ـ[شرح صحيح البخارى لابن بطال]ـ
المؤلف: ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (المتوفى: ٤٤٩هـ)
تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم
دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية / الرياض
الطبعة: الثانية، ١٤٢٣هـ - ٢٠٠٣م
عدد الأجزاء: ١٠
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 30
بسم الله الرحمن الرحيم)
وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: ٨٨]
١ -[كتاب بدء الوحى]
- باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله ﷺ وقول الله ﷿: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) [النساء: ١٦٣]
/ ١ - فيه: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ النبى ﷺ: إنما الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ -. قال المؤلف: قال لى أبو القاسم المهلب بن أبى صفرة، ﵀: معنى هذه الآية أن الله تعالى أوحى إلى محمد، ﵊، كما أوحى إلى سائر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قبله وحى رسَالةٍ، لا وحى إلهام، لأن الوحى ينقسم على وجوه. قال: وإنما قدم البخارى، ﵀، حديث تمت الأعمال بالنيات - فى أول كتابه، ليعلم أنه قصد فى تأليفه وجه الله، ﷿، ففائدة هذا المعنى، أن يكون تنبيهًا لكل من قرأ كتابه، أن يقصد به وجه الله تعالى كما قصده البخارى فى تأليفه.
1 / 31
وجعل هذا الحديث فى أول كتابه عوضًا من الخطبة التى يبدأ بها المؤلفون، ولقد أحسن العوض من عوَّض من كلامه كلام رسول الله ﷺ الذى ما ينطق عن الهوى. وقال جماعة من العلماء: إن هذا الحديث ثلث الإسلام، وبه خطب النبى ﷺ حين وصل إلى دار الهجرة وشهر الإسلام. وقال أبو عبد الله بن الفخار: إنما ذكر هذا الحديث فى هذا الباب، لأنه متعلق بالآية التى فى الترجمة، والمعنى الجامع بينهما أن الله، ﷿، أوحى إلى محمد ﷺ وإلى الأنبياء قبله أن الأعمال بالنيات، والحجة لذلك قول الله، ﷿: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: ٥] . وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [الشورى: ١٣] . وقال أبو العالية: فى هذه الآية وصَّاهم بالإخلاص لله، ﷿، وعبادته لا شريك له. وقال مجاهد فى قول الله تعالى: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا)، قال: أوصاك به وأنبياءه كلهم دينًا واحدًا. وقال أبو الزناد بن سراج: إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر
1 / 32
الأشياء فى هذا الحديث، لأن العرب فى الجاهلية كانت لا تزوج المولى العربية، ولا يزوجون بناتهم إلا من الأَكْفَاء فى النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين فى مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفئًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة، ليتزوج بها، حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس. / ٢ - وفيه: عَائِشَةَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْىُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تمت أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّى، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِى، فَأَعِى مَا يَقُولُ -. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِى الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. / ٣ - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا، إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة، َ وَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِى غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: اقْرَأْ،
1 / 33
قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى الثَّانِيَةَ فَغَطَّنِى حَتَّى بَلَغَ مِنِّى الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِى فَغَطَّنِى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِى، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: ١ - ٤]، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: تمت زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى -، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: تمت لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِى -، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلا وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِى الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِالْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِىَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِىَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِى مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بخَبَرَ مَا رَأَى،
1 / 34
