن الحركات ونحوها بمنزلة الهيئات للألفاظ فلا يصح تواتر الألفاظ دون الهيئات ما لم يحصل من الناقل أمارة تقتضي أنه متيقن للفظ دون هيئته والله أعلم انتهى، (وأقول) أنه لا يلزم من تواتر اللفظ تواتر كيفية أدائه لجواز أن يحفظ بعض الناقلين اللفظ دون هيئة الأداء، وإذا احتمل وجود هذا المعنى في أحد من الناقلين احتمل وجوده في جميعهم فما لم يبين الناقل اللفظ وكيفية الأداء، فالمنقول المتحقق إنما هو اللفظ وكيفية الأداء أمر مظنون والله أعلم، وقال الزمخشري وغيره أن القراآت كلها أحادية (ورد) هذا القول بما حاصله أنه يلزم على جعل القراآت أحادية، أن يكون بعض القرآن أحاديا وهو باطل، لاقتضاء العادة وجوب التواتر في تفاصيل مثله، (وبيان ذلك) أنه يلزم في نحو قوله تعالى: (ملك ومالك يوم الدين) ونحو قوله تعالى: (فأبوا أن يضيفوهما) بتشديد الياء وتخفيفها إما أن يكون كلا القراءتين متواتر وهو المطلوب، وإما أن يكون كلاهما أحدهما متواتر دون الآخر، فالمتواتر منهما هو القرآن، وإما أن يكون كلاهما غير متواتر فليزم المحذور وهو كون بعض القرآن أحاديا (التنبيه الثالث) أجمع المسلمون أن من الأدلة السمعية ما هو قطعي الدلالة كالمحكم الذي لا يحتمل تأويلا ولا تخصيصا، ومنهما ما هو ظني الدلالة كالعام وخبر الآحاد ونحو ذلك، ثم نقض الفخر الرازي هذا الإجماع وزعم أنه ليس من الأدلة السمعية ما هو قطعي الدلالة، واحتج لذلك بأن هذه الأدلة للفظية متوقفة على معرفة على معرفة اللغة والنحو ورواية كل واحد من هذه الأشياء إنما هي رواية آحاد فلا تفيد إلا ظنا، والمتوقف على الظني أولى أن يكون ظنيا وهذا الزعم باطل، فأما أولا فأنا لا نسلم أن جميع ألفاظ الأدلة السمعية متوقفة على معرفة ما ذكره وإنما المتوقف على ذلك بعض ألفاظ الأدلة، وأما البعض الآخر فإنه إنما يعرف معناه بنفس سماع خطابه الخاص والعام، وأما ثانيا: فأنا لا نسلم أن رواية اللغة والنحو والصرف جميعها أحادية، بل نقول أن رواية كثير منها متواتر وذلك كالألفاظ التي لا تقبل التشكيك كالسماء والأرض والماء والنار ونحو ذلك، وأما ثالثا: فأن نقلة تلك العلوم عدد كثير لا يمكن تواطؤ مثلهم على الكذب عادة، فإذا اتفقت روايتهم في شيء من المواضع وجب أن يعطى ذلك الشيء حكم المتواتر، وقد اتفقت رواياتهم في كثير من ألفاظ القرآن، فلا يتم للفخر مطلوبه والله أعلم، ثم أن المصنف بعد ما ذكر أن المنقول بالتواتر على تلك الصفة المخصوصة هو القرآن شرع في بيان حكم المنقول بلا تواتر فقال:
فكل منقول بلا تواتر ... لم يعط حكمه بلا تناكر.
पृष्ठ 30