المقدمة
بسم الله الرّحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) «١».
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١) «٢».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١) «٣».
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد:
فهذا تعليق لطيف على كتاب شرح العقيدة الأصفهانية، لشيخ الإسلام ومفتي الأنام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرّاني الدمشقي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح الجنة.
وقد حوى الكتاب- على صغر حجمه- دررا كثيرة، وفوائد جمة من كلام شيخ الإسلام في نصرة العقيدة الصحيحة، عقيدة أهل السنّة والجماعة، والرد على ضلالات وأهواء أهل البدع، وتفنيد شبهاتهم، ودحض أباطيلهم، بأسلوب ماتع كما هي عادته رحمه الله تعالى.
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ١٠٢.
(٢) سورة النساء، الآية: ١.
(٣) سورة الأحزاب، الآيتان: ٧٠، ٧١.
1 / 5
ولأهمية هذا الكتاب وعظم فوائده استخرت الله تعالى في خدمته، فضبطت نصّه وخرّجت أحاديثه وعلقت عليه بما يسره الله تعالى.
هذا وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يرحم شيخ الإسلام ابن تيمية وجميع علمائنا ومشايخنا رحمة واسعة ويعلي درجتهم في الجنان.
كما أسأله سبحانه وهو الرحمن الرحيم، أن يغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنه جواد كريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب
محمد بن رياض الأحمد
كان الله معه بمنه وكرمه
1 / 6
ترجمة المصنف «١»
أوّلا اسمه ونسبه ومولده
هو: شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس، أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم، ابن الإمام العلامة مجد الدين أبي البركات عبد السلام ابن أبي محمد عبد الله، ابن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحرّاني.
وتيمية: يقال إنها أم جده محمد، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها، ولهذا أطلق على هذه الأسرة «آل تيمية».
ولد شيخ الإسلام بحران، يوم الاثنين عاشر، أو ثاني عشر ربيع الأول سنة ٦٦١ هـ.
وبعد أن هجم التتار على بلده وعاثوا فيها فسادا سافر به والده مع إخوته إلى الشام فوصل دمشق سنة ٦٦٧ هـ، واستقر بها.
ثانيا نشأته، وبداية حياته العلمية
نشأ شيخ الإسلام في بيت علم، ودين، فقد كان جده الشيخ مجد الدين أبو البركات من كبار علماء الحنابلة، وفقهاء مصر، تفقه على يد عمه فخر الدين الخطيب. قال عنه شيخ الإسلام: «كان الشيخ جمال الدين ابن مالك يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد» وقال أيضا: «كان جدنا عجبا في سرد المتون وحفظ مذاهب الناس وإيرادها بلا كلفة» اه، وقال عنه الذهبي: «تفقه،
_________
(١) انظر مقدمة كتاب الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، تحقيق الشيخ حمد التويجري حفظه الله تعالى ونفع بعلومه.
1 / 7
وبرع واشتغل، وصنف التصانيف، وانتهت إليه الإمامة في الفقه ...».
من أهم مصنفاته «المنتقى من أحاديث الأحكام» الذي شرحه الشوكاني في كتابه «نيل الأوطار» ومن مؤلفاته «الأحكام الكبرى» في عدة مجلدات «١».
أما والده شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام فقد سمع من والده مجد الدين أبي البركات، ورحل في صغره إلى حلب وسمع هناك من عدد من المشايخ، قال عنه الذهبي: «قرأ المذهب حتى أتقنه على والده، وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه وخطيبه وحاكمه، وكان إماما محققا لما ينقله، كثير الفوائد، جيد المشاركة في العلوم، له يد طولى في الفرائض ...» وقال عنه البرزاني: «كان من أعيان الحنابلة، عنده فضائل وفنون، وباشر بدمشق مشيخة دار الحديث السكرية بالقضاعيين وبها كان يسكن، وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه» اه «٢».
وممن اشتهر بالعلم والعبادة والزهد من هذه الأسرة إخوة الشيخ وهم ثلاثة:
أخوه: شرف الدين عبد الله «٣». وزين الدين عبد الرحمن «٤» وأخوه لأمه:
بدر الدين محمد «٥».
أما والدة الشيخ فهي: ست النعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية «٦».
فمن هذا البيت المبارك، والأسرة الصالحة خرج شيخ الإسلام فنشأ وتربى في حجر والده، وبدأ في طلب العلم مبكرا، وكانت علامات النجابة والفطنة تظهر عليه منذ حداثة سنه، ونعومة أظفاره، وكان مفرط الذكاء، «ذكر ابن عبد الهادي أن أحد علماء حلب قدم من دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له: أحمد بن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصدا لعلي أراه. فقال له خياط: هذه طريق كتّابه، وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهبا إلى الكتّاب. فجلس الشيخ الحلبي قليلا، فمر صبيان، فقال الخياط للحلبي: فذاك
_________
(١) انظر: السير (٢٣/ ٢٩١)، البداية والنهاية (١٣/ ١٨٥)، ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٢٤٩)، شذرات الذهب (٥/ ٢٥٧).
(٢) انظر: العبر للذهبي (٣/ ٣٤٩)، ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٣١٠).
(٣) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٣٨٢)، شذرات الذهب (٦/ ٧٦).
(٤) انظر: البداية والنهاية (١٤/ ٢٢٠)، شذرات الذهب (٦/ ١٥٢).
(٥) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٣٧٠)، شذرات الذهب (٦/ ٤٥).
(٦) انظر: البداية والنهاية (١٤/ ٧٩).
