Sharh al-'Aqidah al-Tahawiyyah - Nasir al-'Aql

Nasser Al-Aql d. Unknown

Sharh al-'Aqidah al-Tahawiyyah - Nasir al-'Aql

شرح العقيدة الطحاوية - ناصر العقل

शैलियों

شرح العقيدة الطحاوية [١] عند تناول قضايا العقيدة لابد من مراعاة عدد من القواعد والأسس التي تعد منطلقًا في تقرير ذلك، ومن جملة تلك القواعد إدراك تأثير الأسباب في المسببات بإذن الله تعالى، وكون التحسين والتقبيح في الأفعال عقليين والثواب والعقاب شرعيين، والاعتداد بخبر الواحد المتلقى بالقبول، واعتبار موافقة صحيح النقل لصريح العقل، وغيرها من القواعد المهمة التي لا يستقيم إغفالها حال التعرض لتقرير قضايا الاعتقاد.

1 / 1

قواعد وأسس في تناول مسائل العقيدة

1 / 2

اعتقاد تأثير الأسباب في مسبباتها بإذن الله بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول محقق شرح العقيدة الطحاوية في مقدمته: [تأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها بإذن الله]: هذا النوع من الكلام يلحق بالكلام في القدر، فهو تبع للكلام في القدر، وكأن المقدم هنا اختار هذه المسألة لأنها من أبرز المسائل أو من أهمها عنده، وإلا فهناك بعض مسائل القدر المهمة، وإن كان سيذكر الحسن والقبح في الأفعال، وهو أيضًا موضوع اختياره جيد، لكن مسألة الأسباب ليست أهم قضايا القدر التي خالفت فيها الفرق، لكنها تصلح كنموذج، وقد ضرب مثلًا بعد العنوان، فقال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح]، وكان الأولى أن يقول: مثل أن يقال: إن الله يخلق السحاب بالرياح، فهذا مثل للأسباب، وليس هو أهم الأسباب أو أبرز الأسباب. قال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ونحو ذلك، والقول بأن الله يفعل عند الأسباب لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه]. هذه المقولة لبعض أهل البدع، وهي أن الله يفعل عند الأسباب، وهي مقولة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، ثم صارت مقولة بعد ذلك لها قواعد، وهي مقولة خاطئة، بل هي من مقولات العقلانيين الذين يقولون: إن فعل الله وإرادته تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذه المسألة ملحقة بمقولة سابقة سبق أن ذكرتها حينما تكلمت عن أول بدع القول في القدر، ومنشأ هذه البدعة: هو القول بإنكار القدر السابق والعلم السابق لله ﷾، الذي قال به غيلان ثم الجعد بن درهم، ونسب إلى معبد الجهني، وهو القول بأنه لا قدر، ومعنى: (لا قدر) أن الله لم يقدر الأمور قبل حدوثها، وإنما يقدرها عندما تحدث، وأن الله لا يعلم الأمور قبل حدوثها، وإنما يعلمها عندما تحدث، وهذا مبني على فلسفة عقلية موروثة عن الفلسفة اليونانية، فليست فلسفة حدثت في الإسلام، إنما هي موروثة عن طوائف متفلسفة من أهل الكتاب، وأهل الكتاب منهم طوائف وفرق كانت على الفلسفة اليونانية الخالصة، ومن هنا وسوسوا لبعض المسلمين بهذه المقولات، فنشأت عنها هذه المسائل. إذًا: فالقول بأن الله يفعل عند الأسباب يعني أنهم يقولون: إن فعل الله يصاحب الفعل ولا يسبقه، بمعنى: أن علمه تعالى بالشيء لا يسبقه، وأن إرادة الله -أيضًا- تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذا يعني إلغاء حكمة الله ﷾ وعلمه السابق وتدبيره الذي هو عن علم وحكمة. قال: [وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلًا عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [الأعراف:٥٧]، ويقول: ﴿وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة:١٦٤]، ويقول: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة:١٤]، ويقول: ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة:٥٢]، ويقول: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ [ق:٩]، ويقول: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ [المائدة:١٥ - ١٦] ومثل هذا في القرآن كثير. وكذلك في الحديث عن النبي ﷺ، كقوله: (لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة). وقال ﷺ: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نورًا)]. يعني هنا أن صلاة النبي ﷺ تكون سببًا في رحمة الله لمن يصلي عليه. قال: [فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سببًا لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدورًا حصل بدون السبب، وإلا لم يحصل] وجه الشبهة: أنه قد يسأل أمثال هؤلاء المتكلمين من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم فيقول: لماذا جعل الله ﷾ للأسباب تأثيرًا، مع أن له قدرة مطلقة؟! قد ترد هذه الشبهة، فيقول قائل: لماذا جعل الله الأسباب هي المؤثرة، مع أن الله قادر على أن يستغني عنها؛ فإنه يقول للشيء: (كن) فيكون؟ وقد أجاب المحقق عن ذلك. قال: [فإذا قال القائل: إن كان مقدورًا حصل بدون السبب وإلا لم يحصل؟ جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدورًا بدون السبب]. يعني: أن الله قدر أن تكون الأسباب هي الوسيلة لهذه الأمور، فهذه أمور داخلة في قدرة الله، ولا تعني أن الله ﷾ جعل هذه الأسباب هي م