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِى نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِى فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِى أَكُونُ حَيًّا، إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تمت أَوَمُخْرِجِىَّ هُمْ -؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلا عُودِىَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِى يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ وَفَتَرَ الْوَحْىُ. وقَالَ جَابِرَ فِى حَدِيثِهِ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ: قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِى، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِى، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِىٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر: ١ - ٥] فَحَمِىَ الْوَحْىُ وَتَتَابَعَ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ. / ٤ - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِ اللَّه تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة: ١٦] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِى صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (قَالَ: وَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة: ١٦ - ١٩] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْرَأَهُ،
1 / 35
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِىُّ ﷺ كَمَا قَرَأَ. قال المهلب: قوله: تمت فى مثل صلصلة الجرس -، يعنى قوة صوت الملك بالوحى، ليشغله عن أمور الدنيا، ويفرغ حواسه للصوت الشديد، فكان ﷺ، يعى عنه، لأنه لم يبق فى سمعه مكان لغير صوت الملك ولا فى قلبه. قال المؤلف: وعلى هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحى من الله، ﷿. ذكر البخارى عن ابن مسعود، قال: تمت إذا تكلم الله بالوحى، سمع أهل السماوات -. وقال أبو هريرة فى حديثه: تمت إذا قضى الله الأمر فى السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، قال: فإذا فزع عن قلوبهم وسكت الصوت عرفوا أنه الحق، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق -. وقال أبو الزناد: إنما ذكر ﷺ أنه يأتيه الوحى فى مثل صلصلة الجرس، ويتمثل له رجلًا ولم يذكر الرؤيا، وقد أعلمنا ﷺ أن رؤياه وحى، وذلك أنه أخبرهم بما ينفرد به دون الناس، لأن الرؤيا الصالحة قد يشركه غيره فيها. وأما قول عائشة: تمت أول ما بدء به رسول الله ﷺ من الوحى الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح -. قال المهلب: هى تباشير النبوة وكيفية بدئها، لأنه لم يقع فيها
1 / 36
ضغث، فيتساوى مع الناس فى ذلك، بل خص بصدقها كلها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحى، وقرأ: (إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ) [الصافات: ١٠٢] فتمم الله عليه النبوة، بأن أرسل إليه الملك فى اليقظة، وكشف له عن الحقيقة، فكانت الأولى فى النوم، وصحة ما يوحى إليه فيه توشيحًا للنبوة وابتدائها حتى أكملها الله له فى اليقظة تفضلًا من الله تعالى، وموهبة خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاته والله ذو الفضل العظيم. قال غيره: وتزوده ﷺ فى تحنثه يرد قول الصوفية: أن من أخلص لله أنزل الله عليه طعامًا. والرسول، ﷺ، كان أولى بهذه المنزلة، لأنه أفضل البشر، وكان يتزود. وقال المهلب: قوله: تمت فغطنى - فيه من الفقه أن الإنسان يذكر وينبه إلى فعل الخير وإن كان عليه فيه مشقة. وقال أبو الزناد: قوله: تمت فغطنى - ثلاث مرات، فيه دليل على أن المستحب فى مبالغة تكرير التنبيه والحض على التعليم ثلاث مرات. وقد روى عنه ﷺ: تمت أنه كان إذا قال شيئًا أعاده ثلاثًا -، للإفهام، وقد استدل بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمر المؤدب أن لا يضرب صبيًا أكثر من ثلاث ضربات. وقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: ١] يدل على أنها أول ما نزل من القرآن.
1 / 37
وقال أبو الحسن بن القصار: فى هذا رد على الشافعى فى قوله: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (آية من كل سورة، وهذه أول سورة نزلت عليه، ولم يذكر فيها) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (. قال غيره: رجوع الرسول فزعًا، فقال: تمت زملونى -، ولم يخبر بشىء حتى ذهب عنه الروع، فيه دليل: أنه لا يحب أن يسأل الفازع عن شىء من أمره ما دام فى حالة فزعه. وكذلك قال مالك وغيره: إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره فى حال فزعه. وقوله: تمت لقد خشيت على نفسى -، يدل أنه من نزلت به ملمة أن له أن يشارك فيها من يثق بنصحه ورأيه. وقولها: تمت كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل - إلى آخر الحديث إنما هو قياس منها على العادات، والأكثر فى الناس فى حسن عاقبة من فعل الخير، وفيه جواز تزكية الرجل فى وجهه بما فيه الخير، وليس بمعارض لقوله ﷺ: تمت احثوا التراب فى وجوه المداحين -. وإنما أراد بذلك إذا مدحوه بالباطل، وبما ليس فى الممدوح. وقول يونس ومعمر: تمت بوادره - يعنى: ترجف بوادره مكان رواية من روى: تمت يرجف فؤاده -.
