قال أرسطاطاليس : « والأشياء التي منها تنبني طبيعة البرهان ثلاثة : أحدها : المحمول ، وهو الذي يتبين أنه موجود للموضوع بالذات . والثاني : العلوم المتعارفة ، وهذه هي المقدمات التي يتبين بها وجود المحمول للموضوع . [ 75 b ]* والثالث : الطبيعة الموضوعة التي يكون البرهان على التأثيرات والأعراض الموجودة لها بذاتها . » التفسير لما أخبر أنه غير ممكن أن تنقل البراهين ، أخذ يفصل الأشياء التي منها تتقوم الصنائع النظرية ، ليتبين أن اختلافها في الصنائع يوجب ألا ينقل البرهان - فقال : والأشياء التي منها تنبنى طبيعة البرهان » - يريد : أن التي تتقوم منها طبيعة البرهان ثلاثة أشياء : أحدها المحمول الذي يبين أنه موجود للموضوع بالذات ، وإنما قال « إنه موجود » ، ولم يقل : « الذي يبين أنه موجود للموضوع ، أو غير موجود » ، من قبل أن البراهين الموجبة هي البراهين بالحقيقة . وقوله : والثاني : العلوم المتعارفة ، وهذه هي المقدمات التي يتبين بها وجود المحمول للموضوع » - ينبغي أن يفهم منه أن المقدمات ليست شيئا أكثر من حمل الحد الأوسط على الأصغر الذي هو موضوع المطلوب ، والأكبر على الأوسط الذي هو محمول المطلوب ، وهو الذي يتبين وجوده للموضوع . وقوله : « والثالث : الطبيعة الموضوعة » - يعنى الجنس الذي تنظر فيه تلك الصناعة . وقوله : « التي البرهان يكون على التأثيرات والأعراض الموجودة لها بالذات » - يريد : الطبيعة التي من شأنها أن تقوم البراهين في الصناعة عليها ، وهي الجنس المنظور فيه . ويريد بالتأثيرات الأعراض الانفعالية ، وبالأعراض : ما يعم سائر الأعراض . وإنما خص الأعراض من بين سائر الأشياء التي تطلب في الجنس ، لأن الأعراض هي التي يطلب وجودها غالبا في الصناعة [ ٤٤ أ] وهي التي تتأتى فيها براهين الوجود والأسباب . قال أرسطاطاليس : « فأما المقدمات التي منها يكون البرهان ، فقد تكون عامة مشتركة ، سوى أن الأشياء التي موضوعاتها مختلفة في الطبيعة بمنزلة العدد والهندسة ، فغير ممكن أن ينتقل البرهان الذي تبين به أمر لازم لأحدهما فيبين به أمر لازم للآخر . والسبب في ذلك أن ذات العدد مباينة لذات العظم ، وكون المقدمات عامية مشتركة في بعض الأمور - فنحن نشرع في الكلام فيه بأخرة . » التفسير لما أخبر أن الأشياء التي تتقوم الصنائع منها ثلاثة أشياء ، وكان النقل إنما يكون باشتراك الصنائع في واحدة من هذه أو أكثر من واحدة ، وكان بينا بنفسه أنه لا تشترك في الطبيعة الموضوعة ، وإن اشتركت فيها فهي مختلفة بالجهة - يريد أن ينظر : هل يمكن أن تشترك في المقدمات فقال : « فأما المقدمات التي يكون منها البرهان فقد تكون عامة مشتركة » - يريد : أما المقدمات التي تستعمل في الصنائع ، فقد يظن أن منها ما يشترك فيه أكثر من صناعة واحدة . ولما ذكر هذا ، أتي بالأمر الذي يوجب خلاف هذا الاعتقاد ، أو بالصنائع التي تقطع أن هذا المعنى غير موجود فيها فقال : « سوى أن الأشياء التي موضوعاتها مختلفة في الطبيعة ، بمنزلة العدد والهندسة . . . » إلى قوله : « أمر لازم للآخر » - يريد : لكن من البين بنفسه أنه ليس يمكن في الصنائع التي موضوعاتها متباينة بالطبع ، مثل العدد والهندسة ، أن ينقل البرهان فيها من واحدة إلى أخرى . وذلك بأن يكون الحد الأوسط الذي يتبين به لازم أعراضها هو بعينه الذي يتبين به لازم آخر في الصناعة الأخرى . وذلك أنه من البين أنه إذا كان المطلوبان اثنين أنه ليس يمكن أن يبين كل واحد منهما في الصناعة