1 / 3

الحسن والقبح والثواب والعقاب قال: [الثالث عشر: الحسن والقبح في الأفعال عقليان، والثواب والعقاب شرعيان: وقد ذهبوا في هذه المسألة مذهبًا وسطًا، وهو أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، وأن العقل يدرك الحسن والقبح في الأشياء، والله قد فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان ومقابلة المنعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، لكن الثواب والعقاب شرعيان يتوقفان على أمر الشارع ونهيه، ولا يجبان عن طريق العقل]. مقصوده بذلك: أن الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والجهمية ومن جاء بعدهم ممن اقتدى بهم يقولون: إن مسلك الحسن، يعني: حسن الأشياء أو استحسانها لدى البشر واستقباحها لدى البشر أمور تدرك بالعقل جملة وتفصيلًا، حتى لو لم يأت الشرع بذلك، وأهل السنة والجماعة لم ينكروا هذه القاعدة، لكنهم قالوا بأنه ليس الأصل في الأمور هو التحسين والتقبيح العقلي؛ لأن العقل لا يدرك كل شيء فيما يحسن وما يقبح، قد يدرك بعض الأشياء وتخفى عليه أشياء كثيرة، لاسيما أن كثيرًا من الأمور معلقة بالغيب، إما الغيب الماضي وإما الغيب المستقبل، فلو استقبح العقل شيئًا فلربما كان في علم الله في الغيب أن يكون هذا الشيء المستقبح في العقل حسنا فيما يأتي، والعكس كذلك، فربما استحسن شيئًا وهو في علم الله فيما سيقع قبيح، هذا أمر. والأمر الآخر: أن التحسين والتقبيح العقليين مجملان ولا يدركان التفصيل، أي: تفصيل الشرائع وتفصيل ما يستحسن، فالواجب شرعًا والمستحب شرعًا أمور تفصيلية لا يدركها العقل مستقلًا، حتى وإن استحسنها كلها فإن استحسانه لها تبع للشرع؛ لأن الشرع لا يأتي إلا بما يوافق الفطرة، وكذلك العكس، فلو افترضنا أن الله لم ينزل الشرائع؛ فهل تدرك العقول لو اجتمعت كلها بجميع قواها تفصيلات ما يصلح للناس وما لا يصلح لهم في كل جزئيات السلوك وأمور الغيب والشهادة؟! لا يمكن. إذًا: فالشرع لابد منه، والعقل يستحسن المستحسنات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل، ويستقبح المستقبحات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل؛ لأن العقل آلة تعتريها المؤثرات من الهوى والشبهات والشهوات، وأهم ذلك كله الفناء، فالعقل يفنى، والشرع لا يفنى، إلا إذا انقضت الدنيا وانتهى وقت الاختبار والابتلاء وبقيت الأمور للحساب، فإن الناس يحاسبون على هذه الأمور بمقتضى الشرع لا بمقتضى العقل. فالمقصود أن أهل السنة والجماعة يوافقون على أن للعقل تحسينًا وتقبيحًا، لكن لا على وجه التفصيل، ولا يستغني البشر عن الشرع بالعقل، وليس كل ما يستحسنه العقل حسنًا، وليس كل ما يستقبحه العقل قبيحًا؛ لأن العقل آلة تعتريها الأمور التي ذكرتها من الهوى والسهو والنسيان والخطأ والضعف والمحدودية وغير ذلك.

1 / 4

ثبوت فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول قال: [الرابع عشر: إثبات فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول عملًا وتصديقًا: فقد احتجوا بخبر الواحد المتلقى بالقبول في مسائل الصفات والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، وأشراط الساعة، والشفاعة لأهل الكبائر، والميزان، والصراط، والحوض، وكثير من المعجزات، وما جاء في صفة القيامة والحشر والنشر، والجزم بعدم خلود أهل الكبائر في النار].

1 / 5

توافق صحيح المنقول مع صريح المعقول قال: [الخامس عشر: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: فكل ما ثبت من مسائل العقيدة في الكتاب والسنة والوحي والنبوة يصدقها العقل الكامل الصحيح الذي يستخدم بدقة وإمعان؛ لأن العقل الصريح في دلالته على المراد لا يمكن أن يخالف المنقول الصحيح الثابت؛ لأن العقل والنقل وسيلتان لغاية واحدة: هي الوصول إلى الله، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يمكن لها أن تتعارض]. أظن أن هذه المسألة واضحة، ولكن أحب أن أبين أمرًا فيها قد لا يكون المتكلم عرج عليه هنا، وهو مسألة: المقصود بصحيح المنقول، والمقصود بصريح المعقول. فأما صحيح المنقول فأظنه واضحًا، وهو النص الصحيح الذي هو في كتاب الله تعالى، وما صح من السنة، سواء ما يتعلق بالعقيدة وبالأحكام، وسواء ما يتعلق بأمور الغيب والشهادة، وسواء ما يتعلق بالتكييفات وما يتعلق بعلل وحكم الشرع، كل ذلك إن ورد فيه قاطع في الشرع فلابد حتمًا من أن يوافق العقل السليم، لكن تبقى المشكلة في تحديد معنى العقل السليم الذي يحكم في هذا الأمر، وهذه مسألة نسبية، فلا يستطيع أحد من البشر على الإطلاق أن يحدد لنا أن فلانًا من الناس عقله سليم مطلقًا، فالعقل سلامته نسبية، كسلوك الأفراد وصلاحهم، فلا توجد عصمة العقل إلا للأنبياء، وغير الأنبياء عقولهم تتفاوت وإدراكاتهم تتفاوت، ومهما بلغت العقول فإن سلامتها سلامة نسبية. إذًا: فسلامة العقل أمر مفترض في جملة العقول الصحيحة وليس في أفرادها، وهذا دفع لشبهة ظهرت في المتكلمين، وهي أن يدعي إنسان من المفكرين العباقرة بأنه يستطيع أن يضع موازين للدين يزن بها الشرع، كما فعل الرازي، فقد ذكر في كتابه: (تأسيس التأسيس) موازين عقلية، وجعلها هي الموازين التي توزن بها أمور الدين، وفي جملة ذلك نصوص الشرع، حتى إنه رد خبر الواحد ورد الأحاديث الصحيحة، وأول صفات الله وأول أخبار السمعيات؛ لأنه حينما حكم قواعده العقلية فيها تنافت معها بزعمه. إذًا: فالعقل السليم لا يملكه شخص، بل هو عند جملة أهل الحق بمجموعهم، وضابط العقل السليم ضابط واضح، وهو أنه إن وافق الشرع فهو سليم، وإن خالف الشرع فإن فيه قصورًا أو خللًا، فإذا كان صاحبه صاحب بدعة وهوى ففيه خلل، وإذا كان العقل لا يوافق عقول أصحاب الهدى والاستقامة فإن فيه قصورًا عن إدراك مراد الشرع، فمن هنا اعتبر العقل مؤيدًا لا مصدرًا، فهو يعتبر رافدًا ولا يعتبر أساسًا. قال: [يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ما تنازع فيه الناس، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح المعقول لم يخالفه السمع، الذي يقال: إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلًا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟! ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته]. هذا صحيح؛ فإن الذين حكموا عقولهم في أمور الغيب لو أردنا منهم أن يثبتوا أن العقل استطاع أن يأتي بشيء تفصيلي غير ما جاء به الشرع لما استطاعوا، فالعقل لا يستطيع أن يدرك أمور الغيب، مهما بلغ من القوة والذكاء والحدة، فالمتكلمون الذين حكموا العقول وقعوا في معضلات لا يستطيعون التخلص منها، أول هذه المعضلات أن عقولهم لا تتفق، فعقل من نصدق، إنهم لم يتفقوا على أمر قطعي على الإطلاق، أي: أمر قطعي يثبت في أمر الغيب أنه كما هو في الغيب؛ لأنا لم نطلع على الغيب، هذا أمر. الأمر الآخر: أن ما نفوه ليس لديهم برهان على نفيه إلا في مدركات العقل العامة، مثل نفي النقائص عن الله ﷾، فهذا أمر قطعي على جهة الإجمال والتفصيل لا يحتاج إلى أن تعمل فيه العقول، لكن تبقى الدلالة على أن هذا اللفظ منفي معناه عن الله ﷾ على مراد الله، كنفيهم الاستواء بالعقل، فهم نفوا ما في أذهانهم، ولم يستطيعوا نفي الاستواء الحقيقي؛ لأن الاستواء الحقيقي الذي يليق بجلال الله تعالى لا نعلمه، أليس كذلك؟! وهل يستطيع عاقل مهما أوتي من القوة والذكاء أن يبين لنا كيف يكون استواء الله؟! إذًا: الذي نفوه هو وهمٌ في أذهانهم، فهم لما سمعوا قول الرحمن ﷾: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] توهموا أن الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق، كاستواء الإنسان على الكرسي، فهل هذا الوهم حق؟! وهل هو قريب من الحق؟! وهل هو محتمل أن يكون حقًا؟! إذًا: هم نفوا ما في أذهانهم من الوهم؛ لأنهم حينما أثبتوا الأوهام التي في أذهانهم أثبتوها بغير دليل، وحينما نفوها نفوها بغير دليل، وأقحموا العقل المسكين في هذا، وهذه أعظم جناية على العقل، قالوا: إن العقل يحيل