1 / 8
الصبي الذي معه اللوح الكبير هو أحمد بن تيمية، فناداه الشيخ فجاء إليه، فناول الشيخ اللوح، فنظر فيه، ثم قال: يا ولدي امسح هذا حتى أملي عليك شيئا تكتبه، ففعل فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر، أو ثلاثة عشر حديثا، وقال له:
اقرأ هذا، فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياه ثم دفعه إليه، وقال: اسمعه عليّ، فقرأ عليه عرضا كأحسن ما أنت سامع، فقال له: يا ولدي امسح هذا، ففعل. فأملى عليه عدة أسانيد انتخبها ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه كما فعل أول مرة فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله. أو كما قال» اه «١».
حفظ القرآن في سنّ مبكرة ثم أكب على طلب العلم. فدرس على والده، وبعض مشايخ عصره «٢»، ولم يتجه إلى فن معين بل درس الحديث وسمع المسانيد، والكتب الستة، وبعض المعاجم، وأقبل على التفسير، وعلم الفقه والأصول، إضافة إلى علم اللغة.
وقد جلس للإفتاء وعمره تسع عشرة سنة، وخلف والده في التدريس بدار الحديث السكرية وعمره اثنتان وعشرون سنة بعد أن توفي والده سنة ٦٨٢ هـ، وجلس الشيخ للتدريس في الثاني من شهر الله المحرم سنة ٦٨٣ هـ، وقد حضر درسه الأول كبار علماء دمشق، يقول ابن كثير واصفا هذا الدرس: «... وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي الشافعي، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدين ابن المرحل، وزين الدين ابن المنجى الحنبلي، وكان درسا هائلا، وقد كتبه الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنّه وصغره، فإنه كان عمره إذ ذاك عشرين سنة وسنتين ...» «٣».
وأيضا في اليوم العاشر من شهر صفر من هذه السنة جلس للتفسير في الجامع الأموي بعد صلاة الجمعة، وقد استمر هذا الدرس سنين طويلة، وكان يحضره الجمع الغفير من الناس.
وقال الإمام الذهبي: «نشأ- يعني الشيخ تقي الدين- ﵀ في تصون تام، وعفاف وتأله وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس
_________
(١) العقود الدرية ص ٤.
(٢) وسيأتي ذكرهم في تعداد شيوخه وتلاميذه.
(٣) البداية والنهاية (١٣/ ٣٠٣).
1 / 9
والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم. فأفتى وله تسع عشرة سنة، بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبّ على الاشتغال، ومات والده- وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم- فدرس بعد بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم ... «١».
وهكذا بدأ شيخ الإسلام تقي الدين حياته العلمية حتى أصبح آية من آيات الله في الفهم وسعة الاطلاع، وقوة الحجة، وسرعة البديهة.
ثالثا بعض الصفات التي اتصف بها
أ- صفاته الخلقية:
وصفه الذهبي: بأنه كان أبيض، أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحا، سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها الحلم «٢».
ب- صفاته الخلقية:
١ - كرمه:
كان ﵀ سخيّا جوادا، لا يرد سائلا قط، ويجود بكل ما يستطيع، حتى ولو يشاطره بعض لباسه الذي عليه، ومن طريف ما يروى في ذلك ما ذكره البزار قال: «حدثني الشيخ العالم الفاضل المقرئ أحمد بن سعيد قال: كنت يوما جالسا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵁. فجاء إنسان فسلم عليه فرآه الشيخ محتاجا إلى ما يعتم به. فنزع الشيخ عمامته من غير أن يسأله الرجل فقطعها نصفين، واعتم بنصفها ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجل ...» اه «٣».
وذكر البزار أيضا قال: «حدثني من أثق به أن الشيخ ﵁ كان مارّا يوما ببعض الأزقة، فدعا له بعض الفقراء، وعرف الشيخ حاجته، ولم يكن مع
_________
(١) العقود الدرية ص ٤ - ٥.
(٢) الدرر الكامنة (١/ ١٦١)، البدر الطالع (١/ ٦٤).
(٣) الأعلام العلية ص ٥٩.
1 / 10
الشيخ ما يعطيه، فنزع ثوبا من على جلده ودفعه إليه وقال: بعه بما تيسر وأنفقه.
واعتذر إليه من كونه لم يكن معه شيء من النفقة» اه «١».
وما يروى عنه في هذا الباب كثير مما يدل على كمال مروءته وسخاء نفسه.
٢ - قوته وشجاعته:
لقد ضرب شيخ الإسلام أروع الأمثال في ميدان القوة والشجاعة ففي ميدان الجهاد بطل مغوار لا يشق له غبار، يتبين هذا جليّا ما فعله ضد التتار ويأتي الكلام على شيء من ذلك.
إضافة إلى أنه كان ذا شخصية قوية، ونفس لا تهاب الصعاب كان يقف أمام السلاطين والظلمة ينصحهم ويخوفهم ويحذرهم برباطة جأش يهابه كل من حضر، لا يخاف في الله لومة لائم.
من مواقفه المشهورة التي تترجم قوة شخصيته وتنبئ عن شجاعته: موقفه من «قازان» سلطان التتار- مع ما اشتهر عنهم من التسلط والظلم والبربرية- فقد ذهب إليه شيخ الإسلام مع مجموعة من تلامذته، وكلّمه بشدة ومما قاله له: «أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذن وقاض وإمام وشيخ على ما بلغنا، فغزوتنا وغزوت بلادنا على ماذا؟ ... إلى أن قال: وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت» ولما قربوا الطعام، فأكلوا إلا شيخ الإسلام، فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعام وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس.
