وبناء على ذلك أخذت الافتراضات الغريبة تتعاقب على ذهنها، فخطر لها أن الراهبة «أغنس» ربما كانت بنتها «وردة».
ولم يكن هذا الافتراض أمرا محالا؛ لأن صوتها ووجهها لم يكونا بالشيء غير المعروف لديها، بل كانت كلما نظرت إليها أو سمعت صوتها تشعر باضطراب داخلي لم تكن لتدرك سببه، بل كانت منذ نظرت إلى الراهبة المرة الأولى أحست بانعطاف شديد ومحبة عظيمة لها ... وكانت تقول في نفسها: «إن للقلب أدلة وحججا لا يفقهها العقل أحيانا، فعلام لا نتبع الهامات القلب ...» ثم كانت تعود إلى رشدها فتقول: «كلا، إن هذه أوهام، بل أضغاث أحلام، فإن «وردة» قد ماتت دون إشكال، وعلى فرض أنها ما برحت حية، فإنها تكون أصغر سنا من الراهبة «أغنس» بزهاء عشر سنين على الأقل.»
وبينا كانت مترددة في الأمر على ما مر بك الكلام: تصدق مرة أن الراهبة «أغنس» هي بنتها «وردة»، وتنكر مرة الأمر على نفسها، عزمت أن تستجلي الغامض ، وتستطلع الحقيقة بأسرع ما يمكن لها، وهي لهذه الغاية باحت لقرينها بما كان يخامرها من الظنون، فعزم الزوجان أن يكاشفا الراهبة بما يتردد على بالهما رجاء أن يحملاها على الإباحة بسرها، وأنهما إذا لزم الأمر يكاشفان الرئيسة ويستطلعانها طلع الراهبة، وبالجملة: إن الزوجين تواعدا أن يتخذا جميع الوسائل لإزالة الخفاء وكشف الغطاء.
على أن عربة البارون تأخرت ذلك المساء عن الإياب في الوقت المعين خلافا للعادة.
وكانت الحالة الجوية قد تغيرت في ذلك المساء بغتة كما يحدث غالبا في مثل هذا الفصل من السنة، فتلبدت الغيوم في كبد السماء، وانهمل الغيث مدرارا يندفع على زجاج النوافذ، وكانت الرياح السوافي تهب من وقت إلى آخر وتسمع أنينا مزعجا أشبه بالنعيق، وبالجملة: كانت مظاهر الطبيعة تنبه في النفس عواطف الحزن والشجن.
وكان المسيو «ب» وزوجته قلقين بما لا مزيد عليه، بل استولى عليهما الرعب والخوف بشدة شديدة من جراء تأخر الجماعة عن القدوم، وبينا كانا على تلك الحال سمعا وقع حوافر الخيل، ثم أقبلت عربة ووقفت لدى باب البيت، فنزلت منها «سوسنة» و«شرل» وحدهما متخاصرين، أما الراهبة فلم تكن معهما، بل أخبرت «سوسنة» أن الراهبة «أغنس» أحست بضعف على بغتة بينما كانوا قادمين من النزهة، ولحسن الطالع لم يكن الدير بعيدا، فنقلوها إليه حالا، ثم استدعي الطبيب بسرعة كلية، وبعد أن فحص أمرها بتدقيق صرح بأن حالها تنذر بالخطر نظرا إلى ما كانت عليه المريضة من الضعف الشديد والهزال.
14
نحن الآن - والساعة التاسعة من الليل - في حجرة حقيرة من حجر دير الراهبات خادمات المرضى في مدينة فينة، وفي تلك الحجرة راهبة تصارع الموت ويصارعها وتنازله وينازلها، وحول مرقد هذه الراهبة التي صارت على مقربة من هوة الأبدية جملة من الراهبات الزاهدات راكعات يصلين سرا ... وكان الكاهن الذي أودعته تلك الراهبة المنازعة آخر ما في نفسها من الأسرار يعظها في ساعتها الأخيرة المهيبة قائلا: «تشجعي أيتها الأخت العزيزة، فإن الإكليل المعد للنفوس الكريمة إنما ينتظرك فوق في السماء ... إن الله قد قبل الضحية التي قدمتها له بمروءة وشهامة وشجاعة، وسيقبل أيضا صلواتك وتقدمة حياتك فدى الأشخاص الأعزاء لديك.»
وعندئذ ظهر على وجه الراهبة سيماء الموت القريب بصورة أدركها الحاضرون، فسجد الكاهن على ركبتيه ليصلي الصلاة التي بها يستودع الله نفس المحتضرة، فقال وقد خشعت نفوس الحضور: «اخرجي من هذا العالم أيتها النفس المسيحية باسم الآب القدير على كل شيء الذي خلقك، وباسم يسوع المسيح ابن الله الحي الذي تألم من أجلك، وباسم الروح القدس الذي حل فيك، وباسم الملائكة ورؤساء الملائكة، وباسم الآباء والأنبياء، وباسم الرسل والإنجيليين ... وباسم القديسات العذارى، وسائر أولياء الله وقديساته، وليكن اليوم مقرك في السلام ومسكنك في صهيون المقدسة.» «أستودعك الله القدير على كل شيء أيتها الأخت العزيزة، وأسلمك إلى من أنت خليقته حتى إذا ما وفيت بالموت دين البشرية تعودين إلى مبدعك الذي أنشأك من تراب الأرض، ولتلق نفسك الخارجة من الجسد مواكب الملائكة النيرين ومحافل الشهداء المنتصرين وصفوف العذارى المجيدات، ولتقبل قبلة السلام قبلة الراحة الدائمة في أحضان الآباء، ولتظهر لك صورة يسوع المسيح منشأ الحلاوة ومغرس الرجاء، ولينهزم من أمامك إبليس الرجيم وأعوانه حتى إذا ما رأوك في صحبة الملائكة ترتعد فرائصهم ويولوا مدبرين منحدرين إلى دركات الجحيم حيث الظلمات الدائمة ...»
وعندها أمسك الكاهن عن الكلام ثم نهض ومنح المحتضرة البركة الأخيرة، وانطلق من الغرفة حاملا بيده الزيت المقدس.
अज्ञात पृष्ठ