1 / 6

حرمة تكفير المسلم بذنب أو خطأ قال: [السادس عشر: عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه. يقول شيخ الإسلام في مجموعة الرسائل والمسائل وهو بصدد الحديث عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة:٢٨٥]، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي ﵁ حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله ﷺ بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟! فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فيكف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه]. هنا ينبغي التنبيه على أمر، ولعله سيأتي -إن شاء الله- مستقبلًا بشكل واف في شرح الطحاوية إذا دخلنا فيه، لكن بالمناسبة أحب أن أنبه إليه؛ لأنه قد يعالج بعض المظاهر التي ظهرت لدى طائفة من طلاب العلم المستعجلين هداهم الله، وهذه المسألة هي مسألة التكفير باللوازم والتكفير بالبدعة المكفرة، أو التكفير بالقول المكفر أو التكفير بالأصل المكفر، وأقصد بذلك: أنَّه ليس كل من ارتكب مكفرًا يكفر بشخصه، فضلًا عن الطوائف، وليست كل طائفة ارتكبت مكفرًا نحكم بكفرها، وسأضرب لكم مثلًا بعدما ضرب المحقق هنا مثلًا بالخوارج، فهناك مثل آخر في المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية، فغلاة المتكلمين منهم خالفوا السلف في قضايا كثيرة، ومع ذلك لم يقل أحد بكفرهم، إلا بعض المستعجلين من المتأخرين هداهم الله، فما قالوه -أي: الأشاعرة وغيرهم- لا يستدعي تكفيرهم، حتى ولو وصل الحال ببعضهم إلى أن يقول بمقولة كفر، فإن تكفيره بعينه أمر يجب أن يتثبت فيه. وأريد بهذا أن أصل إلى النتيجة الخطيرة التي أردت التنبيه عليها، وهي أن مسألة التكفير لمن لم يستحق الكفر أشد خطأً من ارتكاب صاحب الكفر لما كفر به؛ لأن النبي ﷺ حذر من هذا وقال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، يعني: إذا خرج التكفير من شخص مع الاعتقاد؛ فلابد من أن يقع هذا التكفير على أحد الشخصين، فإن كان من أطلق عليه الكفر كافرًا -وهذا في علم الله- وقعت عليه، وإذا لم يكن كافرًا في علم الله رجعت إلى صاحبها فكفر نفسه من حيث لا يشعر، فيجب التنبه لهذا الأمر. وهناك أمر آخر متفرع عن هذا، وهو أننا لم نتعبد بالتكفير أصلًا، صحيح أن هناك ما يسمى بالولاء والبراء، لكن هذه قاعدة إجمالية، ليس كل من واليناه لابد فيه من أن يكون على الاستقامة الكاملة، وليس كل من عاديناه لابد فيه من أن يكون على الضلالة الكاملة، بل قد يجتمع الولاء والبراء في شخص واحد، قد يجتمع الولاء والبراء في غالب المسلمين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا. إذًا: فمسألة التكفير من أشد المسائل خطورة، وأرى الناس بدءوا يلوكونها وكأنها مجرد أحكام عادية ينتزعها الإنسان متى شاء ويلبسها من يشاء، مع أن هذه مسألة خطيرة لم يتعبد بها أولًا، إنما تعبدنا بالتكفير بالجملة لا بالتعيين، فالتكفير بالجملة معروف وأمر سهل ويعرفه أهل العلم، فاليهود كلهم كفار بالجملة، والنصارى كفار بالجملة، والمشركون كفار بالجملة، ومن خالف قطعيًا من قطعيات الدين فهو كافر بالجملة، ومن أخل بركن من أركان الدين فهو كافر بالجملة، لكن تعيين أفراد أو جماعات أو فرق مسألة خطيرة لم نتعبد بها، وأهل العلم كانوا يتورعون فيها أشد التورع، ثم إن أكثر الناس يفهم التكفير دائمًا على أنه التكفير المخرج من الملة، ومن هنا ينتزع أقوال أهل العلم في بعض المقولات أو في بعض الأشخاص فيكفر بها، مع أن أهل العلم قديمًا إذا أطلقوا التكفير في مسائل أهل القبلة؛ فأغلب ما يطلقونه على التكفير الذي لا يخرج عن الملة، الذي هو كفر دون كفر، ويتورعون كل التورع عن التكفير الذي يخرج عن الملة. قال: [

