) لا تَكثرُ الأمواتُ كَثْرةَ قلةٍ ... إلا إذا شَقِيتْ بك الأحياءُ (
أي أن الأموات أفلاء، حتى تعود فيهم، فيكثرون حيئنذ.
وقوله:) إلا إذا شقيت بك الأحياء (: جَمْجَمةٌ عن قوله: إلا إذا مِت، أي فاذا مت وشقيت الأحياء بفقدك، قلت الأحياء، وكثرت الأموات. وقال: كثرة قلةٍ: لأن الأموات وإن كثرت أعدادُهم، فهم قليل لَعَدمهم للفنى، وأخذهم في الفنا.
وإن شئت قلت: كثرة قلةٍ: أي كثروا بك وأنت واحد، والواحد قليل، فتكُّرهم بك تكثُّر قلة.
وقد يتجه هذا البيت على معنى آخر، وهو أن الأحياء إنما ينالون الحياة بنداه، فإذا عُدم بالموت، مات الأحياء الذين كانوا يتعيشون بذلك، فكثرت الأموات بموت هؤلاء الأحياء بعده.
وقد يجوز أن يعنى بالأحياء هاهنا أعداءه. يقول: لاتكثر الاموات إلا إذا ضاربتك أعداؤك، فَغَلبْتَهم وقتلتهم، فحينئذ تكثر الموتى بهم. وشقاءُ الأعداء به قَتْلُهُ إياهم، وقال: كثرة قلة: لأن ما يدخل تحت الفناء قلةٌ في الحقيقة ودل ذلك على أن أعداءه كثير. والقولان الأولان عندى أوجه.
أخبرني بعض أهل بغداد، أن الممدوح بهذه القصيدة أدركته الوفاة بعد إنشاد المتنبي إياه هذا الشعر بأيام قليلة، فكان يتقلب على فراشه ويردد هذا البيت الذي فسرناه.
) أبدأْتَ شَيئًا مِنكَ يُعرف بَدؤُهُ ... وأعَدْتَ حتى أنكرَ الإبداء (
أي أعدت أعظم مما بدأت به، حتى لا يسمى المبدأ به بالإضافة إلى المُعاد.
) لم تُسم ياهارونُ إلا بعد ما اقْ ... ترعتْ ونازعتِ اسْمَكَ الأسماءُ (
أي تنافست فيك الاسماء، رغبة في الشرف بذاتك، وتقديره لم تسم هارون ياهارون فاكتفى من ذكر المفعول الثاني بقوله: ياهارون، لأن نداءه إياه به دليل على أنه اسمه. وهذا من أحسن الحَذفِ وأجزه.
) فَغَدَوت واسُمك فيكَ غيرُ مشاركٍ ... والناسُ فِيمَا في يدْيكَ سَواءُ (
أي لم تُسم بغير هذا الاسم من الأسماء التي نازعته فيك، والناس فيما لديك سواء: أي أنه وإن لم تشترك فيك الأسماء فالناس مشتركون في مالك شركَ تساوٍ.
) ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمُنتهى ومن السرور بُكاءُ (
إن شئت قلت: بلغ جُودُك الغاية. ومعروف أن الشيء إذا انتهى انعكس ضدا فكذلك جودُك، لما انتهى فلم يك مزيدًا، كاد أن يستحيل بخلا. وقوله: ومن السرور بكاءُ:) أي (أعلمت أن الشيء إذا انتهى عاد إلى ضده كالسرور إذا أفرط كان بكاء. وقال:) كدت تبخل (، ولم يقل: حتى بَخِلتْ، استقباحًا منه أن يٌوجب عليه البخل.
وإن شئت قلت: تَنَاهَيْتَ في الجود، فبخلت أن يُشارك أحدُ في اسمه، فحال الجودُ بخلا، كما يحول السرورُ بكاء.
والقول الأول عندي أوجه، اذ لو كان على القول الأخير، لم يكن يِكدت معنى لأنه نُقصان من مدحه، اذ بُخْلُه بأن يُشارك في اسمه الجود غيرُ مذموم. وأما في القول الأول فالبخل المطلق مذموم. فتفهمه، فإنه جيد لطيف.
وقوله: للمتنبي: أي من أجل الانتهاء.
) لَمْ تَحْكِ نائلك السحابُ وإنما ... حُمَّتْ به فَصَبِيبُها الرُّحَضَاءُ (
الرُّحضاء: عَرَق الحُمَّى يُرحَضُ: أي يعُسل. أي لم يُحاكك السحاب بمطره، ولا ناوأك، لأنه معترف أنك أندى منه. وإنما تأمل بذلك وأيقن بالعجز عنه، فحسدك فحُمَّ حمى حُساده، فمطرُها إنما هو عَرَقُ حُماها.
) لَو لَمْ تكُن مِنْ ذَا الوَرَى اَّلذْ منك هُوْ ... عَقِمَتْ بمولدِ نَسْلِها حَوَّاءُ (
جعل الورى جُزءًا منه، بعد أن جعله جُزءًا من الورى، فالاول حقيقة، والثاني مجاز، لا يكون الكلُّ جزءًا لجزء. هذا خُلفٌ، لكن جعلهم منه، إشعارًا أنه جمال هذا النوع، به عُرف، وإليه نسب، فكأنه إنما يكون منه كقوله:
أنى يكونُ أبا البرايا آدمُ ... وأبوك والثقلان أنت مُحمدُ
وهذا قبيح داخل في الشَّنَع.
وقوله: عَقَمتْ بمولد نسلها حواءُ: أي لو لم تكن من ولدها كان نسلُها كلا نسْل، حتى كأنها عقيم، لم تلد قَطُّ.
وقوله: بمولد نسلها: أي عُدَّتْ عَقِيمًا على أنها قد ولدت.
وله ايضا:
) يَحولُ بين الكلْبِ والتأمُلِ (
إن شئت قلت إن الظبي يُجهد الكلب فيشغله عن التأمل. وإن شئت قلت: إنه يمنع الكلب أن يتأمله بسرعته، كقول البحتري يصف فرسًا:
1 / 23