1 / 38
وسيأتى تفسير ذلك فى آخر هذا الباب، إن شاء الله تعالى. ومعنى أمره تعالى نبيه لا يحرك بالقرآن لسانه ليعجل به: وعدته له أن يجمعه فى صدره، لكى يتدبره ويتفهمه، وتبدو له عجائب القرآن وحكمته، وتقع فى قلبه مواعظه، فيتذكر بذلك، ولتتأسى به أمته فى تلاوته، فينالوا بركته، ولا يحرموا حكمته. وقد ذكر الله هذا المعنى، فقال: (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: ٢٩] . وفيه: أن القرآن لا يحفظه أحد، إلا بعون الله له على حفظه وتيسيره، ويشهد لهذا قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: ١٧] . / ٥ - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِى رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. قال المهلب: معنى ذلك: أنه امتثل، ﷺ، قول الله وأمره، فى تقديم الصدقة بين يدى نجوى الرسول، الذى كان [الله] تعالى أمر به عباده، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة: ١٢]، ثم عفا عنهم لإشفاقهم منه، فامتثل ذلك النبى عند مناجاة الملك، وترداده عليه فى رمضان. فإن قيل: هذا أمر منسوخ، قيل: قد فعل النبى، ﷺ، فى خاصته أشياء منع منها أمته، كالوصال فى الصيام، فإنه ﷺ واصل، ونهى عنه غيره، وقال: تمت أيكم مثلى -؟ وكان يلتزم من طاعة ربه ما لا يقدر عليه غيره، وكان يصلى حتى تتفطر قدماه،
1 / 39
ويقول: تمت أفلا أكون عبدًا شكورًا -؟ وما كانت مدارسته للقرآن إلا لتزيده رغبة فى الآخرة، وتزهدًا فى الدنيا. وفيه: دليل أن الجليس الصالح ينتفع بمجالسته. فإن قيل: فما معنى مدارسة جبريل للنبى ﷺ القرآن وقد ضمن الله لنبيه ألا ينساه بقوله: (سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى (؟ [الأعلى: ٦] فالجواب: أن الله تعالى إنما ضمن له ألا ينساه بأن بقرئه إياه فى المستأنف، لأن السين فى) سَنُقْرِؤُكَ (دخلت للاستئناف، فأنجز له ذلك بإقراء جبريل، ومدارسته له القرآن فى كل رمضان. وخص رمضان بذلك، لأن الله تعالى أنزل فيه القرآن إلى السماء الدنيا، ولتتأسى بذلك أمته فى كل أشهر رمضان، فيكثروا فيه من قراءة القرآن، فيجتمع لهم فضل الصيام والتلاوة والقراءة والقيام. / ٦ - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ، فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّى، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ،
1 / 40
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَبَّعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لا نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّىِّ كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ
1 / 41
أَنْ لا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمِ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الإيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ الكَلْبِى إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: تمت بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللَّهِ رسول اللَّه إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّين، َ وَ) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم
1 / 42
أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ -[آل عمران: ٦٤] . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ، مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَر، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإسْلامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ أسقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّاْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ، فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ، قَالَ: اذْهَبُوا، فَانْظُرُوا، مُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ هِرَقْلُ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى
1 / 43
حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ، حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ، يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ الرسول، وَأَنَّهُ نَبِىٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ: إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ، وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. قال المهلب: وقوله: تمت فى المدة التى مادَّ فيها رسول الله أبا سفيان وكفار قريش -، فإن أهل السير ذكروا أن الرسول ﷺ صالح أهل مكة سنة ست، عام الحديبة، عشر سنين، ثم إن أهل مكة نقضوا العهد الذى كان بينهم وبين الرسول بقتالهم خزاعة حلفاء النبى ﷺ، ثم سألو أبا سفيان أن يجدد لهم العهد، فامتنع النبى ﷺ من ذلك، فأنزل الله تعالى: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة: ١٣] بعد أن قال تعالى: (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة: ١٢] فأوجب قتالهم حين نكثوا أيمانهم. وغير جائز أن يترك النبى ﷺ ما أمر به من قتالهم بعد قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة: ١٤، ١٥] فأمر بقتالهم وأخبر بما يكون من النصر والتشفى خبرًا لا يجوز أن ينقلب.