1 / 7

تنبيه على إصدار أحكام التخطئة في فتن المسلمين أحب أن أنبه على أمر من النوازل التي حدثت للمسلمين في الآونة الأخيرة، وهو ما يتعلق ببعض الفتن التي ظهرت في أرض الجهاد في أفغانستان، ولن أتكلم عن هذا الأمر بالتفصيل، وأرجو ألا يفهم كما يفعل كثير من المستعجلين، وألا ينتزع مني ما لم أقله، لكني أحب أن أعلق على هذه المسألة بمناسبة الكلام عن مسألة التكفير والتعادي والموالاة والمعاداة ونحو ذلك من أحكام الشرع. أقول: لقد بدرت من بعض الناس -هداهم الله- بعض الألفاظ والأحكام والمواقف تجاه ما حدث بين الأفغان تخالف منهج السلف، حتى من بعض الذين عقائدهم صحيحة ولديهم شيء من العلم بالسنة، فأرى أنهم تجاوزوا منهج السلف في علاج هذه الأمور، أي: في أثناء الفتن؛ لأن للفتن فقهًا يخالف فقه سائر الأيام والأحوال، ولأن للفتن أحكامًا تخصها، خاصة إذا حدثت الفتن بين فرقتين من المسلمين عملهم واحد في جبهة واحدة وفي مكان واحد كما هو حال المجاهدين، والخلل الذي حصل يتمثل في نظري فيما يتعلق بالمسألة التي ذكرتها في أمور: أولها: سرعة الحكم بالتكفير أو التفسيق أو التخطئة قبل التثبت. وثانيها: الخلل في مسألة التفريق بين ما تجوز الموالاة فيه والمعاداة وما لا تنبغي الموالاة فيه والمعاداة. والأمر الثالث: الحكم على الأشخاص باللوازم التي لا تلزم، فقد سمعنا حكمًا على أشخاص من خلال تصرفات أتباعهم، وحكمًا على الأتباع من خلال عقائد رءوسهم، وحكمًا على الغائبين قبل اللقيا بهم والأخذ عنهم، وحكمًا على المجاهدين من الأفغان -خاصة القيادات منهم- بمجرد أمور تخرج إما في جرائدهم وإما في كتب يعلمونها أتباعهم أو نحو ذلك، وهذا تكفير باللوازم. نعم التخطئة ترد، ووزن الأمور بالموازين الشرعية أمر مطلوب، بمعنى: من هو الأفضل والأقرب للسنة، ومن هو الأبعد والأكثر بدعة، فهذا أمر ليس على المسلم حرج في أن يقوله، لكن الإلزام بما لا يلزم أمر خطير قد ترتبت عليه مواقف خطيرة، هذا أمر. الأمر الآخر: إدراك المصالح العامة ودرء المفاسد، وهذا أمر غاب عن كثير ممن خاضوا في هذا الأمر، حتى بلغ الحد ببعضهم إلى أن يعتبر الجهاد في أفغانستان كله خطأ، وبعضهم ألغى راية الجهاد في سبيل الله وفسرها بتفسيرات بدعية أو بتفسيرات أهواء أو بتفسيرات شبهات أو شهوات عند أصحاب تلك الراية، وبعضهم -أيضًا- تكلم في المجاهدين بما يمنع دعم المسلمين عنهم، وهذه مسألة خطيرة، فأنا أقول: حتى لو اقتنع واحد منا بأنه ينبغي أو يحسن ألا يدفع التبرع لفلان من الناس من رءوس المجاهدين، فهل هذا من المصلحة العامة المترتبة على موقفه هذا فيما يتعلق بأحوال المسلمين عامة؟! يجب ألا نبخل على المسلمين عامة، ويجب ألا نبخل على الأفغان من حيث الخصوص، فهناك الشيوعية الملحدة تحارب الله ورسوله، وهناك أناس يجاهدون في سبيل الله على مختلف نزعاتهم وعلى مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، فلو أن المسلمين اضطروا يومًا من الأيام -كما حدث في فترات التاريخ- إلى أن يجتمعوا بفرقهم الضالة والمستقيمة ضد الكفار الخلص فهل يمنع هذا؟ أترك الجواب لكم، فتأملوا واسألوا أهل العلم وارجعوا إلى قواعد الشرع. وأعود فأقول: إن نصوص الوعيد الواردة في الكتاب والسنة لابد من أن تجمع مع سائر النصوص الأخرى، كتلك النصوص السابق ذكرها وغيرها، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٩٣]، فهذه الآية من نصوص الوعيد؛ إذ فيها إشارة إلى خلود القاتل عمدًا في النار، ونصوص الوعيد ترد إلى نصوص الوعد، فيرد بعضها إلى بعض، ولا تؤخذ على ظاهرها، بمعنى: أنه لا نأخذ بنص واحد ونجعل الحكم القاطع مبنيًا عليه، فالنصوص لابد من أن ننظر إليها بمجملها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، فهذا من النصوص التي تبين ما يغفر وما لا يغفر، وهذا من نصوص الوعد والوعيد في وقت واحد، فنصوص الوعيد -أي: نصوص التخويف والنصوص التي تتعلق بدخول النار وغيرها- ترد إلى نصوص الوعد بمجموعها، وهذا هو النظر المتكامل الذي ينظره أهل السنة والجماعة، لا يأخذون بنص دون آخر، لذلك قالوا: من أخذ بنصوص الوعد دون نصوص الوعيد فهو مرجئ، ومن أخذ بنصوص الوعيد دون نصوص الوعد فهو حروري، خارجي.

