وأفضى هذا إلى إغفال كل قوى المعارضة في التاريخ؛ مما يجعلنا نسأل، ما الذي أهمله التاريخ؟ ومن الذين أهملهم التاريخ المروري أو زيف تاريخهم من قادة فكر أو حركات سياسية أو قبائل أو معتقدات أو حضارات؟ ولنا أن نسأل ما هو التاريخ المسكوت عنه، أو التاريخ الصامت، بفعل سلطان الأيديولوجيا .. أيديولوجيا سياسية أو دينية .. إلخ. لقد اشتمل تاريخنا على مساحات متواترة صماء مظلمة ولكنها ليست خرساء، بمعنى أن الرواية التاريخية لا تلغي الواقع؛ فالتاريخ الممنوع، أو غير المعلن، موجود تحت السطح، فاعل وله دلالته التاريخية، بل ودوره الاجتماعي الذي يتعين الكشف عنه.
وأفضى نهج التبرير الأيديولوجي في رواية التاريخ إلى إنكار واستنكار مراحل كاملة من تاريخنا. وهكذا بات من أخطر أمراضنا عرض اختلال الأنا، وافتقاد الحس التاريخي بوحدة الذاتية القومية في بعدها الزماني كوحدة جدلية على الرغم من التناقضات أو من خلال تفاعل التناقضات. واعتدنا أن نعيش أسرى الحدث المرحلي الأخير؛ مما دفع البعض إلى قول ما يقوله العلامة المؤرخ البريطاني بترفيلد: «إن الساميين يرون الحدث التاريخي نقطة فصل لا وصل بين الماضي والمستقبل، حيث قد نبدأ من الحدث وننفي أو نشوه ما سبق تعزيزا وتبريرا للجديد. ولا يهم التسلسل، فإن الحدث كيان مستقل، ولهذا ينتهي التاريخ عند حدث معين هو الخاتم المبين، ونرى فيه أيديولوجيا النهاية والغاية وننشد العودة إليه .. بينما الصواب أن الحدث نقطة فصل ووصل في امتداد أو متصل كوني.»
إننا على المستوى الثقافي الاجتماعي، بل وعلى المستوى التعليمي والعلمي، نعيش تاريخا ممزق الأوصال، يدعم اختلال الأنا، ويشوه الحس التاريخي في وحدته، وهذا من شأنه أن يطمس عوامل التضافر الاجتماعي ويثير عوامل الفرقة على أساس عرقي أو طائفي أو عقيدي. وها نحن نرى كتابات أهل السنة تصادر على الشيعة، والعكس بالعكس، ونرى الاثنين معا يصادران على الخوارج، وبين هذا وذاك نملك روايات مقطوعة الصلة بواقعها الاجتماعي، ومساحات مهملة أو مغفلة عن عمد .. لذا بات مشروعا السؤال: ما هي حقيقة التاريخ وسط هذا الركام المتنافر. وتفاقم هذا الخطأ والخطر لما له من تأثير يكاد يهدد حياتنا على نحو ما رأينا في التاريخ، ونرى الآن، من صراع دموي معلن أو مضمر تغذيه في العراق وفي العربية السعودية ومصر، كمثال، نزعات طائفية مذهبية تنفي المواطنة والوطنية وتعطي الأولوية المطلقة للطائفية أو المذهب على حساب الوطني وبقائه؛ أي السلطة، كل السلطة للأيديولوجيا على حساب الحقيقة.
إذا كنا ننشد تغييرا جذريا للمجتمع، فإن أول شروط ذلك فهم التاريخ علميا فهما نقديا في وحدته وحركته الدينامية ليكون ولاؤنا إبداعيا، وليكون حسنا التاريخي صادقا، فتقوى لحمة المجتمع وتتماسك عناصره. إننا نريد تاريخا حقيقيا لا التاريخ الأسطورة. وسبيلنا إليه التزام بمنهج بحث علمي لدراسة واقع التاريخ والعوامل الاجتماعية المحركة له بكل ما في هذه الحركة من تناقض، وواقع العوامل المؤثرة سلبا وإيجابا على هذا التاريخ إلى حد أن وصل إلينا؛ وتحليل هذا الواقع في إطاره الثقافي للمجتمع الذي نشأ فيه .. والواقع مفهوم واسع يشمل الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية .. إلخ، حتى تتوافر لنا من خلال تعاون علم التاريخ مع علوم الإنسان الأخرى رؤية شاملة مقننة عن المجتمع والفرد، ونهج استجاباته وفعاليته؛ ومن ثم تتيسر آلية تعبئة طاقة المجتمع في حركة نحو المستقبل.
ويدعم هذا النهج اتباع أو ابتداع منهج بحث جديد لأركيولوجيا التاريخ يكشف عن حقيقة البنى المفهومية القائمة وراء شتى مراحل التاريخ .. ليغدو التاريخ خريطة معرفية «جيولوجية» أو تراتبية للأمة .. ونفهم أنفسنا، ونستكشف على هديه الطبقات التاريخية للمجتمع على مدى الزمان في ضوء دراسات اجتماعية ولغوية واقتصادية وسياسية وفكرية بحيث تمهد لنا هذه الدراسة الطريق إلى صياغة نظرية عن الإنسان في تطوره على هذه الأصعدة؛ مما يخلق أرضا صلبة تدعم حركة المجتمع المستقبلية.
القرن الأمريكي: البداية والنهاية
البداية
في عام 1941م كتب «هنري لوس» المحرر بمجلة تايم مقالا يحض فيه الولايات المتحدة على أن تتبوأ مكانتها في التحالف ضد النازية لتخطو على طريق زعامة العالم. وكان هو أول من صاغ عبارة «القرن الأمريكي» وتعني العبارة من بين ما تعني سيادة «السلم الأمريكي
» أي استقرار الأمن في العالم وفقا لهوى ومصالح وإرادة أمريكا. وهذه فكرة مستوحاة من حالات سابقة في التاريخ البعيد والقريب وإن اختلف النطاق؛ إذ كان القرن التاسع عشر هو قرن السلم البريطاني
حين كانت بريطانيا القوة الأعظم وفرضت سطوتها وحمايتها على الأراضي والبشر. ويعبر، كمثال، عن مضمون هذا التوجه كلمة «لورد بالمرستون» عام 1850م في مجلس العموم البريطاني؛ أي والعالم يعيش قرن السلم البريطاني: «أن أي رعية بريطاني في أي مكان في العالم يجب أن يكون واثقا من أن عين إنجلترا اليقظة وذراعها الطولى القوية سوف تحميانه من ظلم وأخطاء الآخرين.» مثلما كان حال المواطن الروماني في عصر السلم الروماني
अज्ञात पृष्ठ