1 / 44
وفى سؤال هرقل: تمت أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل؟ - دليل أن أقارب الإنسان أولى بالسؤال عنه من غيرهم من أجل أنه لا ينسب إلى قريبه ما يلحقه به عار فى نسبه عند العداوة كما يفعل غير القريب. وقوله: تمت قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره -، خشى أن يستحى منه أصحابه عند نظرهم إليه إن كذب فى قوله. وقال لهم: تمت كذبنى فكذبوه - وإن صدقنى فصدقوه. وقوله: تمت فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذابًا لكذبت عليه - يدل أن الكذب مهجور فى كل أمة ومعيبًا فى كل ملة. وفيه: أن العدو لا يؤمن عليه الكذب على عدوه، وكذلك لا يجوز شهادته على عدوه. وفيه: أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم الأنساب، لأن من شرف نسبه كان أبعد له من الانتحال لغير الحقائق. وقوله: تمت فى نسب قومها - يعنى: أفضله وأشرفه. وكذلك الإمام الذى هو خليفة الرسول ينبغى أن يكون من أشرف قومه. وفيه: أن الإمام الكاشف وجهه فى الإمامة وكل من حاول مطلبًا عظيمًا إذا لم يتأس بأحد تقدمه من أهله ولا طلب رئاسة سلفه كان أبعد للمظنة به وأبرأ لساحته. وفيه: أن من أخبر بحديث وهو معروف بالصدق أنه يصدق فيه، وإن كان معروفًا بالكذب أنه لا يقبل حديثه. وقوله: تمت أشراف الناس اتبعوه - فإن أشراف الناس هم الذين يأنفون من الخصال التى شرف صاحبهم عليهم بها، ويُحَطُّ شرفهم إلى
1 / 45
أن يكونوا تابعين فى أحوال الدنيا، فلذلك قال: إن كان يعاديه أشراف الناس فهى دلالة على نبوته، وأما ضعفاؤهم الذين لا تتكبر نفوسهم عن اتباع الحق حيث رأوه ولا يجد الشيطان السبيل إلى نفخ الكبرياء فى نفوسهم، فهم متبعون للحق حيث سمعوه لا يمنعم من ذلك طلب رئاسة ولا أنفة شرف، وزيادتهم دليل على صحة النبوة، لأنهم يرون الحق كل يوم يتجدد ويتبين لهم، فيدخل فيه كل يوم طائفة. وأما سؤاله عن ارتدادهم، فإن كل من لم يدخل على بصيره فى شىء وعلى يقين منه فقريب رجوعه واضطرابه، ومن دخل على بصيرة وصحة يقين فيمتنع رجوعه. وأما سؤاله عن الغدر، فإن من طلب الرئاسة والدنيا خاصة لم يسأل عن أى طريق وصل إليها، ومن طلب شرف الآخرة والدنيا لم يدخل فيما يعاب ولا فيما يأثم فيه. وقوله: تمت ونحن منه فى مدة لا ندرى ما يكون منه -، قال: تمت ولم تمكنى كلمة أنتقصه فيها غير ما - فيه من الفقه: أن من شك فى كمال أحوال النبى، ﷺ، فهو مرتاب غير مؤمن به. وسؤاله عن حربهم وقوله: تمت وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة - فتبتلى ليعظم لها الأجر ولمن اتبعها، ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ولو أراد الله إخراج الأمر عن العادات لجعل الناس كلهم له متبعين، ولقذف فى قلوبهم الإيمان به، ولكن أجرى الأمور على العادة بحكمة بالغة؛ ليكون فريق فى الجنة، وفريق فى السعير. وأما قوله لترجمانه: تمت قل له: إنى سألتك عن نسبه - إلى آخر سؤاله، فقال فى كل فصل منها: وكذلك الرسل تبعث فى مثل هذا، فإنما أخبر بذلك عن الكتب القديمة.
1 / 46
وأن ذلك كله نعت للنبى ﷺ مكتوبًا عندهم فى التوارة والإنجيل، وكذلك قوله: تمت قد كنت أعلم أنه خارج - إنما علم ذلك من التوارة والإنجيل. وقول هرقل: تمت لو كنت أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه - دون خلع من ملكه، ولا اعتراض عليه فى شىء، وهذا التجشم هى الهجرة، وكانت فرضًا على كل مسلم قبل فتح مكة. فإن قيل: فإن النجاشى لم يهاجر قبل فتح مكة وهو مؤمن فكيف سقط عنه فرض الهجرة؟ . قيل له: هو فى أهل مملكته أعْنَى عن الله، وعن رسوله، وعن جماعة المسلمين منه، لو هاجر بنفسه فردًا؛ لأن أول عنائه حبسه الحبشة كلهم من مقاتلة النبى، ﷺ، والمسلمين مع طوائف الكفار، مع أنه كان ملجأ لمن أوذى من أصحاب النبى ﷺ وردءًا لجماعة المسلمين، وحكم الردء فى جميع أحكام الإسلام حكم المقاتل، وكذلك فى رد اللصوص والمحاربين عند مالك وأكثر الكوفيين يقتل بقتلهم، ويجب عليه ما يجب عليهم، وإن كانوا لم يحضروا الفعل. ومثل تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد عن بدر، فضرب لهم رسول الله ﷺ بسهامهم من غنيمة بدر، وقالوا: وأجرنا يا رسول الله؟ قال: تمت وأجركم -. وقوله: تمت أسلم تسلم - هذا التجنيس فى غاية البلاغة، وهو من بديع الكلام، ومثله فى كتاب الله: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [النمل: ٤٤] .