1 / 8

شرح العقيدة الطحاوية [٢] لقد كانت مراحل القرون الثلاثة الأولى في جملتها مراحل غلبة لهدي السلف في الاعتقاد، مع حصول النزاع في القرن الثالث، ثم هيمنت أقاويل أهل الكلام بعد ذلك وانحسر منهج السلف إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، فانبرى لإبراز منهج السلف بالنقل والعقل، وخط بذلك معلمًا بارزًا وشيد مدرسة علمية كان من آثارها تلامذته النجباء كابن القيم رحمه الله تعالى وغيره.

2 / 1

المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة إلى زمن ابن تيمية

2 / 2

مرحلة تنزل القرآن إلى نهاية القرن الأول قال: [امتداد مدرسة ابن تيمية: لقد جمع الإمام ابن تيمية ﵀ منهج أهل السنة والجماعة في العلم والاعتقاد والفهم والعمل والسلوك، وأحياه وحرره تحريرًا بديعًا اتسم بسعة العلم وقوة الأمانة وحسن العرض ودقة الضبط، ولكن ابن تيمية سبق ولحق في هذا الميدان بجهاد علمي صادق ومتصل]. أحب أن أشير إلى مسألة أرى أنها مهمة فيما يتعلق بجهود شيخ الإسلام ابن تيمية في خدمة عقيدة السلف، وأقدم لهذا بالتنبيه على المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة، بمعنى: تقريرها على شكل مؤلفات ومصنفات وتبيينها للناس. المرحلة الأولى: هي مرحلة تنزل القرآن وإلى نهاية القرن الأول، فهذه الأساس فيها ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، وكان الناس يستمدون كل شيء في الدين من القرآن والسنة، ويرجعون فيما لم يدركوه إلى أهل العلم، حتى الصحابة كانوا يأخذون الدين مباشرة عن القرآن والسنة، هذا في الجملة، لكن عامتهم كانوا لا يستطيعون استنباط كل شيء في الدين، فكانوا يرجعون إلى أهل الاختصاص من الصحابة، لذلك برز من الصحابة من برز في اختصاصات شرعية تتعلق ببيان الدين للناس بعد الرسول ﷺ، كبروز علي في القضاء وزيد في الفرائض، وبروز غيرهما من الصحابة في بعض الجوانب، وهناك من كانوا مرجعًا علميًا شاملًا كـ ابن عباس وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وغيرهم من أئمة الصحابة، فكانوا أئمة في الدين يرجع إليهم، وكان منهجهم في تقرير العقيدة لا يعدو إظهار النص والاستنباط من القرآن والسنة ثم التعليق على النص لإيضاحه دون بسط في الشرح أو تصنيف أو مؤلفات؛ لأن الناس كانوا أقرب إلى الفطرة وأفهم للغة وأبعد عن البدع والخرافات، ولم تتشعب بهم السبل ولم تظهر الفرق، فكان الناس على هدي واحد، العقيدة عقيدة الجميع والمنهج منهج الجميع والسنة عليها الجميع، ومن شذ برز شذوذه عند العامة والخاصة، هذا في القرن الأول، فلذلك لم توجد مؤلفات، وما كان الناس بحاجة إلى مؤلفات، إنما كانوا بحاجة إلى تعليم، وقام الصحابة بذلك حق القيام، وبرزت في عهدهم بعض الطوائف، وكان شذوذها ظاهرًا كالخوارج والشيعة كما هو معلوم، وسبب بروزها هو أنها تركت تلقي الدين عن العلماء، هذا هو السبب الرئيس الأول، ولا ننسى جهود ابن سبأ، لكن ابن سبأ دخل على هذه الطائفة من الناس لأنهم لم يتلقوا دينهم عن الصحابة، والذين تلقوا دينهم عن الصحابة عصمهم الله. المهم أنه في القرن الأول كانت العقيدة هي السائدة، وما كانت تحتاج إلى مؤلفات ولا تحتاج إلى مصنفات ولا تحتاج إلى شيء من تقرير الأصول والمناهج الزائدة على ما في النصوص.

2 / 3

مرحلة القرن الثاني المرحلة الثانية: مرحلة ما ظهر في القرن الثاني، وقد استجد فيها على أئمة المسلمين أمر، وهو الرد على أهل البدع، وصاحب هذا الرد ضرورة وضع الموازين والأصول الأولى في مهمات العقيدة، كالإيمان تعريفه ومسماه وزيادته ونقصانه، والقدر ومفهومه، والرؤية، وكلام الله وأسمائه وصفاته، فهذه الأمور كانت في القرن الأول تفهم جملة، وما كان الناس يتحدثون عن جزئياتها؛ لأنهم يفقهونها في الجملة. وأما في القرن الثاني فظهرت المرحلة الثانية، وهي ضرورة الدفاع عن هذه الأصول وإبرازها كأصول مستقلة لها حدود تعرف بها وتفهم عند الناس، ووضعت لها ضوابط معينة، وظهرت مسألة الاستدلال الشامل على هذه المسائل، بمعنى أنه اضطر أئمة الدين إلى أن يأخذوا الأدلة من الكتاب والسنة، ويبرزوها مستقلة إما على شكل كتب أو مصنفات، وإما على شكل مناظرات أو مجالس علمية في موضوع ما، كما في الرؤية، حيث استقيت نصوص الرؤية وظهرت في هذا الوقت جلية؛ لأنه ظهر من أنكر الرؤية وتكلم بذلك، وكذلك كلام الله، والقرآن، ومسألة أسماء الله وصفاته، فأبرزت النصوص المستقلة في هذا الأمر، وكذلك الوعد والوعيد، فاضطر السلف إلى أن يأخذوا نصوص الوعد ويبرزوها، ثم نصوص الوعيد ويبرزوها، وأخذوا منهجًا وسطًا -وهو منهج الحق- بين الوعد والوعيد، وهكذا بين منكري القدر والجبرية وغيرهم. وفي المرحلة الثانية أيضًا ظهرت المصنفات الصغيرة في جزئيات العقيدة، في الرد على فرق بعينها، وفي كتابة المسائل المحدودة المعينة، لكنها مصنفات قليلة.