ووقعت له معه أمور تبين مقدار ما يتمتع به شيخ الإسلام من قوة وشجاعة يعجز عنها الوصف «٢».
وكان إذا حضر الجهاد مع المسلمين يشجعهم ويثبتهم، ويعدهم النصر، ويقوي عزائمهم حتى كأنه هو القائد وهو الأمير وهو السلطان، وما هو إلا واحد من الجند.
ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا لدى الفضل حتى عدّ ألف بواحد قال عنه الذهبي: «وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال» اه «٣».
_________
(١) المصدر السابق ص ٦١.
(٢) انظر تفصيل ذلك في البداية والنهاية (١٤/ ٨٩).
(٣) العقود الدرية ص ١١٨.
1 / 11
ومن مواقفه البطولية التي خلدها التاريخ عند ما سار جيش التتار إلى الشام، ابتدر شيخ الإسلام وذهب مع البريد إلى مصر ودخل على السلطان، وخاطبه بقوة قائلا له: «إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله، والذب عنهم» وهدده بأن أهل الشام سيقيمون لهم من يحميهم ويقوم بأمرهم فأجابه السلطان إلى ما أراد «١».
وبهذه المواقف وغيرها أصبحت شجاعة ابن تيمية وقوته مضرب المثل.
وقد وشي بالشيخ إلى السلطان الملك الناصر، فأحضره بين يديه، ومن جملة ما قال له الناصر: أخبرت أنك أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فرد عليه بنفس مطمئنة وقلب ثابت، وثبوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك آبائك لا يساوي عندي فلسين. فتبسم السلطان لذلك «٢».
ويذكر ابن القيم ما منحه الله من قوة القلب وانشراح الصدر وسرور النفس مع أنه كان محبوسا في القلعة ويقول: «وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة ...» «٣».
ويقول خادمه إبراهيم بن أحمد الغياني: «... ثم بعد أيام جاء عند الشيخ- يعني ابن تيمية- شمس الدين بن سعد الدين الحراني وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية. وجاءت المشايخ التدامرة «٤» وأخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك، فقال لهم:
«أنا إن قتلت كانت لي الشهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدا وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت على صوف» فيئسوا منه وانصرفوا ... ثم ذكر أنه لما ركب مع نائب السلطان متوجها إلى الإسكندرية فقال له إنسان: «يا سيدي هذا مقام الصبر»، فقال له: «بل هذا مقام الحمد والشكر، والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لفضل عنهم، ولو أن معي في هذا
_________
(١) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٣٩٥ - ٣٩٦)، شذرات الذهب (٥/ ٤٥٥).
(٢) الأعلام العلية ص ٦٥.
(٣) الوابل الصيب ص ٤٥.
(٤) نسبة إلى «تدمر» إحدى مدن الشام.
انظر معجم البلدان (٢/ ١٧).
1 / 12
الموضع ذهبا وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة التي أنا فيها». اه «١».
٣ - زهده وتواضعه:
مع ما منح الله شيخ الإسلام من سعة العلم، وقوة الشخصية وعلو المكانة، مع هذا كله فقد كان في غاية التواضع، والإزراء على النفس، كان زاهدا قانعا بما في يده، لم يتطلع في يوم من الأيام إلى منصب أو جاه، ولم تكن الدنيا في عينه تساوي شيئا وقد رضي منها بالقليل، واكتفى بما يغنيه عن الناس، ويسد حاجته، وربما اكتفى بشيء من الخبز يأكله في الصبح وفي المساء، حتى قال عنه زين الدين الواسطي وقد أقام مع الشيخ: «وكنت أسأله أن يزيد على أكله فلا يفعل، حتى أني كنت في نفسي أتوجع له من قلة أكله ...» «٢».
وقال الحافظ البزار: «وأما تواضعه فما رأيت ولا سمعت بأحد من أهل عصره مثله في ذلك، كان يتواضع للكبير والصغير، والجليل والحقير، والغني الصالح والفقير، وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه بحديثه المستحلي زيادة على مثله من الأغنياء، حتى إنه ربما خدمه بنفسه، وأعانه بحمل حاجته، جبرا لقلبه، وتقربا بذلك إلى ربه ...» ثم ذكر أنه لا يسأم ممن يسأله ويستفتيه مهما كان «٣».
وقال أيضا في وصف الشيخ: «ولقد اتفق كل من رآه خصوصا من أطال ملازمته، أنه ما رأى مثله في زهده في الدنيا، حتى لقد صار ذلك مشهورا بحيث قد استقر في قلب القريب والبعيد من كل من سمع بصفاته على وجهها، بل لو سئل عامي من أهل بلد بعيد من الشيخ: من كان أزهد أهل هذا العصر، وأكملهم في رفض فضول الدنيا، وأحرصهم على طلب الآخرة؟ لقال: ما سمعت بمثل ابن تيمية ...» «٤».
رابعا مواقفه الجهادية
لم يكن شيخ الإسلام عالما يصدر الفتاوى، ويؤلف الكتب، ويجلس للطلاب في حلقات العلم فحسب، ولم يكن يعيش في معزل عن مجتمعه، بعيدا
_________
(١) ناحية من حياة شيخ الإسلام لإبراهيم بن أحمد الغياني ص ٣٠، ٣٢.
(٢) الأعلام العلية ص ٤٨.
(٣) المصدر السابق ص ٤٨ - ٤٩.
