شرح كتاب السنة للبربهاري - الراجحي
شرح كتاب السنة للبربهاري - الراجحي
शैलियों
الإيمان بصفات الله سبحانه وأفعاله بدون تكييف ولا تمثيل
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أن الكلام في الرب تعالى محدث].
هذه عادة المؤلف ﵀، يقول في أول كل فقرة جديدة: (اعلم) يعني: تيقن تيقنًا جازمًا، فهو يدعو ويسأل من الله ﷿ الرحمة لطالب العلم.
وقوله: أن الكلام في الرب، يعني: ما يتكلم به أهل الكلام في الخوض في الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله بغير علم، فمنهم من تكلم في الرب فقال: إنه ليس فوق العرش والعياذ بالله، ومنهم من قال: إنه في كل مكان، فهذا كله محدث، وهو كفر وردة والعياذ بالله.
فالجهمية الذين يقولون: إن الرب ليس فوق العرش وإنما هو في كل مكان، وكذلك من ينفي النقيضين عن الله، يقول: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، هذا الكلام في الرب كفر وضلال، بل الرب ﷾ فوق العرش، مستو على عرشه، بائن من خلقه.
فكلام الجهمية في هذه المسألة محدث، وكذلك كلامهم وكلام المعتزلة في نفي الأسماء والصفات، وكذلك كلام الأشاعرة في نفي الصفات ما عدا الصفات السبع، وكذلك نفيهم للإرادة الدينية، ونفي المعتزلة للإرادة الكونية، كل هذا محدث، وهذا المحدث منه ما هو كفر ومنه ما هو دون الكفر.
فلم يكن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم يتكلمون في الرب بما تكلم به هؤلاء، فالرب ﷾ أثبت لنفسه الأسماء والصفات، وأثبت أنه فوق العرش، فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، فهؤلاء المبتدعة تجاوزوا ما وصف به الرب نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ، فكان كلامهم محدثًا.
فهو بدعة، وهذه البدعة إما أن تكون مكفرة، كبدعة الجهمية الذين يقولون: إنه ليس فوق العرش، وإنما هو في كل مكان، وإما أن تكون بدعة غير مكفرة كبدعة الأشاعرة الذين يتأولون بقية الصفات ما عدا الصفات السبع، ولهذا قال المؤلف ﵀: [واعلم رحمك الله أن الكلام في الرب محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه ﷿ في القرآن، وما بينه رسوله ﷺ لأصحابه] وهذا كما قال بعض السلف: لا يوصف الرب إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، فلا يتجاوز القرآن والحديث.
ولهذا قال المؤلف ﵀: [ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه ﷿ في القرآن، وما بينه رسوله ﷺ لأصحابه، وهو جل ثناؤه واحد، فهو واحد في ذاته، وواحد في أسمائه وصفاته وأفعاله، وواحد في ألوهيته، وواحد في ذاته، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص:٢].
واحد في أسمائه وصفاته أي: ليس له مثيل، ولا يشبه أحدًا من خلقه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وهو واحد في ألوهيته، فلا يستحق العبادة أحد غيره.
فهو سبحانه واحد، وهو الأحد، وهو الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فهو صمد في نفسه، وتصمد إليه الخلائق في حوائجها، ولا نظير ولا مثيل ولا سمي ولا ند له، كما قال سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١]، وقال سبحانه: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٧٤]، وقال سبحانه: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]، وقال سبحانه: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤].
قال المؤلف ﵀: [ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى وعلمه بكل مكان لا يخلو من علمه مكان].
قوله: (ربنا أول بلا متى) يعني: لا يوجه إليه هذا السؤال، فلا يقال: متى كان؟ فهو ﷾ الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو ﷾ واجب الوجود بذاته، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، كما قال الله ﷿ في كتابه المبين: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد:٣].
فهذان اسمان متقابلان لأوليته وأبديته: (الأول والآخر)، وهذان اسمان متقابلان لفوقيته وعلوه: (الظاهر والباطن) وهو سبحانه لا يشبهه شيء من خلقه.
وقد فسر النبي ﷺ هذه الأسماء الأربعة في حديث الاستفتاح الصحيح، حيث قال ﷺ: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر).
ولهذا قال المؤلف ﵀: (ربنا أول بلا متى)، يعني: لا يوجه هذا السؤال إليه، فلا يقال متى كان، (وآخر بلا منتهى)، كما ورد في الحديث الذي قدمناه آنفًا.
يعلم السر وأخفى، فصفة العلم من صفاته ﷾، والذي أخفى من السر هو حديث النفس، فهو سبحانه يعلم الكلام الذي تتكلم به سرًا، ويعلم ما هو أخفى من ذلك، وهو ما تحدث به نفسك، كما قال ﷾: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق:١٦].
وكما أخبر الله ﷾ في خطابه لموسى ﵊: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه:١٥].
وقوله رحمه الله تعالى: (وعلى عرشه استوى) أي: أن الله سبحانه استوى على العرش، والاستواء ذكر في سبعة مواضع من كتاب الله ﷿، وكلها جاءت بلفظ الاستواء، وتعدت بعلى التي تفيد العلو والارتفاع، وهذه المواضع جاء ذكرها في سورة الأعراف وفي سورة يونس وفي سورة طه وفي سورة الفرقان وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، والموضع السابع في سورة الرعد، وكلها فيها التصريح بأنه سبحانه استوى على العرش، ومع ذلك أنكر الاستواء أهل البدع من الجهمية والأشاعرة والمعتزلة، وقالوا معنى استوى: استولى، وهذا لا شك أنه تحريف لمعنى استوى، فإن الله تعالى لو أراد بمعنى استوى: استولى فليس عاجزًا أن يقول: الرحمن على العرش استولى، أي: لو أراد هذا المعنى لبين ذلك.
ولأن (استوى) يختلف معناها عن استولى، فمعنى استوى: استقر وارتفع وصعد، واستولى تتضمن نقصًا في حق الرب، وذلك أنه لا يقال للشيء استولى إلا بعد أن كان عاجزًا ثم غلب غيره واستولى عليه، وهل العرش حاول أحد أن يغالب الله عليه؟! وهل كان الله عاجزًا عن الاستيلاء ثم استولى بعد ذلك؟! فلا يقال استولى إلا في حق من كان عاجزًا ثم غلب، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق.
فهذا التحريف الذي جاء به أهل البدع يعتبر زيادة في كلام الله، ولهذا قال العلماء: إن هذه اللام الزائدة، وهي تحريف لكلام الله ومحادة له ورسوله، وهذه صفة اليهود حين قال الله لهم: قولوا حطة، فقالوا: حنطة، زادوا حرفًا واحدًا، ولهذا يقول العلماء: لام الجهمية كنون اليهود، حين قال الله لهم: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة:٥٨]، أي: قولوا: حط عنا يا الله ذنوبنا واغفرها لنا، فزادوا في كلام الله، واستهزءوا، وقالوا: حنطة، فزادوا نونًا.
وكذلك الجهمية أخبر الله عن نفسه أنه استوى على العرش، فزادوا لامًا وقالوا: استوى بمعنى استولى، نسأل الله السلامة والعافية.
وقوله: (على عرشه استوى) وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان، المعنى: أن الله تعالى استوى فوق العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، فهو فوق العرش ﷾، فله علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، أما علمه فهو في كل مكان، يعلم ما في لجة البحار، وما في ظلمات البر والبحر، ويعلم السر، ويعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
فهو سبحانه فوق العرش وعلمه في كل مكان.
3 / 2