2 / 4

مرحلة القرن الثالث المرحلة الثالثة: القرن الثالث، وقد ظهر فيه اتجاه أشمل من الاتجاهات السابقة، وهو ضرورة، فحينما ظهرت البدع وظهرت لها أصول في الاعتقاد، وظهرت لها مصنفات وكتب شاملة؛ اضطر السلف إلى الكتابة في العقيدة في كتب الشاملة تجمع بين الأصول وبين النصوص المستدل بها، وبين الآثار المنقولة عن أئمة الدين الذين سبقوا في القرن الثاني والأول، وهذه المصنفات هي المصنفات الشاملة في أصول الدين في العقيدة، وهي المسماة بكتب السنن، أي: الآثار، وأغلبها في العقيدة، لا أقصد كتب الحديث، وإن كانت كتب الحديث اهتمت فعلًا بالعقيدة وبوبت لها، وهذا اتجاه جديد لم يكن يوجد في القرن الأول والثاني، والتبويب للعقائد في كتب الحديث هو -أيضًا- من سمات هذه المرحلة الثالثة، لكن من أبرز سماتها وجود المصنفات الشاملة التي تجمع بين النصوص والقواعد والمناهج والمفاهيم والتعريفات بمسائل أصول الدين والرد والمناقشة في وقت واحد، فكتب السنة الكبيرة بدأت في هذه المرحلة، مثل السنة للإمام أحمد، والسنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد، وكذلك مؤلفات ابن سلام وابن أبي شيبة والدارمي وغيرهم من الأئمة الذين عاشوا في ذلك العصر.

2 / 5

مرحلة القرن الرابع وما بعده وبعد القرن الثالث جاءت المرحلة الرابعة، وهي مرحلة هيمنة كتب الكلام والمسائل الكلامية على الاتجاه العلمي في أغلب بلاد المسلمين، وهذا لا يعني أن عقيدة السلف اندثرت، بل كانت موجودة ولها رجالها ولها مصنفاتها ولها كتبها، لكن الذي ساد بين الناس في القرن الرابع وما بعده إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية هو الاتجاهات الكلامية، اتجاهات الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، حتى اتجاهات فرق الرافضة والباطنية ظهرت في تلك الفترة، وهيمنت جميعها على كثير من بلاد المسلمين، وسبب ظهور هذه الاتجاهات يرجع إلى أمور: منها ظهور دويلات الطوائف العقيدية، كدويلات العبيديين الفاطميين، ودويلات القرامطة والبويهية، ودويلات الخوارج كالرستمية، وما جاء بعدها فهذه الطوائف هيمنت على كثير من بلاد المسلمين، إذا لم نقل: إنه في هذه الفترة من القرن الرابع وما بعده كادت أن تهيمن على كل بلاد المسلمين، وهذه الهيمنة السياسية هي التي مكنت لهيمنة المذاهب الكلامية على المدارس والاتجاهات والصبغة العلمية العامة، حتى صار مذهب السلف لا يوجد إلا في رجاله، بمعنى أنه لا يتبنى سياسيًا، وإلا فهو موجود في مدارسه واتجاهاته، وأهله ينافحون عنه وهم ظاهرون، بل هم المعتبرون عند الأمة في العموم، لكن مع ذلك هيمنت على أكثر المؤلفات والاتجاه العلمي المذاهب الكلامية إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية.