(٤) المصدر السابق ص ٤٤ - ٤٥.
1 / 13
عن واقعه، لا يعلم ما يدور حوله، بل عايشه بقلبه وقالبه. وإذا قضى حياته مجاهدا بقلمه ولسانه، فقد كان من حملة السيف، وأبطال المعارك، ترجم علمه بعمله، وقوله بفعله، ولنأخذ أنموذجا وموقفا من مواقفه الجهادية التي خاض غمارها وشق غبارها، ومن خلالها يمكن أن نستشف ما كان يتمتع به هذا الرجل من روح جهادية، خلدت اسمه ورفعت شأنه.
عاش شيخ الإسلام عصرا محموما يعج بالفتن والقلاقل كانت الأمة الإسلامية فيه مليئة بالأحداث الجسام والمصائب المتلاحقة، تعيش تمزقا لم يسبق له مثيل، فما كادت الحملات الصليبية تنتهي، إلا وفجعت أمة الإسلام بالجيش التتري الغاشم يجتاح العالم الإسلامي، ويأتي على الرطب واليابس، وأصبحت ممالك المسلمين تتساقط في أيديهم الواحدة تلو الأخرى. وهم يعيثون فيها خرابا، وسلبا ونهبا، وأسرا وقتلا، حتى أتوا على حاضرة العالم الإسلامي «بغداد» وطوقوها عام ٦٥٦ هـ وسقطت في أيديهم بعد أن قتلوا الخليفة العباسي «المستعصم» وما صاحب ذلك من سفك الدماء ودمار شامل لم يعرف التاريخ له نظيرا «١».
وبهذا أصبح شبح التتار يثير الرعب في نفوس المسلمين وترتعد له القلوب خوفا ورهبا.
وفي سنة ٦٩٩ هـ عزم «قازان» حاكم التتار على غزو الشام- وسبقت الإشارة إلى موقف شيخ الإسلام من هذا ومقابلته قازان، ورجوع الأخير عن عزمه- «٢».
وفي رجب سنة ٧٠٢ هـ شاعت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فأصاب الناس ذعر وهلع وخوف شديد، وبدءوا في الخروج إلى الديار المصرية، وهنا يبرز أثر الشيخ فيقف ويهدّئ الناس ويطمئنهم ويعدهم النصر، ويحثهم على الجهاد، ويأمرهم بالصبر والمصابرة، ويكثر من الابتهال إلى الله والتضرع إليه.
وفي هذه الأثناء سار إلى السلطان وحثه على قتال التتار فأجابه إلى ذلك، وكان يحلف للأمراء والناس أنهم لمنصورون، فيقول له الأمراء: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وكان يتلو بعض الآيات في ذلك.
وقد حصل عند الناس شبهة، وتردد في قتالهم، على أي شيء يقاتلون!
_________
(١) انظر تفصيل ذلك في: البداية والنهاية (١٣/ ٢٠٠ - ٢٠٤)، سير أعلام النبلاء (٢٣/ ١٨١ - ١٨٣)، دول الإسلام للذهبي ص ٣٦٠ - ٣٦٢.
(٢) انظر: «شجاعة شيخ الإسلام وقوته».
1 / 14
فإن الظاهر منهم هو الإسلام. فسارع شيخ الإسلام وأزال هذه الشبهة وأوضح للناس أنهم من قبيل الخوارج الذين قاتلهم الصحابة- ﵃ وقال لهم بكل قوة وعزيمة: «إذا رأيتموني من ذلك الجانب- أي في جانب التتار- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني». اه وبهذا زال ما وجد لدى بعض الناس وقويت عزائمهم.
وطلب منه السلطان أن يقف معه في المعركة، فقال له الشيخ: «السنّة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن مع جيش الشام لا نقف إلا معهم».
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وليكون هذا أقبل للنفوس أوضح هذا عمليّا، فكان يدور على الأمراء والجند، ويأكل من شيء معه في يده.
ويقول: «إن الفطر أقوى لكم» ويتأول فعل النبي ﷺ في غزوة الفتح حيث أصبح مفطرا.
وابتدأت المعركة، وكانت الدائرة في النهاية للمسلمين، وأعز الله جنده.
وكان لشيخ الإسلام فيها أعظم المواقف، وهي ما عرفت في التاريخ باسم «معركة شقحب» «١».
يقول ابن عبد الهادي في ذكر بعض مواقف الشيخ البطولية في هذه المعركة:
«ولقد أخبرني أمير من أمراء الشاميين ذو دين متين، وصدق لهجة معروف في الدولة قال: قال لي الشيخ- يعني شيخ الإسلام- يوم اللقاء، وقد تراءى الجمعان:
يا فلان أوقفني موقف الموت. قال: فسقته إلى مقابلة العدو، وهم منحدرون كالسيل، تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم.
ثم قلت له: يا سيدي، هذا موقف الموت، وهذا العدو، وقد أقبل تحت هذه الغبر، فدونك وما تريد ... إلى أن قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته، حتى فتح الله ونصر ... قال: وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما، تحريضا على القتال، وتخويفا للناس من الفرار. اه «٢».
وبهذا تبوأ ابن تيمية منزلة جهادية لا يستهان بها، وكان له الأثر الواضح في ميدان المعارك تنبئ عن هذا الإمام بأنه ليس إمام قلم فقط بل إمام قلم وسيف، وإنه رجل المواقف.
_________
(١) انظر تفصيل هذه المعركة في: البداية والنهاية (١٤/ ٢٣ - ٢٧)، دول الإسلام ص ٣٩٩ - ٤٠٠، العقود الدرية ص ١٧٥ - ١٧٧، ذيل مرآة الزمان لليونيني (١/ ٨٥).
