قال الفقيه الأجل : الغرض في هذا القول شرح « انو لو طيقي الثانية » ، وهو المعروف بكتاب « البرهان » ، إذ لم يقع إلينا لأحد من المفسرين فيه شرح على اللفظ . ولنستفتح ذلك ، على عادتهم ، بذكر طرف من غرض الكتاب ، وأجزائه ، ومرتبته ، ومنفعته - فنقول : أما غرض الكتاب فهو النظر في البراهين والحدود . أما البراهين فإنه ينظر منها في الأشياء التي تتنزل منها منزلة المواد ، وهي بالجملة : المقدمات اليقينية . وذلك أنه لما كان البرهان يلتئم من شيئين : أحدهما المقدمات ، وهو الذي ينزل فيه منزلة المواد والثاني : تأليفه وهو الذي يتنزل منه منزلة الصورة - وكان قد تكلم في الشيء الذي يتنزل منه منزلة الصورة في كتاب «القياس» - شرع هاهنا فتكلم في الشيء الذي بقى عل من معرفة القياس البرهاني ، وهو أمر المواد التي يأتلف منها . ولذلك سمى الكتاب باسم واحد . وقد قيل في شرح كتاب القياس ما معنى « أنولو طيقى » ، وأنه : التحليل بالعكس . وقيل هناك ما هو التحليل بالعكس ، أي التحليل الذي هو عكس التركيب . وهو ينظر من هذه المقدمات في تقدير أصنافها والأوصاف التي إذا اعتبرت فيها أمكن أن تفضي الإنسان الى اليقين . وليس ينظر فيها من حيث هي أحد الموجودات ، وإنما ينظر من جهة ما هي مفضية بالإنسان إلى اليقين التام والتصور التام . والفصول الأخيرة التي تنقسم إليها أنواع البراهين من قبل المواد هي الفصول الموجودة في البراهين من جهة ما هي معرفة لغيرها ، ونافعة في وقوع التصديق بها ، لا الفصول الموجودة لها من جهة أنها أحد الموجودات ، كما نجد أبا نصر صنع ذلك في كتابه . ولذلك التبس على أهل زماننا النظر في البرهان ، وظن أن ما أتى به أبو نصر هو شيء قد نقص أرسطاطاليس . وقد بينا نحن هذا المعنى في مقالة مفردة . نعم ! وهو إذا نظر في المقدمات وأحصى شروطها ، فإنما ينظر فيها من حيث هي حدود < وبقول عام > من حيث هي مفضية الى التصور التام . فهذا هو الجزء الأول من أجزاء هذا الكتاب ، وهو المكتوب في المقالة الأولى . وأما الحدود فينظر منها هاهنا في أصنافها وفي الأمور التي منها تتقوم الحدود وذلك أنه ليس يوجد في الحدود [ ٢ أ] شيء يتنزل منزلة الصورة والأمر العام ، وشىء يتنزل منزلة المادة والأمر الخاص ، وأن النظر فيها ينقسم إلى جزئين كالحال في البرهان : أعني مشتركا للصائع كلها وخاصا بهذه الصناعة . ومن ظن أنه يوجد في الحدود جزء عام مشترك شأنه أن يقدم على النظر في الحدود الخاصة بصناعة صناعة - فقد غلط ذلك غلطا كبيرا ، كما نجد أبا نصر يظن ذلك . ولذلك عد « ايساغوجي » من الجزء المشترك من المنطق . وهو أيضا ليس ينظر في الحدود من حيث هي أحد الموجودات ، بل إنما ينظر فيها من حيث هي معطية التصور التام بحسب طبيعة موجود موجود . ويشبه أن يكون ليس نظره في هذين الصنفين ، أعني البراهين والحدود ، في هذا الكتاب ينتهي به الى فصوله الخاصية الأخيرة بحسب صناعة صناعة ، لأن الذي يخص من ذلك صناعة صناعة جرت عادته أن يصادر بذكره في تلك الصناعة ، مثلما فعل في « السماع الطبيعي » والحادية عشرة من « الحيوان » . وإنما يذكر ها هنا الفصول العامة والقريبة من الأخيرة ، ويترك الأخيرة إلى تلك الصنائع . ولذلك لم يفرد أرسطو في هذا الكتاب جزءا على حدة يتضمن كيفية استعمال الصنائع هذه البراهين والحدود ، كما فعل أبو نصر . وأنما ذكر من ذلك ما عرض له أن يكون من الفصول الأول للبراهين والمقدمات . ولا أرى أيضا أن النظر في أصناف المخاطبات البرهانية مما يحتاج أن يفرد بقول ، لأنه ليس للبراهين والحدود فصول من هذه الجهة إلا أن تكون نزرة ومما ليست تستحق أن يفرد لها قول ، وإنما شأنها أن تذكر في أثناء تلك الأجزاء الأول . ولذلك لم يقسم النظر في كتابه إلى أربعة أجزاء ، كما فعل أبو نصر . فهذا هو غرض الكتاب ، وهذه هي موضوعاته التي ينظر فيها . وأما أجزاؤه الأول فهي جزآن ، كما قلنا : الأول : الناظر في البرهان ، وهو الذي تحتوي عليه المقالة الأولى من هذا الكتاب . والجزء الثاني : الناظر في الحدود ، وهو الذي تحتوي عليه المقالة الثانية . وأما المقالة الأولى فإنها تنقسم الى أجزاء صغار ، وكذلك الثانية . ونحن فرأينا أن الارشاد إلى جزء جزء منها عند الشروع في شرحها وانفصاله مما قبله - مغن عن تعديدها هاهنا وأقرب إلى الاختصار وترك التطويل ، من قبل أنها ليست تدخل على ترتيب تحت أجناس عامة ، بل يتكلم في الجنس منها في أكثر من موضع واحد بضرورة التعليم . ومن شاء أن ينتزعها من تلك المواضع ويعددها في أول كل مقالة فليفعل . وأما منفعته فهي المنفعة الأولى من منافع علم المنطق ، وهو الوقوف على الحق [٢ ب ] < في كل الأمور > ، وقد قيل في هذه المنفعة في غير ما وضع . وأما مرتبته فهو بعد < كتاب > القياس ولا بد ، لأسباب ثلاثة : أحدها أن العام أعرف من الخاص ، والواجب في ترتيب التعليم أن يقدم الأعرف ، كما الواجب في استنباط المطلوب ، أعني أن نصير في استخراجه من الأعرف إلى الأخفى . وإنما كان الكلي عندنا أعرف من الجزئي ، أعني من الأقل كلية ، لأن الكلي يشبه الجملة المركبة ، والجزئي يشبه الأجزاء . وكما أن الجملة المركبة أعرف عندنا من أجزائها ، كذلك الأعم عندنا أعرف من الأخص ، لأنه يحتوي على أشياء خاصية كثيرة ، أو جزئية ، أو كيف شئت أن تسميها . وقد بين هذا أرسطو غاية البيان في أول « السماع » . أما السبب الثاني : فهو أن النظر الذاتي إنما يكون بأن ينظر في الأمر الكلي من حيث هو موجود في موضوعه الكلي ، لا في موضوعاته الجزئية . مثال ذلك أنه إن رام أن يبين أن الزوايا المساوية لقائمتين موجودة للمثلث المختلف الأضلاع ، كان نظره غير ذاتي ، أعني أن مقدماته التي بها يتبين ذلك تكون غير أول ولا محمولة من طريق ما هو - على ما سيظهر من هذا الكتاب فيما بعد . فمن رام أن يبين أن القول المؤلف من مقدمتين يقينيتين هو قول قياسي - هو كمن رام أن يبين أن المثلث المختلف الأضلاع أو المتساوي الساقين مساوية زواياه لقائمتين . وذلك أنه كما أن مساواة الزوايا لقائمتين ليست موجودة للمثلث المختلف الأضلاع من طريق ما هو مختلف الأضلاع ، بل من طريق أنه مثلث ، كذلك وجود التأليف القياسي للمقدمتين اليقينيتين ، أعني المنتج ليس هو لها من طريق أنهما يقينيتان ، بل من طريق انهما مقدمتان فقط . فهذا هو السبب الثاني . وأما السبب الثالث : فالا يلحق في التعليم التكرار . وذلك أن المستعمل لهذا النحو من التعليم يلحقه أن يبين هذا المعنى بعينه للمقدمتين اليقينيتين على حدة ، ولغير ذلك من أصناف المقدمات ، أن وجدت مقدمات أخر ، يستعمل القياس الصحيح الشكل غير هذين الصنفين من المقدمات . وأما تقديمه على سائر الكتب الخاصية ، أو تأخيره ، فليس هنالك شيء يوجبه من طريق التعليم ، لكن لمكان الأفضل ، أعني أن الأفضل تقديمه إذ كان هو المقصود أولا من الجزء المشترك ، وغيره مقصودا ثانيا . ولذلك ما استفتح أرسطو كتاب «القياس » ، بأن أعلم أن قصده منه هو هذا الكتاب في قوله : « فأما ما عنه الفحص فالبرهان » . فجعل الفحص عن القياس من أجل الفحص عن البرهان. [ ٣ أ] وقد ظن قوم أنه كما أن الأفضل في الفحص عن الشيء المجهول أن يتقدم أولا فيفحص عن طريق الجدل ، ثم يرفق ذلك بالفحص البرهاني ، كذلك الأفضل في التعلم أن يبدأ بكتاب الجدل بعد الجزء المشترك ، ثم يرفق بكتاب البرهان . والذي ظنوه توهم ، فإنه ليس كما أن من الأفضل أن يتقدم تعريف قوانين المقدمات المشهورة قبل تعريف قوانين المقدمات اليقينية ، فإن صفات المقدمات اليقينية التي يسبر بها هي غير صفات المقدمات المشهورة التي يسبر بها ، فإن سبار المشهور الشهادات