2 / 6

جهود شيخ الإسلام في إظهار مذهب السلف لقد انبرى شيخ الإسلام ابن تيمية لإظهار مذهب السلف إظهارًا علميًا قويًا بما آتاه الله من مواهب، فكانت جهوده تتلخص في أمور: الأمر الأول: استقراء أقوال السلف وإظهارها بارزة نقية واضحة ليس فيها لبس وليس فيها غبش؛ لأن آثار السلف كانت موجودة في وقته، ولكن كل يستدل بها على منهجه، حتى المتكلمون كانوا يستدلون بأقوال السلف على مناهجهم بأسلوبهم في الاستدلال، فكان هناك شيء من الغبش عند كثير من الناس، فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان من أعظم أعماله أنه أبرز مناهج السلف وأقوالهم وعقائدهم وما هم عليه في كل فروع الدين ومسائله وأصوله إبرازًا واضحًا جليًا. والأمر الثاني: أنه دافع دفاعًا لم يقم به أحد مثله، أعني: في العقيدة، فدافع دفاع المتمكن، واستعمل جميع وسائل الدفاع المباحة، ومن ذلك وسائل المتكلمين أنفسهم، والتزام مناهج السلف في اعتماد الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بالآثار، واعتماد الإنصاف والعدل في القول، وتحري الحق، واعتماد استعمال البرهان العقلي وقلب الحجة على المنازع، وهذا مما برع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث استعمل مناهج المنازعين لأهل السنة والجماعة ضدهم، كما في درء التعارض، وفي نقض التأسيس وفي غيرهما من كثير من الكتب؛ جعل وسائلهم في تأويل مسائل الدين وفي مجانبة أقوال السلف هي الحجة عليهم، لأنهم في الغالب قلبوا الاستدلالات، وسأضرب لكم مثالًا على قلب الاستدلال عند المتكلمين ليتضح منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في إبراز هذه المسألة، فقاعدة المتكلمين -خاصة المتأخرين منهم- في وضع أصولهم التي تقوم على التأويل والمجاز والتعطيل أنهم يعتبرون النص ظنيًا والعقل قطعيًا، فما رأيكم في هذه القاعدة؟! أليست مقلوبة؟! ومع ذلك انطلت على صغار طلاب العلم وعلى بعض المتكلمين مدة طويلة، أي أن الأصل في النصوص الشرعية الظني والأصل في العقل القطعي، وهذا مصادم للفطرة والعقل السليم، لكن مع ذلك ساد، حتى صار هو القاعدة الكبرى التي يعتمد عليها المتكلمون، فـ شيخ الإسلام قلب عليهم هذا الاستدلال وأقر فيه الحق، وقال: العكس هو الصحيح، فالأدلة الشرعية هي القطعية؛ لأنها معصومة ولأنها صادرة عن المعصوم، والصادر عن المعصوم معصوم، وهو القطعي، وأدلتكم العقلية ظنية؛ لأنها صادرة عن البشر، والبشر ناقص، والصادر عن ناقص ناقص. إذًا: أتقيسون الكامل -وهو وحي الله- بالناقص؟! بل ليس الأمر كذلك، أتجعلون الناقص هو الحاكم على الكامل؟! أيجوز هذا؟! فقلب عليهم مناهجهم. إذًا: فشيخ الإسلام ابن تيمية أبرز مناهج السلف وعقيدتهم على هذا الشكل، ولم يأت بجديد، ومدرسته ليست مدرسة مستقلة، ومذهبه ليس بمذهب مستقل، وقد حماه الله تعالى من أن يبتدع أتباعه له مذهبًا ينسبونه إليه، وهذه كرامة له، مع أنه أتى بشيء عجيب، وقام بجهد لم يقم به مثله في وقته ولا بعده، مع ذلك لم يكن لأتباعه تعصب، ولم تكن لهم ميزة تميزهم عن أهل السنة والجماعة، بل أتباعه هم أهل السنة والجماعة، أما لمز الخصوم فهذا لا يعتد به. وأمر آخر أيضًا في عمل شيخ الإسلام ابن تيمية: هو أنه جمع بين التقرير والدفاع، بين تقرير العقيدة ببيانها وإيضاحها وشرحها وتفصيلها ولم يبتدع شيئًا، فكل ما قاله يستند فيه على الآثار بعد النصوص. والأمر الثاني: أنه دافع دفاعًا قويًا، بمعنى أنه جلَّى مذاهب السلف وبينها ونقحها مما دخلها بسبب عبث المتكلمين. وأمر آخر: هو أنه دافع عن كل اتهام لرجال السلف، وعن كل اتهام لرجال العقيدة، ثم فند أقوال الخصوم، فصار تراثه وعمله هو تراث أهل السنة والجماعة، ونسبته إليه إنما هي لأنه إمام من أئمة أهل السنة، لا لأنه انفرد بجهد أو جاء بجديد، أو نهج منهجًا غير منهج السلف، بل كل أصوله مبنية على مناهج السلف، لذلك لما خاصمه بعض المتكلمين في وقته فيما يتعلق ببعض التأويلات وبعض البدع تحداهم بتحد لم يجيبوا عليه إلى الآن، حيث قال: إن أصولكم لا يوجد ما يدل عليها عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، وقال: أنا أمهلكم ثلاث سنين، فهاتوا لي إمامًا واحدًا من أئمة الدين المعتد بهم قال بقولكم الذي قلتم به في مسائل التأويل والإيمان ومسائل القدر وغيرها التي خالفتم فيها السلف، فوقفوا ثلاث سنين ولم يجيبوه، فبعد ذلك انتصرت السنة بحمد الله، ولا يزال منهج شيخ الإسلام ابن تيمية هو منهج السلف، ونسبته إليه ليست لأنه ابتدع شيئًا، إنما هي لأنه حرر مناهج السلف وبينها واستقرأها وكتب فيها ودافع عنها، فكان منهجه يتمثل في منهج أهل السنة والجماعة.

