شُرُوعٌ
مثل العنقاء حين تنفضُ عنها غبارَ القرون ناهضةً من سُباتٍ طويل؛ يطلع إلينا اليوم علاءُ الدين القَرَشى (ابن النفيس) بموسوعته الشامل فى الصناعة الطبية بعد وفاته بسبعة قرون.
ومثلما تشرع العنقاءُ أجنحتها الأسطورية الرائعة مُحلِّقةً فى الذرى، بعدما بُعثت من رمادها؛ يفرد العلاءُ أجزاءَ موسوعته الأربعين فيطير مرةً ثانية فى سماوات العلوم وتاريخها، بعد قرونٍ من انطمار الكتاب فى النُّسخ الخطية، وبعد تيهٍ طويل وشتاتٍ بين مكتبات الشرق والغرب.
وكأننى الآن بالعلاء القرشى، يبتسمُ فى عليائه ابتسامةً لا تخلو من اعتدادٍ وابتهاجٍ وسخرية! محدِّثًا نفسه: أَلَمْ أَقُلْ للزَّمَانِ: " لَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ تَصَانِيفى تَبْقَى بَعْدِى عَشْرَةَ آلاَفِ سَنَةٍ، مَا وَضَعْتُهَا ". فَلمْ يُصَدِّقْنى أَهْلُ زَمَانِى.. فَأَيْنَ هُمُ الآنَ؟
وكأننى به.. وقد غلبه الوجدُ الذى، حسب قول الصوفية؛ يكون: عِنْدَ ذِكْرُ مُزْعِجٍ أو خَوْفِ مُقْلِقٍ.. أو أَسَفٍ على فَائِتٍ! فإذا بعينيه وقد اكتستا بسحابةِ أسىً، وبحزنٍ شفيف، لما ضَيَّعه الزمانُ من أجزاء موسوعته الأربعين.. ولا يخلو أساهُ وحزنُهُ، من أملٍ ورجاء فى ظهورها يومًا منزويةً بين جنبات خزانةٍ خطِّيةٍ عتيقة، غفل عنها الأحفاد. أربعون جزءًا من الشامل ضاعت، وأربعون تخرج اليوم محقَّقةً على يد واحدٍ من أحفادك أيها العلاء.. ليس واحدًا، بل هُم نفرٌ من أحفادك وجدوك قطعةً من ذاتٍ مندثرة، حُقَّ لها أن تُبعث ووجودوك ورقةً من كتاب الوعى الغائب، حُقَّ لها أن تُنشر وتُذاع. فها نحن ننشر الأربعين من الشامل ونصبو لخروج الأربعين الأخرى فلا يبقى الشاملُ ناقصًا. يرد العلاءُ: الشَّامِلُ لَنْ يَكُونَ نَاقِصًا أَبدًا! فقد تحسبتُ لأفعال الزمان، فجعلتُ كُلَّ جزءٍ من الشامل منفصلًا عن بقية الأجزاء، قائمًا بموضوعه ومُتَّصلًا - فى آنٍ - ببقية الأجزاء، مكمِّلًا لها حتى إذا ظهر جزءٌ واحد، دَلَّ ظهوُره على بقية
الأجزاء، وحدا بكم - من بعدى - إلى التنقيب عنها، والسعى وراء الاكتمال. ويضيف العلاءُ من عليائه: لنمض، إذن، قُدُمًا فى نشر ما تحت أيدينا من الأجزاء الموجودة، ولْنأمل فى العثور على المفقودة ولْنجعل غايتنا فى ذلك: " نُصْرَةَ الحقِّ وإِعْلاءَ مَنَارِه، وخِذْلاَنَ البَاطِلِ وطَمْسَ آثَارِه " كما قلتُ فى ديباجة شرحى على فصول أبقراط ثم أردفتُ: " وَهْوَ أمرٌ التَزَمْنَاهُ فى كُلِّ فَنٍّ ".. فليكن التزام الأحفاد، كالتزام الأجداد من قبلهم ولا يروعكم تعاقبُ الأجيال، ولا يقعد بكم أنكم فى زمنٍ عربىٍّ ردئ، فهذه أمةٌ لن تخلو - أبدًا - من قائمٍ بالحجة، وحاملٍ للمشعل.. وقد دَلَّ النظر العقلى، واستقراءُ أحوال الأزمنة، على أنه: إِذَا تَسَاوَتْ العُقُولُ والهِمَمُ، فَمُتَأَخِّرُ كُلِّ صِنَاعِةٍ، خَيْرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِها. .. وتُثير كلماتُ العلاء كوامن النفس، وتهزُّ القلب والعقل.. بل الكيان كله، فيأخذنى الدَّهَشُ لحظةً، فلا أفيقُ إلا والعلاءُ يغيب عن تلك الحضرة البرزخية، وهو يقول بنبرةٍ هادئةٍ، تفيض رجاءً وتحنانًا:
أوصيك، أوصيكم جميعًا، بأن تقرأوا كتابيا.. لترون كيف كان عقلكم العربى يفكر.. ولاتحذونى حَذْوَ التكرار، فهذا مستحيلٌ لن يكون.. وإنما انظروا كيف كانت كتابة الأوَّلين.. ثم اكتبوا من بعدها كتابةً أبهى.. ولتعرِّفوا الدنيا بما كتبناه.. ولتضعوا الشامل أمام أعين العالمين.. من الدارسين لتاريخ العلوم.. والمهْتَمِّين بالتراث العربى / الإسلامى.. والنَّاعين على العقل العربى والثقافة الإسلامية، أولئك الذين صاروا فى يومكم هذا: ناعقين بكل وادٍ.
