Sharh al-Arba'een al-Nawawiya by Atiyya Salim
شرح الأربعين النووية لعطية سالم
शैलियों
الهجرة إلى الحبشة
والسؤال هنا: لماذا خصت الهجرة بهذا التنبيه، مع أن في لفظ الأعمال ما يفيد الاستغراق؟ وأيضًا ما هي الهجرة حقًا؟ نعلم جميعا أن أعظم حدث في الإسلام بعد الوحي وبعد الرسالة هو حدث الهجرة، وكلنا يعلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة سبقتها هجرتان إلى الحبشة، ومجمل ذلك: أن المسلمين حينما ضاق عليهم الأمر بمكة واشتد عليهم إيذاء قريش، ما خرجوا فرارًا من الإيذاء، ولكن خرجوا يرتادون موطنًا رحبًا يستطيعون أن يقيموا فيه شرع الله، ويؤدوا عباداتهم في بلد آمن، وكان ذلك بإرشاد من رسول الله ﷺ حينما قال لهم: (إن بالحبشة ملكًا عادلًا لا يظلم أحد في جواره) .
وهنا وقفة: فهذا ملك نصراني وهو ملك في الحبشة، والرسول ﷺ يصفه بأنه عادل، ومن هنا نعلم أن العدل من الكافر يثبت له ملكه، كما قال الإمام ابن تيمية ﵀ الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم.
فهذا كافر عادل، أي: يحكم بالعدل، ومن هنا ننبه على الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله.
إمام عال) وفي بعض الروايات: (عدل) وهي الصحيحة؛ لأن العادل قد يكون كافرًا وقد يكون مسلما؛ لأن العادل الذي يعادل ويساوي بين المتساويين، والأصل في العدل والعدالة: عِدْلَة الحمل من البعير، وحمل البعير عِدلتان، عِدلة في اليمين وعِدلة في اليسار، فإذا ما كانت العدلتان مملوءتين من شيء واحد متعادلتين في الوزن كان التعادل بينهما حاصلًا، وإذا ما نقصت إحدى العدلتين مال الحمل إلى شق الثقيلة وطاشت كفه الخفيفة.
فالعدل والعدالة من العدلتين المتعادلتين في الحمل، وقد يعدل حمل كافر أو مسلم، وهكذا العادل في الحكم قد يساوي بين القوي والضعيف وبين الشريف وغير الشريف، وذلك لعدله في الحكم.
أما الإمام العدل: فالعدل هو نهاية أوصاف مكارم الأخلاق كما يقول ابن مسكويه في كتاب فلسفة الأخلاق: بأن جماع الفضائل في الإنسان هو أن يكون عدلًا، بأن يكون مؤمنًا عفيفًا شجاعًا كريمًا، فإن اجتمعت كل خصال الخير فيه كان إمامًا عدلًا، ولذا يقول سبحانه: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق:٢] أي: عدول في الشهادة موثوقين في نقل الأخبار لا يتهمون بكذب ولا بتزوير ولا بحيف، قد اجتمعت فيهم خصلة العدالة فأصبحوا عدولًا على الناس.
(إن بالحبشة ملكًا عادلًا لا يظلم أحد بجواره) وهذا من رسول الله ﷺ إقرار بالحق وإن كان لكافر، فهو مستحق لهذه المدحة.
وفعلًا خرج المسلمون أولا وأتبعهم المشركون برسلهم وهداياهم وأرادوا أن يعودوا بهم، ولكن عدل الملك أبى عليه أن يسلم المهاجرين حتى يسمع ما عندهم، ولما تكلم جعفر رضي الله تعالى عنه عن رسالة محمد رسول الله ﷺ، وبما كانوا عليه في الجاهلية، وبما أتاهم به رسول الله ﷺ قالوا: والله ما زاد ما جاء به رسولكم على ما جاء به عيسى ولا هذه القشة، وهكذا أعلن النجاشي إسلامه أو إقراره بما جاء به رسول الله ﷺ، ثم أعلنها أكثر من ذلك، حينما قال: لولا ما أنا فيه من الملك لخلصت إليه وأتيته، وغسلت التراب عن قدميه.
وكانت الهجرة إلى المدينة، وقد كان أبو بكر يريد أن يهاجر فيمنعه رسول الله ﷺ ويقول له: (انتظر يا أبا بكر! لعل الله يجعل لك صاحبًا أو رفيقًا)، وكان المهاجرون يخرجون خفية إلا عمر بن الخطاب، فقد ملأ كنانته وأخذ قوسه، وجاء إلى البيت وطاف به، ثم نادى في قريش: شاهت الوجوه! إني مهاجر، فمن أراد أن تثكله أمه أو تيتم أولاده، أو ترمل زوجه، فليلقني خلف ذاك الكثيب.
ولم يخرج وراءه أحد.
2 / 9