(٢) العقود الدرية ص ١٧٧ - ١٧٨.
1 / 15
خامسا محنته ووفاته- ﵀-
إن هذه الشهرة الكبيرة والمنزلة العالية التي حظي بها الشيخ، وذياع صيته في كل مكان بين الخاصة والعامة أثارت الضغائن، وحركت أصحاب النفوس الضعيفة لإيذائه، وتأليب الحكام عليه، وإلصاق التهم به، حسدا من عند أنفسهم، وهذه سنة جارية، أن من لمع نجمه وبرز اسمه كثر حاسدوه والناقمون عليه.
لقد سجن الشيخ أكثر من مرة، وأوذي وامتحن ولكن هذا لا يزيده إلا قوة في الحق وصلابة في الدين.
وفي سنة ست وعشرين وسبعمائة ظفر خصوم الشيخ بفتوى أفتى بها قبل سنوات «١» في مسألة شد الرحال إلى القبور «٢»، وقد نقل أعداء الشيخ هذه الفتوى محرفة بعد أن زادوا فيها ونقصوا «٣» وزعم أولئك أن الشيخ ينتقص جناب الأنبياء والأولياء، ونشروها بين العامة ليوغروا صدورهم عليه، لم يكتفوا بذلك، بل أرسلوا إلى السلطان آنذاك- الناصر- بذلك وحرضوا عليه.
وفي عصر يوم الاثنين السادس من شهر شعبان في نفس السنة اعتقل الشيخ- ﵀ بعد أن ورد مرسوم سلطاني بذلك بقلعة دمشق، وأقام معه أخوه زين الدين ليخدمه.
لقد تقبل الشيخ هذا الخبر بسعادة ورحابة صدر، وقال بكل عزة وأنفة، وإيمان ويقين: «أنا كنت منتظرا ذلك وهذا فيه خير عظيم» «٤» وقال: «لو بذلت
_________
(١) ذكر ذلك الشيخ نفسه في كتابه «الرد على الأخنائي» ص ٨، وانظر: العقود الدرية ص ٣٢٨، ٣٣١، وقد حددها ابن عبد الهادي أنها قبل سبع عشرة سنة.
(٢) وقد أورد ابن عبد الهادي نص الفتوى التي نقموا بها عليه، انظر: العقود الدرية ص ٣٣٠ - ٣٤٠، الفتاوى (٢٧/ ١٨٢ - ١٩٢، ٢١٤ - ٢٢٥).
وانظر: الكلام حول هذه المسألة- شد الرحال إلى القبور- في: كتاب الرد على الأخنائي، والجواب الباهر في زوار المقابر. كلاهما لشيخ الإسلام، وانظر: الفتاوى (٢٧/ ١٩٤ وما بعدها)، الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، جلاء العينين للآلوسي ص ٥٠٥ - ٥١٨.
(٣) يقول شيخ الإسلام في «الرد على الأخنائي» ص ٩ موضحا التحريف الذي حصل في جوابه: «ونقل هذا المعارض عن الجواب ما ليس فيه، بل المعروف المتواتر عن المجيب في جميع كتبه وكلامه بخلافه، وليس في الجواب ما يدل عليه بل على نقيض ما قاله، وهذا إما أن يكون عن تعمد للكذب أو عن سوء فهم مقرون بسوء الظن وما تهوى الأنفس، وهذا أشبه الأمرين به ...».
(٤) العقود الدرية ص ٣٢٩.
1 / 16
ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير». اه «١».
ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ [الحديد: ١٣] «٢».
لم يكن الشيخ أول من دخل السجن بل سبقه إلى هذا الطريق العلماء والأئمة، وقبلهم الأنبياء والرسل.
وهو لمثل هؤلاء كالنار للذهب، لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ولهذا قال الشيخ كلمته المشهورة: «ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة» اه «٣».
وقد كان هذا الامتحان والإيذاء للشيخ من أسباب انتشار دعوته وعلمه، وقال في إحدى رسائله: «ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه فيحق الحق لكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ...» «٤».
وضيق على الشيخ في سجنه شيئا فشيئا، ومنع دخول التلاميذ عليه، ثم صدر مرسوم بإخراج جميع أدوات الكتابة من عنده منعا له من التأليف، وبعد هذا تفرغ تفرغا تاما للعبادة والخلوة بربه، وكان يكثر من قراءة القرآن والتضرع إلى الله.
وقبل وفاته ببضعة وعشرين يوما ألمّ به بعض المرض فبقي على هذه الحالة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في ليلة الاثنين لعشر بقين من ذي القعدة لسنة ثمان وعشرين وسبع ومائة- رحمة الله رحمة واسعة-.
وقد فوجئ الناس بهذا الخبر، وانزعجوا لذلك انزعاجا كبيرا، وحضروا زرافات وفردانا للقلعة حيث كان موجودا، وهالهم الخطب، وأغلقت المتاجر، وذكر أخوه زين الدين- الذي كان يصحبه حيث كان يصحبه في سجنه- أنه كان يقرأ هو وأخوه القرآن في داخل السجن. وأن آخر ما انتهى إليه الشيخ قبيل وفاته قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥) «٥» «٦».
_________
(١) نقله عنه ابن القيم في الوابل الصيب ص ٤٤.
(٢) المصدر السابق ص ٤٤، وانظر: الذيل على طبقات الحنابلة (٤/ ٤٠٢).
