95

Sharh Bab Tawhid al-Rububiyyah min Fatawa Ibn Taymiyyah

شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية

शैलियों

التوسع في العبارات المتعلقة بالقرب من الله كالكشف والتجلي وغيرهما والمقصود منها
قال رحمه الله تعالى: [وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن الله ﷿: (أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده).
ويقال: ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره ويقال: مثالك في عيني وذكراك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب وهذا القدر يقوى قوة عظيمة حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء].
هنا أيضًا الشيخ أشار إلى كلمة استعملت في الحق واستعملت في الباطل، وهي كلمة (التجلي) و(الكشف) فبعض العباد استعمل كلمة (التجلي) يقصد قوة صلة القلب بالله ﷿ حتى يعبد الله كأنه يراه، فيسمون هذا تجليًا، ولا يقصدون أنه يتجلى الله ﷿ بذاته لخلقه، إنما قصدهم أنه يتجلى الله للقلب حتى كأنه يراه، فسموا هذا تجليًا، وسموه كشفًا أيضًا؛ لأنه ينكشف للقلب من حقيقة الإيمان والإحسان حتى يتصور أنه يرى الله، من قوة يقينه بالله وامتلاء قلبه بالأحوال القلبية، فهذا سماه بعض الأوائل من العباد كشفًا وسموه تجليًا، لكن فيما بعد أطلقت الصوفية الغالية هذه العبارات على معان بدعية، فزعموا أن الله ﷿ يتجلى لهم بذاته، وزعموا أنهم يرونه بأبصارهم، وزعموا أنه يتجلى لهم الرسول ﷺ بذاته في اليقظة، وأنهم يرونه بأبصارهم، وزعموا أن الغيب ينكشف لهم بالتجلي والكشف، وتنكشف لهم أحوال الآخرة، وتنكشف لهم أحوال العباد، وينكشف لهم من التشريع ما يحلون به ما حرم الله ويحرمون به ما أحله الله، ويزعمون أن ذلك كشف، فتوسعوا في باب الكشف، لكن الشيخ هنا أراد أن يقول بأنه قد يعبر بعض الصالحين عن قوة صلة القلب بالله ﷿ واليقين والإحسان بالتجلي، بمعنى: أنه يصل قلب المؤمن إلى أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا سموه تجليًا وسموه كشفًا، لكن بعد استعمال العبارة على نحو باطل يجب تجنبها.
قال رحمه الله تعالى: [وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي ﷺ: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا)، لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى الله أو إلى بعض الأماكن؟ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته؛ كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم ﵇: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات:٩٩].
وأما حركة روحه إلى مثل السماوات وغيرها من الأمكنة فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاءون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقر بها أهل الفطرة وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام.
وأما القرب من الله إلى عبده هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب؟ هذا فيه كلام ليس هذا موضعه.
ومن لم يثبت إلا الأول فهم في قرب الرب على قولين: أحدهما: أنه تجليه وظهوره له.
والثاني: أنه مع ذلك دنو العبد منه واقترابه الذي هو بعمله وحركته.
وللقرب معنى آخر: وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال: هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه].
الراجح والله أعلم من خلال النصوص أن كل هذه المعاني الشرعية واردة حتى على الكلمة الواحدة من القرب، فالله ﷿ ذكر أنه قريب من عباده، وذكر أنه معهم، ذكر المعية والقرب من عباده، وذكرها للعبد الواحد: (من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا)، وذكرها للمؤمنين، وذكرها لعموم العباد: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:١٨٦]، فهذا القرب يشمل هذه المعاني كلها والله أعلم.
كذلك تجليه كما في نزول الباري ﷿، الذي ورد في أحوال وأوقات وأزمان محددة، فهو قرب على جميع المعاني اللائقة بالله ﷿، وكذلك قرب العبد نفسه، العبد يقرب من الله بالعبادة، وهو قرب معنوي وقرب حسي أيضًا؛ قرب حسي على نحو لا نعلم كيفيته؛ لأن الله ﷿ أمر عباده بأن يستجيبوا لندائه حتى في الأمور الحسية، مثل الاستجابة لندائه في الحج، كما أمر إبراهيم وأمر النبي ﷺ، فهذا قرب في عبادة الله ﷿ يشمل أن الله يتجلى لعباده في هذه الأمور والشعائر والمواسم، وأن العباد يتقربون إليه، وتقرب منه ذواتهم وأعمالهم على نحو يليق بالله سبحانه.
أقول: كل هذه المعاني الشرعية التي أثبتها أهل الحق هي معان متقاربة، وربما تتحقق كلها على الوجه الشرعي اللائق بالله ﷿، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

10 / 6