1 / 47
وقوله: تمت يؤتك الله أجرك مرتين - أى: بإيمانك بعيسى، ﷺ، وإيمانك بى بعده. ودعاية الإسلام هى توحيد الله، ﷿، والإيمان برسول الله ﷺ . ولم يصح عندنا أن هرقل جهر بالإيمان وأعلن بالإسلام، وإنما عندنا أنه آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق، ولسنا نقنع بالاعتقاد للإسلام دون الجهر به لقوله: تمت أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنى رسول الله -، وقد أرخص الله لمن خاف، وأكره على الكفر أن يضمر الإيمان بقوله: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [النحل: ١٠٦]، ولم يبلغنا أن هرقل أكره على شىء من ذلك فيقوم له عذر وأمره إلى الله تعالى. وأما بعثه ﷺ إلى هرقل بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، وآية من القرآن، وقد قال ﷺ: تمت لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو -، وقال العلماء: لا يُمكَّن المشركون من الدراهم التى فيها اسم الله تعالى. وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه فى أول الإسلام، ولم يكن بد من أن يدع الناس إلى دين الله كافة وتبليغهم توحيده كما أمره الله تعالى. وقوله: تمت فإن عليك إثم الأريسيين - يريد الرؤساء المتبوعين على الكفر، وسيأتى اشتقاق هذه اللفظة فى آخر هذا الباب إن شاء الله. قال أبو الزناد: فحذره ﷺ، إذ كان رئيسًا متبوعًا مسموعًا منه أن يكون عليه إثم الكفر، وإثم من عمل به واتبعه عليه، وقد قال
1 / 48
ﷺ: تمت من سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة -. قال المهلب: وأصله فى كتاب الله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) [العنكبوت: ١٣] . وليس على البخارى فى إدخاله أحاديث عن أهل الكتاب، هرقل وغيره، ولا فى قوله: تمت وكان حزَّاءً ينظر فى النجوم - حرج؛ لأنه إنما أخبر أنه كان فى الإنجيل ذكر محمد، ﷺ، وكان من يتعلق قبل الإسلام بالنجامة ينذر بنبوته؛ لأن علم النجامة كان مباحًا ذلك الوقت، فلما جاء الإسلام منع منه، فلا يجوز لأحد اليوم أن يقضى بشىء منه، وكان علم النجوم قبل الإسلام على التظنين والتبحيث يصيب مرة ويخطئ كثيرًا، فاشتغالهم بما فيه الخطأ الغالب ضلال، فبعث الله نبيه محمدًا ﷺ بالوحى الصحيح، ونسخ ذلك العناء الذى كانوا فيه من أمر النجوم، وقال لهم: نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. وقال أبو المعتز فى كتاب الأدب: لا يصلح لذى عقل ودين تعاطى علم النجوم؛ لأنه لا سبيل إلى إيصال الصواب منها، والذى يشبه الصواب منها إنما يتهيأ بالاتفاق، وكيف يرضى العاقل من نفسه أن يكذب مرة ويصدق أخرى، وإنما عمر الإنسان كالساعة التى لا ينبغى أن ينفقها إلا فى علم يزداد بالإيغال فيه بعدًا من الباطل وقربًا من الحق، ولو أمكن ألا يخطئ الناظر فى علم النجوم لكان فى ذلك تنغيص العيش، وتكدير لصفوه، وتضييق لمتفسح الآمال التى بها قوت الأنفس وعمارة الدنيا، ولم يف ما يرجى من الخير بما يتوقع
1 / 49