وأنواعها بحسب أنواع الشهادات ، وسبار اليقينية أحوال أخر ، مثل أن تكون ذاتية وغير ذلك مما قيل . ولذلك أيضا ليس في تعريف سبارات المقدمات المشهورة ضرب من العموم لسبارات المقدمات اليقينية ، حتى تكون إذا عددت سبارات المقدمات المشهورة فقد عددت بالقوة سبارات المقدمات اليقينية ، فإن سيارات تلك غير سبارات هذه . وقد غلط ابن سينا في هذا غلطا بينا ، فإنه زعم أن لتقديم الجدل على صناعة البرهان وجها ، من جهة أن المقدمات المعقولة الأول يعرض لها أن تكون مشهورة ، وليس ينعكس هذا ، فواجب أن تقدم لموضع العموم الموجود فيها . وهذا إنما كان يصح لو كان القصد من كتاب « البرهان » تعديد المقدمات المعقولة واحصاؤها وليس القصد هذا ، وإنما القصد إعطاء العلامات والسبارات المعرفة لها . وكذلك ليس القصد من كتاب « الجدل » إحصاء المقدمات المشهورة ، وإنما القصد إعطاء العلامات التي يميز بها ، وهي غير علامات المقدمات المعقولة . فأي منفعة - ليت شعري ! - في علم سبارات المقدمات المعقولة أن يتقدم المرء فيعلم سبارات المقدمات الجدلية ؟ ! هذا لو سلمنا أن كل معقول مشهور ، ونحن نجد مقدمات كثيرة معقولة غير مشهورة ، وهي التي تسمى التجريبية . ولكن هذا شأن هذا الرجل في قلة تثبتة وحكمه على الأشياء . وبالجملة ، فتقدم معرفة المقدمات الجدلية على المقدمات المعقولة غير تقدم سباراتها على سبارات < هذه الأخيرة . وقد يمكن > أن يقال أنه لا يعرف القوانين التي تفيد المقدمات المشهورة بالحقيقة إلا من عرف نقصانها عن القوانين اليقينية ، أعني التي تفيد المقدمات اليقينية . وليس يتأتى ذلك إلا لمن عرف اليقينية . فكأن تقدم معرفة القوانين التي تفيد اليقينية شيء واجب في معرفة جوهرها ، أعني التي تفيد غير اليقينية لأنها إنما تفيد ظنا ، والظن إنما يحد من جهة ما لحمه من عدم اليقين . وأما اليقين فليس يحتاج في حده الى أخذ حد الظن فيه ، كالحال في الملكة والعدم . فإن العدم ليس يمكن فيه أن يتصور إلا بالإضافة [٣ ب ] < الى الملكة . أما > الملكة فليس يحتاج في معرفة جوهرها أن تتصور بالإضافة إلى العدم . < فهي إنما > تؤخذ من حيث هي كاملة ، والعدم ناقص ، وبالجملة من حيث هي ملكة ، أعني من حيث هي مضافة . ولذلك لنا أن نقول أيضا إن معرفة نقصان السبارات المشهورة عن اليقينية فيما تفيده مما يكمل العلم باليقينية . لكن الفرق بين الكمالين أن هذا الكمال لليقينية ليس في جوهرها . وأما الكمال الذي يحصل في معرفة المشهورة من قبل معرفة اليقينية فيشبه أن يكون كمالا في جوهرها أو قريبا من جوهرها ، وأنت تتبين ذلك من حد العلم والظن ، فإنا نقول إن الظن هو علم ناقص . وليس يسوغ لنا أن نقول إن العلم ظن تام إلا على جهة الاستعارة واستعمال الأسماء الشعرية . وكيفما كان الأمر ، فبالواجب أن نبدأ بالمتشوق إليه بالطبع ، وهو الأشرف بالطبع ، وهو معرفة البرهان . فقد تبين من هذا القول غرض هذا الكتاب ، ومنفعته ، ومرتبته ، وأجزاؤه . وذلك ما قصدنا الاستفتاح به على عادة القوم . فأما اسمه ومن واضعه فمعلوم مما قاله في استفتاح كتاب « القياس » . وأما نسبته إلى سائر أجزاء هذه الصناعة فنسبة الرئيس إلى المرءوس والغاية إلى ما قبل الغاية . أما نسبة الجزء المشترك فنسبة ما قبل الغاية إلى الغاية ، وهي بجهة ما - نسبة المرءوس إلى الرئيس . وأما نسبته إلى سائر الصنائع الخمس فنسبة الرئيس إلى المرءوس على الحقيقة ، والمخدوم إلى الخادم . وذلك أن تلك إنما استنبطت لتخدم العلم البرهاني الحاصل عن هذا الجزء ، وذلك إما أن تقنع فيه بالاقناع الجدلي أو الخطبي ، أو تخيل فيه بالتخيل الشعري . وقد ينبغي أن نشير بعد هذا إلى شرح شيء مما يقوله في هذا الكتاب ، مستعينين بالله عز وجل ، وسائلين التوفيق والتسديد للحق منه .
पृष्ठ 163