(٣) الوابل الصيب ص ٤٤، الذيل على طبقات الحنابلة، (٤/ ٤٠٢).
(٤) الفتاوى (٢٨/ ٥٧)، العقود الدرية ص ٣٦٤.
(٥) سورة القمر الآيتان: ٥٤، ٥٥.
(٦) البداية والنهاية (١٤/ ١٣٨)، الذيل على طبقات الحنابلة (٤/ ٤٠٦).
1 / 17
وغسل شيخ الإسلام وكفّن وصلّى عليه في الجامع الأموي وقد حضره جم غفير من الناس، حتى وقفوا مرصوصين رصّا في داخل الجامع لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة لكثرتهم، وذكر ابن كثير أنه لم يتخلف عن حضورها أحد من أهل العلم إلا ثلاثة نفر وهم ابن جملة، والصدر، والقفجاقي، وذكر أن هؤلاء اشتهروا بعداوة الشيخ، فاختفوا خوفا على أنفسهم من الناس «١» وقد صلي عليه الظهر، ولم يدفن إلا قرب العصر لكثرة الزحام، ودفن في مقبرة الصوفية إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله.
ورحم الله الإمام أحمد حيث قال: «قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز» «٢». قال البرزالي بعد إيراد هذا الأثر: «ولا شك أن جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وأن الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدين ابن تيمية توفي ببلده دمشق وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوا في جنازته، وانتهوا إليها. هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان ... - ثم ذكر تشويه بعض المنتسبين إلى الفقه لشخصيته بين الناس» «٣».
وقد رئيت له منامات طيبة، ورثي بمراثي كثيرة من علماء عصره، وممن بعدهم «٤».
سادسا مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
تبوأ الشيخ مكانة علمية واسعة فقد فاق أقرانه إذ هو الإمام حقا، وشيخ الإسلام صدقا، وهو البحر من أي جهة أتيته، ولا تكدره الدلاء.
إمام وأي إمام. لقد طبّق اسمه الدنيا وبلغت مؤلفاته ما بلغ الليل والنهار،
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١٤/ ١٣٩).
(٢) ذكره الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (١٠/ ٣٤٢) من رواية الدارقطني وفي (١٤/ ١٣٧)، من رواية أبي عثمان الصابوني عنه.
وذكره الذهبي في «السير» (١١/ ٣٤٠) من رواية السلمي عنه.
(٣) البداية والنهاية (١٤/ ١٣٧ - ١٣٨)، وانظر: تقريظ الحافظ ابن حجر على الرد الوافر ص ١٢، ١٣، تحقيق محمد الشيباني.
(٤) انظر في مراثيه: العقود الدرية ص ٣٩٢ - ٥١٦، الكواكب الدرية ص ١٨١ - ٢٣٢.
1 / 18
وأصبح علم المذهب السلفي، فكل من التزم المذهب الحق في باب العقائد قيل:
هو على مذهب ابن تيمية، فهو إذا مدرسة الأجيال تخرج منها فطاحل العلماء، والأئمة العظماء.
فإذا كان عصره يعج بالتيارات الفكرية المتباينة، ممثلا في مذاهب عقدية منحرفة من جهمية، ومعتزلة، وأشاعرة ... إلخ، إضافة إلى صوفية خيمت على العالم الإسلامي بسلوكياتها وأصولها الفاسدة، أضف إلى أن بضاعة الفلاسفة والمناطقة رائجة، وسلعتهم نافقة، هذا مع ما كان المسلمون يتلقونه من حرب فكرية عاتية من الصليبية الحاقدة لا تقل خطرا عن حروبهم العسكرية الشرسة.
وقد تصدى الشيخ لكل هؤلاء، وانبرى للرد عليهم، وتفنيد أقوالهم، وكان يعمل على جميع الجبهات، فلم يشغل مناقشة هؤلاء عن الرد على أولئك.
وكان إذا تكلم في فنّ حسبه السامع لا يحسن غيره، وظنه قد تخصص في هذا الجانب بل إن أصحاب المذاهب الأخرى يستفيدون منه علوما في مذاهبهم كانوا يجهلونها وتخفى عليهم «١». حتى ذكر أنه ما تكلم في علم من العلوم سواء أكان علوم الشرع أم من غيرها إلا فاق فيه أهله، والمنسوبين إليه، وما ناظر أحدا فانقطع معه «٢».
وإن القارئ ليقف منبهرا أمام هذه العلمية الفذّة. وخير من يجلّي الحقيقة ويوفّي الموضوع حقه أو بعضه، هم العلماء الفحول، صيارفة الرجال، والأئمة النقاد، الذين وصفهم هو الوصف، ومدحهم هو المدح، وثناؤهم هو الثناء.
يقول الإمام الذهبي في معرض وصفه لشيخ الإسلام: «.... وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسّر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه، ومذاهب الصحابة والتابعين، فضلا عن المذاهب الأربعة، فليس له فيه نظير. وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرا ... وقال أيضا: كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف. بحرا في
_________
(١) انظر العقود الدرية ص ٧.
(٢) المصدر السابق ص ٧.
1 / 19
النقليات، هو في زمانه فريد عصره علما وزهدا ... إلى أن قال: وقرأ وحصل، وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة.
وتقدم في علم التفسير والأصول، وجميع علوم الإسلام: أصولها وفروعها ودقها وجلها، سوى علم القراءات. فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عدّ الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا. وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلّهم وتيّسهم، وهتك أستارهم وكشف عوارهم. وله يد طولى في معرفته العربية والصرف واللغة. وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي ... وقال: وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتاب والسنة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: «كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث» ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي ...، وقال:
فلو حلّفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم». اه «١».
وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وقد سئل عن شيخ الإسلام بعد اجتماعه به، كيف رأيته؟ فقال: «رأيت رجلا سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها، ويترك ما شاء ...» «٢».
وقال ابن عبد الهادي: «وأخبرني غير واحد أنه كتب مجلدا لطيفا في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأكثر، وأحصيت ما كتبه وبيّضه في يوم فكان ثمانية كراريس في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب على سؤال الواحد مجلدا» اه «٣».
هذه لمحات يسيرة من ثناء الأئمة على الشيخ، من خلالها يمكن للقارئ معرفة ما ميّز الله هذا الرجل من وفرة العلم وسعة الاطلاع. وما ذكرته ما هو إلا قطرة من بحر، وذرة من رمل وشيء يسير جدّا ومن أراد التوسع فليراجع بعض الكتب التي أفردت لهذا الشأن «٤». وبنظرة سريعة على فهارس «مجموع الفتاوى»
_________
(١) المصدر السابق ص ٢٢ - ٢٥، الذيل على طبقات الحنابلة (٤/ ٣٩٠ - ٣٩١)، الرد الوافر ص ٦٨ - ٧٢، الشهادة الزكية ص ٤٠ - ٤٣، شذرات الذهب (٦/ ٨٢).
(٢) الرد الوافر ص ١٠٧، الشهادة الزكية ص ٢٩، شذرات الذهب ص ٨٣.
(٣) العقود الدرية ص ٦٤.
(٤) ومن هذه الكتب: كتاب «العقود الدرية» لابن عبد الهادي، و«الأعلام العلية» للبزار، و«الرد الوافر» لابن ناصر الدين، و«الشهادة الزكية» لمرعي بن يوسف، وغيرها كثير.
1 / 20
يمكن للشخص أن يأخذ من خلالها حكما أوليّا على المكانة العلمية الواسعة والشاملة لهذا الرجل.
ويكفيه فخرا واعتزازا أن له الفضل- بعد الله- في تجديد ما اندرس من المنهج السلفي القائم على الكتاب والسنة، ودعوة الناس من جديد للعودة إلى هذا المعين الصافي والأخذ منه مباشرة، وقد كان لذلك الأثر الكبير على الأمة الإسلامية إلى يومنا هذا.
يقول عبد الله بن حامد في معرض كلامه على مدى تأثره بشيخ الإسلام، وأنه كان سببا في هدايته للحق والصواب، بعد أن فتش في كتب أهل الكلام، متقدميهم، ومتأخريهم باحثا عن النهج السويّ، والطريق المستقيم، يقول- ﵀: «وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا ﵀، قد طالعت مصنفات المتقدمين، ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الإسلام، فرأيت فيها الزخارف والأباطيل والشكوك التي يأنف المسلم الضعيف في الدين أن تخطر بباله، فضلا عن القوي في الدين، فكان يتعب قلبي ويحزنني ما يصير إليه الأعاظم، من المقالات السخيفة، والآراء الضعيفة التي لا يعتقد جوازها آحاد الأمة، وكنت أفتش على السنّة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد على الخصوص، لاشتهارهم بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون ... إلى أن قال: فإذا جمعت بين أقاويل المعتزلة، والأشعرية، وحنابلة بغداد وكرامية خراسان، أرى إجماع هؤلاء المتكلمين في المسألة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسوءني ذلك وأظل أحزن حزنا لا يعلم كنهه إلا الله ... إلى أن قال: إلى أن قدّر الله سبحانه وقوع تصنيف الإمام إمام الدنيا في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت فيه ما يبهرني في موافقة فطرتي، لما فيه من عزو الحق إلى أئمة السنّة وسلف الأمة مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهتّ لذلك سرورا بالحق، وفرحا بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض ...» «١».
وقال شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي- أحد تلامذة الشيخ- في رسالة إلى تلاميذ الشيخ يحثهم فيها على جمع مؤلفاته، يقول في معرض ذلك: «فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله مؤلفات شيخنا ذخيرة
_________
(١) رسالة قصيرة في فضل شيخ الإسلام ابن تيمية، ومحبة أهل العلم له، لعبد الله بن حامد الشافعي ص ١٢ - ١٤، تحقيق محمد الشيباني، وانظر: العقود الدرية ص ٥٠٣ - ٥٠٤، الأعلام العلية ص ٣٣، الرد الوافر ص ١٩٦.
1 / 21
صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل، وينصر الطريقة السلفية على قواعده ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى ...» اه «١».
وصدق- والله- فإنه قلما يكتب أحد في أي مسألة من المسائل، وخاصة في ما يتعلق بالأصول، إلا وينقل عن شيخ الإسلام، ويستفيد مما كتب وألف.
ومن طريف ما يذكر عن سرعة بديهة الشيخ وقوة علميته أنه مرة كان جالسا في حلقته إذ جاءه سؤال على لسان ذمي ينكر صاحبه القدر، وكان السؤال عبارة عن أبيات من الشعر، ومطلعها:
يا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأعظم حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي فلما قرأ الشيخ الأبيات فكر قليلا، ثم أنشأ يكتب في الحال جوابا لهذا الاعتراض، وكان الطلاب يظنون أنه يكتب نثرا، ولما فرغ وقرأه من حضر من أصحابه وإذا هو نظم من الشعر، من نفس البحر والقافية الذي ورد به السؤال، يزيد على مائة بيت، وقد ذكر أنه أبرز فيها من العلوم ما لو شرح لجاء شرحه في مجلدين كبيرين، يقول في مطلعها:
سؤالك يا هذا سؤال معاند تخاصم رب العرش باري البرية وهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية ومن يك خصما للمهيمن يرجعن على أم رأس هاويا في الحفيرة إلى آخر الأبيات «٢».