وكأننى به.. وقد غلبه الوجدُ الذى، حسب قول الصوفية؛ يكون: عِنْدَ ذِكْرُ مُزْعِجٍ أو خَوْفِ مُقْلِقٍ.. أو أَسَفٍ على فَائِتٍ! فإذا بعينيه وقد اكتستا بسحابةِ أسىً، وبحزنٍ شفيف، لما ضَيَّعه الزمانُ من أجزاء موسوعته الأربعين.. ولا يخلو أساهُ وحزنُهُ، من أملٍ ورجاء فى ظهورها يومًا منزويةً بين جنبات خزانةٍ خطِّيةٍ عتيقة، غفل عنها الأحفاد. أربعون جزءًا من الشامل ضاعت، وأربعون تخرج اليوم محقَّقةً على يد واحدٍ من أحفادك أيها العلاء.. ليس واحدًا، بل هُم نفرٌ من أحفادك وجدوك قطعةً من ذاتٍ مندثرة، حُقَّ لها أن تُبعث ووجودوك ورقةً من كتاب الوعى الغائب، حُقَّ لها أن تُنشر وتُذاع. فها نحن ننشر الأربعين من الشامل ونصبو لخروج الأربعين الأخرى فلا يبقى الشاملُ ناقصًا. يرد العلاءُ: الشَّامِلُ لَنْ يَكُونَ نَاقِصًا أَبدًا! فقد تحسبتُ لأفعال الزمان، فجعلتُ كُلَّ جزءٍ من الشامل منفصلًا عن بقية الأجزاء، قائمًا بموضوعه ومُتَّصلًا - فى آنٍ - ببقية الأجزاء، مكمِّلًا لها حتى إذا ظهر جزءٌ واحد، دَلَّ ظهوُره على بقية
الأجزاء، وحدا بكم - من بعدى - إلى التنقيب عنها، والسعى وراء الاكتمال. ويضيف العلاءُ من عليائه: لنمض، إذن، قُدُمًا فى نشر ما تحت أيدينا من الأجزاء الموجودة، ولْنأمل فى العثور على المفقودة ولْنجعل غايتنا فى ذلك: " نُصْرَةَ الحقِّ وإِعْلاءَ مَنَارِه، وخِذْلاَنَ البَاطِلِ وطَمْسَ آثَارِه " كما قلتُ فى ديباجة شرحى على فصول أبقراط ثم أردفتُ: " وَهْوَ أمرٌ التَزَمْنَاهُ فى كُلِّ فَنٍّ ".. فليكن التزام الأحفاد، كالتزام الأجداد من قبلهم ولا يروعكم تعاقبُ الأجيال، ولا يقعد بكم أنكم فى زمنٍ عربىٍّ ردئ، فهذه أمةٌ لن تخلو - أبدًا - من قائمٍ بالحجة، وحاملٍ للمشعل.. وقد دَلَّ النظر العقلى، واستقراءُ أحوال الأزمنة، على أنه: إِذَا تَسَاوَتْ العُقُولُ والهِمَمُ، فَمُتَأَخِّرُ كُلِّ صِنَاعِةٍ، خَيْرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِها. .. وتُثير كلماتُ العلاء كوامن النفس، وتهزُّ القلب والعقل.. بل الكيان كله، فيأخذنى الدَّهَشُ لحظةً، فلا أفيقُ إلا والعلاءُ يغيب عن تلك الحضرة البرزخية، وهو يقول بنبرةٍ هادئةٍ، تفيض رجاءً وتحنانًا:
أوصيك، أوصيكم جميعًا، بأن تقرأوا كتابيا.. لترون كيف كان عقلكم العربى يفكر.. ولاتحذونى حَذْوَ التكرار، فهذا مستحيلٌ لن يكون.. وإنما انظروا كيف كانت كتابة الأوَّلين.. ثم اكتبوا من بعدها كتابةً أبهى.. ولتعرِّفوا الدنيا بما كتبناه.. ولتضعوا الشامل أمام أعين العالمين.. من الدارسين لتاريخ العلوم.. والمهْتَمِّين بالتراث العربى / الإسلامى.. والنَّاعين على العقل العربى والثقافة الإسلامية، أولئك الذين صاروا فى يومكم هذا: ناعقين بكل وادٍ.
अज्ञात पृष्ठ