التي تخصه بحد واحد مشرك للصناعتين . وذلك أن الصناعتين المتباينتين في الطبيعة هي ضرورة متباينة في الأسباب الذاتية ، والحد الأوسط إنما هو سبب من أسباب الطبيعة الموضوعة . وهذا هو الذي دل عليه بقوله : « فغير ممكن أن ينقل البرهان الذي بين به أمر لازم لأحدهما » - يريد : لإحدى الصناعتين لازم للصناعة الأخرى . وهذا التفسير هو على أن يفهم من قوله : أمر لازم لأحدهما ، فبين به أمر لازم للآخر ، على أن اللازم الأول هو غير الثاني ، أعني أن يكون المطلوبان مختلفين . وعلى هذا فليس يكون هذا القول مقابلا لمن قال إن في المقدمات الأول ما هي عامة . وإنما يكون معنى قوله هذا تقرير المواضع من الصنائع التي لا يتفق فيها هذا ، أعني أن تستعمل فيها مقدمات عامة ، من قيل أن المطلوبات إذا فرضت [٤٤ ب ] متغايرة في الصنائع لم يمكن أن يتصور اشتراك في البرهان فيمكن أن تنقل . وأما إن فهمنا أنه لازم واحد بعينه ، فيكون مقابلا لقول من قال إن في المقدمات ما هي عامة . ولما ذكر أنه ليس يمكن أن تنقل البراهين من قبل أن الحدود الوسط في الصنائع المختلفة تكون مختلفة ضرورة - أتى بالسبب في ذلك فقال : « والسبب في ذلك أن ذات العدد مباينة لذات العظم » - يريد : والسبب في اختلاف الأسباب التي تؤخذ حدودا وسطى في صناعة العدد وفي صناعة الهندسة أن ذات الهندسة تخالف ذات العدد ، من قبل أن إحداهما كمية متصلة ، والأخرى منفصلة . وإذا اختلفت الذوات اختلفت الأسباب ضرورة . ولما كان إذا اختلفت الأسباب اختلفت المسببات ، وكانت المطلوبات هي المسببات ، وجب ألا تشترك صناعتان أصلا في المطلوب من المطالب ، أعني المطالب الذاتية . ولمكان هذا المعنى كان عندنا التفسير الثاني أبين من التفسير الأول من طريق المعنى ، والأول من طريق ظاهر اللفظ . ولما كان هذا الاعتقاد الذي ينفى اشتراك الصنائع في المطالب يخالفه ما يظهر من أن هاهنا مطلوبات عامة لأكثر من صناعة واحدة ، مثل المساواة المطلوبة في العدد والعظم ، وإذا أمكن أن توجد مطلوبات عامة ، أمكن أن توجد حدود وسط عامة ، وهي الطبيعة العامة التي يوجد لها ذلك المطلوب ، وإذا أمكن ذلك ، أمكن أن يكون من المقدمات الكبر عامية وأن تنقل البراهين ، - قال في جواب ذلك : « وكون المقدمات عامية مشتركة في بعض ، فنحن نشرع في الكلام فيه بأخرة » - يريد : أنه سيحل هذا الشك ويبين أن هذه المقدمات ليست المقدمة منها التي يظن بها أنها مشتركة لأكثر من صناعة واحدة - مقدمة واحدة بالمعنى ، وإنما هي واحدة باللفظ . قال أرسطاطاليس : « وأما البرهان الكائن على أمر عددي فهو غير متعد لطبيعة العدد . فكذلك يجرى الأمر في البراهين الكائنة على ما سوى العدد . فيجب ضرورة متى رام المبرهن أن ينقل البرهان أن يكون المطلوبان واحدا بعينه . وهذا على ضربين : إما على الإطلاق ، وإما على جهة ما . وغير ممكن أن يكون على غير هذا الوجه ، من قبل أن حدود البرهان كلها ذاتية وليست بأعراض . » التفسير يريد : وكما أن البرهان الكائن عن أمر عددي حدوده الثلاثة غير متعدية لطبيعة العدد ، أي من طبيعة العدد ، كذلك يجرى الأمر في سائر البراهين الموجودة في صناعة صناعة ، أي يجب أن تكون الحدود الثلاثة في برهان برهان من نفس الطبيعة [ ٤٥ أ] التي تنظر فيها تلك الصناعة ، فلا يمكن أن ينقل البرهان أصلا وقوله : « فيجب ضرورة متى رام المبرهن أن ينقل البرهان أن يكون المطلوبان واحدا بعينه هو أمر لازم كما قال ، أراد أنه ليس يمكن أن يكون واحدا » . وقوله : « وهذا على ضربين : إما على الإطلاق ، واما على جهة ما » - يريد بالإطلاق أن يكون المطلوب واحدا بعينه من جميع الجهات . ويريد بقوله : « وإما على جهة ما » أن يكون واحدا بالموضوع ، مختلفا بالجهة ، مثل أن يتبين المهندس بنوع ما من الخطوط خاصة من الخواص ببرهان ما ، فينقل ذلك البرهان المناظري إلى ذلك النوع من الخطوط الشعاعية . وليس يريد بقوله : « مختلفا بالجهة » مثل أن ينظر صاحب التعاليم في شكل . السماء وصاحب العلم الطبيعي ، فإن كليهما ينظران من ذلك فى شئ واحد ، لكن صاحب علم الهيئة ينظر فيه من حيث هو مجرد عن الهيولى ، وصاحب العلم الطبيعي ينظر فيه من حيث هو نهاية لطبيعة الجرم السماوى . ولذلك صار السبب الذى يعطى أحدهما فيه غير السبب الذى يعطيه الآخر . وذلك أن صاحب علم الهيئة يقول إن شكل السماء إنما صار كريا من قبل أن الخطوط التى تخرج منه إلى المركز متساوية ، وصاحب العلم الطبيعى يقول أنه إنما صار كريا من قبل أن حركته دورا وأنه جرم من طبيعة كذا ، فإن البرهان فى مثل هذه لا ينتقل . ولما وضع أنه لا يمكن أن ينتقل البرهان من صناعة إلى صناعة إلا أن يكون المطلوب واحدا : إما بإطلاق ، وإما بجهة ما - قالع بأثر هذا : « وغير ممكن أن يكون على غير هذا الوجه » - يريد : وغير ممكن أن يكون النقل إلا على هذين الوجهين ، أعنى أن يكون المطلوب واحدا بإطلاق ، أو بجهة ما . ولما وضع هذا ، أتى بالسبب في ذلك فقال : « من قبل أن حدود البرهان كلها ذاتية وليست بأعراض » - يريد : وإنما لم يمكن أن ينقل البرهان من صناعة إلى صناعة ، من قبل أن حدود البرهان الثلاثة ، أعنى الأكبر والأوسط والأصغر ، كلها زائدة لجنس الصناعة ، والذاتية لا تتعدى الجنس . وقد يوهم هذا القول أنه يجوز أن يكون المطلوب واحدا فى صناعتين . وليس الأمر كذلك ، وإنما هو شيء وضعه هاهنا وضعا حتى يفحص عنه ، لأن هذا إنما يتوهم وقوعه فى مثل التساوى والتناسب الذى يستعمل فى صنائع مختلفة . قال ارسطاطاليس : واحد ، ولا لصاحب العلم الإلهى أن بين أن المكعبين مكعب واحد ، ولا لصناعة من الصنائع أن تبين ما يخص صناعة أخرى ، اللهم إلا أن تكون صناعتان إحداهما تحت الأخرى ، فيمكن ذلك فيها ، بمنزلة علم المناظر الذى هو تحت [ ٤٥ ب ] صناعة الهندسة ، وبمنزلة صناعة تأليف اللحون التى هى تحت صناعة العدد . » التفسير يقول : ولكون الحدود الثلاثة التى منها يأتلف البرهان من طبيعة الجنس لم يكن لصناعة جزئية من الصنائع البرهانية أن تبين ما يخص الكلية الناظرة في الموجود بما هو موجود ، مثل أنه ليس لصناعة الهندسة النظر فى الاضداد ، ولا النظر فى الواحد والكثرة ، ولا أيضا لصناعة جزئية من الصنائع : أن يبين ما يخص صناعة أخرى جزئية . وأعنى بالجزئية : التى تنظر فى بعض أجناس الموجودات . وبالكلية : التى تنظر فى الموجود بما هو موجود . وينبغى أن تعلم أنه إن نظرت صناعة جزئية فى لا حق من لواحق الصناعة العامة ، فإنما تنظر فيه من حيث قربه من موضوعاتها ، حتى تجعله خاصا بذلك الموضوع ، مثل نظر العلم الطبيعى فى قوى النفس : هل هى واحدة أو كثيرة . ولما قال إنه ليس لصناعة من الصنائع أن تبين ما يخص الأخرى ، سواء كانت الصناعتان كلتاهما جزئية ، أو أحداهما كلية والأخرى جزئية - قد يفهم منه تباين الصناعات ، وبالجملة ، وقد كان قد يلفى فى الصنائع نوع من الاشتراك ، وهو أن تستعمل الصناعة الواحدة مبدءا أو مبادئ ما ، شأنهما أن تبين فى الأخرى ، وكان هذا إنما