سابعا مؤلفاته وآثاره
كما سبق أن عرفنا فقد كان الشيخ أشبه ما يكون بموسوعة، له في كل فنّ نصيب، كان قلمه سيالا، تميز بسرعة الكتابة- ولولا ذلك والله أعلم- لما خلّف هذا التراث الضخم.
_________
(١) قطعة من مكتوب الشيخ الإمام الزاهد شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي ص ١٦، تقديم وتحقيق محمد الشيباني.
(٢) انظر: الأعلام العلية ص ٢٨، العقود الدرية ص ٣٨٣ - ٣٩٣، الكواكب ص ٧٩ - ٨٠، الدرر الكامنة (١/ ١٩٦).
1 / 22
يقول أخوه أبو عبد الله: «وقد منّ الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل» اه «١».
وقد ذكر ابن عبد الهادي أنه يكتب مجلدا لطيفا في يوم، بل إنه كتب «الحموية» في جلسة بين الظهر والعصر «٢». وكتب «الواسطية» في قعدة بعد العصر «٣».
وغالب ما كتب في «باب العقائد» إما ردّ على مبتدع، أو جواب لسؤال ورد عليه، كما ذكر ذلك هو عن نفسه، في مناظرة الواسطية قال:
«وأما الكتب، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك.
ولكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم» اه «٤».
وقد كان للفتن والمحن التي مرّ بها الشيخ أثر في ضياع بعض مصنفاته وكتبه فكثيرا ما يقول: «قد كتبت في كذا وكذا ويسأل عن الشيء، فيقول: كتبت في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه، ويقول: ردّوا خطي وأظهروه لينقل. فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه فيذهب ولا يعرف اسمه» «٥».
وأيضا من أسباب ضياع بعض كتبه: أنه يكتب في بعض الأحيان الجواب لمن سأله، فإن وجد من ينقل الجواب ويبيضه، وإلا أخذ السائل الجواب وذهب «٦».
وذكر ابن عبد الهادي أن الشيخ لما حبس تفرّق أتباعه، وتفرقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، وذهب كل أحد بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه. فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه، أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه أو تجحد، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تحصيلها فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف «٧».
_________
(١) العقود الدرية ص ٦٤.
(٢) انظر: المصدر السابق، ص ٦٤، ٦٧.
(٣) انظر: الفتاوى (٣/ ١٦٤)، العقود الدرية ص ٣١١.
(٤) انظر: الفتاوى (٣/ ١٦١)، العقود الدرية ص ٢٠٧.
(٥) المصدر السابق ص ٦٥، وانظر: البداية والنهاية (١٤/ ١٣٤).
(٦) انظر: العقود الدرية ص ٦٥.
(٧) المصدر السابق ٦٥ - ٦٦.
1 / 23
ولهذه الأسباب وغيرها تعذر إحصاء مصنفاته، وتباينت أقوال العلماء في تعدادها.
يقول الحافظ البزار: وأما مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالبا أحد، لأنها كثيرة جدّا، كبارا وصغارا، وهي منشورة في البلدان. فقلّ بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه.
ثم ذكر أنه يمكن تعداد ما ينيف على المائتين من مؤلفاته «١».
أما تلميذه ابن القيم فقد ذكر نحوا من سبعة وثلاثين وثلاثمائة مصنف للشيخ، إجابة لمن سئل عن تعداد ما ألّفه شيخ الإسلام، وذكر أن هذا هو الذي يحضره وأنه لم يستوعبها «٢».
وقد قيل: إن تعداد مؤلفاته تصل إلى الألف، وقيل خمسمائة وقيل ثلاثمائة، وقيل غير ذلك، وكل يذكر ما وصل إليه «٣».
وإنه لمن الصعب ذكر جميع مؤلفاته عبر هذه الترجمة الموجزة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، وسأذكر هنا أنموذجا لبعض مؤلفاته الكبار، وخاصة في ما يتعلق بالعقيدة والذي سبق أن طبع، فمنها:
١ - درء تعارض العقل والنقل:
والكتاب طبع بتحقيق د. محمد رشاد سالم، في عشرة أجزاء والحادي عشر فهارس. ط الأولى ١٣٩٩ هـ- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
٢ - منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية:
وأيضا طبع أخيرا بتحقيق د. محمد رشاد سالم، في ثمانية أجزاء التاسع منها فهارس. ط الأولى ١٤٠٦ هـ- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
٣ - نقض التأسيس:
طبع منه جزءان، بعناية: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، والكتاب حقق
_________
(١) الأعلام العلية ص ٢٥، ٢٧.
(٢) انظر: كتاب «أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية» لابن القيم، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد.
(٣) انظر: تذكرة الحفاظ (٤/ ١٤٩٧)، ذيول العبر (٤/ ٨٤)، الرد الوافر ص ٧٢، المنهل الصافي (١/ ٣٦٢)، طبقات الحفاظ للسيوطي ص ٥٢١، شذرات الذهب (٦/ ٨٤)، جلاء العينين ص ٧، القول الجلي ص ١٠٠.
1 / 24