2 / 7

حقيقتان في منهج أهل السنة

2 / 8

تقرير أهل السنة للاعتقاد العاصم في مسائل زلات الفرق قال: [وخليق بنا أن نذكر هنا حقيقتين كبيرتين: الأولى: أن أهل السنة والجماعة وهم يبينون العقيدة المنجية في توحيد الله تعالى وما يلحق بها من شعب الإيمان الأخرى، يُجْلُون في الوقت نفسه ووفق المنهج المعتمد وفي ذات السياق الاعتقاد العاصم في مسائل عدالة الصحابة وتفضيل الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وخيرية القرون الأولى، والإمامة، وعدم منازعة الأمر أهله، ومضي الجهاد، والكف عن تكفير المسلمين بالمعاصي والذنوب التي هي دون الشرك الأكبر وهي مما اختلف فيه، ووحدة الجماعة، والتزام المنهج الصحيح في فهم الدين. إن هذا الترابط الموضوعي والمنهجي بين التوحيد وبين هذه المسائل يدل على: أ- أن التوحيد هو المنهج الحاكم الذي يجب أن تفهم كل مسألة في هداه. ب- أن الانحراف في هذه المسائل ذريعة إلى جرح التوحيد وإمراضه. مثال ذلك: عدالة الصحابة، فإن القدح في هذه العدالة ذريعة إلى رد آيات قرآنية أخبرت بفضل الصحابة وعدالتهم، ورد القرآن إلحاد من الإلحاد. جـ- أن الذين جادلوا في الباطل في القديم والحديث في هذه المسائل لم يعرفوا بصحة العقيدة]. فيما يتعلق بعدالة الصحابة أحب أن أشير إلى ظاهرة ظهرت كثيرًا في الكتاب المحدثين، وهي: التجرؤ على بعض الصحابة، على جملة منهم أو واحد أو اثنين أو أكثر باختلاف نزعات هؤلاء الكتاب، لكن أحب أن أشير إلى أمر مقرر عند السلف، وهو أن القدح في صحابي واحد -أيًا كان- في دينه وعدالته هو ابتداع وعلامة نفاق، ومن قدح فهو مبتدع، بل من علامات أهل البدع القدح في بعض الصحابة، وهي من علامات الزيغ نسأل الله العافية، ولا يعني ذلك أن الصحابة معصومون، لكن الصحابة أجمعت الأمة على عدالتهم في الجملة، وعلى أن القدح في أحدهم إنما هو زيغ ونفاق، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن هذه الظاهرة إنما هي علامة ابتداع في هذا العصر، وقد كثرت حتى بين كتاب ينتمون إلى الدعوات الإسلامية والفكر الإسلامي، ولا يتورعون عن القدح في صحابي ما أو نسبة بعض البدع إليه، كمن ينسبون بعض الأمور إلى عثمان ﵁، أو بعض الأمور إلى أبي ذر ﵁، أو إلى أبي الدرداء، أو إلى ابن مسعود أو إلى غيرهم، وبعضهم يتهم بعض الصحابة ببعض الأهواء، حتى لو لم ينسب إليه بدعة معينة، فربما قدح فيه ليطعن في قوله أو في روايته، حتى ظهر فيمن ينتسبون إلى المتكلمين في العصر الحديث من يقول بأن الأحاديث التي رواها متأخرو الصحابة في الصفات لا تؤخذ، وهذا قدح مبطن. أقول هذا لأن هذه المقولات كثرت في الكتب التي بين أيدينا، وأنا أقول: الذي أعرفه من منهج السلف وأئمة الدين أن القدح في الصحابي ابتداع، وهو علامة الزيغ نسأل الله العافية.

2 / 9

عقيدة أهل السنة عقيدة أئمة الدين قال: [الثانية: أن جمهور علماء أهل السنة والجماعة وأئمتهم من المذاهب الأربعة المشهورة وغيرها على عقيدة واحدة، وإن اختلفت في الفروع الاجتهادية، وقد كتب في ذلك علماء مشهورون من مختلف المذاهب، كالإمام الطحاوي الحنفي في عقيدته هذه، وكالإمام أحمد ﵀ فيما نقل عنه من رسائل وإجابات في العقائد، وكالإمام البخاري، وكـ ابن زيد القيرواني المالكي في رسالته المشهورة، وكالإمام عبد القهار بن طاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) وغيرهم].

2 / 10

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: [لقد بارك الله في جهاد ابن تيمية ﵀، فجعل له أثرًا صالحًا باقيًا ماثلًا في مدرسة علمية وفكرية متكاملة لها منهجها وأسلوبها وطابعها. فمن هذا الأثر تلاميذه وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته. وقال شيخ الإسلام التفهني الحنفي: والإنسان إذا لم يخالط ولم يعاشر يستدل على أحواله وأوصافه بآثاره، ولو لم يكن من آثاره -أي: ابن تيمية - إلا ما اتصف به تلميذه ابن قيم الجوزية من العلم لكفى ذلك دليلًا على ما قلناه. ومن هذا الأثر كتبه الكثيرة العدد النفيسة القيمة الواسعة الانتشار. ومن هذا الأثر ثناء المؤمنين عليه في كل زمان ومكان]. مما هو معروف عند أئمة السلف أن الطعن في أئمة الدين الكبار إنما هو من علامات أهل البدع، ولا يعني ذلك أن أئمة الدين الكبار معصومون كل العصمة، لكنهم يمثلون القدوة للأمة، والطعن فيهم على سبيل اللمز أو على سبيل الطعن فيما جاء عنهم أو التهكم إنما هو طعن في مذاهب السلف وفي سبيل الأمة أو الجماعة، فمثلًا: الطعن في الإمام أحمد ﵀ من علامات أهل البدع أيًا كان هذا الطعن، ولا يتصور أن يكون الطعن طعنًا مباشرًا، فأغلب الذين يتعرضون للأئمة الكبار يتعرضون لهم بتلبيس من الكلم، بمعنى أنا نجد أن أحدهم قد يثني على مثل الإمام أحمد فيقول: وهو إمام في الدين، وله كذا وكذا، لكنه في قوله بالصفات ذهب إلى مذهب الحشوية أو إلى مذهب كذا، فيثني ثم يلمز، وهذه من علامات أهل البدع، لا يجرئون على الطعن في الجملة في أئمة الدين أو في الإمام الواحد، إنما يثنون ثم يلمزون، ومثله الإمام البخاري والإمام مسلم أو ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم من الأئمة الذين رضي أهل السنة والجماعة في الجملة هديهم وما جاءوا به وما هم عليه، وكونهم يخطئون في بعض الأمور أمر يجب أن نقول به، بمعنى أنهم قد يخطئون في بعض الأمور؛ لأنه لا يمكن أن يكونوا معصومين، إلا أن ما يقع منهم من خطأ لا يوصل إلى الطعن فيهم، هذا أمر. والأمر الآخر: أنهم بإمامتهم وجلالتهم قدوة المسلمين، واستهداف أشخاصهم إنما هو استهداف للقدوة، ثم هو استهداف للدين. والأمر الثالث: أن هناك فرقًا بين الطعن وبين النقاش، فيجوز لمن آتاه الله علمًا أن يقول: أرى أن فلانًا من الأئمة لم يقصد كذا، أو: عذره في الأمر الفلاني كذا، أو: إن الدليل هو كذا، ولا يطعن في الشخص، أما إذا طعن في إمام من الأئمة فهذا علامة ابتداع، ولا يزال من أبرز علامات المبتدعة الطعن في مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد وغيرهما، وكذلك اللمز والطعن غير المباشر، كما هو موجود في بعض الاتجاهات الحديثة عند المتكلمين.

2 / 11

مدرسة ابن تيمية في العصر الحديث

2 / 12