يلفى ، أكثر ذلك ، فى الصناعة التى تحت صناعة أخرى ، أعنى أن تكون الخاصة تأخذ مبادئها من العامة ، كالحال فى صناعة الهندسة مع صناعة علم المناظر وعلم الهندسة - قال : « اللهم إلا أن تكون صناعتان إحداهما تحت الأخرى . » إلى آخر الفصل - يريد : أن الصناعة العالية تعطى التى تحتها الأسباب التى تطلبها ، مثل صناعة الهندسة ، فإن كثيرا مما يوقف عليه يأخذه صاحب علم المناظر سببا فيما يظهر فى صناعته ، مثل إعطائه السبب فى أن ما بعد يظهر أصغر من قبل أنه قد تبين فى علم الهندسة أن القاعدة الواحدة نفسها من المخروط إذا كانت الخطوط التى تخرج من مركز المخروط إليها أطول ، كانت زاوية المخروط أصغر . ثم يضيف إلى هذا أن ما يرى بزاوية : أصغر ، يرى أصغر . فيتم له إعطاء السبب فى علمه . وكذلك النغم المتفقة إنما جرت العادة بأن تعطى أسباب الاتفاق فيها فى الصناعة اللحنية من قبل النسب العددية . وقد يشك فى هذا فيقال : أننا نرى الصناعة الجزئية المتأخرة تعطي مبادئ الصناعة العامة التى هى تحتها ، مثلما يعطى العلم الطبيعى والتعاليمى مبادئ فى العلم الإلهي ، فإن الأمور المفارقة إنما يتسلم صاحب العلم الإلهي وجودها من صاحب العلم الطبيعى ، ويتسلم عددها من صاحب علم الهيئة التعاليمى . والفرق بين ذلك أن الصناعة الجزئية إنما تعطى الكلية مبدأ وجود لا مبدأ سبب . وأما الكلية [ ٤٦ أ] فإنما تعطى فى الجزئية مبدأ سبب . ولست أعنى أن الجزئية تعطى فى الكلية شيئا متأخرا يستعمل فى الكلية حدا أوسط ، إنما تعطى الجزئية للكلية ما ينزل منها منزلة موضوع الصناعة ، أو جزء موضوع ، بخلاف الأمر فيما تعطيه الكلية فى الجزئية ، أعنى التى تعطيه يستعمل فى الجزئية حدا أوسط . وسنخبر بعلة هذا بعد . ولما كان كلامه هاهنا فى براهين الأسباب والوجود ، وكانت المشاركة مختلفة ، لم يعرض إلى المشاركة التى تكون بين الصنائع الجزئية والكلية بهذه الجهة . قال أرسطاطاليس : « ولا أيضا يمكن أن ينتقل البرهان فيبين به شئ موجود للخطوط لا بما هى خطوط ، وإن كان خاصيا لها ، بمنزلة ما تبين فى الخط المستقيم أنه أحسن من سائر الخطوط ، أو أنه مقابل للخط المستدير ، من قبل أن هذه الأشياء ليست ذاتية للخطوط ، لكنها أعراض للخطوط أو لغيرها . » التفسير يقول : ولا يمكن أيضا أن ينقل البرهان من جنس إلى جنس إذا كان هناك أعراض تعم ذلك الجنس ، وليس من شأن تلك الأعراض أن توجد لواحد فيها من طريق ما هو ، إذ كانت أمثال هذه الأعراض ليست ذاتية ، والبراهين إنما تأتلف بين الذاتية ، يريد أنه لو كانت البراهين تأتلف من أمور عامة ، لقد كان يمكن أن ينقل البرهان . فقوله : « ولا يمكن أن ينقل البرهان فيبين به شىء موجود للخطوط لا بما هي خطوط » - يريد : ولا أيضا يمكن أن ننقل البرهان الذى يبين به شىء موجود للخطوط لا بما هى خطوط إلى غير الخطوط ، فيبين به وجود ذلك المعنى لغير الخطوط ، إذ كانت الأقيسة التى تبين بها أمثال هذه الأشياء للخطوط . ليست براهين ، بمنزلة أن يبين مبين للخط المستقيم أنه أحسن الخطوط ، وأنه مقابل للخط المستدير . ثم يأخذ ذلك البيان بعينه فينقله إلى غير الخطوط من الأشياء التى ، تتصف بالحسن أو المقابلة . فإن هذه ليست براهين ، إذ كان الحسن والمقابلة ليست أمورا موجودة للخطوط بما هى خطوط ، والغير الخطوط من الأشياء الجزئية التى توصف بها . وقوله : « وإن كان خاصا لها » - يريد : وإن كان موجودا لها .
٨ - < لا برهان على الأشياء الفاسدة >
पृष्ठ 286