وليس لك أن تقول: إنه خف الهمزة تخفيفًا قياسيًا، لأن الهمزة إذا خففت تخفيفًا قياسيًا، لم توصل به، لأنه في نية الهمزة. فمن حيث لا يوصل بالهمزرة مُخففة، لا يوصل بها مخففة تخفيفًا قياسيًا، فتفهمه فإنه لطيف.
) إذا فَلَّ عزمِي عن مَدى خَوفُ بُعْدِه ... فَأبْعَده شيء ممكنٌ لم يجِد عَزْمَا (
أي أن الممكن من المطالب، إذا لم يعزم عليه طالبه، كان بمنزلة الممتنع. والفرق بين الممكن الذي لا بجد عزمًا وبين الممتنع، أن الممكن إذا عُزم عليه نيل، والممتنع لا يُنال البتة ولو عزم. وقوله:) فأبْعَدُ شيء ممكنٌ (: يريد فأبعد الممكنات ممكن لا يعُزم عليه. وبجوز أن يكون شيء هاهنا يجمع الممكن والممتنع، لأن العقل لا يشك في أن الممتنع أبعد الأشياء.
وتخليصه: إذا فل عزمي بعد مطلبي فأبعدُ منه مطلبٌ ممكن، لم يجد لدى عزما.
وله ايضا:
) سِرْبٌ مَحاسِنهُ حُرِمْتُ ذواتها ... دانى الصِّفات بَعِيد موصُوفاتها (
السربُ: القطيع من الظباء والشاء والبقر. وعنى) بالسرب (هنا النساء، تشبيهًا لهُن بالظباء. والمحاسنُ: واحدها حُسن على غير قياس. وذواتها: صواحبُها. أي هَواىَ سِربٌ حُرمتُ ذوات محاسنه، وذوات المحاسن هن ذلك السرب. فكأنه قال: حُرمته، بأن حيل بيني وبينه. وقد يجوز أن يكون سرب مبتدأ، ومحاسنه مبتدأ آخر، أو بدلا من سرب. وحُرمت ذواتها: خبر عن المحاسن، والميتدأ الثاني وخبره؛ خبر عن سرب. فلا يحتج على هذا القول إلى إضمار) هَواى (. وأن يكون سربٌ خبر مبتدأ مضمر: أولى كما قدمنا، لقبح الابتداء بالنكرة. ثم قال:) دانى الصفاتِ بعيدُ موصوفاتها (: إنما دنت صفاته عليه، لأنه يقدر على وصفهن بما أوتيه من السن، والمنطق الحسن. وبعدت موصوفات السرب، لانهن مقصورات محجوبات، أو ممنعات، والضمير في) موصوفاتها (: راجعٌ إلى السرب وإن كان مذكرًا. لكن جاز ذلك، لأنه في معنى الجماعة. ولا يجوز أن يكون راجعًا إلى الصفات، لأنه نوع من إضافة الشيء إلى نفسه.
) وكأنَّها شَجَرٌ بَدا لكنَّها ... شَجرٌ جَنَيْتُ المُرَّ من ثَمَراتها (
أي كأن العيس شجرٌ من عُلُوهن. والعرب تشبه الحمول كثيرًا بالنخل، وذلك لما يضعون على الهوادج من الرقم والعُهون الملونة، فيشبهون ذلك بالزهور والبسر الملون. ولم يشبه المتنبي الهوادج وما عليها بذكر النخل، وإنما عنى عُلُو الإبل، فشبهها بالشجر عامة، ثم قال:) لكنها شجر جَنَيتُ المرُ من ثمراتها (، يعنى بذلك: إبعاد الإبل حَبَاِئَبه عنه، وقد بين ذلك بقوله:
) لا سرتِ من إبلٍ لَوَ انىِّ فَوقَها ... لَمَحَتْ حَرارةُ مَدْمَعيَّ سِماَتهِا (
دَعَا عليهن ألا يَسْرِن، إشفاقًا من بعد حبائبه عنه إذا سارت
) وَترى المُروة والفُتَّوةَ والابُوَّ ... ةَ في كلُّ مليحة ضَرَّاتِها (
يعنى أن الملائح يعشقنه، وهو يوثر عليهن المروة والأبوة والفتوة، وذلك أن هذه الثلاثة يَنْهَيْنَه عن عشق النساء ويأمُرن بُحبهن أنفسهن. فعلم الملائح أن هذه الخصال الثلاث يضرُرن بهن عنده، كما تضر المرأة عند يعلها ضراتُها، إذ لولاهن لواصلهن.
) وَمَقانِبٍ بمقانِب غَادَرْتُها ... أقوات وحشٍ كُن من أقواتها (
المقِنبُ: القطعة من الخيل. أي صرفتُ مفنب غيري بمقنبي. فهذا معنى قوله:) وَمَقانب بمقانب غادرتها (وقوله:) أقوات وَحشٍ كُن من أقواتها (أي صَرَعتُ هذه لمقانب، فتركتها أقواتا للوحوش، التي كانت من أقوى هذه لمقانب، فعاد الأمر بالعكس، وجعل الوحش الآكله لهم مما كانوا يقتاتون به، لأن العرب تأكلُ الذئب، والضُبع والهلياع والفهد ونحو ذلك من آكلة الإنسان. وقد شبه بعضهم هذا البيت بقول البحتري:
كلانا بها ذِئبٌ يحدِّث نفسه ... بصاحبه والجِدُّ يتبعُه الجدّ
وليس مثله، لأن البحتري لم يأملُ أكل الذئب كما أمل الذئب أكله وإنما قال: كلانا قاتل لصاحبه، الذئب يري أكلى، وأنا أريد قتله.
) أقْبَلْتها غُرر الجِياد كَأنَّما ... أيْدِىَ بني عمران في جَبَهاتِهاَ (
الكريم يوصف ببياض اليد، وهي الخيل التي أقبلتها هذه الوجوه. هُن غُرّ، فكان غُروها أيدي هؤلاء موضوعة في جبهاتها. يعني أقبلتها خيلًا سابقة، يُقبلون جباهها كما تقبل أيدي بني عمران. فهذا معنى التشبيه.
1 / 30